موسوعة التفسير

سورة الشُّورى
الآيات (36-43)

ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ

غريب الكلمات:

فَمَتَاعُ: أي: تمتُّعُ وانتِفاعُ، وأصْلُ (متع): يدُلُّ على المنفعةِ [662] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 46)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 409)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/293)، ((المفردات)) للراغب (ص: 757)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 69)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 804). .
الْإِثْمِ: الإثمُ والأثامُ: اسمٌ للأفعالِ المُبَطِّئةِ عن الثَّوابِ، أو الذَّنْبُ الَّذي يَستحِقُّ العقوبةَ عليه، وأصلُ (أثم): يدُلُّ على البُطءِ والتأخُّرِ، والإثمُ مُشتَقٌّ مِن ذلك؛ لأنَّ ذا الإثمِ بَطيءٌ عن الخيرِ، متأخِّرٌ عنه [663] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/60)، ((المفردات في غريب القرآن)) للراغب (ص: 63)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 40). .
وَالْفَوَاحِشَ: جمعُ فاحِشةٍ، والفُحْشُ والفَحْشاءُ والفاحِشَةُ: ما عظُم قُبحُه مِن الأفعالِ والأقوالِ، وأصلُ (فحش): يَدُلُّ على قُبحٍ وشَناعةٍ [664] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/34)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/478)، ((المفردات في غريب القرآن)) للراغب (ص: 626). .
شُورَى: الشُّورَى: مَصدرٌ بمعنى التَّشاوُرِ، والتَّشاوُرُ والمُشاوَرةُ والمَشورَةُ: استخراجُ الرَّأيِ بمُراجعةِ البعضِ إلى البعضِ، مِن قولِهم: شِرْتُ العَسلَ: إذا اتَّخذتَه مِن مَوضعِه، واستَخْرجتَه منه، فكأنَّ المستشيرَ يَأخذُ الرَّأيَ مِن غيرِه، وأصلُ (شور) هنا: أخذُ شَيءٍ [665] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/226، 227)، ((المفردات في غريب القرآن)) للراغب (ص: 470)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 541). .
الْبَغْيُ: أي: الظُّلمُ والعُدوانُ، وأصلُ البَغْيِ: مُجاوَزةُ الحدِّ؛ يُقالُ: بَغَى الجرحُ: تجاوَز الحدَّ في فَسادِه، وأصلُ (بغي) هنا: جِنْسٌ مِن الفسادِ [666] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/271)، ((تفسير البغوي)) (4/150)، ((المفردات في غريب القرآن)) للراغب (ص: 137)، ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (1/143). .
عَزْمِ الْأُمُورِ: أي: حَقِّها وحَزْمِها وما أمَرَ اللهُ به مِنها، وأصلُ (عزم): يدُلُّ على عَقدِ القَلبِ على إمضاءِ الأمرِ [667] يُنظر: ((المفردات)) للراغب (ص: 565)، ((تفسير البغوي)) (4/151)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 662). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالَى مُبيِّنًا حَقيقةَ الدُّنيا ومَتاعِها بالنِّسبةِ للآخِرةِ: فما أُوتيتُم مِن شَيءٍ في الدُّنيا فإنَّما هو مَتاعٌ زائِلٌ تتمَتَّعونَ به في حَياتِكم الدُّنيا، وما عِندَ اللهِ في الآخِرةِ خَيرٌ مِن مَتاعِ الدُّنيا وأبقَى للَّذين آمَنوا وعلى رَبِّهم يَعتَمِدونَ.
ثمَّ يُبيِّنُ اللهُ تعالَى صِفاتِ عِبادِه المؤمنينَ، فيقولُ: والَّذين يَجتَنِبونَ كَبائِرَ الإثمِ والفواحِشَ، وإذا غَضِبوا يَصفَحونَ، والَّذين استَجابوا لرَبِّهم وانْقادوا لطاعتِه، وأقاموا الصَّلاةَ، وأمرُهم شُورى بيْنهم، ومِمَّا رزَقَهم اللهُ يُنفِقونَ، والَّذين إذا اعتدَى عليهم أحَدٌ يَنتَصِرونَ منه.
ثمَّ يقولُ تعالَى مُرغِّبًا في العَفوِ والصَّفحِ: وجَزاءُ سَيِّئةِ المُسيءِ عُقوبتُه بمِثلِ جِنايتِه، فمَن عفا عمَّن أساء إليه وأصلَحَ فأجرُه على اللهِ، إنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الظَّالِمينَ، ومَن انتَصَر مِمَّن ظَلَمه فلا عُقوبةَ ولا إثمَ عليه، إنَّما العُقوبةُ والإثمُ على الَّذين يَعتدُونَ على النَّاسِ ظُلمًا، ويُفسِدونَ في الأرضِ بغَيرِ الحَقِّ، أولئك لهم عَذابٌ مُؤلِمٌ.
ومَن صَبَر على أذَى النَّاسِ وصَفَح عن إساءتِهم، فإنَّ ذلك مِن الأمورِ التي نَدَب اللهُ إليها عِبادَه، وعَزَم عليهم العَمَلَ بها.

تفسير الآيات:

فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالَى لَمَّا ذكَرَ دَلائِلَ التَّوحيدِ؛ أردَفَها بالتَّنفيرِ عن الدُّنيا، وتَحقيرِ شَأنِها؛ لأنَّ الذي يَمنَعُ مِن قَبولِ الدَّليلِ إنَّما هو الرَّغبةُ في الدُّنيا؛ بسَبَبِ الرِّياسةِ، وطَلَبِ الجاهِ، فإذا صَغُرَت الدُّنيا في عيْنِ الرَّجُلِ لم يَلتَفِتْ إليها، فحينئذٍ ينتَفِعُ بذِكرِ الدَّلائِلِ [668] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/603). .
فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.
أي: فالَّذي أُوتيتُموه [669] قيل: الخِطابُ للنَّاسِ مُطلقًا. ومِمَّن قال بهذا: ابنُ جرير، والبقاعي، واستَظْهَره الألوسيُّ، واختاره ابنُ عُثَيمين. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/520)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/326)، ((تفسير الألوسي)) (13/45)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 272). وقيل: الخِطابُ للمُشرِكينَ. ومِمَّن ذهَب إلى هذا: ابنُ أبي زَمنين، والقرطبيُّ، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/170)، ((تفسير القرطبي)) (16/35)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/109). قال ابن عاشور: (والخطابُ في قولِه: أُوتِيتُمْ للمشركينَ جرْيًا على نَسَقِ الخِطابِ السَّابِقِ... ويَنسَحِبُ الحُكمُ على المؤمِنينَ بلَحنِ الخِطابِ، ويجوزُ أن يكونَ الخِطابُ لجَميعِ الأمَّةِ). ((تفسير ابن عاشور)) (25/109). مِن نِعَمٍ دُنيويَّةٍ، فإنَّما هي أُمورٌ زائِلةٌ فانيةٌ تتمَتَّعونَ بها في حياتِكم الدُّنيا [670] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/520، 521)، ((تفسير ابن كثير)) (7/210)، ((تفسير الشوكاني)) (4/619)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (4/171)، ((تفسير السعدي)) (ص: 759). .
كما قال تعالَى: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ [القصص: 60] .
وقال عزَّ وجلَّ: مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ [النحل: 96] .
وقال الله سُبحانَه: وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ [الرعد: 26] .
وعن المُستَورِدِ بنِ شَدَّادٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سَمِعتُ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَقولُ: ((واللهِ ما الدُّنيا في الآخِرةِ إلَّا مِثلُ ما يَجعَلُ أحَدُكم إصبَعَه هذه في اليَمِّ، فلْيَنظُرْ بِمَ تَرجِعُ ؟!)) [671] رواه مسلم (2858). .
وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا.
أي: وما عِندَ اللهِ مِن الثَّوابِ والجَزاءِ في الآخِرةِ للَّذين آمَنوا بما وَجَب عليهم الإيمانُ به: خَيرٌ مِن مَتاعِ الدُّنيا وأدوَمُ؛ فهو باقٍ لا يَنفَدُ [672] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/521)، ((تفسير القرطبي)) (16/35)، ((تفسير ابن كثير)) (7/210)، ((تفسير السعدي)) (ص: 759)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 273- 274). .
كما قال تعالَى: وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ [آل عمران: 198] .
وقال الله سُبحانَه وتعالى: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [الأعلى: 16، 17].
وقال عزَّ وجلَّ: وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى [الضحى: 4].
وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ.
أي: ويَعتَمِدونَ على رَبِّهم وَحْدَه، ويُفَوِّضونَ إليه جَميعَ أُمورِهم [673] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/521)، ((تفسير ابن كثير)) (7/210)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/327-328)، ((تفسير السعدي)) (ص: 759)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 274- 275). .
وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا كان كُلٌّ مِن الإيمانِ والتَّوكُّلِ أمرًا باطِنًا، فكان لا بُدَّ مِن دَلائِلِه مِن ظواهِرِ الأعمالِ، وكانتْ تَخْلياتٍ مِن الرَّذائلِ، وتَحْلياتٍ بالفَضائلِ، وكانت التَّخْلياتُ -لكوْنِها دَرْءًا للمفاسدِ- مُقدَّمةً على التَّحْلياتِ التي هي جلْبٌ للمَصالحِ؛ قال [674] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/328-329). :
وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ.
أي: والذين يَجتَنِبونَ كَبائِرَ الذُّنوبِ، ويَجتَنِبونَ الفَواحِشَ كالقتْلِ والزِّنا [675] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/521)، ((الوسيط)) للواحدي (4/57)، ((تفسير القرطبي)) (16/35)، ((تفسير السعدي)) (ص: 760)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/77)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 279، 281). قال الشَّوكاني: (والمرادُ بكبائرِ الإثمِ: الكبائِرُ مِن الذُّنوبِ... والفواحشُ هي مِن الكبائرِ، ولكنَّها معَ وصْفِ كونِها فاحشةً كأنَّها فوقَها، وذلك كالقتلِ، والزِّنا، ونحوِ ذلك. وقال مُقاتِلٌ: الفواحشُ مُوجِباتُ الحدودِ. وقال السُّدِّيُّ: هي الزِّنا). ((تفسير الشوكاني)) (4/619). .
كما قال الله تبارك وتعالَى: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى * الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ ... [النجم: 31، 32].
وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان كَثيرٌ مِن كَبائرِ الإثمِ والفواحشِ مُتسبَّبًا على القوَّةِ الغضَبيَّةِ؛ مِثلَ: القتلِ والجراحِ، والشَّتْمِ والضَّرْبِ؛ أَعقَبَ الثَّناءَ على الَّذين يَجتنِبونَها، فذكَرَ أنَّ مِن شِيمتِهم المَغفرةَ عِندَ الغضبِ، أي: إمساكَ أنفُسِهم عن الاندفاعِ مع داعيةِ الغضبِ [676] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/110، 111). .
وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ.
أي: وإذا غَضِبوا على مَن أساءَ إليهم يَصفَحونَ عنه، ويَتغاضَونَ عن إساءتِه، ويَستُرونَها عليه ولا يَنتَقِمونَ لأنفُسِهم [677] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/522)، ((تفسير ابن كثير)) (7/210)، ((تفسير السعدي)) (ص: 760)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 283- 284). .
وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا أتمَّ ما منه التَّخلِّي؛ أتْبَعه ما به التَّحلِّي [678] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/331). .
وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ.
أي: والذين أجابوا رَبَّهم إلى كُلِّ ما دَعاهم إليه، فلَبَّوا دَعوتَه، وانقادُوا لطاعتِه [679] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/522)، ((الوسيط)) للواحدي (4/57)، ((تفسير ابن كثير)) (7/211)، ((تفسير السعدي)) (ص: 760)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 286). .
وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ.
أي: وأدَّوُا الصَّلَواتِ على الوَجهِ التَّامِّ المُستقيمِ الذي أُمِروا به [680] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (16/36)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 286). .
وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ.
أي: وشَأنُهم العامُّ شُورى بيْنهم؛ فهمْ يَتداوَلونَ الرَّأيَ فيما نَزَل بهم، ولا يَستَبِدُّ أحَدٌ منهم برَأيِه دونَ الآخَرينَ في الأُمورِ المُشتَرَكةِ بيْنهم [681] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/522)، ((تفسير القرطبي)) (16/36)، ((تفسير ابن كثير)) (7/211)، ((تفسير السعدي)) (ص: 760)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 287). .
كما قال تعالَى: وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران: 159].
وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ.
أي: ومِمَّا رزَقَهم ربُّهم يَتصَدَّقونَ ويَبذُلونَ في سَبيلِه [682] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/523)، ((تفسير القرطبي)) (16/38)، ((تفسير السعدي)) (ص: 760). قال ابنُ عُثَيمين: («مِنْ» هنا للتَّبعيضِ، ويَحتَمِلُ أن تكونَ للجِنسِ، وهي للجِنسِ أَوْلى؛ لِيَشمَلَ القَليلَ والكَثيرَ والكُلَّ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 287) بتصرف. .
وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39).
أي: والذين إذا بَغَى عليهم باغٍ، واعتدَى عليهم مُعْتدٍ؛ فإنَّهم يَنتَصِرونَ [683] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/523)، ((تفسير السعدي)) (ص: 760)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/113-114). قال ابنُ الجَوْزي: (اختَلَفوا في هذا البَغْيِ على ثَلاثةِ أقوالٍ: أحدُها: أنَّه بَغْيُ الكُفَّارِ على المُسلِمينَ... والثَّاني: أنَّه بَغْيُ المُسلِمينَ على المُسلِمينَ خاصَّةً. والثَّالِثُ: أنَّه عامٌّ في جميعِ البُغاةِ، سواءٌ كانوا مُسلِمينَ أو كافِرينَ). ((تفسير ابن الجوزي)) (4/67). وقولُه: يَنْتَصِرُونَأي: يَنتقِمونَ ويقْتَصُّونَ مِن ظالميهم مِن غيرِ تَعَدٍّ. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/246)، ((تفسير الثعلبي)) (8/323)، ((تفسير البغوي)) (4/150)، ((تفسير الخازن)) (4/102). وقيل: يَنْتَصِرُونَ أَي: يَتناصَرون، فيَنصُرُ بَعضُهم بعضًا لرفْعِ البَغْيِ، وهو مِن بابِ الحِسبةِ، يَنتصِرونَ بالأمرِ بالمعروفِ. قاله السَّمعاني. يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (5/82). .
كما قال تعالَى: وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا [الشعراء: 227] .
وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالَى لَمَّا قال: وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ [الشورى: 39] ؛ أردَفَه بما يدُلُّ على أنَّ ذلك الانتِصارَ يَجِبُ أنْ يكونَ مُقَيَّدًا بالمِثْلِ؛ فإنَّ النُّقصانَ حَيفٌ، والزِّيادةَ ظُلمٌ، والتَّساويَ هو العَدلُ، وبه قامت السَّمَواتُ والأرضُ؛ فلهذا السَّبَبِ قال [684] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/604). :
وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا.
أي: وجَزاءُ سَيِّئةِ المُسيءِ هو عُقوبتُه بمِثلِ جِنايتِه، بلا زِيادةٍ [685] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/524، 526)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (30/361)، ((تفسير السعدي)) (ص: 760)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 293). .
كما قال تعالَى: وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [البقرة: 194] .
وقال سُبحانَه: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ [النحل: 126] .
وعن أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّ يهوديًّا رضَّ [686] الرَّضُّ: الكَسرُ والدَّقُّ. يُنظر: ((المفاتيح في شرح المصابيح)) للمظهري (4/195). رأسَ جاريةٍ بيْنَ حَجَرينِ. قيل: مَن فَعَل هذا بكِ؟ أفُلانٌ؟ أفُلانٌ؟ حتى سُمِّي اليَهوديُّ، فأومَأَتْ برأسِها، فأُخِذَ اليَهوديُّ فاعتَرَف، فأَمَر به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فرُضَّ رأسُه بيْن حَجَرينِ)) [687] رواه البخاري (2413) واللفظ له، ومسلم (1672). .
فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ.
أي: فمَن عَفا عمَّن أساءَ إليه وأصلَحَ، فثَوابُه على اللهِ لا مَحالةَ، ولنْ يُضِيعَ اللهُ ثَوابَه [688] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/526)، ((تفسير ابن كثير)) (7/212)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 299، 300، 302). قال الماورْديُّ: (وَأَصْلَحَ فيه وَجهانِ: أحَدُهما: أصلَحَ العَمَلَ. قاله سعيدُ بنُ جُبير. الثاني: أصلَحَ بيْنَه وبيْنَ أخيه. قاله ابنُ زيادٍ. وهذا مَندوبٌ إليه في العَفوِ عن التَّائِبِ دونَ المُصِرِّ). ((تفسير الماوردي)) (5/207). ومِمَّن قال بالقَولِ الأوَّلِ: مقاتلُ بن سليمان. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/773). ومِمَّن قال بالقَولِ الثَّاني -أي: أصْلَح بيْنه وبيْن خَصْمِه الذي ظلَمه بالعفْوِ-: السَّمرقنديُّ، والواحدي، والسمعانيُّ، والبغوي، والرازيُّ، والبيضاوي، والنَّسَفي، وأبو حيان، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/246)، ((الوسيط)) للواحدي (4/58)، ((تفسير السمعاني)) (5/83)، ((تفسير البغوي)) (4/151)، ((تفسير الرازي)) (27/607)، ((تفسير البيضاوي)) (5/83)، ((تفسير النسفي)) (3/258)، ((تفسير أبي حيان)) (9/344)، ((تفسير الشوكاني)) (4/620). وظاهِرُ اختيارِ البقاعي الجَمعُ بين القَولَينِ. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/336). قال البقاعي: (وَأَصْلِحْ أي: أوقَع الإصلاحَ بينَ النَّاسِ بالعفوِ والإصلاحِ لنفْسِه؛ ليُصلِحَ اللهُ ما بيْنَه وبينَ الناسِ، فيكونَ بذلك منتصِرًا مِن نفْسِه لنفْسِه). ((نظم الدرر)) (17/336). وقال ابنُ عثيمين: (المرادُ: أصلحَ في عَفوِه، أي: صار عَفوُه مُشتَمِلًا على الإصلاحِ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 300). ويُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 760). .
كما قال تعالَى: وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ [المائدة: 45] .
وقال سُبحانَه: وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ [النحل: 126] .
وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((ما نَقَصتْ صَدَقةٌ مِن مالٍ، وما زاد اللهُ عَبدًا بعَفوٍ إلَّا عِزًّا، وما تواضَعَ أحَدٌ للهِ إلَّا رَفَعه اللهُ)) [689] رواه مسلم (2588). .
إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ.
أي: إنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الَّذين يَعتَدونَ على النَّاسِ فيَظلِمونَهم ابتِداءً، أو يُجاوِزونَ الحَدَّ في الاقتِصاصِ مِمَّن ظَلَمَهم [690] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/526)، ((تفسير ابن كثير)) (7/212)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/337)، ((تفسير الشوكاني)) (4/620)، ((تفسير السعدي)) (ص: 760)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 300). .
كما قال الله تعالَى: وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة: 8] .
وقال سُبحانَه: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل: 90] .
وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا كان قولُه سبحانَه: إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ سادًّا لبابِ الانتِصارِ؛ لِما يُشعِرُ به مِن أنَّه ظُلمٌ على كُلٍّ، قال مُؤكِّدًا نَفيًا لهذا الإشعارِ [691] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/337). :
وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41).
أي: ومَن انتصَرَ مِن ظالمٍ له بعْدَ تَحقُّقِ وُقوعِ ظُلمِه، فأولئك المُنتَصِرونَ لا عُقوبةَ عليهم، ولا لَومَ ولا حَرَجَ إذا أخَذوا حَقَّهم دونَ زيادةٍ [692] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/526، 528)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (28/380)، ((تفسير ابن كثير)) (7/212)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/337-338)، ((تفسير السعدي)) (ص: 760)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 304، 306). .
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42).
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ.
أي: إنَّما العُقوبةُ والإثمُ على الَّذين يَعتَدونَ على النَّاسِ في دِمائِهم أو أموالِهم، أو أعراضِهم أو غيرِ ذلك مِن حُقوقِهم، ويَتجاوَزونَ الحَدَّ بالفَسادِ في الأرضِ بالكُفرِ أو المعاصي، أو التَّكبُّرِ على النَّاسِ، وطَلَبِ الاستِعلاءِ عليهم بغيرِ حَقٍّ [693] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/529)، ((تفسير الزمخشري)) (4/230)، ((تفسير القرطبي)) (16/42)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/338-339)، ((تفسير السعدي)) (ص: 761)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 307-308). قال ابنُ عاشور: (حُكمُ هذه الآيةِ يَشمَلُ ظُلمَ المُشرِكينَ للمُسلِمينَ، ويَشمَلُ ظُلمَ المُسلِمينَ بَعضِهم بعضًا). ((تفسير ابن عاشور)) (25/121). .
أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ.
أي: الَّذين يَظلِمونَ النَّاسَ، ويَبغُونَ في الأرضِ بغيرِ الحَقِّ: أولئك لهم مِنَ اللهِ عَذابٌ مُوجِعٌ مُؤلِمٌ [694] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/529)، ((تفسير ابن كثير)) (7/213)، ((تفسير السعدي)) (ص: 761)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص 308). .
وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43).
أي: ومَن صبَرَ على ما يَنالُه مِن أذى النَّاسِ، وستَرَ ذَنْبَهم، وتَغاضَى عن إساءتِهم وتسامَحَ، فلم يَنتَصِرْ لِنَفسِه مع قُدرتِه على ذلك: فإنَّ صَبْرَه وغُفرانَه هذا مِنَ الأُمورِ المَشكورةِ الحَميدةِ التي حَثَّ اللهُ عليها وأكَّدَها وعَزَم على عِبادِه العمَلَ بها، وجَعَل عليها ثوابًا جَزيلًا وثَناءً جميلًا [695] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/529)، ((عدة الصابرين)) لابن القيم (ص: 74)، ((تفسير ابن كثير)) (7/213)، ((تفسير السعدي)) (ص: 761)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص 310، 311). قال ابنُ عُثَيمين: (يعني: لَدليلٌ على أنَّ الرَّجُلَ مِن ذَوِي العَزمِ؛ لأنَّه تحمَّلَ وسَتَر؛ تحمَّلَ فصبَرَ، وعفا فغَفَر). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 311). .
كما قال تعالَى: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت: 34، 35].

الفوائد التربوية:

1- قَولُ اللهِ تعالَى: فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ فيها مِن خِصالِ الدِّينِ: التَّوكُّلُ، واجتِنابُ الكبائِرِ والفواحِشِ، والحِلمُ عندَ القُدرةِ، وإقامُ الصَّلاةِ، وإيتاءُ الزَّكاةِ، والمشاوَرةُ، والانتِصارُ مِن الباغي [696] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص:230). ، وفيه فَضيلةُ الجمْعِ بيْنَ هذه الصِّفاتِ المذكورةِ؛ لأنَّ كلَّ صِفةٍ منها صِفةُ مَدْحٍ لا شكَّ؛ لكنَّ اجتماعَها يكونُ أكملَ [697] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 276). ، ولَمَّا حَمِدَهم على هذه الصِّفاتِ كان هذا دَليلًا على أنَّ ضِدَّ هذه الصِّفاتِ ليْس مَحمودًا، بل مَذمومٌ؛ فإنَّ هذه الصِّفاتِ مُستلزِمةٌ لِعَدَمِ ضِدِّها، ولأنَّ حَمْدَها والثَّناءَ عليها طَلَبٌ لها وأمرٌ بها، ولو أنَّه أمرُ استِحبابٍ، والأمرُ بالشَّيءِ نَهيٌ عن ضِدِّه قَصدًا أو لُزومًا [698] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/37). .
2- في قَولِه تعالَى: وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى التَّزهيدُ في الدُّنيا، والتَّرغيبُ في الآخِرةِ [699] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 276). .
3- في قَولِه تعالَى: وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ أنَّ التَّوكُّلَ عِبادةٌ يَجِبُ إفرادُ اللهِ بها، وجْهُ الدَّلالةِ: تَقديمُ المعمولِ -الَّذي هو الجارُّ والمجرورُ وَعَلَى رَبِّهِمْ-؛ هذا دَليلُ وُجوبِ إفرادِ اللهِ به، وأمَّا الدَّليلُ على أنَّه عِبادةٌ؛ فلأنَّ اللهَ تعالَى ذَكَره في مَقامِ الثَّناءِ؛ ولا ثَناءَ إلَّا في عِبادةٍ [700] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 276). .
4- قَولُ اللهِ تعالَى: وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ فيه حَضٌّ على كَسرِ الغَضَبِ [701] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/343). .
5- في قَولِه تعالَى: وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ أنَّ العَفوَ عن المُسيءِ وغُفرانَ سيِّئاتِه مَمْدوحٌ عندَ اللهِ، مَرضِيٌّ لَدَيه [702] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/118). .
6- قَولُ اللهِ تعالَى: وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ فيه تَرْغيبٌ في العَفوِ والصَّبرِ على الأذى، وذلك بيْن الأمَّةِ الإسلاميَّةِ ظاهِرٌ، وأمَّا مع الكافرِينَ فتَعْتريه أحوالٌ تختَلِفُ بها أحكامُ الغُفرانِ، ومِلاكُها أنْ تَترجَّحَ المصلحةُ في العَفوِ أو في المؤاخَذةِ [703] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/123). .
7- إنَّ الغضبَ إذا ملَك ابنَ آدمَ كان الآمرَ والنَّاهيَ له، فإذا لم يمتثِلْ ما يأمرُه به غضبُه، وجاهَد نفسَه على ذلك، اندَفَع عنه شرُّ الغَضبِ، وربَّما سكَن غضبُه، وذهَب عاجِلًا، فكأنَّه حينئذٍ لم يغضَبْ، وإلى هذا المعنى وقعَت الإشارةُ في القرآنِ بقولِه عزَّ وجلَّ: وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ، وبقولِه: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران: 134] ، فعلى الإنسانِ ألَّا يعمَلَ بمقتضَى الغضبِ إذا حصَل له، وأنْ يجاهِدَ نفسَه على تركِ تنفيذِه، والعملِ بما يأمرُ به [704] يُنظر: ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (1/364). .
8- قَولُ اللهِ تعالَى: وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ كَفَلت هذه الجُمَلُ بالدُّعاءِ إلى أمَّهاتِ الفَضائِلِ الثَّلاثِ: العِلمُ، والعِفَّةُ، والشَّجاعةُ؛ فالمدحُ بالاستِجابةِ والصَّلاةِ دُعاءٌ إلى العِلمِ، وبالنَّفَقةِ إلى العِفَّةِ، وبالانتِصارِ إلى الشَّجاعةِ [705] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/335-336). .
9- في قَولِه تعالَى: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ دَليلٌ على أنَّ التَّشاورَ طاعةٌ للهِ، واقترابٌ إليه؛ إذْ قدْ جَعَلَه جلَّ وتعالىَ في جُملةِ ما مَدَحَ به القَومَ [706] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/118). . وعن الحَسَنِ رَضِيَ الله عنه قال: (ما تشاوَرَ قَومٌ قَطُّ إلَّا هُدُوا لأرشَدِ أُمورِهم) [707] أخرجه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (26275)، وابن جرير في ((تفسيره)) (6/190)، وابن المنذر في ((تفسيره)) (2/467)، وابن أبي حاتم، كما في ((الدر المنثور)) للسيوطي (7/357). ، وقد كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُشاوِرُ أصحابَه في الأُمورِ المُتعَلِّقةِ بمَصالحِ الحُروبِ، وذلك في الآثارِ كَثيرٌ، ولم يُشاوِرْهم في الأحكامِ؛ لأنَّها مُنَزَّلةٌ مِن عندِ اللهِ تعالَى، فأمَّا الصَّحابةُ بعْدَ استِئثارِ اللهِ به علينا -أي: بعدَ موتِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- فكانوا يَتشاوَرونَ في الأحكامِ، ويَستَنبِطونَه مِن الكِتابِ والسُّنَّةِ [708] يُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (4/91-92). .
10- قَولُ اللهِ تعالَى: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ فيه أمرٌ بتَرْكِ الاختِلافِ، والتَّوفُّرِ على الائتِلافِ [709] يُنظر: ((باهر البرهان)) لبيان الحق الغزنوي (2/1287). ، فهذا لا يكونُ إلَّا فَرعًا عن اجتِماعِهم وتَوالُفِهم، وتَوادُدِهم وتَحابُبِهم، وكَمالِ عُقولِهم: أنَّهم إذا أرادوا أمرًا مِن الأمورِ التي تَحتاجُ إلى إعمالِ الفِكرِ والرَّأيِ فيها، اجتَمَعوا لها وتَشاوَروا وبَحَثوا فيها، حتى إذا تبَيَّنَت لهم المَصلحةُ انتَهَزوها وبادَروها، وذلك كالرَّأيِ في الغَزْوِ والجِهادِ، وتَوليةِ المُوظَّفينَ لإمارةٍ أو قَضاءٍ، أو غيرِه، وكالبَحثِ في المسائِلِ الدِّينيَّةِ عُمومًا؛ فإنَّها مِن الأُمورِ المُشتَرَكةِ، والبَحثُ فيها لبَيانِ الصَّوابِ: مِمَّا يُحِبُّه اللهُ، وهو داخِلٌ في هذه الآيةِ [710] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 760). .
11- قال تعالَى: وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ فذَكَر أوصافًا أربعةً هي قَواعِدُ النَّصَفةِ، الفاعِلونَ لها كالجَسَدِ الواحِدِ لا تَأخُذُهم نازِلةٌ في الدُّنيا ولا في الآخِرةِ [711] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/331). .
12- قال تعالَى: وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ، ذَكَر سُبحانَه هؤلاء المنتَصِرينَ في مَعرِضِ المَدحِ، كما ذكَرَ المَغفِرةَ عندَ الغَضَبِ في مَعرِضِ المدحِ؛ لأنَّ التذَلُّلَ لِمَن بَغى ليْس منِ صِفاتِ مَن جَعَل اللهُ له العِزَّةَ، حيثُ قال: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون: 8] ؛ فالانتِصارُ عندَ البَغيِ فَضيلةٌ، كما أنَّ العَفوَ عندَ الغَضَبِ فَضيلةٌ [712] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (4/620). . فمِن صِفاتِ الَّذين آمنوا وعلى ربِّهم يتوكَّلون: أنَّهم لا يَرضَوْنَ بالذُّلِّ والانخناسِ عن الأخْذِ بحقِّهم، وليْس مِن لازمِ الانتصارِ أنْ يَقْتَصَّ؛ لأنَّ مَن عَفا عن قُدرةٍ وعِزَّةٍ فإنَّه لا شكَّ أنَّه مُنتصِرٌ، ومَن أخَذ بحقِّه فهو مُنتصِرٌ [713] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 292). .
13- قَولُ اللهِ تعالَى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فيه وُجوبُ العَدلِ في الجزاءِ، وعَدَمُ الاعتداءِ فيه [714] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص:230). .
14- قَولُ اللهِ تعالَى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ في جَعْلِ أجْرِ العافي على اللهِ ما يُهيِّجُ على العَفوِ، وأنْ يُعامِلَ العَبدُ الخَلقَ بما يُحِبُّ أنْ يُعامِلَه اللهُ به، فكما يُحِبُّ أنْ يَعفوَ اللهُ عنه فلْيَعفُ عنهم، وكما يُحِبُّ أنْ يُسامِحَه اللهُ فلْيُسامِحْهم؛ فإنَّ الجَزاءَ مِن جِنسِ العَمَلِ [715] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:760). . وكان الحَسَنُ البَصريُّ يَدْعو ذاتَ ليلةٍ: (اللَّهُمَّ اعفُ عمَّن ظلَمَني! فأكثَرَ فى ذلك، فقال له رجُلٌ: يا أبا سَعيدٍ، لقد سَمِعتُك اللَّيلةَ تَدْعو لِمَن ظلَمَك حتى تمنَّيتُ أنْ أكونَ فيمَن ظلَمَك! فما دعاكَ إلى ذلِك؟ قال: قولُه تعالى: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّه) [716] يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (6/575). .
15- قَولُ اللهِ تعالَى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ شَمِلَ أُصولَ الإرشادِ إلى ما في الانتِصارِ مِن الظَّالمِ، وما في العَفوِ عنه: مِن صَلاحِ الأمَّةِ؛ ففي تَخويلِ حَقِّ انتِصارِ المظلومِ مِن ظالِمِه رَدعٌ للظَّالِمينَ عن الإقدامِ على الظُّلمِ؛ خَوفًا مِن أنْ يَأخُذَ المظلومُ بحَقِّه؛ فالمُعتدي يَحسَبُ لذلك حِسابَه حينَ الهَمِّ بالعُدوانِ.
وفي التَّرغيبِ في عَفوِ المظلومِ عن ظالِمِه حِفظُ آصِرةِ الأُخُوَّةِ الإسلاميَّةِ بيْنَ المظلومِ وظالِمِه؛ كيْلَا تَنثَلِمَ في آحادِ جُزئيَّاتِها، بل تَزدادُ بالعَفوِ مَتانةً، كما قال تعالَى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت: 34] ، على أنَّ اللهَ تعالَى لم يُهمِلْ جانِبَ رَدعِ الظَّالمِ؛ فأنْبأَ بتحَقيقٍ أنَّه بمَحَلٍّ مِن غَضَبِ اللهِ عليه؛ إذ قال: إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ، ولا يَنحَصِرُ ما في طَيِّ هذا مِن هَولِ الوَعيدِ [717] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/116-117). .
16- قولُه تعالَى: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فيه الحَثُّ على العَفوِ إذا كان إصلاحًا [718] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 302). .
17- قولُه تعالَى: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ فيه الحَثُّ على الصَّبرِ [719] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 311). ، فهذا إخبارٌ مِن اللهِ تعالَى بأنَّ أهلَ الصَّبرِ هم أهلُ العزائمِ [720] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/152). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالَى: فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ أخبَرَ سُبحانَه أنَّ ما عِندَه خيرٌ لِمَن آمَنَ به وتَوَكَّلَ عليه، وهذا هو التَّوحيدُ، ثمَّ قال: وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ؛ فهذا اجتنابُ داعي القُوَّةِ الشَّهوانيَّةِ، ثمَّ قال: وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ؛ فهذا مُخالفةُ القُوَّةِ الغَضَبيَّةِ؛ فجَمَع بيْنَ التَّوحيدِ والعِفَّةِ والعَدلِ: التي هي جِماعُ الخيرِ كُلِّه [721] يُنظر: ((الفوائد)) لابن القيم (ص: 81). .
2- قَولُ اللهِ تعالَى: فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا سَمَّاه مَتاعًا؛ تَنبيهًا على قِلَّتِه وحَقارتِه؛ ولأنَّ الحِسَّ شاهِدٌ بأنَّ كُلَّ ما يَتعلَّقُ بالدُّنيا فإنَّه يكونُ سَريعَ الانقِراضِ والانقِضاءِ [722] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/603). .
3- في قَولِه تعالَى: وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ أنَّ في الآثامِ صَغيرًا وكبيرًا [723] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/118). .
4- في قَولِه تعالَى: وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ أنَّ اجتِنابَ كَبيرِ الإثمِ يُكَفِّرُ الصَّغيرَ، ويُؤيِّدُه قَولُه تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا[النساء: 31] [724] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/118). ، وليْس المرادُ مِن هذه الآيةِ الكريمةِ فتْحَ البابِ لارتكابِ صَغائرِ الآثامِ والذُّنوبِ، بلِ المرادُ بَيانُ فضْلِ اللهِ تعالَى على عِبادِه، ورَحمتِه بهم [725] يُنظر: ((التفسير الوسيط للقرآن الكريم)) لطنطاوي (13/41). .
5- في قَولِه تعالَى: وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ أنَّ صَغائِرَ الذُّنوبِ لا تَنْقُصُ مِن كَمالِ الإيمانِ؛ لأنَّها تَقَعُ مَغفورةً باجتِنابِ الكبائرِ، كما قال اللهُ تَبارَك وتعالَى: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ [النجم: 32] ، يعني: إلَّا الصَّغائرَ؛ فإنَّها لا تَضُرُّ، وأخبَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ((أنَّ الصَّلواتِ الخَمسَ، والجُمُعةَ إلى الجُمُعةِ، ورمَضانَ إلى رَمَضانَ: مُكَفِّراتٌ لِما بيْنَهنَّ إذا اجتُنِبَتِ الكبائِرُ )) [726] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 284). والحديثُ أخرجه مسلمٌ (233) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه. .
6- في قَولِه تعالَى: وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ وقَولِه سُبحانَه: وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ أنَّه سُبحانَه حَمِدَهم على أنَّهم يَنتَصِرونَ عندَ البَغيِ عليهم، كما أنَّهم يَعفُونَ عندَ الغَضَبِ؛ فليْسوا مِثْلَ الذي ليْس له قُوَّةُ الانتِصارِ وفِعْلُه؛ لِعَجْزِهم أو كَسَلِهم، أو وَهْنِهم أو ذُلِّهم أو حُزْنِهم؛ فإنَّ أكثرَ مَن يَترُكُ الانتِصارَ بالحقِّ إنَّما يَترُكُه لهذه الأمورِ وأشباهِها، وأيضًا هم ليْسوا مِثلَ الذي إذا غَضِبَ لا يَغفِرُ ولا يَعفُو، بلْ يَتعدَّى أو يَنتَقِمُ حتى يُكَفَّ مِن خارجٍ، كما عليه أكثرُ النَّاسِ إذا غَضِبوا أو قَدَروا، فلا يَقِفُون عندَ العَدلِ، فَضلًا عن الإحسانِ! فحَمِدَهم على أنَّهم يَنتَصِرونَ وعلَى أنَّهم يَعفُونَ [727] يُنظر: ((المستدرك على مجموع الفتاوى)) (5/128). .
7- قَولُ اللهِ تعالَى: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ (بينهم) هذا الظَّرفُ صِفةٌ لـ شُورَى، والتَّشاوُرُ لا يكونُ إلَّا بيْن المُتشاوِرينَ؛ فالوَجهُ أنْ يكونَ هذا الظَّرفُ إيماءً إلى أنَّ الشُّورى لا يَنْبغي أنْ تَتجاوَزَ مَن يُهِمُّهم الأمرُ مِن أهلِ الرَّأيِ، فلا يَدخُلُ فيها مَن لا يُهِمُّه الأمرُ، وإلى أنَّها سِرٌّ بيْن المُتشاوِرينَ [728] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/112). .
8- في قَولِه تعالَى: وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ أنَّ هؤلاء لا يَنتَصِرونَ لأنفُسِهم إلَّا إذا تَحَقَّقوا البَغيَ عليهم، وأمَّا مُجرَّدُ التُّهمةِ فلا يَعتَبِرونَها؛ يُؤخَذُ ذلك مِن قَولِه: إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ فلو اتَّهموا أحدًا أنَّه ظَلَمَهم فإنَّهم لا يَتحرَّكونَ، لكنْ إذا أصابَهم البَغيُ حينئذٍ يَنتَصِرونَ [729] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 292). .
9- قَولُ اللهِ تعالَى: وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ فيه سُؤالٌ: هذه الآيةُ مُشكِلةٌ؛ لِوَجهَينِ:
الأوَّلُ: أنَّه لَمَّا ذَكَر قَبْلَه وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ فكيْف يَليقُ أنْ يُذكَرَ معه ما يَجْري مَجرَى الضِّدِّ له، وهو قَولُه تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ؟
الثَّاني: أنَّ جميعَ الآياتِ دالَّةٌ على أنَّ العَفوَ أحسَنُ؛ قال تعالى: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [البقرة: 237] ، وقال: وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا [الفرقان: 72] ، وقال: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف: 199] ، وقال: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ [النحل: 126] ، فهذه الآياتُ قدْ يُتوهَّمُ أنَّها تُناقِضُ مَدلولَ هذه الآيةِ؟
والجوابُ أنَّ العَفوَ على قِسمَينِ:
أحدُهما: أنْ يكونَ العَفوُ سَببًا لِتَسكينِ الفِتنةِ وجِنايةِ الجاني ورُجوعِه عن جِنايتِه.
والثَّاني: أنْ يَصيرَ العَفوُ سَبَبًا لِمَزيدِ جَراءةِ الجاني، ولقُوَّةِ غَيظِه وغَضَبِه، والآياتُ في العَفوِ مَحمولةٌ على القِسمِ الأوَّلِ. وهذه الآيةُ مَحمولةٌ على القِسمِ الثَّاني، وحينَئذٍ يَزولُ ما يُتوهَّمُ مِنَ التَّناقُضِ [730] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/604). .
وقيل: إنَّ المقصودَ مِن قَولِه: وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ مُعاملةُ المُسلِمينَ بَعضِهم مع بَعضٍ، فلا يُعارِضُه قَولُه: وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ؛ لأنَّ ذلك في مُعامَلتِهم معَ أعداءِ دِينِهم؛ إذ هو لِدَفْعِ البَغْيِ اللَّاحقِ بهم لأجْلِ أنَّهم مُؤمِنونَ، فالانتصارُ لأنفُسِهم رادعٌ للباغينَ عن التَّوغُّلِ في البَغْيِ على أمثالِهم، وذلك الرَّدْعُ عَونٌ على انتشارِ الإسلامِ؛ إذ يَقطَعُ ما شَأنُه أنْ يُخالِجَ نُفوسَ الرَّاغبينَ في الإسلامِ مِن هَواجسِ خَوفِهم مِن أنْ يُبغَى عليهم، وبهذا تَعلَمُ أنْ ليْس بيْن قولِه هنا: وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ وبيْن قولِه آنفًا: وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ [الشورى: 37] تعارُضٌ؛ لاختلافِ المَقامينِ؛ فهو مِن بابِ التَّكميلِ [731] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/111، 113، 114). .
10- قولُه تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ على القولِ بأنَّه ذكَرَ الانتصارَ بلَفظِ الإباحةِ، إنْ قِيل: كيْف ذُكِرَ الانتصارُ في صِفاتِ المدْحِ، والمباحُ لا مدْحَ فيه ولا ذَمَّ؟
فالجوابُ: مِن أوجُهٍ:
منها: أنَّ المباحَ قدْ يُمدَحُ؛ لأنَّه قِيامٌ بحقٍّ لا بباطلٍ.
ومنها: أنَّ مدْحَ الانتصارِ لكَونِه كان بعْدَ الظُّلمِ، تَحرُّزًا ممَّن بدَأ بالظُّلمِ، فكأنَّ المدْحَ إنَّما هو بترْكِ الابتداءِ بالظُّلمِ [732] يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/251). .
11- قَولُ اللهِ تعالَى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا أصلٌ كَبيرٌ في عِلمِ الفِقهِ؛ فإنَّ مُقتَضاها أنْ تُقابَلَ كُلُّ جِنايةٍ بمِثلِها؛ وذلك لأنَّ الإهدارَ يُوجِبُ فَتْحَ بابِ الشَّرِّ والعُدوانِ؛ لأنَّ في طَبعِ كُلِّ أحَدٍ الظُّلمَ والبَغيَ والعُدوانَ، فإذا لم يُزجَرْ عنه أقدَمَ عليه ولم يَترُكْه، وأمَّا الزِّيادةُ على قَدرِ الذَّنْبِ فهو ظُلمٌ، والشَّرعُ مُنَزَّهٌ عنه؛ فلم يَبْقَ إلَّا أنْ يُقابَلَ بالمِثْلِ [733] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/605). . فيَجِبُ أنْ تكونَ المُقاصَّةُ على وَجهِ العَدلِ؛ فيكونَ جَزاءُ السَّيِّئةِ سَيِّئةً مِثلَها، فلا يجوزُ أنْ يُعتَدى في القِصاصِ لا القَوليِّ ولا الفِعليِّ؛ فلو أنَّ رجُلًا سَبَّكَ بوَصفَينِ وسَببْتَه بثَلاثةِ أوصافٍ، فلا يَجوزُ؛ لأنَّ اللهَ تعالَى قال: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا، ولو أنَّ رجُلًا قَطَعَ يَدَ إنسانٍ، وطُلِبَ القِصاصُ، فقال الجاني: أنا أريدُ تَخديرَ يَدي؛ حتَّى لا أُحِسَّ بالألمِ، وقال المجنيُّ عليه: لا؛ فالقَولُ قولُ المجنيِّ عليه؛ لأنَّ الجانيَ أتَى مَفسدتَينِ: الإيلامَ، وفَقْدَ العُضوِ؛ فلا تَتِمُّ المُقاصَّةُ إلَّا إذا حَصَل هذانِ الأمرانِ بالنِّسبةِ للجاني [734] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 301). .
12- تَفَضُّلُ اللهِ تَبارَك وتعالَى على عِبادِه، حيثُ أوجَبَ على نَفسِه أجرَ العافي المُصلِحِ؛ يُؤخَذُ ذلك مِن قَولِه تعالى: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ؛ فقدْ ضَمِنَ اللهُ عزَّ وجلَّ لهذا العافي المصلِحِ الأجرَ [735] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 303). .
13- قَولُ اللهِ تعالَى: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ شَرَط اللهُ في العَفوِ الإصلاحَ فيه -على قولٍ في التَّفسيرِ-؛ لِيَدُلَّ ذلك على أنَّه إذا كان الجاني لا يَليقُ العَفوُ عنه، وكانت المَصلحةُ الشَّرعيَّةُ تَقتَضي عُقوبتَه؛ فإنَّه في هذه الحالِ لا يكونُ مأمورًا به [736] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:760). ؛ فلو أنَّ الجانيَ مَعروفٌ بالشَّرِّ والفَسادِ، فاعتدَى على شَخصٍ فإنَّه لا يُعفَى عنه؛ لأنَّنا لو عَفَونا عنه في هذه القضيَّةِ المعيَّنةِ؛ فَعَل مِثلَها أو أشدَّ بعْدَ ذلك؛ لاعتِمادِه على العفوِ في كلِّ فِعلٍ. وعلى ذلك فقَولُه تَبارك وتعالَى: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [البقرة: 237] مُقَيَّدٌ بهذه الآيةِ، بل كلُّ نَصٍّ فيه الحثُّ على العَفوِ فإنَّه مُقَيَّدٌ بهذه الآيةِ؛ وهو أنَّه لا بُدَّ أنْ يكونَ العَفوُ إصلاحًا [737] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 302). .
14- في قَولِه تعالَى: إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ثُبوتُ صِفةِ المحبَّةِ للهِ عزَّ وجَلَّ؛ وجْهُ الدَّلالةِ: أنَّه لَمَّا نَفَى مَحبَّتَه للظَّالِمينَ دلَّ ذلك على أنَّه يُحِبُّ العادِلينَ ذَوِي القِسطِ، وهذا الاستِدلالُ يُشابِهُ استِدلالَ الإمامِ الشَّافعيِّ رَحِمه اللهُ على أنَّ المُؤمِنينَ يَرَونَ اللهَ؛ لِقَولِه تعالَى في الفُجَّارِ: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين: 15] ، فقال: (لو كان مُحتَجِبًا عن الجَميعِ مَثَلًا، فلا فائِدةَ للنَّفيِ) [738] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 305)، ويُنظر: ((شرح أصول اعتقاد أهل السُّنَّة والجماعة)) للالكائي (3/519). .
15- في قَولِه تعالَى: إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ التَّحذيرُ مِن الظُّلمِ؛ وجْهُه: أنَّ في الظُّلمِ انتفاءَ مَحبَّةِ اللهِ للعَبدِ [739] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 305). .
16- قال تعالَى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [الشورى: 40] لَمَّا كان النَّاسُ عندَ مُقابَلةِ الأذى ثَلاثةَ أقسامٍ: ظالِمٌ يَأخُذُ فوقَ حَقِّه، ومُقتَصِدٌ يَأخُذُ بقَدْرِ حَقِّه، ومُحسِنٌ يَعفو ويَترُكُ حَقَّه؛ ذكَرَ الأقسامَ الثَّلاثةَ في هذه الآيةِ؛ فأوَّلُها للمُقتَصِدينَ، ووَسَطُها للسَّابِقينَ، وآخِرُها للظَّالِمينَ [740] يُنظر: ((قاعدة في الصبر)) لابن تيمية (ص: 96). ، فأمَرَ بالعَدلِ، ونَدَب إلى الفَضلِ، ونَهَى عن الظُّلمِ [741] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/212). .
17- قَولُ اللهِ تعالَى: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ يَقتَضي إباحةَ الانتِصارِ [742] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/344). ، وأنَّ العَفوَ ليْس بواجِبٍ [743] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/369). .
18- قَولُه تعالَى: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ المظلومُ وإنْ كان مأذونًا له في دَفعِ الظُّلمِ عن نَفسِه، فذلك مَشروطٌ بشَرطينِ؛ أحدُهما: القُدرةُ على ذلك. والثَّاني: ألَّا يَعتدِيَ. فإذا كان عاجِزًا، أو كان الانتِصارُ يُفضي إلى عُدوانٍ زائدٍ: لم يَجُزْ [744] يُنظر: ((الاستقامة)) لابن تيمية (1/40). .
19- في قَولِه تعالَى: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ أنَّ انتِفاءَ السَّبيلِ عمَّن انتصرَ لِنَفسِه مَشروطٌ بتحَقُّقِ الظُّلمِ، أمَّا الأخذُ بالتُّهَمِ فإنَّه لا يجوزُ؛ فلا بُدَّ أنْ تَتحقَّقَ أنَّك مَظلومٌ حتَّى تَنتصرَ لنَفسِك [745] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 306). ؛ ففيه تَنبيهٌ على أنَّ هذا الانتصارَ يكونُ بعْدَ أنْ تَحقَّقَ أنَّهم ظُلِموا، فأمَّا في غيرِ الحروبِ، فمَن يَتوقَّعُ أنَّ أحدًا سيَعتدي عليه ليْس له أنْ يُبادِرَ أحدًا بأذًى قبْلَ أنْ يَشرَعَ في الاعتداءِ عليه، ويقولَ: ظنَنتُ أنَّه يَعتدي علَيَّ، فبادَرتُه بالأذى اتِّقاءً لاعتدائِه المتوقَّعِ؛ لأنَّ مِثلَ هذا يُثيرُ التَّهارُجَ والفسادَ، فنبَّهَ اللهُ المسلمينَ على تَجنُّبِه مع عَدوِّهم إنْ لم تكُنْ بيْنهم حرْبٌ [746] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/118، 119). .
20- قال تعالَى: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ، وقبْلَه قال: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [الشورى: 40] ، وبيانُ الجمْعِ بيْنهما: أنَّ آيةَ العَفوِ واردةٌ في شأْنِ المظلومِ، وإرشادٌ له إلى مَكارمِ الأخلاقِ، وإيثارُ طَريقِ المرسَلينَ، وهذه خِطابٌ للوُلاةِ والحُكَّامِ وتَعليمُ فِعلِ ما يَنْبغي فِعلُه؛ بدَليلِ قولِه: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [الشورى: 42] ، حيثُ أعادَ (السَّبيلَ) المُنكَّرَ بالتَّعريفِ، وعلَّقَ به يَظْلِمُونَ النَّاسَ، وفسَّرَه بقولِه: عَذَابٌ أَلِيمٌ [747] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/78). .
21- ذَكَر سُبحانَه الأصنافَ الثَّلاثةَ في بابِ الظُّلمِ الذي يكونُ بغيرِ اختيارِ المظلومِ، وهم: العادِلُ، والظَّالِمُ، والمُحسِنُ؛ فالعادِلُ مَن انتَصَر بعد ظُلْمِه، وهذا جَزاؤُه أنَّه ما عليه مِن سَبيلٍ، فلم يكُنْ بذلك مَمْدوحًا، ولكنْ لم يكُنْ بذلك مَذْمومًا، وذَكَر الظَّالِمَ بقَولِه: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الشورى: 42] فهؤلاء عليهم السَّبيلُ للعُقوبةِ والاقتِصاصِ، وذَكَر المُحسِنينَ، فقال: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [748] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (30/367-368). [الشورى: 43] .
22- في قَولِه تعالَى: إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ أنَّ الأمورَ تَختلِفُ في العَزَماتِ وما دونَها، ولا شَكَّ أنَّها تختَلِفُ؛ فبَعضُها يكونُ المُقدِمُ عليه ذا عَزيمةٍ صادقةٍ ومُروءةٍ تامَّةٍ، وبَعضُها دونَ هذا [749] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 312). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالى: فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ
- قولُه: فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا تَفريعٌ على جُملةِ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا [الشورى: 27] إلى آخِرِها؛ فإنَّها اقتَضَتْ وُجودَ مُنعَمٍ عليه ومَحرومٍ، فذُكِّروا بأنَّ ما أُوتُوهُ مِن رِزقٍ هو عرَضٌ زائلٌ، وأنَّ الخيرَ في الثَّوابِ الذي ادَّخَرَه اللهُ للمؤمنينَ، مع المناسَبةِ لِما سبَقَه مِن قولِه: وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ [الشورى: 34] مِن سَلامةِ النَّاسِ مِن كَثيرٍ مِن أهوالِ الأسفارِ البَحْريَّةِ؛ فإنَّ تلك السَّلامةَ نِعمةٌ مِن نِعَمِ الدُّنيا، ففُرِّعتْ عليه الذِّكرى بأنَّ تلك النِّعمةَ الدُّنيويَّةَ نِعمةٌ قَصيرةُ الزَّمانِ، صائرةٌ إلى الزَّوالِ، فلا يَجعَلُها الموفَّقُ غايةَ سَعْيِه، ولْيَسْعَ لِعَملِ الآخِرةِ الَّذي يأْتي بالنَّعيمِ العَظيمِ الدَّائمِ، وهو النَّعيمُ الذي ادَّخَرَه اللهُ عِندَه لِعِبادِه المؤمنينَ الصَّالحينَ [750] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/109). .
- قولُه: وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ أُتْبِعتْ صِلةُ (الذين آمَنوا) بما يَدُلُّ على عَمَلِهم بإيمانِهم في اعتقادِهم، فعُطِف على الصِّلةِ أنَّهم يَتوكَّلونَ على ربِّهم دونَ غيرِه، وهذا التَّوكُّلُ إفرادٌ للهِ بالتَّوَجُّهِ إليه في كلِّ ما تَعجِزُ عنه قُدرةُ العبْدِ؛ فإنَّ التَّوجُّهَ إلى غيرِه في ذلك يُنافي التَّوحيدَ؛ لأنَّ المشرِكينَ يَتوكَّلونَ على آلهتِهم أكثَرَ مِن تَوكُّلِهم على اللهِ، ولكونِ هذا مُتمِّمًا لمعنَى (الذين آمَنوا)؛ عُطِف على الصِّلةِ، ولم يُؤتَ معه باسمٍ مَوصولٍ، بخِلافِ ما ورَدَ بعْدَه [751] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/109) .
2- قولُه تعالى: وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ فيه إتْباعُ الموصولِ السَّابقِ (الذين آمنوا) بمَوصولاتٍ مَعطوفٍ بعضُها على بعضٍ كما تُعطَفُ الصِّفاتُ للمَوصوفِ الواحدِ، فكذلك عطْفُ هذه الصِّلاتِ ومَوصولاتِها، أصحابُها مُتَّحِدونَ، وهم الذين آمَنوا باللهِ وَحْدَه، والمقصودُ مِن ذلك: هو الاهتمامُ بالصِّلاتِ، فيُكرَّرُ الاسمُ الموصولُ؛ لِتَكونَ صِلتُه مُعتنًى بها، حتى كأنَّ صاحبَها المتَّحِدَ مُنزَّلٌ مَنزلةَ ذواتٍ مُتعدِّدةٍ، فالمقصودُ: ما عِندَ اللهِ خيرٌ وأبْقَى للمُؤمنينَ الَّذين هذه صِفاتُهم، أي: أتْبَعوا إيمانَهم بها، وهذه صِفاتٌ للمُؤمنينَ باختِلافِ الأحوالِ العارضةِ لهم؛ فهي صِفاتٌ مُتداخِلةٌ قدْ تَجتمِعُ في المؤمنِ الواحدِ إذا وُجِدتْ أسبابُها، وقدْ لا تَجتمِعُ إذا لم تُوجَدْ بعضُ أسبابِها [752] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/110). .
- وقولُه: كَبَائِرَ بصِيغةِ الجمْعِ، وقُرِئ أيضًا: كَبِيرَ بالإفرادِ [753] قرَأها حمزةُ والكسائيُّ وخلفٌ كَبِيرَ، وقرَأ الباقون كَبَائِرَ بفتْحِ الباءِ وألِفٍ. يُنظر: ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 643)، ((النشر في القراءات العشر)) لابن الجزري (2/367). ؛ فكَبائرُ الإثمِ: الفَعَلاتُ الكَبيرةُ مِن جِنسِ الإثمِ، وهي الآثامُ العَظيمةُ التي نَهى الشَّرعُ عنها نَهْيًا جازمًا، وتَوعَّدَ فاعِلَها بعِقابِ الآخِرةِ؛ مِثلُ: القذْفِ والاعتداءِ والبَغيِ. وعلى قِراءةِ كَبِيرَ الْإِثْمِ مُرادٌ به معنَى كَبَائِرَ الْإِثْمِ؛ لأنَّ المفردَ لَمَّا أُضيفَ إلى مُعرَّفٍ بلامِ الجِنسِ مِن إضافةِ الصِّفةِ إلى الموصوفِ، كان له حُكمُ ما أُضيفَ هو إليه [754] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/110). .
- وفي قولِه: وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ جِيءَ بكَلمةِ (إذا) المُضمَّنةِ معنَى الشَّرطِ، والدَّالَّةِ على تَحقُّقِ الشَّرْطِ؛ لأنَّ الغضَبَ طَبيعةٌ نفْسيَّةٌ لا تَكادُ تَخْلو عنه نفْسُ أحدٍ على تَفاوُتٍ؛ لإفادةِ التَّقَوِّي. وتَقييدُ المسنَدِ بحَرْفِ (إذا) المفيدةِ معْنى الشَّرطِ؛ للدَّلالةِ على تَكرُّرِ الغُفرانِ كلَّما غَضِبوا [755] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/111). .
- قَولُ اللهِ تعالَى: وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ قدَّم الغَضَبَ؛ إشارةً إلى الاهتِمامِ بإطفاءِ جَمْرِه، وتَبْريدِ حَرِّه [756] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/330). .
- وقُدِّم المسنَدُ إليه على الخَبرِ الفِعليِّ في جُملةِ هُمْ يَغْفِرُونَ؛ للدَّلالةِ على أنَّهم الأخِصَّاءُ بالمغفرةِ حالَ الغضبِ [757] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/228)، ((تفسير أبي حيان)) (9/343)، ((تفسير أبي السعود)) (8/34)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/111). .
- وخَصَّ الغَضَبَ بلَفظِ الغُفرانِ؛ لأنَّ الغَضَبَ على طَبعِ النَّارِ، واستِيلاؤُه شَديدٌ، ومُقاومتُه صَعبةٌ؛ فلهذا السَّبَبِ خَصَّه بهذا اللَّفظِ [758] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/603). .
3- قولُه تعالَى: وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ هذا مَوصولٌ آخَرُ وصِلَةٌ أُخرَى، ومَدلولُهما مِن أعمالِ الَّذين آمَنوا التي يدْعوهم إليها إيمانُهم، والمقصودُ منها ابتداءً هم الأنصارُ، ومعنى ذلك أنَّهم مِن المؤمنينَ الَّذين تَأصَّلَ فيهم خُلُقُ الشُّورى [759] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/111). .
- قولُه: وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ السِّينُ والتَّاءُ في اسْتَجَابُوا؛ للمُبالَغةِ في الإجابةِ، أي: هي إجابةٌ لا يُخالِطُها كَراهيةٌ ولا تَردُّدٌ [760] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/111). .
- وفي قولِه: وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ أثنَى اللهُ عليهم بإقامةِ الصَّلاةِ؛ فيَجوزُ أنْ يكونَ ذلك تَنْويهًا بمَكانةِ الصَّلاةِ بأعْمالِ الإيمانِ، ويَجوزُ أنْ يكونَ المرادُ إقامةً خاصَّةً [761] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/113). .
- وجُعِلتْ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ عطفًا على الصِّلةِ، وقدْ عُرِف الأنصارُ بذلك؛ إذ كان التَّشاوُرُ في الأمورِ عادتَهم، فإذا نزَلَ بهم مُهِمٌّ اجتمَعوا وتَشاوَروا، وكان مِن تشاوُرِهم الذي أَثْنى اللهُ عليهم به تَشاوُرُهم حينَ ورَدَ إليهم نُقباؤُهم، وأَخبَروهم بدَعوةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بعْدَ أنْ آمَنوا هم به لَيلةَ العقَبةِ، فلمَّا أَبلَغوهم ذلك اجتمَعوا في دارِ أبي أيُّوبَ الأنصاريِّ رَضيَ اللهُ عنه، فأَجمَعَ رأيُهم على الإيمانِ به والنَّصرِ له، وإذ قد كانتِ الشُّورى مُفضِيةً إلى الرُّشدِ والصَّوابِ، وكان مِن أفضَلِ آثارِها أنِ اهتَدى بسَببِها الأنصارُ إلى الإسلامِ؛ أَثْنى اللهُ بها على الإطلاقِ دونَ تَقييدٍ بالشُّورى الخاصَّةِ التي تَشاوَرَ بها الأنصارُ في الإيمانِ، وأيُّ أمرٍ أعظَمُ مِن أمْرِ الإيمانِ [762] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/112). ؟!
- قولُه: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ جُملةٌ اسميَّةٌ عُطِفتْ على الفِعليَّةِ، وعُطِفتْ عليها الفِعليَّةُ، فآذَنَ بأنَّ مَضمونَها مُستمِرٌّ منهم، وهو دَأْبُهم وعادتُهم قبْلَ استجابتِهم لربِّهم، وقبْلَ إقامةِ الصَّلاةِ والإنفاقِ في سَبيلِ اللهِ؛ لاستِحداثِهم إيَّاها بعْدَ المشورةِ [763] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/73). .
- وأيضًا أفرَدَ هذه الجُملةَ بالذِّكرِ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ؛ لِمَزيدِ الاهتمامِ بالشُّورى، وتَنويهًا بها [764] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/43). .
- و(الأمرُ): اسمٌ مِن أسماءِ الأجناسِ العامَّةِ، مِثلُ شَيءٍ وحادِثٍ، وإضافةُ اسمِ الجِنسِ قدْ تُفيدُ العُمومَ بمَعونةِ المَقامِ، أي: جَميعُ أُمورِهم مُتشاوَرٌ فيها بيْنهم. والإخبارُ عن الأمرِ بأنَّه شُورَى مِن قَبيلِ الإخبارِ بالمصدرِ للمُبالَغةِ [765] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/112). .
- وقولُه: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ إدْماجٌ [766] الإدماجُ: أنْ يُدمِجَ المُتكلِّمُ غرَضًا في غرَضٍ، أو بديعًا في بديعٍ، بحَيثُ لا يَظهرُ في الكلامِ إلَّا أحدُ الغرَضينِ أو أحدُ البَديعَينِ، بمعنى: أن يَجعلَ المتكلِّمُ الكلامَ الَّذي سِيق لمعنًى -مِن مَدحٍ أو غيرِه- مُتضمنًا معنًى آخَرَ، كقولِه تعالى: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ [القصص: 70] ؛ فهذا مِن إدماجِ غرَضٍ في غَرَضٍ؛ فإنَّ الغرَضَ منها تَفرُّدُه تعالى بوصْفِ الحَمدِ، وأُدمِجَ فيه الإشارةُ إلى البعثِ والجزاءِ. وقيل: أُدمِجتِ المُبالَغةُ في المُطابَقةِ؛ لأنَّ انفِرادَه بالحمدِ في الآخِرةِ -وهي الوقتُ الَّذي لا يُحمَدُ فيه سِواهُ- مُبالَغةٌ في الوَصفِ بالانفِرادِ بالحمدِ. يُنظر: ((التبيان في البيان)) للطِّيبي (ص: 225)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/298)، ((علوم البلاغة البيان المعاني البديع)) للمراغي (ص: 344)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/427). للامتنانِ في خلالِ المدحِ، وإلَّا فليس الإنفاقُ مِن غيرِ ما يُرزَقُه المُنفِقُ [767] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/113). .
- مِن الاستِجابةِ لله: إقامةُ الصَّلاةِ وإيتاءُ الزَّكاةِ، وعطفُهما عليها مِن بابِ عطفِ العامِّ على الخاصِّ، الدَّالِّ على شَرفِه وفَضلِه [768] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:759). .
4- قولُه تعالَى: وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ هذا مَوصولٌ رابعٌ، وصِلتُه خُلُقٌ أرادَه اللهُ للمُسلِمينَ، والبغْيُ: الاعتداءُ على الحقِّ؛ فمعنَى إصابتِه إيَّاهم أنَّه سُلِّط عليهم، أي: بَغَى غيرُهم عليهم [769] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/113). .
- والبَغيُ بغيرِ الحَقِّ هو نوعٌ مِن أنواعِ الظُّلمِ، خَصَّه بالذِّكرِ؛ تَنبيهًا على شِدَّتِه، وسُوءِ حالِ صاحِبِه [770] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/345). .
- وأُدخِلَ ضَميرُ الفَصلِ (هُم) بقولِه: هُمْ يَنْتَصِرُونَ الذي فصَلَ بيْنَ الموصولِ وبيْنَ خَبرِه؛ لإفادةِ تقَوِّي الخبرِ، أي: لا يَنْبَغي أنْ يَترَدَّدوا في الانتِصارِ لِأنفُسِهم [771] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/114). .
- ودلَّ هذا التَّركيبُ: فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ على مَزيدِ اختِصاصِهم بالانتصارِ؛ وذلك لِمَجيءِ الضَّميرِ وإيقاعِه مُبتدأً، وإسنادِ يَنْتَصِرُونَ إليه [772] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/75، 76). .
- وأُوثِرَ الخَبرُ الفِعليُّ يَنْتَصِرُونَ هنا دونَ أن يُقالَ: (مُنتصِرون)؛ لإفادةِ معنى تَجدُّدِ الانتصارِ كلَّما أصابَهم البَغْيُ [773] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/114). .
5- قولُه تعالى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ثَلاثُ جُملٍ مُعترِضةٌ الواحدةُ تِلْوَ الأُخرى بيْن جُملةِ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ ... إلخ [الشورى: 39] وجُملةِ وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ [الشورى: 41] ، وفائدةُ هذا الاعتراضِ تَحديدُ الانتصارِ والتَّرغيبُ في العفْوِ، ثمَّ ذمُّ الظُّلمِ والاعتداءِ [774] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/114). .
- وسَيِّئَةٍ صِفةٌ لِمَحذوفٍ، أي: فِعلةٌ تَسُوءُ مَن عُومِلَ بها، ووَزْنُ (سيِّئة) فَيْعِلةٌ؛ مُبالَغةً في الوصفِ، أي: إنَّ المُجازيَ يُجازي مَن فعَلَ معه فِعلةً تَسُوؤُه بفِعلةٍ سيِّئةٍ مِثلِ فِعْلتِه في السُّوءِ [775] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/115). .
- وفي قولِه: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا جِناسُ المُزاوَجةِ اللَّفظيُّ [776] جِناسُ المُزاوَجةِ -ويُسمَّى المشاكَلةَ-: هو ذِكرُ الشَّيءِ بلَفظِ غَيرِه؛ لوُقوعِه في صُحبتِه، تَحقيقًا أو تَقْديرًا؛ فالتَّحقيقُ مِثلُ قولِه تعالَى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى: 40]، فجعَل سُبحانَه الجزاءَ على السَّيِّئةِ سَيِّئةً، وهو ليْس كذلك، وإنَّما لمناسَبةِ السيِّئةِ الَّتي سبَقَتْه. والتقديرُ مِثلُ قولِه سُبحانه: صِبْغَةَ اللَّهِ [البقرة: 138]، ومُقابِلُ الصِّبغةِ مُقدَّرٌ، تَقديرُه: صِبغةَ اللهِ لا صِبْغتَكم. يُنظر: ((عروس الأفراح)) لبهاء الدين السبكي (2/237 - 239)، ((الأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم)) لعصام الدين الحنفي (1/100)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (9/45). ؛ فإنَّ السَّيِّئةَ الثَّانيةَ ليْستْ بسَيِّئةٍ؛ وإنَّما هي مُجازاةٌ عن السَّيِّئةِ، سُمِّيتْ باسمِها؛ لِقَصْدِ المزاوَجةِ [777] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/45). قال أبو حيَّانَ: (مَجيءُ الشَّيءِ على سبيلِ المقابلةِ، وإنْ لم يَكُنْ مِن جِنسِ ما قُوبِل به؛ شائعٌ في لِسانِ العربِ، ومنه: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا). ((تفسير أبي حيان)) (1/196). ، وقيل: كِلتا الفِعلتَينِ -الأُولَى وجَزاؤُها- سيِّئةٌ؛ لأنَّها تَسوءُ مَن تَنزِلُ به [778] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/229). .
- وأيضًا في قولِه: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ... الآيةَ: ما يُعرَفُ في البَلاغةِ بالتَّهذيبِ؛ فإنَّها سَلِمَتْ مِن المحذورِ الذي يَقتضي تَهذيبَها، وتَفصيلُ ذلك: أنَّه عِندَما يُسنَدُ الفعلُ إلى اللهِ تعالَى يَنبغي العدولُ عن إسنادِ الإساءةِ إليه، كما في قولِه: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النجم: 31]؛ فإنَّ صحَّةَ المقابَلةِ في هذا النَّظمِ أنْ يُقالَ: لِيَجزيَ الَّذين أساؤوا بالإساءةِ؛ حتَّى تَصِحَّ مُقابَلتُه بقولِه: وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى، لكنْ منَعَ مِن ذلك الْتزامُ الأدبِ مع اللهِ سُبحانَه في إسنادِ فِعلِ الإساءةِ إليه. أمَّا الآيةُ التي نحن بصَددِها، فقدْ أُمِنَ فيها ذلك المحذورُ، فأتَى النَّظمُ على مُقتضَى البلاغةِ مِن مَجيءِ تَجنيسِ الازدواجِ فيه على وَجْهِه مِن غيرِ تَغييرٍ؛ إذ لا ضَرورةَ تدْعو إلى تَغييرِه [779] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/45). .
- وكذلك في قولِه: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ تَهذيبٌ؛ فإنَّ الانتصارَ لا يَكادُ يُؤمَنُ فيه تَجاوُزُ السَّيِّئةِ والاعتداءُ، خُصوصًا في حالةِ الفوَرانِ والغلَيانِ والْتهابِ الحَمِيَّةِ، وفي هذا جَوابٌ لمَن يَتساءلُ: ما معنى ذِكرِ الظُّلمِ عَقِبَ العفوِ معَ أنَّ الانتصارَ ليس بظُلمٍ [780] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/45، 46). ؟
- وجُملةُ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ في مَوضعِ العِلَّةِ لِكلامٍ مَحذوفٍ دلَّ عليه السِّياقُ، فيُقدَّرُ: إنَّه يُحِبُّ العافِينَ، ونصْرُه على ظالمِه مَوكولٌ إلى اللهِ، وهو لا يُحِبُّ الظالمينَ، أي: فيُؤْجِرُ الذين عَفَوْا ويَنتصِرُ لهم على الباغينَ؛ لأنَّه لا يُحِبُّ الظالمينَ؛ فلا يُهمِلُ الظَّالمَ دونَ عِقابٍ، وقد استُفيدَ حُبُّ اللهِ العافينَ مِن قولِه: إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ، وعلى هذا؛ فمَاصَدَقَ [781] المَاصَدَق -عِندَ المناطِقة-: الأفرادُ التي يَتحقَّقُ فيها معنى الكُليِّ، ويُقابلُه: المفهومُ، وهو: مجموعُ الصِّفاتِ والخَصائصِ الموضِّحةِ لمعنًى كُلِّيٍّ. يُنظر: ((المعجم الوسيط)) (1/511) و(2/704). ويُنظر أيضًا: ((ضوابط المعرفة)) لحَبنَّكة (ص: 45، 46). الظَّالمينَ: هم الَّذين أصابُوا المؤمنينَ بالبَغْيِ. ويَجوزُ أيضًا أنْ يكونَ التَّعليلُ مُنْصرِفًا لمفهومِ جُملةِ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا، أي: دونَ تَجاوُزِ المماثَلةِ في الجزاءِ؛ فيكونُ مَاصَدَقَ الظَّالمينَ: الذين يَتجاوَزونَ الحَدَّ في العُقوبةِ مِن المؤمنينَ، على أنْ يكونَ تَحذيرًا مِن مُجاوَزةِ الحدِّ [782] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/116). .
6- قولُه تعالى: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ يجوزُ أنْ يكونَ عطفًا على جُملةِ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ [الشورى: 40] ؛ فيكونَ عُذرًا للَّذين لم يَعْفُوا. ويَجوزُ أنَّه عطْفٌ على جُملةِ هُمْ يَنْتَصِرُونَ [الشورى: 39] ، وما بيْن ذلك اعتراضٌ، فالجُملةُ إمَّا مُرتبِطةٌ بغرَضِ انتصارِ المسلِمِ على ظالمِه مِن المسلِمينَ تَكملةً لِجُملةِ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى: 40] ، وإمَّا مُرتبِطةٌ بغرَضِ انتصارِ المؤمنينَ مِن بَغْيِ المشرِكينَ عليهم، وهو الانتصارُ بالدِّفاعِ، سَواءٌ كان دِفاعَ جَماعاتٍ، وهو الحربُ؛ فيَكونُ هذا تَمْهيدًا للإذنِ بالقِتالِ الذي شُرِع مِن بعْدُ، أم دِفاعَ الآحادِ إنْ تَمكَّنوا منه؛ فقدْ صار المسلمونَ بمكَّةَ يَومئذٍ ذَوي قوَّةٍ يَستطيعونَ بها الدَّفْعَ عن أنفُسِهم آحادًا، كما قِيل في عزِّ الإسلامِ بإسلامِ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ [783] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/118). .
- وجِيءَ باسمِ الإشارةِ فَأُولَئِكَ في صَدْرِ جَوابِ الشَّرْطِ؛ لِتَمْييزِ الفريقِ المذكورِ أتَمَّ تَمْييزٍ، وللتَّنبيهِ على أنَّ سَببَ عَدمِ مُؤاخَذتِهم هو أنَّهم انتَصَروا بعْدَ أنْ ظُلِموا، ولم يَبدؤوا النَّاسَ بالبَغْيِ [784] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/119). .
- والمرادُ بالسَّبيلِ مُوجِبُ المؤاخَذةِ باللَّائمةِ بيْن القَبائلِ، واللَّمزِ بالعُدوانِ، والتَّبِعةِ في الآخِرةِ على الفَسادِ في الأرضِ بقتْلِ المسالمينَ، سُمِّي ذلك سَبيلًا؛ لأنَّه أشبَهَ الطَّريقَ في إيصالِه إلى المطلوبِ، وكثُرَ إطلاقُ ذلك [785] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/119). .
- قولُه: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ رفَعَ سُبحانه كلَّ حرَجٍ وضِيقٍ بتَنكيرِ سَبِيلٍ؛ لِشُيوعِه، فضْلًا عن الظُّلمِ [786] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/78). .
7- قولُه تعالى: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
- قولُه: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ استِئنافٌ بَيانيٌّ؛ فإنَّه لَمَّا جَرَى الكلامُ السَّابقُ كلُّه على الإذنِ للَّذين بُغِيَ عليهم أنْ يَنتصِروا ممَّن بَغَوْا عليهم، ثمَّ عُقِّبَ بأنَّ أولئك ما عليهم مِن سَبيلٍ؛ كان ذلك مَثارَ سُؤالِ سائلٍ عن الجانبِ الذي يَقَعُ عليه السَّبيلُ المنفيُّ عن هؤلاء [787] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/120). .
- والقَصرُ المُفادُ بحَرْفِ (إنَّما) تأْكيدٌ لِمَضمونِ جُملةِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ [الشورى: 41] ؛ لأنَّه كان يَكفِي لإفادةِ مَعنى القصْرِ أنْ يُقابَلَ نفْيُ السَّبيلِ عن الَّذين انتَصَروا بعْدَ ظُلْمِهم بإثْباتِ أنَّ السَّبيلَ على الظَّالمينَ؛ لأنَّ إثباتَ الشَّيءِ لِأحَدٍ ونَفْيَه عمَّن سِواه يُفيدُ معْنى القصْرِ، وهو الأصلُ في إفادةِ القصْرِ بطَريقِ المساواةِ أو الإطنابِ، وأمَّا طُرقُ القَصْرِ المعروفةُ في عِلمِ المعاني فهي مِن الإيجازِ [788] الأصلُ في الكلامِ أنْ يكونَ تأديةً لِلْمَعاني بألْفاظٍ على مِقْدارِها، أي: بأن يكونَ لِكُلِّ معنًى قصَدَه المتكلِّمُ لفظٌ يدُلُّ عليه، ظاهرٌ أو مُقَدَّرٌ، وتُسمَّى دَلالةُ الكلامِ بهاتِه الكَيفيَّةِ: (مُساواةً)؛ لأنَّ الألفاظَ كانت مُساويةً للمَدْلولاتِ. فإذا نقَصَتِ الألفاظُ عن عددِ المعاني مع إيفائِها بجميعِ تلك المعاني، فذلك (الإيجازُ). وإذا زادَتِ الألفاظُ على عددِ المعاني مع عدَمِ زيارةِ المعاني، فذلك (الإطنابُ). يُنظر: ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 108، 109). ، فلمَّا أُورِدتْ أداةُ القَصرِ هنا حصَلَ نفْيُ السَّبيلِ عن غَيرِهم مرَّةً أُخرى بمُفادِ القصرِ، فتَأكَّدَ حُصولُه الأوَّلُ الذي حصَلَ بالنَّفيِ [789] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/120). .
- والمرادُ بـ السَّبِيلُ عَينُ المرادِ به في قولِه: فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ [الشورى: 41] ؛ بقَرينةِ أنَّه أُعيدَ مُعرَّفًا باللَّامِ بعْدَ أنْ ذُكِر مُنكَّرًا؛ فإنَّ إعادةَ اللَّفظِ النَّكرةِ مُعرَّفًا بلامِ التَّعريفِ يُفيدُ أنَّ المرادَ به ما ذُكِر أوَّلًا، وهذا السَّبيلُ الجزاءُ والتَّبِعةُ في الدُّنيا والآخِرةِ [790] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/120). .
- وشَمِل عمومُ الَّذِينَ يَظْلِمُونَ وعُمومُ النَّاسَ كلَّ ظالمٍ، وبمَقدارِ ظُلمِه يكونُ جَزاؤُه، ويَدخُلُ ابتداءً فيه الظَّالمونَ المُتحدَّثُ عنهم، وهم مُشرِكو أهلِ مكَّةَ، والنَّاسُ المتحدَّثُ عنهم، وهم المسلِمونَ يَومئذٍ [791] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/120). .
- قولُه: بِغَيْرِ الْحَقِّ مُتعلِّقٌ بـ (يَبْغُونَ)، وهو لِكَشْفِ حالةِ البَغْيِ؛ لإفادةِ مَذمَّتِه؛ إذ لا يكونُ البغيُ إلَّا بغيرِ الحقِّ؛ فإنَّ مُسمَّى البغْيِ هو الاعتداءُ على الحقِّ، وأمَّا الاعتداءُ على المُبطِلِ لأجْلِ باطلِه، فلا يُسمَّى بَغْيًا، ويُسمَّى اعتداءً؛ قال تعالَى: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [792] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/121). [البقرة: 194] .
- قولُه: أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بَيانُ جُملةِ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ إنْ أُريدَ بـ (السَّبيلِ) في قولِه: مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ [الشورى: 41] سَبيلُ العِقابِ في الآخِرةِ. أو بدَلُ اشتمالٍ منها إنْ أُريدَ بالسَّبيلِ هنالك ما يَشمَلُ المَلامَ في الدُّنيا، أي: السَّبيلُ الَّذي عليهم هو أنَّ لهم عَذابًا أليمًا جَزاءَ ظُلمِهم وبَغْيِهم، وحُكمُ هذه الآيةِ يَشمَلُ ظُلمَ المشرِكينَ للمُسلِمينَ، ويَشمَلُ ظُلمَ المسلِمينَ بعضِهم بعضًا؛ لِيَتناسَبَ مَضمونُها مع جَميعِ ما سبَقَ [793] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/121). .
- وجِيءَ باسمِ الإشارةِ أُولَئِكَ؛ للتَّنبيهِ على أنَّهم أَحْرياءُ بما يُذكَرُ بعْدَ اسمِ الإشارةِ؛ لأجْلِ ما ذُكِر قبلَه، مع تَمْييزِهم أكمَلَ تَمْييزٍ بهذا الوعيدِ [794] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/121). .
8- قولُه تعالى: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ عطْفٌ على جُملةِ وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ [الشورى: 41] ، ومَوقعُ هذه الجُملةِ مَوقعُ الاعتراضِ بيْن جُملةِ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ [الشورى: 42] وجُملةِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ [الشورى: 44] ، وهذه الجُملةُ تُفيدُ بَيانَ مَزيَّةِ المؤمنينَ الَّذين تَحمَّلوا الأذى مِن المشرِكينَ، وصبَروا عليه، ولم يُؤاخِذوا به مَن آمَنَ ممَّن آذَوْهم، ومَزيَّةِ المؤمنينَ الَّذين يَصبِرونَ على ظُلمِ إخوانِهم، ويَغفِرونَ لهم، فلا يَنتصِفونَ منهم، ولا يَسْتَعْدُونَ عليهم [795] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/122). .
- قولُه: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ اشتمَلَ هذا الخبَرُ على أربعةِ مُؤكِّداتٍ، هي: اللَّامُ، و(إنَّ)، ولامُ الابتِداءِ، والوَصْفُ بالمصدرِ في قولِه: عَزْمِ الْأُمُورِ؛ تَنْويهًا بمَضمونِه، وزِيدَ تَنويهًا باسمِ الإشارةِ في قولِه: إِنَّ ذَلِكَ؛ فصار فيه خَمسةُ اهتماماتٍ [796] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/122). .
- والعَزْمُ: عَقْدُ النِّيَّةِ على العمَلِ، والثَّباتُ على ذلك، والوَصفُ بالعَزْمِ مُشعِرٌ بمدْحِ الموصوفِ؛ لأنَّ شأنَ الفضائلِ أنْ يكونَ عمَلُها عَسيرًا على النُّفوسِ؛ لأنَّها تُعاكِسُ الشَّهواتِ، ومِن ثَمَّ وُصِفَ أفضَلُ الرُّسلِ بـ (أُولي العزمِ) [797] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/122). .
- وإضافةُ عَزْمِ إلى الْأُمُورِ مِن إضافةِ الصِّفةِ إلى الموصوفِ، أي: مِن الأُمورِ العزْمِ. ووَصْفُ الأمورِ بـ (العزمِ) مِن الوصفِ بالمصدرِ؛ للمُبالَغةِ في تَحقُّقِ المعنى فيها. والإشارةُ بـ (ذلك) إلى الصَّبرِ والغُفرانِ المأخوذَينِ مِن صَبَرَ وَغَفَرَ، والمُتحمِّلينِ لِضَميرِ (مَن) الموصولةِ؛ فيَكونُ صَوغُ المصدرِ مُناسِبًا لِمَا معه مِن ضَميرٍ، والتَّقديرُ: إنَّ صبْرَه وغَفْرَه لَمِن عَزْمِ الأمورِ [798] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/122، 123). .
- وفي قولِه: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ قال قبلَه في سُورةِ (لُقمانَ): يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [لقمان: 17] ؛ فأكَّدَ الخبرَ باللَّامِ في سُورةِ (الشُّورى) في قولِه: لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ، وترَكَه في سُورةِ (لُقمانَ)؛ ووجْهُ هذه المُناسَبةِ: أنَّ الصَّبرَ على مَكروهٍ حدَثَ بظُلمٍ -كقتْلِ ولَدٍ- أشَدُّ مِن الصَّبرِ على مَكروهٍ حدَثَ بلا ظُلمٍ، كمَوتِ ولَدٍ، كما أنَّ العزْمَ على الأوَّلِ أَوكَدُ منه على الثَّاني، وما هنا مِن القَبيلِ الأوَّلِ؛ فكان أنسَبَ بالتَّوكيدِ، وما في (لُقمانَ) مِن القَبيلِ الثَّاني؛ فكان أنسَبَ بعدَمِه. كما أنَّ ما رغَّبَ اللهُ تعالَى فيه عبْدَه مِن الصَّبرِ على ما آلَمَ قلْبَه مِن جِنايةِ جانٍ عليه حتَّى يَغفِرَ لمَن ظلَمَه، ويَهَبَ له مِن القِصاصِ حقَّه؛ تَرغيبٌ فيما يَشُقُّ على الإنسانِ فِعلُه، إلَّا أنَّ اللهَ حسَّنَه بما وعَدَ مَن عَفا عمَّا يَجِبُ له مِن الأجرِ الذي ضَمِنَه؛ ففيهِ مع جَزيلِ الثَّوابِ إصلاحُ ما بيْن عَشيرتِه وعَشيرةِ الجاني عليه بإطفاءِ الثَّائرةِ عنهما، وإذا كان ذا مِن أصعبِ ما يَتحمَّلُه الإنسانُ، وجَبَ مِن تَوكيدِ الكلامِ فيه ما لا يجِبُ في غيرِه، فأُدخِلَتِ اللَّامُ على لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ، على معنى: أنَّه مِن الأمورِ التي يَحتاجُ إلى تَوطينِ النَّفْسِ عليها، وتخيُّرِ أرفَعِها وأَعْلاها، وليْس كذلك ما في سُورةِ (لُقمانَ)، فأمَّا الموضعُ الَّذي أُبيحَ فيه الانتصافُ؛ فالصَّبرُ فيه أشَقُّ، وكَظْمُ الغَيظِ معه أشَدُّ، والكلامُ فيه إلى التَّوكيدِ أحوَجُ [799] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (ص: 1158-1160)، ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 223-224)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (1/419-420)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 509-510). .