موسوعة التفسير

سُورةُ النَّجْمِ
الآيات (26-32)

ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ

غريب الكلمات :

مَبْلَغُهُمْ: أي: غايتُهم، وأصلُ (بلغ): يدُلُّ على وُصولٍ إلى شَيءٍ [237] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/301)، ((تفسير القرطبي)) (17/105)، ((تفسير ابن كثير)) (7/459). .
بِالْحُسْنَى: أي: بالجنَّةِ والثَّوابِ، وأصلُ (حسن): يدُلُّ على ضِدِّ القُبحِ [238] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 531)، ((تفسير ابن جرير)) (22/59)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/57). .
الْإِثْمِ: الإثمُ والأثامُ: اسمٌ للأفعالِ المُبَطِّئةِ عن الثَّوابِ، أو الذَّنْبُ الَّذي يَستحِقُّ العقوبةَ عليه، وأصلُ (أثم): يدُلُّ على البُطءِ والتَّأخُّرِ، والإثمُ مُشتَقٌّ مِن ذلك؛ لأنَّ ذا الإثمِ بَطيءٌ عن الخَيرِ، متأخِّرٌ عنه [239] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/60)، ((المفردات)) للراغب (ص: 63)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 40). .
وَالْفَوَاحِشَ: جمعُ فاحِشَةٍ، أي: ما عَظُم قُبحُه مِنَ الكبائِرِ، والفُحْشُ والفَحْشاءُ والفاحِشةُ: ما عظُم قُبحُه مِن الأفعالِ والأقوالِ، وكلُّ شَيءٍ جاوَز قَدْرَه فهو فاحِشٌ، ولا يكونُ ذلك إلَّا فيما يُتكَرَّهُ، وأصلُ (فحش): يدُلُّ على قُبحٍ في شَيءٍ وشَناعةٍ [240] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص:361)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4 /478)، ((المفردات)) للراغب (ص: 626)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 701). .
اللَّمَمَ: أي: صِغارَ الذُّنوبِ؛ مِنْ ألَمَّ بالشَّيءِ: إذا لم يتعَمَّقْ فيه ولم يَلزَمْه، وأصلُ اللَّمَمِ: ما يَعمَلُه الإنسانُ الحِينَ بعدَ الحِينِ، ولا يكونُ له عادةً ولا إقامة عليه [241] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 429)، ((تفسير ابن جرير)) (22/66)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 404)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/197)، ((تفسير البغوي)) (7/412). .
أَجِنَّةٌ: جمعُ جَنينٍ: وهو الوَلَدُ ما دامَ في البَطنِ، وسُمِّيَ جَنينًا؛ لاجتِنانِه واستِتارِه، وأصلُ (جنن): يدُلُّ على سَترٍ [242] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/421)، ((المفردات)) للراغب (ص: 204)، ((تفسير القرطبي)) (17/110)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 352). .
فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ: أي: لا تُبَرِّئُوها عن الآثامِ، ولا تَمدَحوها بحُسنِ أعمالِها، وأصلُ (زكي): يدُلُّ على نَماءٍ وزِيادةٍ، وطهارةٍ [243] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/70)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/17)، ((المفردات)) للراغب (ص: 381)، ((تفسير القرطبي)) (17/110). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى منكِرًا على مَن عبَد الملائكةَ وغيرَهم، وزعَم أنَّها تشفعُ له عندَ الله يومَ القيامةِ، ومبينًا أنَّ الملائكةَ معَ سُمُوِّ مَنزِلتِهم ورِفعةِ مَقامِهم، لا يَملِكون الشَّفاعةَ لأحدٍ إلَّا بإذنِه تعالى، فيقولُ: وكَثيرٌ مِنَ الملائِكةِ في السَّمَواتِ لا تَنفَعُ شَفاعتُهم شَيئًا إلَّا مِن بَعدِ أن يأذَنَ اللهُ في الشَّفاعةِ لِمَن يَشاءُ منهم، ويَرضَى عن المَشفوعِ لهم.
ثمَّ ينكِرُ الله تعالى على المشركينَ ما كانوا يَعتقِدونَه في الملائكةِ مِن عقيدةٍ فاسدةٍ، فيقولُ: إنَّ الَّذين لا يُؤمِنونَ بالآخِرةِ لَيُسَمُّونَ مَلائكةَ اللهِ إناثًا، ويَزعُمونَ أنَّ الملائِكةَ بَناتُ اللهِ سُبحانَه! وما للمُشرِكينَ بذلك مِن عِلمٍ، ما يَتَّبِعونَ في زَعْمِهم هذا إلَّا الوَهمَ الكاذِبَ، وإنَّ الظنَّ المَبنيَّ على الوَهمِ لا يُفيدُ شَيئًا!
ولَمَّا بيَّن الله تعالى أنَّهم لا غرَضَ لهم في اتِّباعِ الحقِّ؛ أمَر نبيَّه بالإعراضِ عنهم، فقال: فأعْرِضْ -يا محمَّدُ- عمَّن أعرَضَ عن القُرآنِ، ولم يُرِدْ إلَّا الحَياةَ الدُّنيا، وذلك هو مُنتهى عِلْمِهم وغايتُه، إنَّ رَبَّك -يا محمَّدُ- هو أعلَمُ بمَن ضَلَّ عن طَريقِه، وهو أعلَمُ بالَّذين اهتَدَوا إلى الحَقِّ.
 ولله وَحْدَه مُلْكُ ما في السَّمَواتِ وما في الأرضِ؛ لِيَجزيَ الَّذين أساؤُوا بما عَمِلوه مِن كُفرٍ أو عِصيانٍ، ولِيُثيبَ الَّذين أحسَنوا بالجنَّةِ.
ثمَّ يصِفُ الله تعالى هؤلاء المحسنينَ، فيقولُ: وأولئك المُحسِنونَ هم الَّذين يَبتَعِدونَ عن كَبائِرِ الذُّنوبِ والفواحِشِ، إلَّا صَغائِرَ الذُّنوبِ دونَ إصرارٍ عليها، فهي مَعفوٌّ عنها، إنَّ رَبَّك -يا محمَّدُ- واسِعُ المَغفِرةِ لذُنوبِ عِبادِه، هو أعلَمُ بكم حينَ خَلَق أباكم آدَمَ مِن الأرضِ، وحينَ كُنتُم حَمْلًا في بُطونِ أمَّهاتِكم؛ فلا تَشهَدوا لأنفُسِكم بالبَراءةِ مِنَ الذُّنوبِ ولا بالصَّلاحِ والتَّقْوى؛ فاللهُ وَحْدَه أعلَمُ بمَن اتَّقى!

تفسير الآيات:

وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أيأَسَهم مِن أنْ يَنالوا خَيرًا مِن عِبادةِ أصنامِهم والتَّقَرُّبِ إليها، وأنَّها لا تكونُ وَسيلةً لهم عندَ رَبِّهم؛ حَرَمَهم فائِدةَ عِبادتِها مِن وَجهٍ آخَرَ [244] يُنظر: ((تفسير المراغي)) (27/53). .
وأيضًا لَمَّا كان التَّقديرُ: فكم مِن شَخصٍ تَرَونَه في الأرضِ -معَ أنَّه في غايةِ المُكْنةِ فيما يَظهَرُ لكم- لا يَصِلُ إلى رُبُعِ ما يتمَنَّاه؛ عَطَف عليه قَولَه مُظهِرًا لضَخامةِ مُلكِه، وأنَّه لا يُبالي بأحَدٍ [245] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/62). :
وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26).
أي: وما أكثَرَ الملائِكةَ الَّذين في السَّمَواتِ، ولا تَنفَعُ شَفاعتُهم شَيئًا إلَّا مِن بَعدِ أن يأذَنَ اللهُ في الشَّفاعةِ لِمَن يَشاءُ منهم، وبَعْدَ رِضاه عن المَشفوعِ لهم الَّذين هم مِن أهلِ التَّوحيدِ [246] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/56، 57)، ((الوسيط)) للواحدي (4/200)، ((تفسير القرطبي)) (17/104)، ((تفسير ابن كثير)) (7/458)، ((حاشية الخفاجي)) (8/113)، ((تفسير السعدي)) (ص: 820)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/113)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 219). قال الزمخشري: (يعني: أنَّ أمْرَ الشَّفاعةِ ضَيِّقٌ، وذلك أنَّ الملائِكةَ مع قُربتِهم وزُلْفاهم وكَثرتِهم واغتِصاصِ السَّمَواتِ بجُموعِهم: لو شَفَعوا بأجمُعِهم لأحَدٍ لم تُغْنِ شَفاعتُهم عنه شَيئًا قطُّ ولم تَنفَعْ، إلَّا إذا شَفَعوا مِن بَعدِ أن يأذَنَ اللهُ لهم في الشَّفاعةِ لِمَن يَشاءُ الشَّفاعةَ له ويَرضاه ويَراه أهلًا لأن يُشفَعَ له، فكيف تَشفَعُ الأصنامُ إليه لعَبَدتِهم؟!). ((تفسير الزمخشري)) (4/424). !
كما قال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة: 255] .
وقال سُبحانَه: وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ: 23] .
وقال تعالى: وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى [الأنبياء: 28] .
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا قِيلَ لهم: إنَّ الصَّنَمَ جَمادٌ لا يَشفَعُ، وبَيَّنَ لهم أنَّ أعظَمَ أجناسِ الخَلقِ لا شَفاعةَ لهم إلَّا بالإذْنِ؛ قالوا: نحن لا نَعبُدُ الأصنامَ لأنَّها جماداتٌ، وإنَّما نَعبُدُ الملائِكةَ بعبادتِها؛ فإنَّها على صُوَرِها، ونَنصِبُها بيْنَ أيدينا لِيُذَكِّرَنا الشَّاهِدُ الغائِبَ، فنُعَظِّمَ المَلَكَ الَّذي ثَبَت أنَّه مُقَرَّبٌ عَظيمُ الشَّأنِ، رفيعُ المكانِ؛ فقال تعالى ردًّا عليهم: كيف تُعَظِّمونَهم وأنتم تُسَمُّونَهم تَسميةَ الأُنثى [247] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/257). ؟!
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27).
أي: إنَّ الَّذين لا يُؤمِنونَ بالآخِرةِ لَيُسَمُّونَ مَلائكةَ اللهِ إناثًا، ويَزعُمونَ أنَّ الملائِكةَ بَناتُ اللهِ سُبحانَه [248] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/57)، ((تفسير القرطبي)) (17/104، 105)، ((تفسير ابن كثير)) (7/459)، ((تفسير السعدي)) (ص: 820)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/115). قال السعدي: (يعني: أنَّ المُشرِكينَ باللهِ المكَذِّبينَ لرُسُلِه، الَّذين لا يُؤمِنونَ بالآخِرةِ، وبسَبَبِ عَدَمِ إيمانِهم بالآخِرةِ: تجَرَّؤوا على ما تجَرَّؤوا عليه مِنَ الأقوالِ والأفعالِ المُحادَّةِ للهِ ولِرَسولِه). ((تفسير السعدي)) (ص: 820). !
كما قال تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ [الزخرف: 19] .
وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28).
وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ.
أي: وما للمُشرِكينَ بادِّعائِهم أنَّ الملائِكةَ بَناتُ اللهِ مِن عِلمٍ صَحيحٍ يَعتَمِدونَ عليه في إثباتِ صِحَّةِ دَعواهم؛ كمُشاهَدةٍ لخَلْقِهم، أو قِراءةِ ذلك في كِتابٍ مِن كُتُبِ اللهِ، أو سَماعِ رَسولٍ يُخبِرُهم بصِدقِ ما يَزعُمونَ [249] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/58)، ((تفسير القرطبي)) (17/105)، ((تفسير ابن كثير)) (7/459)، ((تفسير السعدي)) (ص: 820)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/115). .
إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا نفى عِلْمَهم؛ تشَوَّفَ السَّامِعُ إلى الحامِلِ لهم على ذلك، فقال [250] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/63). :
إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ.
أي: ما يَتَّبِعونَ في زَعْمِهم هذا إلَّا الوَهمَ الكاذِبَ بغَيرِ عِلمٍ ولا يَقينٍ [251] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/58)، ((تفسير القرطبي)) (17/105)، ((تفسير السعدي)) (ص: 820)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 222). !
وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا كانوا كالقاطِعينَ بأنَّ ذلك يَنفَعُهم؛ أكَّدَ بقَولِه [252] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/63). :
وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا.
أي: وإنَّ الظنَّ المَبنيَّ على الوَهمِ لا يُفيدُ شَيئًا مِنَ الحَقِّ، أو يقومُ مَقامَه [253] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/58)، ((تفسير الخازن)) (4/210)، ((تفسير ابن كثير)) (7/459)، ((تفسير السعدي)) (ص: 820)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 223). .
عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إيَّاكم والظَّنَّ؛ فإنَّ الظَّنَّ أكذَبُ الحَديثِ )) [254] رواه البخاري (6064)، ومسلم (2563). .
فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
بَعْدَ أنْ وَصَف مَدارِكَهم الباطِلةَ وضَلالَهم؛ فَرَّع عليه أمْرَ نَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالإعراضِ عنهم؛ ذلك لأنَّ ما تقَدَّمَ مِن وَصفِ ضَلالِهم كان نَتيجةَ إعراضِهم عن ذِكرِ اللهِ، وهو التَّوَلِّي عن الذِّكرِ؛ فحَقَّ أن يكونَ جَزاؤُهم عن ذلك الإعراضِ إعراضًا عنهم [255] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/116). .
وأيضًا لَمَّا كان هذا دَأْبَ هؤلاءِ المذكورينَ؛ أنَّهم لا غَرَضَ لهم في اتِّباعِ الحَقِّ، وإنَّما غَرَضُهم ومَقصودُهم ما تَهواه نُفوسُهم؛ أمَرَ اللهُ رَسولَه بالإعراضِ عمَّن توَلَّى عن ذِكْرِه، ولم يُرِدْ إلَّا الحياةَ الدُّنيا [256] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 820). .
فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا.
أي: فأعْرِضْ -يا محمَّدُ- عمَّنْ أعرَضَ عن القُرآنِ [257] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/58)، ((تفسير القرطبي)) (17/105)، ((تفسير ابن كثير)) (7/459)، ((تفسير السعدي)) (ص: 820)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/116، 117)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 224). قال ابن كثير: (قَولُه: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا، أي: أعرِضْ عن الَّذي أعرَضَ عن الحَقِّ، واهجُرْه). ((تفسير ابن كثير)) (7/459). ويُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّة (18/164). وقال ابنُ عاشور: (إعراضُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عنهم المأمورُ به: مرادٌ به عَدَمُ الاهتِمامِ بنَجاتِهم؛ لأنَّهم لم يَقبَلوا الإرشادَ، وإلَّا فإنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مأمورٌ بإدامةِ دَعوتِهم للإيمانِ، فكما كان يَدعوهم قبْلَ نُزولِ هذه الآيةِ فقد دعاهم غيرَ مَرَّةٍ بعدَ نُزولِها، على أنَّ الدَّعوةَ لا تَختَصُّ بهم؛ فإنَّها يَنتَفِعُ بها المؤمِنونَ، ومَن لم يَسبِقْ منه إعراضٌ مِنَ المُشرِكينَ؛ فإنَّهم يَسمَعونَ ما أُنذِرَ به المُعرِضونَ، ويتأمَّلونَ فيما تَصِفُهم به آياتُ القُرآنِ، وبهذا تَعلَمُ أنْ لا عَلاقةَ لهذه الآيةِ وأمثالِها بالمُتارَكةِ، ولا هي مَنسوخةٌ بآياتِ القِتالِ). ((تفسير ابن عاشور)) (27/117). وقال ابنُ عثيمين: (ليس المعنى: أعرِضْ عنه لا تَنصَحْه... معنى أعرِضْ: لا تُبالِ به، ولا يُهِمَّنَّك أمْرُه، ولا تَستَحسِرْ مِن أجْلِ توَلِّيه، بل ادْعُ إلى سَبيلِ اللهِ عزَّ وجَلَّ أيًّا كان). ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 224). وقال القاسمي: (والمرادُ مِن «الإعراضِ»: هَجْرُهم هَجرًا جَميلًا، وتَرْكُ إيذائِهم. وقَولُ الزَّمخشريِّ: أي: أعرِضْ عن دَعوةِ مَن رأَيْتَه مُعرِضًا عن ذِكرِ اللهِ ... إلخ: لا يَصِحُّ؛ لأنَّ الصَّدعَ بالحَقِّ لا تَسامُحَ فيه، لا سِيَّما والدَّعوةُ للمُعرِضِينَ، وهي تَستَلزِمُ أن يُحاجُّوا به بمُنتَهى الطَّاقةِ؛ لِقَولِه تعالى: وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا [الفرقان: 52] ، وإنَّما معنى الآيةِ: فاصفَحْ عنهم، ودَعْ أذاهم في مُقابَلةِ ما يَجهَلونَ به عليك، كما بَيَّنَ ذلك في مواضِعَ مِن التَّنزيلِ، والقُرآنُ يُفَسِّرُ بَعضُه بَعضًا). ((تفسير القاسمي)) (9/77). ويُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/424). ممَّن اختار أنَّ هذه الآيةَ مَنسوخةٌ: ابنُ أبي زَمَنين، والواحديُّ، وابنُ عطية، والقُرطبيُّ، والعُلَيمي، والشَّوكاني. يُنظر: ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/310)، ((البسيط)) للواحدي (21/51)، ((تفسير ابن عطية)) (5/203)، ((تفسير القرطبي)) (17/105)، ((تفسير العليمي)) (6/443)، ((تفسير الشوكاني)) (5/134). واستظهر الشنقيطيُّ أنَّه كان في أوَّلِ الأمرِ مأمورًا بالإعراضِ عن المُشرِكينَ، ثمَّ نُسِخَ ذلك بآيةِ السَّيفِ، وذَكرَ أنَّ مِن الآياتِ الدَّالَّةِ على ذلك قَولَه تعالى: اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام: 106] ، وقَولَه: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ [السجدة: 30] ، وقَولَه: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [النجم: 29] ، وقَولَه: وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ [الأحزاب: 48] . يُنظر: ((أضواء البيان)) (2/320). وقال الرازي: (وأكثَرُ المفَسِّرين يقولونَ بأنَّ كُلَّ ما في القُرآنِ مِن قَولِه تعالى: فَأَعْرِضْ منسوخٌ بآيةِ القَتلِ، وهو باطِلٌ؛ فإنَّ الأمرَ بالإعراضِ مُوافِقٌ لآيةِ القِتالِ، فكيف يُنسَخُ به؟ وذلك لأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان مأمورًا بالدُّعاءِ بالحِكمةِ والموعِظةِ الحَسَنةِ، فلمَّا عارَضوه بأباطيلِهم قيل له: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: 125] ، ثمَّ لَمَّا لم يَنفَعْ قال له رَبُّه: فأعرِضْ عنهم، ولا تُقابِلْهم بالدَّليلِ والبُرهانِ؛ فإنَّهم لا يتَّبِعونَ إلَّا الظَّنَّ، ولا يتَّبِعونَ الحَقَّ، وقابِلْهم بالإعراضِ عن المُناظَرةِ بشَرطِ جوازِ المُقابَلةِ، فكيف يكونُ مَنسوخًا؟!). ((تفسير الرازي)) (28/260). والقاعدةُ أنَّ النَّسخَ لا يثبُتُ مع الاحتِمالِ. يُنظر: ((قواعد التفسير)) لخالد السبت (2/728). .
كما قال تعالى: وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا [آل عمران: 176] .
وقال سُبحانَه: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ [النساء: 63] .
وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان المُعْرِضُ في وَقتٍ قد يُقبِلُ في آخَرَ، دَلَّ على دَوامِه على وَجهٍ بَليغٍ، بقَولِه: وَلَمْ يُرِدْ أي: في وَقتٍ مِنَ الأوقاتِ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [258] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/65). !
وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا.
أي: ولم يَطلُبْ إلَّا الحَياةَ الدُّنيا ولَذَّاتِها [259] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/58)، ((تفسير ابن كثير)) (7/459)، ((تفسير السعدي)) (ص: 820)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/118)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 224). .
ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30).
ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ.
أي: طَلَبُ الدُّنيا والسَّعيُ لها: هو مُنتهى عِلْمِهم وغايتُه؛ فليس لهم عِلمٌ فَوقَ ذلك [260] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (17/105)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (18/165)، ((تفسير ابن كثير)) (7/459)، ((تفسير السعدي)) (ص: 820)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/118)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 226). وممَّن قال بأنَّ المشارَ إليه هو طَلَبُهم الحياةَ الدُّنيا: القرطبيُّ، وابنُ تيميَّة، وابن كثير، والسعدي، وابن عاشور، وابن عثيمين. يُنظر: المصادر السابقة. وقيل: المشارُ إليه: ادِّعاؤُهم أنَّ الملائِكةَ بناتُ اللهِ. ومِمَّن ذهب إلى هذا المعنى: ابنُ جرير، والواحديُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/58)، ((الوسيط)) للواحدي (4/201). .
كما قال الله تعالى: يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم: 7] .
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر ما هم عليه؛ أخبَرَ تعالى بأنَّه عالِمٌ بالضَّالِّ والمُهتَدِي، وهو مُجازِيهما [261] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/20). .
وأيضًا لَمَّا قال تعالى للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أعرِضْ، وكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شديدَ المَيلِ إلى إيمانِ قَومِه، وكان رُبَّما هَجَس في خاطِرِه أنَّ في الذِّكرى بَعْدُ مَنفعةً، ورُبَّما يُؤمِنُ مِن الكافِرينَ قَومٌ آخَرونَ مِن غَيرِ قِتالٍ؛ فقال له [262] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/265). :
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ.
أي: إنَّ رَبَّك -يا محمَّدُ- هو أعلَمُ بمَن حادَ عن طَريقِه، فلم يتَّبِعِ الحَقَّ [263] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/59)، ((تفسير القرطبي)) (17/105)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/118). .
وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى.
أي: ورَبُّك -يا محمَّدُ- أعلَمُ بالَّذين اهتَدَوا إلى الحَقِّ [264] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/59)، ((البسيط)) للواحدي (21/52)، ((تفسير القرطبي)) (17/105). .
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالى أنَّه أعلَمُ بمَن ضَلَّ وبمَنِ اهتَدَى، وكان هذا رُبَّما أوهَمَ أنَّ مَن ضَلَّ على هذه الحالةِ ليس في قَبضَتِه؛ قال نافيًا لهذا الإبهامِ، مُبَيِّنًا أنَّ له الأسماءَ الحُسنى ومُقتَضياتِها في العالَمِ [265] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/66). :
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ.
أي: ولله وَحْدَه مُلْكُ جَميعِ ما في السَّمَواتِ وما في الأرضِ [266] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/59)، ((تفسير البيضاوي)) (5/160)، ((تفسير الألوسي)) (14/60)، ((تفسير السعدي)) (ص: 821). .
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا.
أي: لِيَجزيَ اللهُ الَّذين أساؤُوا العَمَلَ جَزاءَ ما عَمِلوه مِن كُفرٍ أو عِصيانٍ [267] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/59)، ((تفسير ابن كثير)) (7/460)، ((تفسير السعدي)) (ص: 821). .
وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى.
أي: ولِيُثيبَ اللهُ الَّذين أحسَنوا العَمَلَ فآمَنوا به وأطاعوه المَثوبةَ الحُسنى، وهي الجنَّةُ [268] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/59)، ((تفسير السمرقندي)) (3/363)، ((تفسير الزمخشري)) (4/425)، ((تفسير ابن عطية)) (5/203)، ((تفسير ابن كثير)) (7/460). قال ابن جُزَي: (لِيَجْزِيَ اللَّامُ مُتعلِّقةٌ بمعنى ما قبْلَها، والتَّقديرُ: أنَّ اللهَ مالكُ أمرِ السَّمواتِ والأرضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا). ((تفسير ابن جزي)) (2/319). وقال القرطبي: (اللَّامُ مُتعلِّقةٌ بالمعنى الَّذي دلَّ عليه وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، كأنَّه قال: هو مالكُ ذلك، يَهدي مَن يَشاءُ، ويُضِلُّ مَن يَشاءُ؛ لِيَجزيَ المُحسِنَ بإحسانِه، والمُسيءَ بإساءتِه). ((تفسير القرطبي)) (17/105). وتبِعه الشَّوكانيُّ. يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (5/135). واللَّامُ في قولِه: لِيَجْزِيَ ذكر ابنُ عاشور أنَّها لامُ التَّعليلِ. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/ 120). وقيل: إنَّ قولَه: لِيَجْزِيَ مُتعلِّقٌ بمعنَى قولِه: هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى [النجم: 30] ، فإذا كان أعْلَمَ بهم، جازى كُلًّا بما يَستحِقُّه؛ لأنَّ نتيجةَ العِلمِ بالضَّالِّ والمُهتدي: جزاؤُهما، وأنَّ ما بيْنَهما اعتِراضٌ. وممَّن اختاره: الواحديُّ، والرَّسْعَني، والخازن، والعُلَيمي. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/201)، ((تفسير الرسعني)) (7/485)، ((تفسير الخازن)) (4/210)، ((تفسير العليمي)) (6/443، 444). قال الواحدي: (وهي لامُ العاقِبةِ؛ وذلك لأنَّ عِلمَه بالفريقَينِ أدَّى إلى جزائِهم باستِحقاقِهم، وإنَّما يَقدِرُ على مُجازاةِ المُحسِنِ والمُسيءِ إذا كان كثيرَ الملْكِ). ((الوسيط)) (4/201). وذهب ابنُ عطيَّةَ والرَّازيُّ إلى أنَّ اللَّامَ في قولِه: لِيَجْزِيَ مُتعلِّقةٌ بقولِه: ضَلَّ وبقولِه: اهْتَدَى، وقولُه: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ اعتِراضٌ. قال ابن عطية: (فكأنَّه قال: لِيَصيرَ أمْرُهم جميعًا إلى أن يجزى). ((تفسير ابن عطية)) (5/203). قال الألوسي: (ولا يخفى بُعْدُه). ((تفسير الألوسي)) (14/60). وقال الرَّازي: (قوله: لِيَجْزِيَ مُتعلِّقٌ بقولِه: ضَلَّ واهْتَدَى، لا بالعِلمِ ولا بخَلقِ ما في السَّمواتِ، تقديرُه كأنَّه قال: هو أعْلَمُ بمَن ضلَّ واهتدى لِيَجْزِيَ، أي: مَن ضلَّ واهتدى يُجزى الجزاءَ، واللهُ أعلَمُ به). ((تفسير الرازي)) (29/268). وقال البِقاعي: (لَمَّا أمَرَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالإعراضِ عنهم، وسَلَّاه، وأعلَمَه أنَّ الكُلَّ في مُلكِه، فلو شاء لَهداهم ورَفَع النِّزاعَ، ولكِنَّه له في ذلك حِكَمٌ تَحارُ فيها الأفكارُ- عَلَّل الإعراضَ... بقَولِه تعالى لِيَجْزِيَ...). ((نظم الدرر)) (19/66). وقيل: إنَّ اللَّامَ مُتعلِّقةٌ بقولِه: لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ، قال الشَّوكاني: (وهو بعيدٌ مِن حيثُ اللَّفظُ ومِن حيثُ المعنَى). ((تفسير الشوكاني)) (5/135). ويُنظر: ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (2/694)، ((تفسير الألوسي)) (14/60). و«الحُسْنَى»: الجنَّةُ. وممَّن قال بهذا: ابنُ جرير، والسمعانيُّ، وابن عطية، وابن الجوزي، والرَّسْعَني، والقرطبي، والعُلَيمي، والشوكاني، وغيرُهم. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/59)، ((تفسير السمعاني)) (5/297)، ((تفسير ابن عطية)) (5/203)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/190)، ((تفسير الرسعني)) (7/486)، ((تفسير القرطبي)) (17/106)، ((تفسير العليمي)) (6/444)، ((تفسير الشوكاني)) (5/135). وقال البيضاوي: (بِالْحُسْنَى بالمَثوبةِ الحُسنى، وهي الجنَّةُ، أو بأحسَنَ مِن أعمالِهم، أو بسببِ الأعمالِ الحُسنى). ((تفسير البيضاوي)) (5/160). وقال ابن عثيمين: (وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى... فأنت إذا فعَلْتَ حسَنةً فتَكونُ عَشْرَ حسَناتٍ إلى سَبْعِمِئةِ ضِعفٍ إلى أضعافٍ كثيرةٍ... ولهذا قال: وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى، أي: بما هو أحسَنُ وأكثَرُ مِن عمَلِهم). ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص:229، 230). وقال السعدي: (بِالْحُسْنَى أي: بالحالةِ الحسَنةِ في الدُّنيا والآخرةِ، وأكبَرُ ذلك وأجَلُّه رِضا ربِّهم، والفوزُ بنعيمِ الجنَّةِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 821). .
الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا وَعَد سُبحانَه الَّذين وَقَع منهم الإحسانُ؛ وصَفَهم فقال [269] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/67). :
الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ.
أي: الَّذين يَبتَعِدونَ عن كبائِرِ الذُّنوبِ، ويَبتَعِدونَ عن الفواحِشِ، كالزِّنا وعَمَلِ قَومِ لُوطٍ [270] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/60)، ((تفسير ابن كثير)) (7/460)، ((تفسير السعدي)) (ص: 821)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 230، 232). وقد اختُلِف في ضابطِ الكبيرةِ على أقوالٍ كثيرةٍ، وأقرَبُ الأقوالِ أنَّها ما يَترتَّبُ عليها حدٌّ في الدُّنيا، أو تُوُعِّدَ عليها بالنَّارِ، أو اللَّعنةِ، أو الغضَبِ. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/203)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّة (11/650)، ((الجواب الكافي)) لابن القيم (ص: 126)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/327)، ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (2/525)، ((فتح الباري)) لابن حجر (10/410)، ((الزواجر عن اقتراف الكبائر)) للهيتمي (1/8). وقال الشنقيطي: (الأظهرُ عندي في ضابطِ الكبيرةِ أنَّها كلُّ ذنْبٍ اقتَرن بما يدُلُّ على أنَّه أعظَمُ مِن مُطلَقِ المعصيةِ، سواءٌ كان ذلك الوعيد عليه بنارٍ أو غضَبٍ أو لعنةٍ أو عذابٍ، أو كان وجوب الحدِّ فيه، أو غير ذلك ممَّا يدُلُّ على تغليظِ التَّحريمِ وتوكيدِه). ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/77). ويُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/204). ممَّن اختار في الجملةِ أنَّ الفواحشَ مِن الكبائرِ، لكنَّها أعظَمُ قُبحًا، وأشَدُّ فُحشًا، وأقوى إثمًا: الزمخشريُّ، والبيضاوي، والرَّسْعَني، والنَّسَفي، وأبو السعود، والشوكاني، والقاسمي، والألوسي، وابن عاشور، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/425)، ((تفسير البيضاوي)) (5/160)، ((تفسير الرسعني)) (7/486)، ((تفسير النسفي)) (3/394)، ((تفسير أبي السعود)) (8/162)، ((تفسير الشوكاني)) (4/619)، ((تفسير القاسمي)) (9/79)، ((تفسير الألوسي)) (14/61)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/121)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/77). قال القاسمي: (والعطفُ إمَّا مِن عطفِ أحدِ المُترادِفَينِ، أو الخاصِّ على العامِّ). ((تفسير القاسمي)) (9/79). وقال السعدي: (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ أي: يَفعلون ما أمَرَهم اللهُ به مِن الواجباتِ، الَّتي يكونُ ترْكُها مِن كبائرِ الذُّنوبِ، ويَترُكون المحرَّماتِ الكِبارَ؛ كالزِّنا، وشُربِ الخَمرِ، وأكلِ الرِّبا، والقتلِ، ونحوِ ذلك مِن الذُّنوبِ العظيمةِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 821). وقال في نظيرِ هذه الآيةِ مِن سورةِ الشُّورى: (الفرقُ بيْنَ الكبائرِ والفواحِشِ -معَ أنَّ جميعَهما كبائرُ- أنَّ الفواحشَ هي الذُّنوبُ الكِبارُ الَّتي في النُّفوسِ داعٍ إليها، كالزِّنا ونحوِه، والكبائرَ ما ليس كذلك، هذا عندَ الاقتِرانِ، وأمَّا مع إفرادِ كلٍّ منهما عن الآخَرِ فإنَّ الآخَرَ يَدخُلُ فيه). ((تفسير السعدي)) (ص: 760). قال السمرقندي: (قال بعضُهم: كَبَائِرَ الْإِثْمِ يعني: الشِّركَ بالله، وَالْفَوَاحِشَ يعني: المعاصيَ. وقال بعضُهم: كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ بمعنًى واحدٍ؛ لأنَّ كلَّ فاحِشةٍ كبيرةٌ، وكلَّ كبيرةٍ فاحِشةٌ). ((تفسير السمرقندي)) (3/363). .
كما قال تبارك وتعالى: فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ ... [الشورى: 36، 37].
إِلَّا اللَّمَمَ.
أي: إلَّا صَغائِرَ الذُّنوبِ دونَ إصرارٍ عليها، فهي مَعفوٌّ عنها، وليس ذلك بمُخرِجٍ لصاحِبِها مِن جُملةِ المُحسِنينَ [271] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/68، 69)، ((الوسيط)) للواحدي (4/201)، ((تفسير القرطبي)) (17/106-108)، ((تفسير ابن كثير)) (7/460)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/67)، ((تفسير السعدي)) (ص: 821)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 233). وممَّن قال بأنَّ المرادَ باللَّمَمِ صَغائِرُ الذُّنوبِ: ابنُ جرير، والواحديُّ، والقرطبي، وابن كثير، وابن عاشور، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/68، 69)، ((الوسيط)) للواحدي (4/201)، ((تفسير القرطبي)) (17/106)، ((تفسير ابن كثير)) (7/460)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/122)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 233). وقيل: إنَّ المُرادَ: القُبْلةُ، والغمزةُ، والنَّظرةُ، ونحوُ ذلك. وممَّن قال بهذا مِن السَّلفِ: ابنُ مسعودٍ، وابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ عنه، وأبو هُرَيرةَ، وأبو سعيدٍ الخُدْريُّ، وحُذَيْفةُ بنُ اليَمانِ، ومَسروقٌ، والشَّعْبيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/62)، ((تفسير الثعلبي)) (9/148)، ((تفسير ابن كثير)) (7/460). وقيل: إنَّ المُرادَ باللَّمَمِ هو ما دونَ حدِّ الدُّنيا وحدِّ الآخرةِ، فليس فيه حدٌّ في الدُّنيا، ولا عذابٌ في الآخرةِ. وممَّن قال بهذا مِن السَّلفِ: ابنُ الزُّبَيرِ، وابنُ عبَّاسٍ، وعِكْرِمةُ، وقَتادةُ، والضَّحَّاكُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/67)، ((تفسير الثعلبي)) (9/149)، ((تفسير ابن كثير)) (7/462). والأقوالُ المذكورةُ متقاربةٌ. وقال ابنُ رجب: (في تفسيرِ اللَّمَمِ قَولانِ للسَّلَفِ: أحدُهما: أنَّه مُقَدِّماتُ الفواحِشِ، كاللَّمسِ والقُبلةِ. وعن ابنِ عبَّاسٍ: هو ما دونَ الحَدِّ مِن وعَيدِ الآخِرةِ بالنَّارِ، وحَدِّ الدُّنيا. والثَّاني: أنَّه الإلمامُ بشَيءٍ مِنَ الفَواحِشِ والكبائِرِ مرَّةً واحِدةً، ثمَّ يتوبُ منه، ورُوِيَ عن ابنِ عبَّاسٍ وأبي هُريرةَ... ومَن فَسَّر الآيةَ بهذا قال: لا بُدَّ أن يتوبَ منه، بخِلافِ مَن فَسَّره بالمقَدِّماتِ؛ فإنَّه لم يَشتَرِطْ تَوبةً. والظَّاهِرُ أنَّ القولَينِ صَحيحانِ، وأنَّ كِلَيْهِما مُرادٌ مِنَ الآيةِ، وحينَئذٍ فالمحسِنُ: هو مَن لا يأتي بكبيرةٍ إلَّا نادِرًا، ثمَّ يتوبُ منها، ومَن إذا أتى بصغيرةٍ كانت مَغمورةً في حَسَناتِه المُكَفِّرةِ لها، ولا بُدَّ ألَّا يكونَ مُصِرًّا عليها، كما قال تعالى: وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران: 135]). ((جامع العلوم والحكم)) (1/448، 449). ويُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 821). قال السعدي: (هذه مع الإتيانِ بالواجِباتِ وتَرْكِ المُحَرَّماتِ تَدخُلُ تحتَ مَغفِرةِ اللهِ الَّتي وَسِعَتْ كُلَّ شَيءٍ؛ ولهذا قال تعالى: إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 821). .
عن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ما رأيتُ شَيئًا أشبَهَ باللَّمَمِ مِمَّا قال أبو هُرَيرةَ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ اللهَ كَتَب على ابنِ آدَمَ حَظَّه مِنَ الزِّنا، أدرَكَ ذلك لا مَحالةَ؛ فزِنا العَينِ النَّظَرُ، وزِنا اللِّسانِ المَنطِقُ، والنَّفْسُ تَمَنَّى وتَشتَهي، والفَرْجُ يُصَدِّقُ ذلك كُلَّه ويُكَذِّبُه )) [272] رواه البخاري (6243) واللفظ له، ومسلم (2657). .
إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا أخرَجَ تعالى المُسِيءَ عن المَغفِرةِ؛ بَيَّنَ أنَّ ذلك ليس لضِيقٍ فيها، بل ذلك بمَشيئةِ اللهِ تعالى، ولو أراد اللهُ المَغفِرةَ لكُلِّ مَن أحسَنَ وأساء لَفَعَل، وما كان يَضيقُ عنهم مَغفِرتُه [273] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/271). .
وأيضًا لَمَّا كان المُلوكُ لا يَغفِرونَ لِمَن تكَرَّرَتْ ذُنوبُه إليهم وإنْ صَغُرَت، فكان السَّامِعُ يَستَعظِمُ أن يَغفِرَ مَلِكُ المُلوكِ سُبحانَه مِثْلَ هذا؛ عَلَّلَ ذلك بقَولِه تعالى [274] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/68). :
إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ.
أي: إنَّ رَبَّك -يا محمَّدُ- واسِعُ المَغفِرةِ لذُنوبِ عِبادِه، فيَستُرُها عليهم، ويَتجاوَزُ عن مُؤاخَذتِهم بها [275] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/69)، ((تفسير ابن كثير)) (7/462)، ((تفسير السعدي)) (ص: 821)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 234، 235). قال ابنُ عثيمين: (في قَولِه تعالى: إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ إشارةٌ إلى أنَّ الصَّغائِرَ تُغفَرُ، وقد ثَبَت في القُرآنِ الكريمِ أنَّ الصَّغائِرَ تُغفَرُ باجتِنابِ الكبائِرِ، فقال جلَّ وعلا: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا [النساء: 31] ؛ ولهذا قال تعالى: إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ. أمَّا إذا قُلْنا: اللَّمَمُ: القَليلُ مِنَ الفَواحِشِ والكبائِرِ، فيَكونُ قَولُه: إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ إشارةً إلى أنَّ الكبائِرَ إذا تاب الإنسانُ منها غَفَر اللهُ له، وكأنَّها لم تكُنْ). ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 235). .
كما قال تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا [النساء: 31] .
وقال سُبحانَه: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر: 53] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا [الطلاق: 5] .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يقولُ: ((الصَّلَواتُ الخَمْسُ، والجُمُعةُ إلى الجُمُعةِ، ورَمَضانُ إلى رمَضانَ: مُكَفِّراتٌ ما بيْنَهنَّ إذا اجتَنَب الكبائِرَ )) [276] رواه مسلم (233). .
هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
تقريرٌ لِما مَرَّ مِن قَولِه: هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ [النجم: 30] ، كأنَّ العامِلَ مِن الكُفَّارِ يَقولُ: نحن نَعمَلُ أُمورًا في جَوفِ اللَّيلِ المُظلِمِ، وفي البَيتِ الخالي، فكيف يَعلَمُه اللهُ تعالى؟! فقال: ليس عَمَلُكم أخفى مِن أحوالِكم وأنتم أجِنَّةٌ في بُطونِ أُمَّهاتِكم، واللهُ عالمٌ بتلك الأحوالِ [277] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/271). .
وأيضًا فهو تأكيدٌ وبَيانٌ للجَزاءِ؛ وذلك لأنَّه لَمَّا قال: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا [النجم: 31] كأنَّ الكافِرينَ قالوا: هذا الجزاءُ لا يتحَقَّقُ إلَّا بالحَشرِ، وجَمْعِ الأجزاءِ بعدَ تفَرُّقِها. وإعادةُ ما كان لِزَيدٍ مِن الأجزاءِ في بَدَنِه مِن غَيرِ اختِلاطٍ: غَيرُ مُمكِنٍ؛ فقال تعالى: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ، فيَجمَعُها بقُدرتِه على وَفْقِ عِلْمِه كما أنشَأَكم [278] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/271). .
هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ.
أي: ربُّكم أعلَمُ بكم حينَ خَلَق أباكم آدَمَ مِن الأرضِ قبْلَ أن تُوجَدوا، وحينَ كُنتُم حَمْلًا مَستورينَ في بُطونِ أمَّهاتِكم قبْلَ أن تُولَدوا [279] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/70)، ((تفسير ابن كثير)) (7/462)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 236، 237). قال السعدي: (أي: هو تعالى أعلَمُ بأحوالِكم كُلِّها، وما جَبَلكم عليه مِنَ الضَّعفِ والخَوَرِ عن كَثيرٍ ممَّا أمرَكم اللهُ به، ومِن كَثرةِ الدَّواعي إلى بَعضِ المحَرَّماتِ، وكثرةِ الجواذِبِ إليها، وعدَمِ الموانِعِ القويَّةِ، والضَّعفُ موجودٌ مُشاهَدٌ منكم حينَ أنشأكم اللهُ مِن الأرضِ، وإذ كنتُم في بُطونِ أمَّهاتِكم، ولم يَزَل موجودًا فيكم، وإنْ كان اللهُ تعالى قد أوجدَ فيكم قوَّةً على ما أمرَكم به، ولكنَّ الضَّعفَ لم يَزَلْ؛ فلِعِلمِه تعالى بأحوالِكم هذه ناسبَت الحِكمةُ الإلهيَّةُ والجُودُ الرَّبَّانيُّ أن يتغَمَّدَكم برَحمتِه ومَغفرتِه وعَفْوِه، ويَغمُرَكم بإحسانِه). ((تفسير السعدي)) (ص: 821). وقال ابنُ عاشور: (المعنى: أنَّ إنشاءَهم مِنَ الأرضِ يَستلزِمُ ضَعفَ قُدَرِهم عن تحمُّلِ المَشاقِّ مع تفاوُتِ أطوارِ نَشأةِ بني آدمَ، فاللهُ عَلِمَ ذلك، وعَلِمَ أنَّ آخِرَ الأُمَمِ -وهي أمَّةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- أضعفُ الأُمَمِ). ((تفسير ابن عاشور)) (27/124). .
فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان مِن عادةِ مَن سَلِمَ مِنَ الذُّنوبِ أن يَفتَخِرَ على مَن قارَفَها -لِما بُنِيَ الإنسانُ عليه مِن محبَّةِ الفَخرِ؛ لِما جُبِلَ عليه مِنَ النُّقصانِ-، وكان حالُه قد يَتبدَّلُ، فيَسبِقُ عليه الكِتابُ فيَشقَى- سَبَّبَ عن ذلك قَولَه تعالى [280] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/69). :
فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ.
أي: فلا تَشهَدوا لأنفُسِكم بالبَراءةِ مِنَ الذُّنوبِ والآثامِ، أو تَمدَحوها بحُسنِ الأعمالِ [281] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/70)، ((الوسيط)) للواحدي (4/202)، ((تفسير القرطبي)) (17/110)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (10/98)، ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/ 49)، ((تفسير ابن كثير)) (7/462)، ((تفسير السعدي)) (ص: 821)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/125)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 237). قال ابن عاشور: (ويَشملُ تَزكيةَ المَرءِ غَيرَه، فيَرجِعُ أَنْفُسَكُمْ إلى معنى: قَومَكم أو جماعتَكم، مِثلُ قَولِه تعالى: فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ [النور: 61] ، أي: لِيُسَلِّمْ بَعضُكم على بَعضٍ. والمعنى: فلا يُثْنِ بَعضُكم على بَعضٍ بالصَّلاحِ والطَّاعةِ؛ لئَلَّا يَغُرَّه ذلك). ((تفسير ابن عاشور)) (27/125). .
كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا * انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا [النساء: 49، 50].
وعن مُحمَّدِ بنِ عَمرِو بنِ عَطاءٍ، قال: سَمَّيتُ ابنَتي بَرَّةَ، فقالت لي زَينبُ بنتُ أبي سَلَمةَ: ((إنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نهى عن هذا الاسمِ، وسُمِّيتُ بَرَّةَ، فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لا تُزَكُّوا أنفُسَكم؛ اللهُ أعلَمُ بأهلِ البِرِّ منكم! فقالوا: بمَ نُسَمِّيها؟ قال: سَمُّوها زَينبَ)) [282] أخرجه مسلم (2142). .
وعن أبي بَكْرةَ الثَّقَفيِّ رَضِيَ الله عنه، قال: أثْنَى رَجُلٌ على رَجُلٍ عندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: ((وَيْلَك! قَطَعْتَ عُنُقَ صاحِبِك، قَطَعْتَ عُنُقَ صاحِبِك -مِرارًا-، ثمَّ قال: مَن كان مِنْكم مادِحًا أخاه لا مَحالةَ فلْيَقُلْ: أحسَبُ فُلانًا، واللهُ حَسيبُه [283] أي: كافِيه، أو يكون فَعِيلٌ مِن الحِسابِ، أي: مُحاسِبُه على عمَلِه الَّذي يَعلَمُ حقيقتَه. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (10/477). ، ولا أُزَكِّي على اللهِ أحدًا [284] أي: لا أقطعُ على عاقِبةِ أحدٍ، ولا على ما في ضميرِه؛ لكونِ ذلك مُغيَّبًا عنه. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (10/477). ، أحسَبُه كذا وكذا، إنْ كان يَعلَمُ ذلك منه )) [285] أخرجه البخاري (2662) واللَّفظُ له، ومسلم (3000). .
هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى.
أي: اللهُ أعلَمُ بمَن اتَّقى سَخَطَه وعَذابَه مِنْكم، فامتثَلَ أوامِرَه، واجتنَبَ نواهيَه [286] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/71)، ((الوسيط)) للواحدي (4/202)، ((تفسير القرطبي)) (17/110). .

الفوائد التربوية:

1- مَنَع اللهُ تعالى مِنَ الظَّنِّ في ثلاثةِ مَواضِعَ، وفي جميعِ تلك المواضِعِ كان المَنعُ عَقيبَ التَّسميةِ والدُّعاءِ باسمٍ؛ مَوضِعانِ منها في هذه السُّورةِ، أحَدُهما: قَولُه تعالى: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ [النجم: 23] ، والثَّاني: قَولُه تعالى: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا [النجم: 28] ، والثَّالِثُ: في (الحُجُراتِ)، قال اللهُ تعالى: وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات: 11، 12] عَقِيبَ الدُّعاءِ باللَّقَبِ، وكُلُّ ذلك دليلٌ على أنَّ حِفظَ اللِّسانِ أَولى مِن حِفظِ غَيرِه مِنَ الأركانِ، وأنَّ الكَذِبَ أقبَحُ مِنَ السَّيِّئاتِ الظَّاهِرةِ مِن الأيدي والأرجُلِ، وهذه المواضِعُ الثَّلاثةُ: أحَدُها: مَدحُ مَن لا يَستَحِقُّ المدحَ، كاللَّاتِ والعُزَّى مِنَ العِزِّ. وثانيها: ذَمُّ مَن لا يَستَحِقُّ الذَّمَّ، وهم الملائِكةُ الَّذين هم عِبادُ الرَّحمنِ، يُسَمُّونَهم تَسميةَ الأُنثى. وثالِثُها: ذَمُّ مَن لم يُعلَمْ حالُه. وأمَّا مَدحُ مَن يُعلَمُ حالُه فلم يَقُلْ فيه: لا يتَّبِعونَ إلَّا الظَّنَّ، بل الظَّنُّ فيه مُعتَبَرٌ، والأخذُ بظاهِرِ حالِ العاقِلِ واجِبٌ [287] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/260)، ((تفسير ابن عادل)) (18/191). .
2- قَولُه تعالى: إِلَّا اللَّمَمَ الاستِثناءُ هنا بمعنى الاستِدراكِ. ووَجهُه: أنَّ ما سُمِّيَ باللَّمَمِ: ضَربٌ مِنَ المعاصي المحَذَّرِ منها في الدِّينِ؛ فقد يَظُنُّ النَّاسُ أنَّ النَّهيَ عنها يُلحِقُها بكبائِرِ الإثمِ؛ فلذلك حَقَّ الاستِدراكُ، وفائدةُ هذا الاستِدراكِ عامَّةٌ وخاصَّةٌ؛ أمَّا العامَّةُ فلِكَيلا يُعامِلَ المُسلِمونَ مُرتَكِبَ شَيءٍ منها مُعامَلةَ مَن يَرتَكِبُ الكبائِرَ. وأمَّا الخاصَّةُ فرَحمةٌ بالمُسلِمينَ الَّذين قد يَرتَكِبونَها؛ فلا يَفُلُّ ارتِكابُها مِن نَشاطِ طاعةِ المُسلِمِ، ولِيَنصَرِفَ اهتِمامُه إلى تجنُّبِ الكبائِرِ؛ فهذا الاستِدراكُ بِشارةٌ لهم، وليس المعنى أنَّ اللهَ رَخَّص في إتيانِ اللَّمَمِ [288] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/121). !
3- صرَّح الله تعالى بالنَّهيِ العامِّ عن تزكيةِ النَّفْسِ في قَولِه: فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ، وأحْرَى نَفْسُ الكافِرِ الَّتي هي أخَسُّ شَيءٍ وأنجَسُه [289] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (1/243). ! وفيه تحذيرٌ للمُؤمِنينَ مِن العُجْبِ بأعمالِهم الحَسَنةِ عُجبًا يُحدِثُه المَرءُ في نَفْسِه، أو يُدخِلُه أحَدٌ على غيرِه بالثَّناءِ عليه بعَمَلِه، ويَشملُ ذلك ذِكرَ المَرءِ أعمالَه الصَّالِحةَ للتَّفاخُرِ بها، أو إظهارَها للنَّاسِ، ولا يجوزُ ذلك إلَّا إذا كان فيه جَلبُ مَصلحةٍ عامَّةٍ [290] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/125). .
4- إنَّ تزكيةَ الإنسانِ نَفْسَه ضَربانِ؛ أحَدُهما: بالفِعلِ، وهو مَحمودٌ، وإليه قُصِدَ بقَولِه تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس: 9] ، والثَّاني: بالقَولِ -كتَزكيةِ العَدلِ غَيرَه-، وذلك مذمومٌ أن يَفعَلَ الإنسانُ بنَفْسِه، وقد نهى اللهُ تعالى عنه بقَولِه: فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ، ونَهيُه عن ذلك تأديبٌ؛ لِقُبحِ مَدحِ الإنسانِ نَفْسَه عَقلًا وشَرعًا؛ ولهذا قيل لحَكيمٍ: ما الَّذي لا يَحسُنُ وإنْ كان حقًّا؟ فقال: مَدْحُ الإنسانِ نَفْسَه [291] يُنظر: ((المفردات)) للراغب (ص: 381). !
5- في قَولِه تعالى: فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى إشارةٌ إلى وُجوبِ الخَوفِ مِن العاقِبةِ، أي: لا تَقطَعوا بخَلاصِكم أيُّها المُؤمِنونَ؛ فإنَّ اللهَ تعالى يَعلَمُ عاقِبةَ مَن يكونُ على التُّقَى، وهذا يؤيِّدُ قَولَ مَن يَقولُ: «أنا مؤمِنٌ إن شاء اللهُ»؛ للصَّرفِ إلى العاقِبةِ [292] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/272). .
6- أنَّ المؤمِنَ مع المؤمِنِ بمَنزلةِ العُضوِ مع العُضوِ اللَّذَينِ تَجمَعُهما نَفْسٌ واحِدةٌ؛ ولهذا سَمَّى اللهُ تعالى الأخَ المؤمِنَ نَفْسًا لأخيه في غَيرِ مَوضِعٍ مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ؛ قال تعالى: فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ [293] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (2/388). ، وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ.
7- في قَولِه تعالى: فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى إنْ قال قائِلٌ: أليس اللهُ تعالى يقولُ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس: 9] ؟
 الجوابُ: بلى، لكِنْ معنى: مَنْ زَكَّاهَا أي: مَن عَمِلَ عملًا تَزكُو به نَفْسُه، وليس معنى مَن زَكَّاها: مَن أَثنَى عليها ومَدَحَها بأنَّها عَمِلَت وعَمِلَت! بلِ المرادُ عَمِلَ عَمَلًا تَزكُو به نَفْسُه؛ فلا مُعارَضةَ بيْنَ الآيتَينِ، والتَّزكيةُ الَّتي يُذَمُّ عليها أنْ يُدِلَّ بعَمَلِه على ربِّه، ويَمدَحَ وكأنَّه يَمُنُّ على اللهِ! يقولُ: صَلَّيتُ، وتصَدَّقتُ، وصُمْتُ، وحَجَجْتُ، وجاهَدْتُ، وبَرَرتُ والديَّ، وما أشْبَهَ ذلك؛ فلا يجوزُ للإنسانِ أنْ يُزَكِّيَ نَفْسَه [294] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 237). .
8- في قَولِه تعالى: فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى رَدٌّ على أولئك الصُّوفيَّةِ الَّذين يَدَّعونَ أنَّهم أئِمَّةٌ، ويُزَكُّون أنْفُسَهم، ويقولونَ: وصَلْنا إلى حَدٍّ لا تَلْزَمُنا الطَّاعةُ! وصَلْنا إلى عالَمِ المَلَكوتِ؛ فليس علينا صَلاةٌ ولا صَدَقةٌ ولا صيامٌ، ولا يَحْرُمُ علينا شَيءٌ! وهؤلاء مُنسَلِخونَ مِنَ الدِّينِ انسِلاخًا تامًّا؛ ولذلك نقولُ: هؤلاء الَّذين يُزَكُّون أنْفُسَهم هم أبعَدُ النَّاسِ عن الزَّكاةِ؛ لأنَّهم أُعجِبوا بأعمالِهم، وأَدَلُّوا بها على اللهِ عزَّ وجلَّ، وجَعلوا لأنْفُسِهم مَنصِبًا لم يَجعَلْه اللهُ تعالى لهم، فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى كأنَّه يقولُ: لماذا تُزَكُّون أنْفُسَكم؟ أتُريدونَ أنْ تُعْلِموا اللهَ بما أنتم عليه؟! الجوابُ: لا؛ ولهذا قال: هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى، يعني: إنْ كنتَ مُتَّقيًا للهِ فاللهُ أعلَمُ بك، ولا حاجةَ أنْ تَقولَ للهِ: إنِّي فعَلْتُ وفعَلْتُ [295] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 237). .
9- في قَولِه تعالى: فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى أي: لا تَصِفُوها بالزَّكاةِ افتِخارًا، وأمَّا التَّحَدُّثُ بنِعمةِ اللهِ على العَبدِ، مِثلُ أنْ يقولَ القائلُ: إنَّه كان مُسرِفًا على نَفْسِه، كان مُنحَرِفًا، فهداه اللهُ ووَفَّقَه ولَزِمَ الاستِقامةَ؛ تحدُّثًا بنِعمةِ اللهِ، لا تزكيةً لنَفْسِه- فإنَّ هذا لا بأسَ به، ولا حَرَجَ فيه؛ أنْ يَذْكُرَ الإنسانُ نِعمةَ اللهِ عليه في الهِدايةِ والتَّوفيقِ، كما أنَّه لا حَرَجَ أنْ يَذْكُرَ نِعمةَ اللهِ عليه بالغِنى بعدَ الفَقرِ [296] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (3/521). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال الله تعالى: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ قَولُه: فِي السَّمَاوَاتِ صِفةٌ لـ مَلَكٍ، والمقصودُ منها بَيانُ شَرَفِ الملائكةِ بشَرَفِ العالَمِ الَّذي هم أهلُه، وهو عالَمُ الفضائِلِ ومنازِلِ الأسرارِ [297] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/113). .
2- في قَولِه تعالى: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا أمورٌ كُلُّها تُشيرُ إلى عِظَمِ الأمرِ:
أحَدُها: «كم»؛ فإنَّه للتَّكثيرِ.
ثانيها: لَفظُ «المَلَكِ»؛ فإنَّه أشرَفُ أجناسِ المخلوقاتِ.
ثالِثُها: فِي السَّمَاوَاتِ؛ فإنَّها إشارةٌ إلى عُلُوِّ مَنزِلتِهم، ودُنُوِّ مَرتبتِهم مِن مَقَرِّ السَّعادةِ.
رابعُها: اجتِماعُهم على الأمرِ في قَولِه: شَفَاعَتُهُمْ. وكُلُّ ذلك لبيانِ فَسادِ قَولِهم: إنَّ الأصنامَ يَشفَعونَ [298] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/255). ، كأنَّه يقولُ: الملائكةُ الكرامُ لا تُغْني شفاعتُهم شيئًا إلَّا بإذْنِ الله، فكيفَ أوثانُكم [299] يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/319). ؟!
3- في قَولِه تعالى: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى نفَى سُبحانَه أنْ تُغْنِيَ شفاعةُ الملائكةِ الَّذين في السَّماءِ إلَّا مِن بعدِ إذْنِه؛ تنبيهًا بذلك على أنَّ مَن دَونَهم أَولى ألَّا تُغنِيَ شَفاعتُهم؛ فإنَّ المُشرِكينَ كانوا يقولونَ عن الأصنامِ: إنَّها تَشفَعُ لهم [300] يُنظر: ((الاستغاثة في الرد على البكري)) لابن تيمية (ص: 231). !
4- في قَولِه تعالى: لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ أُفرِدَت الشَّفاعةُ؛ لأنَّها مَصدَرٌ، ولأنَّهم لو شَفَع جَميعُهم لواحدٍ لم تُغْنِ شَفاعتُهم عنه شيئًا [301] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/19). !
5- في قَولِه تعالى: إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى أنَّ للشَّفاعةِ شَرطَينِ؛ الأوَّلُ: الإذْنُ مِنَ اللهِ تعالى؛ لِقَولِه: أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ. والثَّاني: رِضاه عنِ الشَّافعِ والمَشفوعِ له؛ لِقَولِه: وَيَرْضَى، وكما قال تعالى: وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى [الأنبياء: 28] ؛ فلا بُدَّ مِن إذْنِه تعالى، ورِضاهُ عنِ الشَّافعِ والمَشفوعِ له، إلَّا في التَّخفيفِ عن أبي طالبٍ كما جاء في الحَديثِ [302] يُنظر: ((القول المفيد على كتاب التوحيد)) لابن عثيمين (1/336). ويُنظر ما أخرجه البخاريُّ (3885) ومسلمٌ (210) من حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رضيَ الله عنه. ، فالمُشرِكونَ إذَنْ لا نَصيبَ لهم مِن شَفاعةِ الشَّافِعينَ، وقد سَدُّوا على أنفُسِهم رَحمةَ أرحَمِ الرَّاحِمينَ [303] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 820). !
6- في قَولِه تعالى: وَيَرْضَى أنَّه لَمَّا كان المَلِكُ قد يأذَنُ في الشَّفاعةِ وهو كارِهٌ، قال مُعْلِمًا أنَّه ليس كأولئك؛ فحينَئذٍ تُغْني شَفاعتُهم إذا كانوا مِن المأذونِ لهم، كلُّ هذا قَطعًا لأطماعِهم وعن قَولِهم بمُجَرَّدِ الهوى: إنَّ آلهتَهم تَشفَعُ لهم [304] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/63). !
7- في قَولِه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ سُؤالٌ: كيف يَصِحُّ أن يُقالَ: «إنَّهم لا يُؤمِنونَ بالآخرةِ» مع أنَّهم كانوا يقولونَ: هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ [يونس: 18] ، وكان مِن عادتِهم أن يَربِطوا مَركوبًا على قَبرِ مَن يموتُ، ويَعتَقِدونَ أنَّه يُحشَرُ عليه؟
الجوابُ مِن وَجهينِ:
أحَدُهما: أنَّهم لَمَّا كانوا لا يَجزِمونَ به؛ كانوا يقولونَ: لا حَشْرَ، فإنْ كان فَلَنا شُفَعاءُ، يدُلُّ عليه قَولُه تعالى: وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى [فصلت: 50] .
ثانيهما: أنَّهم ما كانوا يَعتَرِفونَ بالآخرةِ على الوَجهِ الحَقِّ، وهو ما وَرَد به الرُّسُلُ [305] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/257). .
ويمكنُ أن يُقالَ: إنَّهم كانوا يَطلُبون بعبادةِ الأصنامِ الشَّفاعةَ لِيَتحقَّقَ لهم ما يَطلُبون في الدُّنيا مِن أرزاقٍ ومكاسِبَ وعافيةٍ ونصْرٍ... إلخ.
8- في قَولِه تعالى: وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا سؤالٌ: كيف أنَّ الظَّنَّ لا يَقومُ مَقامَ العِلمِ مع أنَّه يقومُ مَقامَه في كثيرٍ مِنَ المسائِلِ كالقياسِ؟
 الجوابُ: المرادُ هنا: الظَّنُّ الحاصِلُ مِنِ اتِّباعِ الهوى، دونَ الظَّنِّ الحاصِلِ مِنَ الاستِدلالِ والنَّظَرِ، بقَرينةِ قَولِه تعالى: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ [306] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 540). [النجم: 23] .
9- قَولُ مَن قال: إنَّه لا يجوزُ العَمَلُ بالظَّنِّ في المسائِلِ الفِقهيَّةِ وغَيرِها: خَطَأٌ؛ لأنَّ كثيرًا من المسائِلِ الفِقهيَّةِ ظَنِّيَّةٌ؛ إمَّا لخفاءِ الدَّليلِ، أو خفاءِ الدَّلالةِ: ليس كُلُّ مَسألةٍ في الفَقهِ يَقولُ بها الإنسانُ على سبيلِ اليقينِ أبَدًا، بل بَعضُها يَقينٌ وبَعضُها ظَنٌّ، والظَّنُّ إذا تعذَّرَ اليَقينُ: مِمَّا أحَلَّ اللهُ، ومِن نِعمةِ اللهِ أنَّه إذا تعَذَّر اليقينُ رجَعْنا إلى غَلَبةِ الظَّنِّ، فليس كلُّ ظَنٍّ مُنكَرًا، لكِنَّ الظَّنَّ الَّذي ليس له أصلٌ يُبنَى عليه: مُنكَرٌ [307] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 223). ويُنظر أيضًا: ((العذب النمير)) للشنقيطي (2/431). .
10- الظَّنُّ يُطلَقُ في لُغةِ العَرَبِ الَّتي نزل بها القُرآنُ على معنيَينِ:
أحَدُهما: الشَّكُّ المستوي الطَّرَفَينِ، كقَولِه تعالى: وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا، وقَولِه تعالى عن الكُفَّارِ: إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ [الجاثية: 32] ، وقولِه: وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ [يونس: 36] .
 والثَّاني: هو إطلاقُ الظَّنِّ مُرادًا به العِلمُ واليَقينُ، ومنه قَولُه تعالى: وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ [فصلت: 48] أي: أيقَنوا أنَّهم ليس لهم يومَ القيامةِ مَحيصٌ، وقولُه: قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة: 249] أي: يوقِنون أنَّهم مُلاقو اللهِ، وقولُه: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة: 45، 46]، وقولُه: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ [الحاقة: 19، 20] أي: أيقنتُ ذلك [308] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/200) و (7/35). .
11- في قَولِه تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا لطيفةٌ: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان كالطَّبيبِ للقُلوبِ؛ فقد أتَى على ترتيبِ الأطِبَّاءِ في أنَّ المَرَضَ إذا أمكَنَ إصلاحُه بالغِذاءِ لا يَستَعمِلونَ الدَّواءَ القَوِيَّ، ثمَّ إذا عَجَز عن المُداواةِ بالمشروباتِ وغَيرِها عَدَلوا إلى الحديدِ والكَيِّ، كما قيل: آخِرُ الدَّواءِ الكَيُّ. فالنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أوَّلًا: أمَرَ القُلوبَ بذِكرِ اللهِ فحَسْبُ؛ فإنَّ بذِكرِ اللهِ تَطمَئِنُّ القُلوبُ، كما أنَّ بالغِذاءِ تَطمَئِنُّ النُّفوسُ؛ فالذِّكرُ غِذاءُ القَلبِ؛ ولهذا قال أوَّلًا: قولوا: «لا إلهَ إلَّا اللهُ» أمَرَ بالذِّكرِ لِمَن انتَفَع، مِثلُ أبي بَكرٍ وغَيرِه مِمَّن انتَفَع، ومَن لم ينتَفِعْ ذَكَر لهم الدَّليلَ، وقال: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا [الأعراف: 184]، قُلِ انْظُرُوا [يونس: 101] ، أَفَلَا يَنْظُرُونَ [الغاشية: 17] إلى غيرِ ذلك، ثمَّ أتى بالوَعيدِ والتَّهديدِ، فلَمَّا لم يَنفَعْهم قال: أعرِضْ عن المعالَجةِ، واقطَعِ الفاسِدَ؛ لئَلَّا يُفسِدَ الصَّالحَ [309] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/260، 261)، ((تفسير ابن عادل)) (18/191، 192). .
12- في قَولِه تعالى: ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ سؤالٌ: أنَّ اللهَ تعالى بَيَّنَ أنَّ غايتَهم ذلك، ولَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة: 286] ، والمجنونُ الَّذي لا عِلْمَ له والصَّبيُّ لا يُؤمَرُ بما فوقَ احتِمالِه، فكيف يُعاقِبُهم اللهُ؟
الجوابُ: ذَكَر سُبحانَه قبْلَ ذلك أنَّهم توَلَّوا عن ذِكرِ اللهِ، فكان عدَمُ عِلْمِهم لعَدَمِ قَبولِهم العِلمَ، وإنَّما قَدَّرَ اللهُ توَلِّيَهم؛ لِيُضافَ الجَهلُ إلى ذلك، فيُحَقَّقَ العِقابُ [310] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/265). .
13- في قَولِه تعالى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ الظَّاهِرُ أنَّ صيغةَ التَّفضيلِ -الَّتي هي: أَعْلَمُ في هذه الآيةِ- يُرادُ بها مُطلَقُ الوَصفِ لا التَّفضيلُ؛ لأنَّ اللهَ تعالى لا يُشارِكُه أحَدٌ في عِلمِ ما يَصيرُ إليه خَلْقُه مِن شَقاوةٍ وسَعادةٍ [311] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/466). .
14- في قَولِه تعالى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى إنَّما بَيَّنَ اللهُ سُبحانَه وتعالى أنَّه أعلَمُ بمَن ضَلَّ عن سَبيلِه، وبمَنِ اهتدَى؛ لفائدتَينِ:
الفائدةُ الأُولى: أنْ نَعلَمَ أنَّ ما وَقَعَ مِن الضَّلالِ والهدايةِ فهو صادِرٌ عن علمِ اللهِ تعالى، وبإرادتِه؛ إِذ لا يُمكِنُ أنْ يوجَدَ في خَلْقِه خِلافُ مَعلومِه تعالى.
الفائدةُ الثَّانيةُ: التَّحذيرُ مِن الضَّلالِ، والتَّرغيبُ في الاهتِداءِ، ما دام الإنسانُ يَعلَمُ أنَّ أيَّ عَمَلٍ صَدَرَ منه فعِلْمُه عندَ اللهِ فإنَّه سوف يَخشَى أنْ يَعصِيَ اللهَ، وسوف يَسعَى أنْ يُرضِيَ اللهَ عزَّ وجلَّ، كأنه يقولُ: إنْ ضَلَلْتَ فاللهُ أعلمُ بك، وإنِ اهتديتَ فاللهُ أعلمُ بك؛ فيَجزي الَّذين أساؤوا بما عَمِلوا، ويَجزي الَّذين أحسَنوا بالحُسنى [312] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 227). .
15- في قَولِه تعالى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ عَبَّرَ بالرَّبِّ؛ إشارةً إلى أنَّ ضلالَ هذا مِنَ الإحسانِ إليه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّه لو دخل في دينِه لأفسَدَ أكثَرَ مِمَّا يُصلِحُ، كما قال تعالى: وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ [313] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/65). [التوبة: 47] .
16- في قَولِه تعالى: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أنه سُبحانَه مالِكٌ لِذَواتِهما، ومالكٌ لِمَا فيهما أيضًا، يتصرَّفُ فيه كما يشاءُ حسَبَ ما تقتضيه حكمتُه. وإيمانُنا بأنَّ للهِ مُلْكَ السَّمَواتِ والأرضِ يُفيدُ فائدتَينِ عظيمتَينِ:
 الفائدة الأُولى: الرِّضا بقضاءِ اللهِ تعالى؛ لأنَّك ملْكُه، فهو كما يَتصرَّفُ في السَّحابِ يُمْطِرُ أو لا يُمطِرُ، يَمضي أو لا يَمضي، ويَتصرَّفُ في الشَّمسِ والقمرِ، ويَتصرَّفُ في المخلوقاتِ؛ يَتصرَّفُ فيك أيضًا كما يشاءُ، إنْ شاء أعطاك صحَّةً، وإنْ شاء سَلَبَها، إنْ شاء أعطاك عقلًا، وإنْ شاء سَلَبَك، إنْ شاء أعطاك مالًا، وإنْ شاء سَلَبَك، أنت ملْكُه، فإذا آمنتَ بهذا رضيتَ بقضائِه.
الفائدة الثَّانية: الرِّضا بشرْعِه، وقَبولُ شرْعِه، والقيامُ به؛ لأنك ملْكُه، إذا قال لك: افعلْ فافعلْ، وإذا قال: لا تفعلْ فلا تفعلْ، فإذا عصيتَ ربَّك -إمَّا بفعلِ مُحَرَّمٍ، وإمَّا بتركِ واجبٍ- فإنَّك خرجتَ عن مُقتضى العبوديَّةِ التَّامَّةِ؛ لأنَّ مقتضى العبوديَّةِ التَّامَّةِ أنْ تَخضَعَ لشرْعِه كما أنَّك خاضعٌ كرهًا أو طَوعًا لقضائه وقَدَرِه، فليس معنى قولِه تعالى: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أنْ يُخبرَنا أنه مالكٌ فقط! لكنْ مِن أجْلِ أنْ نعتقدَ مُقتضى هذا المُلْكِ، وهو الرِّضا بقضائِه، والرِّضا بشرْعِه، هذه حقيقةُ المُلْكِ [314] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 228). .
17- إنَّ وُقوعَ الذَّنْبِ مع تَعَقُّبِه بالتَّوبةِ والاستِغفارِ لا يَقدَحُ في كَونِ الرَّجُلِ مِن المُقَرَّبينَ السَّابِقينَ ولا الأبرارِ، ولا يَلْحَقُه بذلك وعيدٌ في الآخرةِ، فضلًا عن أنْ يَجعلَه مِن الفُجَّارِ، وقد قال تعالى في عُمومِ وَصْفِ المؤمِنينَ: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى * الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ [315] يُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (2/421). .
18- في قَولِه تعالى: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا أنَّ السَّيِّئةَ لا يُجازَى الإنسانُ بأكثرَ منها [316] يُنظر: ((شرح ثلاثة الأصول)) لابن عثيمين (ص: 145). ، فحينَ ذَكَر سُبحانَه جزاءَ المُسيءِ قال: بِمَا عَمِلُوا، وحينَ ذكَرَ جزاءَ المُحسِنِ أتَى بالصِّفةِ الَّتي تَقتَضي التَّفضُّلَ، وتدُلُّ على الكَرَمِ والزِّيادةِ للمُحسِنِ بِالْحُسْنَى، وهي كقَولِه تعالى: وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ [317] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/20). [العنكبوت: 7] ، فقال تعالى: بِالْحُسْنَى ولم يَقُلْ: «بما عَمِلوا»؛ لأنَّ فَضْلَ اللهِ أوسعُ مِن أعمالِنا، فأنت إذا فعَلْتَ حَسَنةً فتكونُ عشْرَ حَسَناتٍ إلى سَبْعِمِئةِ ضِعْفٍ إلى أضعافٍ كثيرةٍ، وهذا يَدُلُّك على سَعةِ فضلِ اللهِ عزَّ وجلَّ وإحسانِه وكمالِ عدلِه [318] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 229). !
19- في قَولِه تعالى: وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى * الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ بَيانُ المُسيءِ والمُحسِنِ؛ لأنَّ مَن لا يجتَنِبُ كبائِرَ الإثمِ يكونُ مُسيئًا، والَّذي يجتَنِبُها يكونُ مُحسِنًا، وعلى هذا ففيه لَطيفةٌ: وهي أنَّ المُحسِنَ لَمَّا كان هو مَن يجتَنِبُ الآثامَ، فالَّذي يأتي بالنَّوافِلِ يكونُ فَوقَ المُحسِنِ، واللهُ تعالى وَعَد المُحسِنَ بالزِّيادةِ؛ فالَّذي فَوقَه يكونُ له زياداتٌ فَوقَها، وهم الَّذين لهم جزاءُ الضِّعفِ [319] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/269). .
20- في قَولِه تعالى: وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى * الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَصْفُ اللهِ المُحسِنينَ باجتِنابِ الكبائرِ [320] يُنظر: ((تفسير ابن رجب الحنبلي)) (1/330). ، فقولُه: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ صِفةٌ لـ الَّذِينَ أَحْسَنُوا، أي: الَّذين أحسَنوا واجتَنَبوا كبائِرَ الإثمِ والفواحِشَ، أي: فَعَلوا الحَسَناتِ واجتَنَبوا المَنهيَّاتِ؛ وذلك جامِعُ التَّقْوى. وهذا تنبيهٌ على أنَّ اجتِنابَ ما ذُكِرَ يُعَدُّ مِنَ الإحسانِ؛ لأنَّ فِعلَ السَّيِّئاتِ يُنافي وَصْفَهم بالَّذين أحسَنوا؛ فإنَّهم إذا أتَوا بالحَسَناتِ كُلِّها ولم يَترُكوا السَّيِّئاتِ، كان فِعْلُهم السَّيِّئاتِ غَيرَ إحسانٍ، ولو تَرَكوا السَّيِّئاتِ وتَرَكوا الحَسَناتِ كان تَركُهم الحَسَناتِ سَيِّئاتٍ [321] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/120). .
21- في قَولِه تعالى: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ أنَّ مِن الذُّنوبِ كَبائِرَ وصَغائِرَ [322] يُنظر: ((الجواب الكافي)) لابن القيم (ص: 125). ، وفي قَولِه تعالى: إِلَّا اللَّمَمَ دَلالةٌ على عَدَمِ المساواةِ بيْنَ المعاصي [323] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/78). .
22- في قَولِه تعالى: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ ... الآيةَ: تَكفيرُ الصَّغائِرِ باجتِنابِ الكبائِرِ [324] يُنظر: ((الإكليل في استنباط التنزيل)) للسيوطي (ص: 250). .
23- في قَولِه تعالى: كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ سُؤالٌ: إذا ذُكِرَتِ الكبائِرُ، فما الفواحِشُ بَعْدَها؟
 الجوابُ: الكبائِرُ إشارةٌ إلى ما فيها مِن مِقدارِ السَّيِّئةِ، والفواحِشُ إشارةٌ إلى ما فيها مِن وَصفِ القُبحِ، كأنَّه قال: «عظيمةُ المقاديرِ، قَبيحةُ الصُّوَرِ»، والفاحِشُ في اللُّغةِ مُختَصٌّ بالقَبيحِ الخارِجِ قُبحُه عن حَدِّ الخَفاءِ، ولهذا لم يَقُل: «الفواحِشَ مِن الإثمِ»، وقال في الكبائِرِ: كَبَائِرَ الْإِثْمِ؛ لأنَّ الكبائِرَ إنْ لم يُمَيِّزْها بالإضافةِ إلى الإثمِ لَمَا حَصَل المقصودُ، بخِلافِ الفواحِشِ [325] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/270). .
24- في قَولِه تعالى: كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ أنَّ الكبائرَ تختلِفُ؛ وأنَّ الفواحشَ تختلفُ، لأنَّ الكبائرَ وَصْفٌ؛ كلمَّا كان أعظمَ صار أشدَّ كبيرةً، والفواحشُ كذلك، وفي قَولِه تعالى: وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا [النساء: 22] ، وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً [الإسراء: 32] ، أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ [الأعراف: 80] فَرَّقَ اللهُ بيْنَها -معَ أنَّها كلَّها فواحشُ- لكنَّ بعضَها أعظمُ مِن بعضٍ [326] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 232). .
25- في قَولِه تعالى: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ أنَّه تعالى عالِمٌ بكُلِّ شَيءٍ قبْلَ وُقوعِه؛ فهو يَعلَمُ ما سيَعمَلُه الخَلقُ [327] يُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب)) للشنقيطي (ص: 23). .
26- قال تعالى: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ المعنى أنَّ الضَّعْفَ المُقتَضِيَ لسَعةِ التَّجاوُزِ بالمَغفِرةِ مُقَرَّرٌ في عِلمِ اللهِ مِن حينِ إنشاءِ آدَمَ مِنَ الأرضِ بالضَّعفِ الملازِمِ لجِنسِ البَشَرِ على تفاوُتٍ فيه؛ قال تعالى: وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا [النساء: 28] ؛ فإنَّ إنشاءَ أصلِ الإنسانِ مِن الأرضِ -وهي عُنصُرٌ ضَعيفٌ- يَقتَضي ملازَمةَ الضَّعفِ لجَميعِ الأفرادِ المنحَدِرةِ مِن ذلك الأصلِ [328] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/124). .
27- في قَولِه تعالى: وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ تَنبيهٌ على كَمالِ العِلمِ والقُدرةِ؛ فإنَّ بَطنَ الأُمِّ في غايةِ الظُّلمةِ، ومَن عَلِمَ بحالِ الجَنينِ فيها لا يَخفَى عليه ما ظَهَر مِن حالِ العِبادِ [329] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/271). .
28- في قَولِه تعالى: وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ دَليلٌ على تثبيتِ نَسَبِ ولدِ الزِّنا مِن أُمِّه، ومُغْنٍ عن قياسِه على وَلَدِ المُلاعَنةِ؛ لِدُخولِ ولَدِ الزِّنا -لا محالةَ- في هذا الخِطابِ، ونِسبتِه جلَّ وتعالى جميعَ الأَجِنَّةِ إلى الأُمَّهاتِ [330] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/204). .
29- قَولُه تعالى: فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى دليلٌ على أنَّ الزَّكاةَ هي التَّقْوى، وعُلِم مِن ذلك أنَّ التَّزكيةَ هي الإخبارُ بالتَّقوى [331] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (15/391) و(16/199). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى لَمَّا بيَّنَ اللهُ أنَّ أُمورَ الدَّارَينِ بيَدِ اللهِ تعالى، وأنْ ليس للإنسانِ ما تَمنَّى، ضرَبَ لذلك مِثالًا مِن الأمانيِّ الَّتي هي أعظَمُ أمانيِّ المُشرِكين؛ وهي قولُهم في الأصنامِ: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر: 3] ، وقولُهم: هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ [يونس: 18] ، فبيَّنَ إبطالَ قولِهم بطَريقِ فَحوى الخِطابِ؛ وهو أنَّ الملائكةَ الَّذين لهم شرَفُ المَنزلةِ -لأنَّ الملائكةَ مِن سُكَّانِ السَّمواتِ، فهمْ لا يَسْتطيعون إنكارَ أنَّهم أشرَفُ مِن الأصنامِ- لا يَملِكون الشَّفاعةَ إلَّا إذا أذِنَ اللهُ أنْ يُشفَعَ إذا شاء أنْ يَقبَلَ الشَّفاعةَ في المَشفوعِ له، فكيف يكونُ للمُشرِكينَ ما تَمنَّوا مِن شَفاعةِ الأصنامِ للمشركينَ الَّذين يَقولون: هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ [يونس: 18] ، وهي حِجارةٌ في الأرضِ، وليست مَلائكةً في السَّمواتِ؟! فثبَتَ أنْ لا شَفاعةَ إلَّا لِمَن شاء اللهُ، وقد نفَى اللهُ شَفاعةَ الأصنامِ، فبَطَلَ اعتقادُ المشرِكينَ أنَّهم شُفعاؤُهم، فهذه مُناسَبةُ عطْفِ هذه الجُملةِ على جُملةِ أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى [النجم: 24] ، وليس هذا الانتِقالُ اقتضابًا لبَيانِ عِظَمِ أمْرِ الشَّفاعةِ [332] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/112، 113). .
- وفي هذا إقناطٌ لهم عمَّا علَّقوا به أطماعَهم مِن شَفاعةِ الملائكةِ لهم، مُوجِبٌ لإقناطِهم مِن شَفاعةِ الأصنامِ بطَريقِ الأَولويَّةِ [333] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/160). .
- وجُملةُ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا ... إلخ، خبَرٌ عن (كَمْ)، أي: لا تُغْني شَفاعةُ أحدِهم، فهو عامٌّ؛ لوُقوعِ الفِعلِ في سِياقِ النَّفْيِ، ولإضافةِ شَفاعةٍ إلى ضَميرِهم، أي: جَميعُ الملائكةِ -على كَثرتِهم وعُلوِّ مِقدارِهم- لا تُغْني شَفاعةُ واحدٍ منهم [334] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/113). .
- وشَيْئًا مَفعولٌ مُطلَقٌ -أي: لم تُذكَرْ مُتعلَّقاتُه- للتَّعميمِ، أي: شيئًا مِن الإغناءِ؛ لزِيادةِ التَّنصيصِ على عُمومِ نفْيِ إغناءِ شَفاعتِهم [335] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/113). .
- وفي قولِه: لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ لم يقُلْ: (لا يَشفَعون)، مع أنَّ دَعْواهم: أنَّ هؤلاء شُفعاؤُنا، لا أنَّ شَفاعتَهم تَنفَعُ أو تُغْني، وقد قال تَعالى -في مواضِعَ أُخَرَ-: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة: 255] ؛ فنَفَى الشَّفاعةَ بدونِ الإذْنِ، وقال: مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ [السجدة: 4] ؛ فنَفَى الشَّفيعَ، وهاهنا نَفى الإغناءَ؛ ووجْهُ ذلك: أنَّهم كانوا يَقولون: هؤلاء شُفعاؤُنا، وكانوا يَعتقِدون نفْعَ شَفاعتِهم، كما قال تَعالى: لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر: 3] ، ثمَّ نقولُ: نفْيُ دَعواهم يَشتمِلُ على فائدةٍ عَظيمةٍ، أمَّا نفْيُ دَعواهم؛ لأنَّهم قالوا: الأصنامُ تَشفَعُ لنا شَفاعةً مُقرِّبةً مُغْنيةً! فقال: لا تُغْني شَفاعتُهم؛ بدليلِ أنَّ شَفاعةَ الملائكةِ لا تُغْني، وأمَّا الفائدةُ فلأنَّه لَمَّا استَثْنى بقولِه: إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ، أي: فيَشفَع، ولكنْ لا يكونُ فيه بَيانُ أنَّها تُقبَلُ وتُغْني أو لا تُقبَلُ، فإذا قال: لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ، ثمَّ قال: إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ، فيَكونُ معناهُ: تُغْني؛ فتَحصُلُ البِشارةُ؛ لأنَّه تعالى قال: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا [غافر: 7] ، وقال تَعالى: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ [الشورى: 5] ، والاستِغفارُ شَفاعةٌ. وأمَّا قولُه: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة: 255] فليس المرادُ نفْيَ الشَّفاعةِ وقَبولَها، كما في هذه الآيةِ حيثُ رَدَّ عليهم قولَهم، وإنَّما المرادُ عَظَمةُ اللهِ تَعالى، وأنَّه لا يَنطِقُ في حضْرتِه أحدٌ ولا يَتكلَّمُ، كما في قولِه تعالى: لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ [336] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/256). [النبأ: 38] .
- ولَمَّا كان ظاهرُ قولِه: لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ يُوهِمُ أنَّهم قد يَشفَعون فلا تُقبَلُ شَفاعتُهم، وليس ذلك مُرادًا؛ لأنَّ المُرادَ أنَّهم لا يَجْرُؤونَ على الشَّفاعةِ عندَ اللهِ؛ فلذلك عُقِّبَ بالاستِثناءِ بقولِه: إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى، وذلك ما اقتضاهُ قولُه: وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى [الأنبياء: 28] ، وقولُه: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة: 225] ، أي: إلَّا مِن بَعْدِ أنْ يَأذَنَ اللهُ لأحدِهم في الشَّفاعةِ، ويَرضَى بقَبولِها في المَشفوعِ له، فالمُرادُ بـ لِمَنْ يَشَاءُ مَن يَشاؤُه اللهُ منهم، أي: فإذا أذِنَ لأحدِهم قُبِلَت شَفاعتُه [337] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/113، 114). .
- واللَّامُ في قولِه: لِمَنْ يَشَاءُ هي اللَّامُ الَّتي تَدخُلُ بعدَ مادَّةِ الشَّفاعةِ على المشفوعِ له؛ فهي مُتعلِّقةٌ بشفاعتِهم، وليستِ اللَّامُ مُتعلِّقةً بـ بِإِذْنِ اللَّهِ، ومَفعولُ يَأْذَنَ مَحذوفٌ دلَّ عليه قولُه: لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ، وتَقديرُه: أنْ يَأْذنَهُم اللهُ. ويَجوزُ أنْ تكونَ اللَّامُ لتَعديةِ يَأْذَنَ إذا أُرِيدَ به معْنى يَستمِعُ. ومعْنى ذلك أنَّ الملائكةَ لا يَزالون يَتقرَّبون بطلَبِ إلْحاقِ المؤمنينَ بالمَراتبِ العُلْيا، كما دلَّ عليه قولُه تعالى: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا [غافر: 7] ، وقولُه: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ [الشورى: 5] ؛ فإنَّ الاستغفارَ دُعاءٌ، والشَّفاعةَ تَوجُّهٌ أعْلى، فالملائكةُ يَعلَمون إذا أرادَ اللهُ استجابةَ دَعوتِهم في بَعضِ المؤمنينَ، أذِنَ لأحدِهم أنْ يَشفَعَ له عندَ اللهِ، فيَشفَعَ، فتُقبَلَ شَفاعتُه [338] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/114). .
- وعُطِفَ قولُه: وَيَرْضَى على لِمَنْ يَشَاءُ؛ للإشارةِ إلى أنَّ إذْنَ اللهِ بالشَّفاعةِ يَجْري على حسَبِ إرادتِه إذا كان المَشفوعُ له أهْلًا لأنْ يُشفَعَ له [339] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/114). .
- وفي هذا الإبهامِ تَحريضٌ للمؤمنينَ أنْ يَجتهِدوا في التَّعرُّضِ لرِضا اللهِ عنهم؛ ليَكونوا أهْلًا للعفْوِ عمَّا فَرَّطوا فيه مِن الأعمالِ [340] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/114). .
2- قولُه تعالَى: إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى * وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا
- قولُه: إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى * وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ اعتِراضٌ واستِطرادٌ لِمُناسَبةِ ذِكرِ الملائكةِ، وتبَعًا لِما ذُكِرَ آنِفًا مِن جَعْلِ المشرِكين اللَّاتَ والعُزى ومَناةَ بَناتٍ للهِ بقوله: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى إلى قولِه: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى [النجم: 19- 21] ؛ ثُنِيَ إليهم عِنانُ الرَّدِّ والإبطالِ لزعْمِهم أنَّ الملائكةَ بَناتُ اللهِ، جمْعًا بيْن رَدِّ باطلَينِ مُتشابهينِ، وكان مُقْتضى الظَّاهِرِ أنْ يُعبَّرَ عن المَردودِ عليهم بضَميرِ الغَيبةِ تَبَعًا لقولِه: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ [النجم: 28] ، فعُدِلَ عن الإضمارِ إلى الإظهارِ بالمَوصوليَّةِ؛ لِما تُؤذِنُ به الصِّلةُ مِن التَّوبيخِ لهم، والتَّحقيرِ لعَقائدِهم؛ إذ كَفَروا بالآخرةِ، وقد تواتَرَ إثباتُها على ألْسِنةِ الرُّسلِ وعندَ أهْلِ الأديانِ المُجاورِينَ لهم مِن اليهودِ والنَّصارَى والصَّابئةِ، فالمَوصوليَّةُ هنا مُستعمَلةٌ في التَّحقيرِ والتَّهكُّمِ نَظيرَ حِكايةِ اللهِ عنهم: وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الحجر: 6] ، إلَّا أنَّ التَّهكُّمَ المَحكيَّ هنالك تَهكُّمُ المُبطِلِ بالمُحقِّ؛ لأنَّهم لا يَعتقِدون وُقوعَ الصِّلةِ، وأمَّا التَّهكُّمُ هنا فهو تَهكُّمُ المُحِقِّ بالمُبطِلِ؛ لأنَّ مَضمونَ الصِّلةِ ثابتٌ لهم [341] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/114، 115). .
- وفي تَعليقِ تَسميتِهم الملائكةَ تَسميةَ الأُنثى بعَدَمِ الإيمانِ بالآخرةِ، إشعارٌ بأنَّها في الشَّناعةِ والفَظاعةِ واستِتْباعِ العقوبةِ في الآخرةِ بحيثُ لا يَجترِئُ عليها إلَّا مَن لا يُؤمِنُ بها رأْسًا [342] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/160). .
- والتَّعريفُ في الْأُنْثَى تَعريفُ الجِنسِ الَّذي هو في معْنى المُتعدِّدِ، والَّذي دَعا إلى هذا النَّظْمِ مُراعاةُ الفَواصلِ؛ ليَقَعَ لَفظُ الْأُنْثَى فاصِلةً [343] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/115). .
- جُملةُ وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ حالٌ مِن ضَميرِ لَيُسَمُّونَ، أي: يُثبِتونَ للملائكةِ صِفاتِ الإناثِ في حالِ انتِفاءِ عِلْمٍ منهم بذلك، وإنَّما هو تَخيُّلٌ وتَوهُّمٌ؛ إذ العِلمُ لا يكونُ إلَّا عن دَليلٍ لهم، فنَفْيُ العِلمِ مُرادٌ به نفْيُه ونفْيُ الدَّليلِ على طَريقةِ الكِنايةِ [344] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/115). .
- قولُه: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا مَوقِعُ هذه الجُملةِ ذو شُعَبٍ؛ فإنَّ فيها بَيانًا لجُملةِ وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ، وعَودًا إلى جُملةِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ [النجم: 23] ، وتأْكيدًا لمَضمونِها، وتَوطئةً لتَفريعِ فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا [345] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/116). [النجم: 29] .
- وفي قولِه: وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا أُظهِرَ لَفظُ الظَّنِّ دونَ ضَميرِه؛ لتَكونَ الجُملةُ مُستقِلَّةً بنفْسِها، فتَسيرَ مَسيرَ الأمثالِ [346] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/116). .
- ونفْيُ الإغناءِ مَعناهُ نفْيُ الإفادةِ، أي: لا يُفيدُ شيئًا مِن الحقِّ؛ فحرْفُ (مِنْ) بَيانٌ، وهو مُقدَّمٌ على المُبيَّنِ، أعني شَيْئًا [347] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/116). .
3- قولُه تعالَى: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بعْدَ أنْ وصَفَ مَدارِكَهم الباطِلةَ وضَلالَهم، فَرَّعَ عليه أمْرَ نَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالإعْراضِ عنهم؛ ذلك لأنَّ ما تَقدَّمَ مِن وَصْفِ ضَلالِهم كان نَتيجةَ إعراضِهم عن ذِكرِ اللهِ، وهو التَّولِّي عن الذِّكْرِ، فحَقَّ أنْ يكونَ جَزاؤُهم عن ذلك الإعراضِ إعراضًا عنهم، فإنَّ الإعراضَ والتَّولِّي مُترادِفانِ أو مُتقارِبانِ [348] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/116، 117). .
- وماصَدَقَ [349] الماصَدَق: اسمٌ صِناعيٌّ مأخوذٌ في الأصلِ مِن كَلِمةِ (ما) الاستِفهاميَّةِ أو الموصوليَّةِ، وكَلِمةِ (صَدَق) الَّتي هي فِعلٌ ماضٍ مِنَ الصِّدقِ، كأنْ يقالَ مَثَلًا: على ماذا صَدَق هذا اللَّفظُ؟ فيُقالُ في الجوابِ: صدَقَ على كذا أو كذا؛ فاشتَقُّوا مِن ذلك أو نَحَتوا كَلِمةَ (ماصَدَق)، والمرادُ: الفَردُ أو الأفرادُ الَّتي يَنطَبِقُ عليها اللَّفظُ، أو: الأفرادُ الَّتي يَتحَقَّقُ فيها معنى الكُلِّيِّ. يُنظر: ((ضوابط المعرفة)) للميداني (ص: 45)، ((المعجم الوسيط)) (1/511). مَنْ تَوَلَّى القومُ الَّذين تَولَّوا، وإنَّما جَرَى الفِعلُ على صِيغةِ المُفرَدِ مُراعاةً للَفظِ (مَن)؛ ألَا تَرى قولَه: ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ بضَميرِ الجمْعِ [350] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/117). ؟
- وجِيءَ بالاسمِ الظَّاهرِ في مَقامِ الإضمارِ فقِيل: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا، دونَ: (فأعرِضْ عنهم)؛ لِما تُؤذِنُ به صِلةُ المَوصولِ مِن عِلَّةِ الأمْرِ بالإعراضِ عنهم، ومِن تَرتُّبِ تَولِّيهم عن ذِكرِ اللهِ على ما سبَقَ وصْفُه مِن ضَلالِهم؛ إذْ لم يَتقدَّمْ وصْفُهم بالتَّولِّي عن الذِّكْرِ، وإنَّما تَقدَّمَ وصْفُ أسبابِه [351] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/117). .
- ومعْنى وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا كِنايةٌ عن عدَمِ الإيمانِ بالحياةِ الآخِرةِ، كما دلَّ عليه قولُه: ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ [النجم: 30] ؛ لأنَّهم لو آمَنوا بها على حَقيقتِها لَأرادُوها ولو ببَعضِ أعمالِهم [352] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/118). .
4- قولُه تعالَى: ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى
- جُملةُ ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ اعتِراضٌ مُقرِّرٌ لقُصورِ هِمَمِهم بالدُّنيا، وهو استِئنافٌ بَيانيٌّ بُيِّنَ به سَببُ جَهْلِهم بوُجودِ الحياةِ الآخِرةِ؛ لأنَّه لغَرابتِه ممَّا يَسأَلُ عنه السَّائلُ، وفيه تَحقيرٌ لهم، وازْدِراءٌ بهم بقُصورِ مَعلوماتِهم، وهذا الاستِئنافُ وقَعَ مُعترِضًا بيْنَ الجُمَلِ فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وعِلَّتِها في قولِه: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ الآيةَ [353] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/425)، ((تفسير البيضاوي)) (5/160)، ((تفسير أبي السعود)) (8/161)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/118). .
- وفي تَعليلِ الأمرِ بإعراضِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ عن الاعتِناءِ بأمْرِهم باقتِصارِ العِلمِ بأحوالِ الفَريقينِ عليهِ تعالَى؛ رمْزٌ إلى أنَّه تعالَى يُعامِلُهم بمُوجَبِ عِلْمِه بهم، فيَجْزي كُلًّا منْهم بما يَلِيقُ بهِ مِن الجزاءِ؛ ففيهِ وَعيدٌ ووعْدٌ ضِمْنًا كما سيأْتي صَريحًا [354] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/161). .
- قولُه: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى تَعليلٌ لجُملةِ فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى، وهو تَسليةٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والخبَرُ مُستعمَلٌ في معْنى أنَّه مُتولِّي حِسابِهم وجَزائِهم على طَريقةِ الكِنايةِ، وفيه وَعيدٌ للضَّالِّينَ [355] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/160)، ((تفسير أبي السعود)) (8/160)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/118). .
- والتَّوكيدُ المُفادُ بحرْفِ (إنَّ) وبضَميرِ الفَصْلِ راجعٌ إلى المعْنى الكِنائيِّ، وأمَّا كونُه تعالى أعلَمَ بذلك، فلا مُقْتضى لتأْكيدِه؛ لمَّا كان المُخاطَبُ به النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والمعْنى: هو أعلَمُ منكَ بحالِهم [356] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/118). .
- وضَميرُ الفصْلِ هُوَ مُفيدٌ القصْرَ، وهو قصْرٌ حَقيقيٌّ [357] القَصرُ أو الحَصرُ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه؛ مِثلُ: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. وينقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصْفُ الإلَهيَّةِ الحقِّ على مَوصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144] . والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتنزيلِ غيرِ المذكور منزِلةَ العدَمِ، وقصْر الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السَّامعِ؛ كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زيدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ (إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسَّكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجُرْجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 19 - 22)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني (1/525). ، والمعْنى: أنتْ لا تَعلَمُ دَخائلَهم؛ فلا تَتحسَّرْ عليهم [358] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/118). .
- وجُملةُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى تَتْميمٌ [359] التَّتميمُ: مِن أنواعِ إطنابِ الزِّيادةِ، وهو الإتيانُ بكلمةٍ أو كلامٍ مُتمِّمٍ للمقصودِ، أو لزِيادةٍ حَسنةٍ، بحيثُ إذا طُرِحَ مِن الكلامِ نقَصَ معناه في ذاتِه، أو في صِفاتِه. أو هو الإتيانُ في كلامٍ لا يُوهِمُ غيرَ المرادِ بفَضلةٍ تُفيدُ نُكتةً. أو هو إردافُ الكلامِ بكَلمةٍ تَرفعُ عنه اللَّبسَ، وتُقرِّبُه للفَهمِ، ومِن أمثلةِ التَّتميمِ قولُه تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ [النساء: 124] ؛ فقولُه: وَهُوَ مُؤْمِنٌ تتميمٌ في غايةِ الحُسنِ. ومنه قولُه تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ [البقرة: 206] ؛ وذلك أنَّ العِزَّةَ محمودةٌ ومذمومةٌ، فلمَّا قال: بِالْإِثْمِ اتَّضحَ المعنى وتَمَّ، وتبيَّن أنَّها العِزَّةُ المذمومةُ المُؤثَّمُ صاحِبُها. يُنظر: ((التبيان في البيان)) للطِّيبي (ص: 217)، ((تفسير أبي حيان)) (1/120) و(2/333)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (1/44)، ((مفاتيح التفسير)) للخطيب (1/ 49 - 51) و(1/240، 241). ، وفيه وعْدٌ للمؤمنينَ، وبِشارةٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [360] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/119). .
- وتَكريرُ قولِه تعالى: هُوَ أَعْلَمُ لزِيادةِ التَّقريرِ، والإيذانِ بكَمالِ تَبايُنِ المَعلومَينِ [361] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/161). .
- والباءُ في بِمَنْ ضَلَّ وفي بِمَنِ اهْتَدَى لتَعديةِ صِفتَيْ (أعلَم)، وهي للمُلابَسةِ، أي: هو أشدُّ عِلمًا مُلابِسًا لِمَن ضَلَّ عن سَبيلِه، أي: مُلابِسًا لحالِ ضَلالِه [362] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/119). .
- وقَدَّم العِلمَ بمَن ضَلَّ على العِلمِ بالمُهتَدي، وكذا في كثيرٍ مِنَ المواضِعِ، منها قَولُه تعالى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [الأنعام: 117] ، ومنها قَولُه تعالى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [القلم: 7] ؛ ووَجْهُه: أنَّ المذكورَ في المواضِعِ كُلِّها نَبيُّه -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- والمعانِدونَ؛ فذَكَرهم أوَّلًا تَهديدًا لهم، وتَسليةً لقَلبِ نَبيِّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ [363] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/267). ، وأيضًا لأنَّ الضَّالِّينَ أهمُّ في هذا المَقامِ، وأمَّا ذِكرُ المُهتدينَ فتَتميمٌ [364] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/119). .
5- قولُه تعالَى: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى عطْفٌ على قولِه: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ... إلخ؛ فبَعْدَ أنْ ذكَرَ أنَّ للهِ أُمورَ الدَّارَينِ بقولِه: فَلِلَّهِ الْآَخِرَةُ وَالْأُولَى [النجم: 25] ، انتقَلَ إلى أهمِّ ما يَجْري في الدَّارينِ مِن أحوالِ النَّاسِ الذين همْ أشرَفُ ما على الأرضِ، بمُناسَبةِ قولِه: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ [النجم: 30] ، المُرادِ به الإشارةُ إلى الجَزاءِ، وهو إثباتٌ لوُقوعِ البَعثِ والجَزاءِ [365] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/119). .
- قولُه: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا ... يَجوزُ أنْ يَتعلَّقَ قولُه: لِيَجْزِيَ بما في الخبَرِ مِن معْنى الكَونِ المقدَّرِ في الجارِّ والمجرورِ المُخبَرِ به عن مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، أي: كائنٌ مِلْكًا للهِ كَونًا، عِلَّتُه أنْ يَجزيَ الَّذين أساؤُوا والَّذين أحْسَنوا مِن أهْلِ الأرضِ، وهم الَّذين يَصدُرُ منهم الإساءةُ والإحسانُ، فاللَّامُ في قولِه: لِيَجْزِيَ لامُ التَّعليلِ، جعَلَ الجزاءَ عِلَّةً لثُبوتِ مِلكِ اللهِ لِما في السَّمواتِ والأرضِ. وقيل: قولُه: لِيَجْزِيَ تَعليلٌ لقولِه: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، وهو مُتَّصِلٌ بقولِه: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [النجم: 29] ، أي: فأعرِضْ عن دَعوةِ مَن تَدْعوه إلى لِقاءِ ربِّه والدَّارِ الآخِرةِ وهو يقولُ: مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا [الجاثية: 24] ، والحالُ أنَّ اللهَ سُبحانه وتعالى إنَّما خلَقَ العالَمَ وسَوَّى هذا الملَكوتَ؛ ليَجزِيَ المُحسِنَ والمُسيءَ، ويكون قولُه: ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ تعريضًا بهم، وبظَنِّهم الباطلِ أنَّهم يُتْرَكون سُدًى، ويَزعُمون أنَّ السَّمواتِ والأرضَ وما بيْنَهما خُلِقَ عبَثًا، وقولُه: إِنَّ رَبَّكَ الآيةَ على هذا اعتِراضٌ وتَوكيدٌ للتَّهديدِ والوعيدِ.
ويَجوزُ أنْ يَتعلَّقَ بقولِه: أَعْلَمُ مِن قولِه: هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ [النجم: 30] ، أي: مِن خَصائصِ عِلْمِه الَّذي لا يَعزُبُ عنه شَيءٌ أنْ يكونَ عِلْمُه مُرتَّبًا عليه الجَزاءُ [366] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/98، 99)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/120). .
- والباءانِ في قولِه: بِمَا عَمِلُوا وقولِه: بِالْحُسْنَى لتَعديةِ فِعْلَيْ لِيَجْزِيَ وَيَجْزِيَ؛ فما بعْدَ الباءَينِ في معْنى مَفعولِ الفِعلَينِ، فهما داخِلَتانِ على الجزاءِ، وقولُه: بِمَا عَمِلُوا حينَئذٍ تَقديرُه: بمِثلِ ما عَمِلوا، أي: جَزاءً عادِلًا مُماثِلًا لِما عَمِلوا؛ فلذلك جُعِلَ بمَنزلةِ عَينِ ما عَمِلوه على طَريقةِ التَّشبيهِ البليغِ [367] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/120). .
- وقوله: بِالْحُسْنَى أي: بالمَثوبةِ الحُسنى، أي: بأفضلَ ممَّا عَمِلوا، وفيه إشارةٌ إلى مُضاعَفةِ الحَسَناتِ [368] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/120). .
- و(الْحُسْنَى) صِفةٌ لِمَوصوفٍ مَحذوفٍ يدُلُّ عليه (يَجزي)، وهي المَثوبةُ بمعْنى الثَّوابِ [369] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/120). .
- وجاء تَرتيبُ التَّفصيلِ لجَزاءِ المُسيئينَ والمُحسنينَ على وَفْقِ تَرتيبِ إجْمالِه الَّذي في قولِه: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى [النجم: 30] على طَريقةِ اللَّفِّ والنَّشرِ المُرتَّبِ [370] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/120). واللَّفُّ والنَّشْرُ: هو ذِكرُ شيئَينِ أو أشياءَ، إمَّا تفصيلًا -بالنَّصِّ على كلِّ واحدٍ-، أو إجمالًا -بأن يُؤتَى بلفظٍ يَشتمِلُ على مُتعدِّدٍ- ثمَّ تُذكَرُ أشياءُ على عدَدِ ذلك، كلُّ واحدٍ يرجِعُ إلى واحدٍ مِن المتقدِّمِ، ويُفوَّضُ إلى عقلِ السَّامعِ ردُّ كلِّ واحدٍ إلى ما يَليقُ به. فاللَّفُّ يُشارُ به إلى المتعدِّدِ الَّذي يُؤتَى به أوَّلًا، والنَّشرُ يُشارُ به إلى المتعدِّدِ اللَّاحقِ الَّذي يَتعلَّقُ كلُّ واحدٍ منه بواحدٍ مِن السَّابقِ دونَ تعيينٍ. مثل قولِه تعالى: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة: 111] ، أي: وقالت اليهودُ: لن يَدخُلَ الجنَّةَ إلَّا اليهودُ، وقالت النَّصارى: لن يدخُلَ الجنَّةَ إلَّا النَّصارى. وهذا لَفٌّ ونَشْرٌ إجماليٌّ. واللَّفُّ المُفصَّلُ يأتي النَّشرُ اللَّاحقُ له على وجهَينِ؛ الوجهُ الأوَّلُ: أنْ يأتيَ النَّشرُ على وَفْقِ ترتيبِ اللَّفِّ، ويُسَمَّى «اللَّفَّ والنَّشرَ المُرَتَّبَ». الوجهُ الثَّاني: أنْ يأتيَ النَّشرُ على غيرِ تَرتيبِ اللَّفِّ، ويُسمَّى «اللَّفَّ والنَّشرَ غيرَ المُرتَّبِ»، وقد يُعَبَّرُ عنه بـ «اللَّفِّ والنَّشرِ المُشَوَّشِ»، أو «المعكوس». يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 425)، ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (3/320)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/403). .
- وتَكريرُ الفِعلِ (يَجزي) لإبرازِ كَمالِ الاعتِناءِ بأمْرِ الجَزاءِ، والتَّنبيهِ على تَبايُنِ الجَزاءَينِ [371] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/161). .
- وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ قال تعالَى في حقِّ المسيءِ: بِمَا عَمِلُوا، وقال في حَقِّ المُحسِنِ: بِالْحُسْنَى؛ ووجهُه: أنَّ جزاءَ المسيءِ عذابٌ؛ فنَبَّه على ما يَدفَعُ الظُّلمَ، فقال: لا يُعذِّبُ إلَّا عن ذَنْبٍ. وأمَّا في الحُسنَى فلم يقُلْ: (بما عمِلوا)؛ لأنَّ الثَّوابَ إنْ كان لا علَى حَسنةٍ يكونُ في غايةِ الفَضلِ، فلا يُخِلُّ بالمعنَى، هذا إذا قُلنا: الحُسنَى هي المَثوبةُ بالحُسنَى، وأمَّا إذا قُلْنا: الأعمالُ الحُسنَى؛ ففيه لطيفةٌ غيرُ ذلك، وهي أنَّ أعمالَهم لم يُذكَرْ فيها التَّساوي، وقال في أعمالِ المُحسنِينَ: الحسنَى؛ إشارةً إلى الكَرمِ والصَّفحِ، حيثُ ذكَرَ أحْسَنَ الاسمَينِ، والحُسنَى صِفةٌ أُقيمتْ مُقامَ المَوصوفِ، كأنَّه تعالَى قال: بالأعمالِ الحُسنَى، كقولِه تعالى: الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الأعراف: 180] ، وحينَئذٍ هو كقولِه تعالَى: لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ [العنكبوت: 7] ، أي: يأخُذُ أحْسنَ أعمالِهم ويَجعَلُ ثوابَ كلِّ ما وُجِدَ منهم لجزاءِ ذلك الأحسَنِ، أو هي صِفةُ المَثوبةِ، كأنَّه قال: ويَجزي الَّذين أحْسَنوا بالمَثوبةِ الحُسنَى، أو بالعاقِبةِ الحُسنَى، أي: جزاؤُهم حُسنُ العاقبةِ، وهذا جزاءٌ فحَسْبُ، وأمَّا الزِّيادةُ -الَّتي هي الفَضلُ بعْدَ الفَضلِ- فغيرُ داخلةٍ فيه [372] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/268). . وقيل: لم يقلْ: (بما عملوا)؛ لأنَّ فضْلَ اللهِ أوسعُ مِن أعمالِنا [373] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 229). .
6- قولُه تعالَى: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى
- صِيغةُ المُضارِعِ يَجْتَنِبُونَ دالَّةٌ على الاستِقبالِ، وعلى تَجدُّدِ الاجتِنابِ واستِمرارِه [374] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/162). .
- قُرِئَ كَبِيرَ الْإِثْمِ بصِيغةِ الإفرادِ والتَّذكيرِ [375] وهي قراءةُ حمزةَ والكِسائيِّ وخلَفٍ، وقرأ الباقون كَبَائِرَ. يُنظر: ((النشر في القراءات العشر)) لابن الجزري (2/367). ؛ لأنَّ اسمَ الجِنسِ يَسْتوي فيه المُفرَدُ والجمْعُ [376] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/121). .
- وعطْفُ الفواحشِ يَقْتضي أنَّ المعطوفَ بها مُغايِرٌ للكبائرِ، ولكنَّها مُغايَرةٌ بالعُمومِ والخُصوصِ الوجْهيِّ؛ فالفواحشُ أخصُّ مِن الكَبائرِ، وهي أقْوى إثْمًا [377] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/121). .
- قولُه: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ استِثناءُ اللَّممِ استِثناءٌ مُنقطِعٌ -على قولٍ-؛ لأنَّ اللَّمَمَ ليس مِن كبائرِ الإثمِ ولا مِن الفواحشِ، فالاستِثناءُ بمعْنى الاستِدراكِ [378] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/121، 122). .
- وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ قال في الكَبائرِ: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ، وقال: وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ [الشورى: 37] ، وقال في عبادةِ الطَّاغوتِ: وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ [الزمر: 17] ، والفرْقُ -مِن جِهةِ زمَنِ الفعلِ-: أنَّ عِبادةَ الطَّاغوتِ راجعةٌ إلى الاعتِقادِ، والاعتِقادُ إذا وُجِدَ دامَ ظاهرًا؛ فمَنِ اجتَنَبَها اعتَقَدَ بُطلانَها فيَستمِرُّ. وأمَّا مِثلُ الشُّربِ والزِّنا فأمرٌ تَختلِفُ أحوالُ النَّاسِ فيه؛ فيَترُكُه زَمانًا ويَعودُ إليه، فقال في الآثامِ: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ دائمًا، ويُثابِرونَ على التَّركِ أبدًا، وفي عِبادةِ الأصنامِ: اجْتَنَبُوا بصِيغةِ الماضي؛ لِيَكونَ أدَلَّ على الحُصولِ، ولأنَّ كَبائرَ الإثمِ لها عددُ أنواعٍ؛ فيَنْبغي أنْ يُجتنَبَ عن نوعٍ، ويُجتنَبَ عن آخَرَ، ويُجتنَبَ عن ثالثٍ؛ ففيه تَكرُّرٌ وتَجدُّدٌ؛ فاستُعمِلَ فيه صِيغةُ الاستِقبالِ، وعِبادةُ الصَّنمِ أمْرٌ واحدٌ مُتَّحِدٌ؛ فتُرِكَ فيه ذلك الاستِعمالُ، وأُتِيَ بصِيغةِ الماضي الدَّالَّةِ على وُقوعِ الاجتِنابِ لها دَفْعةً [379] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/269). .
- قولُه: إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ تَعليلٌ لاستِثناءِ اللَّمَمِ مِنِ اجتنابِهم كَبائرَ الإثمِ والفواحشَ شرْطًا في ثُبوتِ وصْفِ الَّذين أحْسَنوا لهم، وتَنْبيهٌ على أنَّ إخراجَه عن حُكمِ المُؤاخَذةِ به ليسَ لخُلُوِّهِ عن الذَّنْبِ في نفْسِه، بل لِسَعةِ المَغفرةِ الرَّبَّانيَّةِ [380] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/162)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/122). .
- وفي بِناءِ الخبَرِ على جَعْلِ المُسنَدِ إليه رَبَّكَ دونَ الاسمِ العَلَمِ: إشعارٌ بأنَّ سَعةَ المَغفرةِ رِفقٌ بعِبادِه الصَّالِحينَ، شأْنَ الرَّبِّ معَ مَربوبِه الحقِّ [381] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/122). .
- والواسعُ: الكثيرُ المَغفرةِ، عُبِّرَ بالسَّعةِ عن كَثرةِ الشُّمولِ؛ لأنَّ المكانَ الواسِعَ يُمكِنُ أنْ يَحتويَ على العدَدِ الكثيرِ ممَّنْ يَحِلُّ فيه [382] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/123). .
- وجُملةُ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ ... إلخ استِئنافٌ بَيانيٌّ لجُملةِ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ؛ لِما تَضمَّنَتْه مِن الامتِنانِ، فكأنَّ السَّامِعينَ لَمَّا سَمِعوا ذلك الامتِنانَ، شَكَروا اللهَ وهجَسَ في نُفوسِهم خاطرُ البَحثِ عن سَببِ هذه الرَّحمةِ بهم، فأُجِيبوا بأنَّ ربَّهم أعلَمُ بحالِهم مِن أنفُسِهم؛ فهو يُدبِّرُ لهم ما لا يَخطُرُ بِبالِهم [383] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/162)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/124). .
- وقوله: فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ صِفةٌ كاشِفةٌ [384] الصِّفةُ الكاشفةُ: هي الَّتي تُبيِّنُ الواقعَ، ولا تُقيِّدُ المَوصوفَ؛ لأنَّ الصِّفاتِ منها صِفةٌ مقيِّدةٌ تُخرِجُ ما سِواه، ومنها صفةٌ كاشِفةٌ تبيِّنُ حقيقةَ أمرِه، فهي خبرٌ عن المَوصوفِ عندَ التَّحقيقِ، تبيِّنُ ماهيَّةَ الشَّيءِ بأن تكونَ وصفًا لازمًا مختصًّا به. والصِّفةُ إذا كان لها مفهومٌ فهي مقيِّدةٌ، وإن لم يكن لها مفهومٌ فهي كاشِفةٌ، أي: مبيِّنةٌ للحقيقةِ، مثالُ ذلك: قولُه تعالى: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [المؤمنون: 117] ، فقولُه: لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ صفةٌ كاشفةٌ، ولا مفهومَ مخالفةٍ له، فلا يصحُّ لأحدٍ أن يقولَ: أمَّا مَن عبَدَ معه إلهًا آخَرَ له بُرهانٌ به فلا مانعَ مِن ذلك! لاستِحالةِ وُجودِ بُرهانٍ على عبادةِ إلهٍ آخَرَ معه، فقولُه: لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ وصفٌ مطابقٌ للواقعِ؛ لأنَّهم يَدْعون معه غيرَه بلا بُرهانٍ، فذِكْرُ الوصفِ لموافقتِه الواقِعَ، لا لإخراجِ المفهومِ عن حُكمِ المنطوقِ، ومن ذلك قولُه تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [البقرة: 61] ، وقولُه: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الأعراف: 33] . يُنظر: ((الكليات)) للكفوي (ص: 545)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/364، 365)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشعراء)) (ص: 27)، ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (8/299، 314)، ((دراسات أصولية في القرآن الكريم)) للحفناوي (ص: 22). ؛ إذ الجَنينُ لا يُقال إلَّا على ما في بطْنِ أُمِّه، وفائدةُ هذا الكشْفِ أنَّ فيه تَذكيرًا باختلافِ أطْوارِ الأجِنَّةِ مِن وَقتِ العُلوقِ إلى الوِلادةِ، وإشارةً إلى إحاطةِ عِلمِ اللهِ تعالى بتلك الأطْوارِ [385] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/125). .
- وجُملةُ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى اعتِراضٌ بيْنَ جُملةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ وجُملةِ أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى [النجم: 33] إلخ، والفاءُ لتَفريعِ الاعتِراضِ [386] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/125). . أو الفاءُ لتَرتيبِ النَّهيِ عن تَزْكيةِ النَّفْسِ على ما سبَقَ مِنْ أنَّ عدَمَ المُؤاخَذةِ باللَّمَمِ ليسَ لعدَمِ كَونِه مِن قَبيلِ الذُّنوبِ، بلْ لمَحْضِ مَغفرتِه تعالى مع عِلْمِه بصُدورِه عنكُم، أي: إذا كان الأمرُ كذلكَ، فلا تُثْنوا عليها بالطَّهارةِ عن المعاصِي بالكُلِّيَّةِ، أو بما يَستلزِمُها مِن زَكاءِ العمَلِ ونَماءِ الخَيرِ، بلِ اشكرُوا اللهَ تعالى على فضْلهِ ومَغفرتِه [387] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/162). .
- ولَفظُ تُزَكُّوا مُضارِعُ (زكَّى) الَّذي هو مِن التَّضعيفِ المُرادِ منه نِسبةُ المَفعولِ إلى أصْلِ الفِعلِ، نحْو (جهَّلَه)، أي: لا تَنسُبوا لأنفسِكُم الزَّكاةَ، فقولُه: أَنْفُسَكُمْ صادقٌ بتَزكيةِ المرْءِ نفْسَه في سِرِّه أو عَلانيتِه، فرجَعَ الجمْعُ في قولِه: فَلَا تُزَكُّوا إلى مُقابَلةِ الجمْعِ بالجمْعِ التي تَقتضي التَّوزيعَ على الآحادِ، مِثلُ: ركِبَ القومُ دَوابَّهم [388] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/125). .
- ووَقَعَتْ جُملةُ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى مَوقعَ البَيانِ لسَببِ النَّهيِ، أو لأهمِّ أسبابِه، والمعْنى: فَوِّضوا ذلك إلى اللهِ؛ إذ هو أعلَمُ بمَنِ اتَّقى، أي: بحالِ مَنِ اتَّقى؛ مِنْ كَمالِ تَقْوًى، أو نَقْصِها، أو تَزيِيفِها [389] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/126). . أو هو استِئنافٌ مُقرِّرٌ للنَّهيِ، ومُشعِرٌ بأنَّ فيهم مَن يَتَّقِيها بأسْرِها [390] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/162). .