موسوعة التفسير

سورةُ القَصَصِ
الآيات (60-67)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ

غَريبُ الكَلِماتِ:

فَمَتَاعُ: المتاعُ: المتعةُ، والانتفاعُ، وأصلُ (متع): المنفعةُ، وامتِدادُ مدَّةٍ في خيرٍ [772] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 46)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 409)، ((المفردات)) للراغب (ص: 757)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/293)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 69). .
أَغْوَيْنَا: أي: أضْلَلْنا، وأصلُ (غوي): يدُلُّ على خِلافِ الرُّشْدِ [773] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/399)، ((المفردات)) للراغب (ص: 620)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 121)، ((تفسير القرطبي)) (13/303). .
فَعَمِيَتْ: أي: خَفِيَتْ والْتَبَسَتْ، وأصلُ (عمي): يدُلُّ على سَترٍ وتَغطيةٍ [774] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 334)، ((تفسير ابن جرير)) (18/297)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/133)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 284)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 329). .

المعنى الإجماليُّ:

يُبيِّنُ الله تعالى حقارةَ الدُّنيا وما فيها مِن متاعٍ بالنِّسبةِ لِما أعَدَّه للمؤمنينَ في الآخرةِ مِنَ النَّعيمِ العظيمِ، فيقولُ: وما آتاكم اللهُ مِنَ النِّعَمِ واللَّذَّاتِ فإنَّما هو متاعٌ تتمَتَّعونَ به في حياتِكم الدُّنيا، ثمَّ لا يلبَثُ أن يَزولَ، وما عندَ اللهِ في الجنَّةِ خَيرٌ وأدوَمُ لأهلِه؛ فإنَّه ثوابٌ لا ينفَدُ، أفلا تَعقِلون؟!
ثمَّ يَنفي التَّسويةَ بينَ أهلِ الجنَّةِ وأهلِ النَّارِ، فيقولُ: أفمَن وعَدْناه الجنَّةَ، فهو لاقٍ ما وُعِدَه، وصائِرٌ إلى ثوابِ اللهِ في الآخرةِ، كمَنْ هو كافِرٌ مُكَذِّبٌ بلِقاءِ اللهِ، مُؤْثِرٌ لَذَّةَ العاجلةِ، مُمَتَّعٌ في الحياةِ الدُّنيا فحسْبُ، ثمَّ هو يومَ القيامةِ مِن المُحضَرينَ للجَزاءِ؟!
ثمَّ يحكي الله تعالى جانبًا مِن أحوالِ المشركينَ يومَ القيامةِ، وما يُوبِّخُهم به، فيقولُ: واذكُرْ يومَ يُنادي اللهُ المُشرِكينَ يومَ القيامةِ فيَقولُ لهم: أين شُرَكائيَ الَّذين كنتُم في الدُّنيا تَزعُمونَ أنَّهم شُرَكاءُ لي في العبادةِ؟ قال الدُّعاةُ إلى الكُفرِ والضَّلالِ الَّذين وجَبَ عليهم عذابُ اللهِ وغَضَبُه: يا ربَّنا، هؤلاء الَّذين دَعَوْناهم إلى الباطِلِ فأطاعونا، أضلَلْناهم مِثلَما كُنَّا ضالِّينَ، تَبَرَّأْنا إليك منهم؛ فما كانوا في الدُّنيا يَعبُدونَنا، إنَّما كانوا يَتَّبِعون أهواءَهم!
وقيل للمُشرِكين: ادعُوا الَّذين كنتُم تَعبدونَهم وتَزعُمونَهم شُرَكاءَ لله؛ لِيَنفَعوكم اليومَ، فدعاهم المُشرِكون فلمْ يُجيبوهم، ورأَوْا جميعًا -التَّابعُ منهم والمَتبوعُ- العذابَ الَّذي سيَحُلُّ بهم. لو أنَّ المُشرِكين كانوا في الدُّنيا مُهتَدينَ للحَقِّ، لَمَا اتَّبَعوا شُرَكاءَ مِن دونِ الله.
واذكُرْ يومَ يُنادي اللهُ المُشرِكينَ يومَ القيامةِ، فيَقولُ لهم: ماذا أَجبتُمُ المُرسَلينَ؟ هل آمَنتُم بهم واتَّبَعتُموهم، أمْ كفَرْتُم بهم وكذَّبْتُموهم؟ فخَفِيَتِ الحُجَجُ عليهم يومَ القيامةِ ولم يَهتَدوا إلى جوابٍ صحيحٍ، فهم لا يَسألونَ أحدًا عمَّا يُجيبونَ به اللهَ فيما سألهَم عنه. فأمَّا مَن تاب وآمَنَ وعَمِلَ عمَلًا صالِحًا، فهو في الآخرةِ مِنَ الفائزينَ.

تَفسيرُ الآياتِ:

وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60) .
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
هذا هو الجوابُ الثَّالثُ عن شُبْهَتِهم الَّتي حاصلُها أنْ قالوا: تَرَكْنا الدِّينَ لِئَلَّا تَفُوتَنا الدُّنيا، فبَيَّن تعالى أنَّ ذلك خطأٌ عظيمٌ؛ لأنَّ ما عندَ اللهِ خَيْرٌ وأبقَى [775] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/8). .
وأيضًا لَمَّا ذَكَّرهم اللهُ بنِعَمِه عليهم تذكيرًا أُدْمِجَ في خلالِ الرَّدِّ على قولِهم: إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا بقولِه: يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا [الْقَصَص: 57]؛ أعْقَبه بأنَّ كلَّ ما أُوتُوه مِن نعمةٍ هو مِن متاعِ الحياةِ الدُّنيا، وزينَتِها، وأمَّا ما عندَ اللهِ مِن نعيمِ الآخرةِ فهو خيرٌ مِن ذلك وأبقَى؛ لئلَّا يَحْسَبوا أنَّ ما هم فيه مِنَ الأمنِ والرِّزْقِ هو الغايةُ المطلوبةُ فلا يَتَطَلَّبوا ما به تحصيلُ النَّعيمِ العظيمِ الأبَدِيِّ، وتحصيلُه بالإيمانِ [776] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/153). .
وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا.
أي: وما آتاكم اللهُ مِن الأموالِ والأولادِ وغَيرِها مِنَ النِّعَمِ واللَّذَّاتِ، فإنَّما هو مَتاعٌ تَتمَتَّعونَ به في حياتِكم الدُّنيا، وتَتزيَّنونَ به فيها، ثمَّ يَزولُ عنكم سريعًا، ولا يَنفَعُكم بشَيءٍ [777] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/292)، ((تفسير القرطبي)) (13/302)، ((تفسير السعدي)) (ص: 621)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/154). .
كما قال تعالى: مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ [النحل: 96] .
وقال سُبحانَه: وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ [الرعد: 26] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا [سبأ: 37] .
وعن المُستَورِدِ بنِ شَدَّادٍ رضيَ اللهُ عنه، قال: سَمِعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: ((واللهِ ما الدُّنيا في الآخِرةِ إلَّا مِثلُ ما يَجعَلُ أحَدُكم إِصبَعَه هذه في اليَمِّ؛ فلْيَنظُرْ بِمَ تَرجِعُ؟!)) [778] رواه مسلم (2858). .
وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى.
أي: وما عندَ اللهِ في الجنَّةِ أفضَلُ وَصفًا وكَمِّيَّةً مِن مَتاعِ الدُّنيا وزينتِها، وأدوَمُ لأهلِه؛ لأنَّه ثوابٌ لا يَنفَدُ [779] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/292)، ((تفسير القرطبي)) (13/302)، ((تفسير السعدي)) (ص: 621). .
كما قال تعالى: وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ [آل عمران: 198] .
وقال سُبحانَه: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [الأعلى: 16، 17].
وقال عزَّ وجلَّ: وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى [الضحى: 4].
أَفَلَا تَعْقِلُونَ .
أي: أفلا تَتدَبَّرونَ -أيُّها النَّاسُ- بعُقولِكم، فتَعرِفونَ بها أنَّ ثوابَ الآخِرةِ الباقيةِ خَيرٌ مِن نَعيمِ الدُّنيا الفانيةِ [780] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/293)، ((تفسير القرطبي)) (13/302)، ((تفسير السعدي)) (ص: 621). ؟!
أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر تَفاوُتَ ما بيْنَ ما أُوتوه مِنَ المتاعِ والزِّينةِ، وما عندَ اللهِ مِنَ الثَّوابِ؛ قال: أفَبَعْدَ هذا التَّفاوُتِ الظَّاهرِ يُسوى بيْنَ أبناءِ الآخرةِ وأبناءِ الدُّنيا [781] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/317). ؟!
وأيضًا لَمَّا أنبأهمُ اللهُ بأنَّ ما هم فيه مِنَ التَّرَفِ إنْ هو إلَّا مَتاعٌ قليلٌ، قابَلَ ذلك بالنَّعيمِ الفائقِ الخالدِ الَّذي أعَدَّ للمُؤمِنينَ [782] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/154). .
أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ.
أي: أفمَنْ وعَدْناه على طاعتِه إيَّانا الجنَّةَ، فآمَنَ بما وعَدْناه وأطاعَنا، فهو لاقٍ ما وُعِدَ، وصائِرٌ إلى ثَوابِ اللهِ في الآخرةِ لا مَحالةَ [783] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/293)، ((تفسير ابن كثير)) (6/249)، ((تفسير السعدي)) (ص: 621). .
كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ.
أي: كمَن هو كافرٌ مُكَذِّبٌ بلِقاءِ اللهِ ووَعْدِه ووَعيدِه، مُؤْثِرٌ اللَّذَّةَ العاجِلةَ على الآجِلةِ، فهو مُمَتَّعٌ في الحياةِ الدُّنيا فحَسْبُ، ثمَّ هو يومَ القيامةِ إذا ورَدَ على اللهِ مِنَ المُحضَرينَ للجَزاءِ [784] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/293)، ((تفسير القرطبي)) (13/302)، ((تفسير ابن كثير)) (6/249)، ((تفسير السعدي)) (ص: 622)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/155). ؟!
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ثَبَتَ أنَّ الكُفَّارَ يومَ القيامةِ قد عَرَفوا بُطْلانَ ما كانوا عليه، وعَرَفوا صِحَّةَ التَّوحيدِ والنُّبوَّةِ بالضَّرورةِ؛ قال لهم: أينَ ما كنتُم تَعبُدونَه وتَجعَلونَه شَريكًا في العبادةِ، وتَزعُمونَ أنَّه يَشفَعُ؟ أين هو لِيَنصُرَكم ويُخَلِّصَكم مِن هذا الَّذي نزَلَ بكم [785] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/9). ؟
وأيضًا لَمَّا ذَكَرَ أنَّ المُمَتَّعينَ في الدُّنيا يُحضَرونَ إلى النَّارِ؛ ذَكَرَ شَيئًا مِن أحوالِ يومِ القيامةِ [786] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/318). .
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62).
أي: واذكُرْ يومَ يُنادي اللهُ المُشرِكينَ فيَقولُ لهم يومَ القيامةِ: أين شُرَكائيَ الَّذين كُنتُم في الدُّنيا تَزعُمونَ أنَّهم شُرَكاءُ لي في العبادةِ، وأنَّهم يَنفَعونَكم ويَنصُرونَكم ويَشفَعونَ لكم [787] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/295)، ((تفسير ابن عطية)) (4/297)، ((تفسير القرطبي)) (13/303)، ((تفسير ابن كثير)) (6/249، 250)، ((تفسير السعدي)) (ص: 622)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/156). ؟
كما قال تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام: 94] .
قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63).
قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا.
أي: قال الَّذين وجَبَ عليهم عذابُ اللهِ وغَضَبُه مِنَ الدُّعاةِ إلى الكُفرِ والضَّلالِ: يا ربَّنا، هؤلاءِ التَّابِعونَ لنا الَّذينَ دعَوْناهم إلى الباطِلِ فأطاعونا، أضْلَلْناهم مِثلَما كنَّا ضالِّينَ [788] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/295)، ((تفسير القرطبي)) (13/303)، ((تفسير ابن كثير)) (6/250)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/334)، ((تفسير السعدي)) (ص: 622). قال ابنُ الجوزي: (قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أي: وجَبَ عليهم العذابُ، وهم رُؤساءُ الضَّلالةِ، وفيهم قَولانِ؛ أحدُهما: أنَّهم رُؤوسُ المشركين، والثَّاني: أنَّهم الشياطين). ((تفسير ابن الجوزي)) (3/390). .
تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ.
أي: تبَرَّأْنا إليك مِنَ الَّذينَ أطاعونا وممَّا اختارُوه مِنَ الكُفرِ؛ هَوًى منهم للباطِلِ، ومَقْتًا للحَقِّ، فما كانوا في الدُّنيا يَعبُدونَنا، إنَّما كانوا يَتَّبِعونَ أهواءَهم وشَهَواتِهم [789] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/296)، ((تفسير الزمخشري)) (3/426)، ((تفسير ابن كثير)) (6/250)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/334، 335)، ((تفسير السعدي)) (ص: 622). .
كما قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة: 165 - 167] .
وقال سُبحانَه: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [مريم: 81، 82].
وقال عزَّ وجلَّ: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف: 6].
وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64).
وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ.
أي: وقيلَ للمُشرِكينَ: ادعُوا الَّذينَ كُنتُم تَعبدونَهم في الدُّنيا، وتَزعُمونَ أنَّهم شُرَكاءُ لله؛ لِيَنفعوكم ويَنصُروكم [790] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/296)، ((تفسير القرطبي)) (13/304)، ((تفسير ابن كثير)) (6/250)، ((تفسير السعدي)) (ص: 622). .
فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ .
أي: فدعاهم المُشِركونَ فلمْ يُجيبوهم، ولم يَنفَعوهم بشَيءٍ [791] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/296)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 823)، ((تفسير القرطبي)) (13/304)، ((تفسير السعدي)) (ص: 622). قال ابنُ تيميَّةَ: (وأمَّا قَولُه: وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فهذا دعاءُ المسألةِ، يُبَكِّتُهم اللهُ ويُخزيهم يومَ القيامةِ، بإرائِهم أنَّ شُرَكاءَهم لا يَستجيبونَ لهم دَعوَتَهم، وليس المرادُ: اعبُدوهم. وهو نظيرُ قَولِه تعالى: وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا [الكهف: 52] ). ((مجموع الفتاوى)) (15/15). .
وَرَأَوُا الْعَذَابَ.
أي: ورأى المُشرِكونَ بأعيُنِهم -التَّابِعُ منهم والمَتبوعُ- العذابَ الَّذي سيَحُلُّ بهم [792] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/296)، ((تفسير ابن كثير)) (6/250)، ((تفسير الشوكاني)) (4/210)، ((تفسير السعدي)) (ص: 622). .
كما قال تعالى: وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا * وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا [الكهف: 52، 53].
لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ.
أي: لو أنَّ المُشرِكينَ كانوا في الدُّنيا مُهتَدينَ للحَقِّ؛ لَمَا اتَّبَعوا شُرَكاءَ مِن دونِ اللهِ، ولَمَا رأَوُا العَذابَ في الآخرةِ [793] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/296)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/151)، ((تفسير ابن كثير)) (6/250). .
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أشار إلى أنَّه لا خَلاصَ مِن ذلك الرَّدَى إلَّا بالهُدى؛ أتْبَعَه الإعلامَ بأنَّه لا يُمكِنُ أحدًا هناك أن يَفعَلَ ما قد يَروجُ على سائلِه، كما يُفعَلُ في هذه الدَّارِ مِن إظهارِ ما لم يكُنْ، فقال مُكرِّرًا لتَهويلِ ذلك اليَومِ وتبشيعِه، وتعظيمِه وتفظيعِه، سائلًا عن حقِّ رُسلِه عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ بعْدَ السُّؤالِ عن حقِّه سُبحانَه، مُناديًا بعَجزِ الشُّرَكاءِ في الأُخرَى كما كانوا عاجِزينَ في الأُولى [794] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/336). :
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65).
أي: واذكُرْ يومَ يُنادي اللهُ المُشرِكينَ يومَ القيامةِ، فيَقولُ لهم: ماذا أجَبْتُمُ المُرسَلينَ الَّذين أرسَلْتُهم إليكم؟ هل آمَنْتُم بهم واتَّبَعْتُموهم، أو كفَرْتُم بهم وكذَّبْتُموهم ولم تُطيعوهم [795] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/296)، ((تفسير القرطبي)) (13/304)، ((تفسير ابن كثير)) (6/250)، ((تفسير الشوكاني)) (4/210)، ((تفسير السعدي)) (ص: 622). ؟
كما قال تعالى: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ [الأعراف: 6].
فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66).
فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ.
أي: فخَفِيَت الحُجَجُ على المُشرِكينَ يومَ القيامةِ، ولم يَهتَدوا إلى جوابٍ صَحيحٍ حينَ يَسألُهم اللهُ عن حالِهم في الدُّنيا مع الرُّسلِ، فيَسكُتون حَيارَى لا يَقدِرونَ على الإجابةِ بشَيءٍ [796] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/296)، ((تفسير القرطبي)) (13/304)، ((تفسير ابن كثير)) (6/250)، ((تفسير السعدي)) (ص: 622)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/162). .
فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ.
أي: فلا يَسألونَ أحدًا عمَّا يُجيبونَ به اللهَ فيما سألَهم عنه [797] يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (3/405)، ((تفسير القرطبي)) (13/304)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/338)، ((تفسير السعدي)) (ص: 622)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/163)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 296). قال القاسمي: (فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ أي: لا يَسألُ بعضُهم بعضًا عن الجوابِ؛ لِفَرْطِ الدَّهشةِ، أو لعِلمِه بأنَّه مِثلُه في العجزِ عن الجَوابِ، أو لعَجزِهم عن النُّطقِ، وكَوْنِهم مَختومًا على أفواهِهم). ((تفسير القاسمي)) (7/531). وقال ابنُ جرير: (وقولُه: فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ قيل: فهم لا يَتساءَلونَ بالأنسابِ والقرابةِ... وقيلَ: معنَى ذلك: فعَمِيَتْ عليهم الحُجَجُ يومئذٍ، فسَكَتوا، فهم لا يَتساءَلونَ في حالِ سُكوتِهم). ((تفسير ابن جرير)) (18/297). .
فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا عُلِمَ حالُ مَن أصَرَّ على كُفْرِه وعَمِلَ سَيِّئًا بطَريقِ العِبارةِ، وأُشيرَ إلى حالِ مَن تاب فوُعِدَ الوعدَ الحسَنَ بألطَفِ إشارةٍ؛ تَسَبَّبَ عن ذلك: التشَوُّفُ إلى التَّصريحِ بحالِهم [798] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/338). .
وأيضًا لَمَّا بَيَّنَ سُبحانَه حالَ المعَذَّبينَ مِن الكفَّارِ، وما يَجري عليهم مِنَ التَّوبيخِ؛ أَتْبَعَه بذِكْرِ مَن يَتوبُ منهم في الدُّنيا؛ ترغيبًا في التَّوبةِ، وزجرًا عن الثَّباتِ على الكفرِ، فقال [799] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/10). :
فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67).
أي: فأمَّا مَن تاب مِنَ الشِّركِ، وآمَنَ باللهِ ورُسُلِه، وعَمِلَ عَمَلًا صالِحًا بإخلاصٍ لله تعالى ومُتابَعةٍ لِشَرعِه؛ فإنَّه يكونُ في الآخرةِ مِنَ الفائِزينَ النَّاجينَ مِن العَذابِ، الخالدينَ في الجنَّةِ [800] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/298)، ((تفسير القرطبي)) (13/304)، ((تفسير ابن كثير)) (6/250، 251)، ((تفسير السعدي)) (ص: 622)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 297-299). .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- قال الله تعالى: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ هذا حَضٌّ مِن اللهِ لعِبادِه على الزُّهدِ في الدُّنيا، وعَدَمِ الاغتِرارِ بها، وعلى الرَّغبةِ في الأُخرَى، وجَعْلِها مَقصودَ العَبدِ ومَطلوبَه، ويُخبِرُهم أنَّ جميعَ ما أُوتِيَه الخَلقُ مِنَ الذَّهَبِ والفِضَّةِ، والحيواناتِ والأمتعةِ، والنِّساءِ والبَنينَ، والمآكِلِ والمشارِبِ واللَّذَّاتِ: كُلُّها متاعُ الحياةِ الدُّنيا وزينتُها، أي: يُتمتَّعُ به وقتًا قَصيرًا مَتاعًا قاصِرًا محشوًّا بالمنَغِّصاتِ، ممزوجًا بالغُصَصِ. ويُزَيَّنُ به زمانًا يسيرًا للفَخرِ والرِّياءِ، ثمَّ يزولُ ذلك سريعًا، وينقضي جميعًا، ولم يَستَفِدْ صاحِبُه منه إلَّا الحسرةَ والنَّدمَ، والخَيبةَ والحرمانَ [801] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 621). !
2- قولُه تعالى: وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ أي: أفلا يكونُ لكم عقولٌ، بها تَزِنونَ أيُّ الأمورِ أَوْلَى بالإيثارِ، وأيُّ الدَّارَينِ أحَقُّ للعملِ لها؟ فدَلَّ ذلك أنَّه بحَسَبِ عَقْلِ العبدِ فإنَّه يُؤْثِرُ الأُخرَى على الدُّنيا، وأنَّه ما آثَرَ أحَدٌ الدُّنيا إلَّا لِنَقصٍ في عقْلِه؛ ولهذا نبَّه العُقولَ على الموازَنةِ بيْنَ عاقبةِ مُؤْثِرِ الدُّنيا ومُؤثِرِ الآخِرةِ، فقال: أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ [802] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 621). .
3- طالبُ العلمِ يجبُ عليه أنْ يَتلقَّى المسائلَ بدَلائلِها، وهذا هو الَّذي يُنجيه عندَ الله سُبحانَه وتعالى؛ لأنَّ اللهَ سيَقولُ له يومَ القيامةِ: مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ؟ ولن يقولَ: «ماذا أجبتُم المؤلِّفَ الفُلانيَّ»! فإذَنْ لا بُدَّ أنْ نعرِفَ ماذا قالتِ الرُّسلُ لِنَعمَلَ به، ولكنَّ التَّقليدَ عندَ الضَّرورةِ جائزٌ؛ لقولِه تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [النحل: 43] ، فإذا كُنَّا لا نستطيعُ أن نعرِفَ الحقَّ بدليلِه فلا بُدَّ أن نسألَ [803] يُنظر: ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (1/16). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- قال تعالى: وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ أمَّا أنَّه خيرٌ؛ فلِوَجهَينِ؛ أحدِهما: أنَّ المنافعَ هناك أعظَمُ، وثانيهما: أنَّها خالِصةٌ عن الشوائبِ؛ ومنافعُ الدُّنيا مَشوبةٌ بالمَضارِّ؛ بل المَضارُّ فيها أكثرُ.
 وأمَّا أنَّها أبقَى فلِأنَّها دائمةٌ غيرُ مُنقطِعةٍ، ومَنافِعُ الدُّنيا منقطعةٌ، ومتى قُوبِلَ المُتناهي بغيرِ المتناهي كان عدمًا؛ فكيف ونصيبُ كلِّ أحدٍ -بالقياسِ إلى منافعِ الدُّنيا كلِّها- كالذَّرَّةِ بالقياسِ إلى البحرِ؟! فظَهَر مِن هذا أنَّ منافعَ الدُّنيا لا نِسبةَ لها إلى مَنافعِ الآخرةِ الْبَتَّةَ، فكان مِن الجهلِ العظيمِ ترْكُ منافعِ الآخرةِ لاسْتِبقاءِ منافعِ الدُّنيا [804] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/8). .
2- في قَولِه تعالى: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ، وقولِه تعالى: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ إثباتُ صِفةِ الكلامِ له سُبحانَه مِن وجهَينِ: النِّداءِ والقَولِ، وهذه الآياتُ -الَّتي فيها إثباتُ كلامِه سُبحانَه- تدُلُّ بمجموعِها على أنَّ اللهَ يَتكلَّمُ بكلامٍ حقيقيٍّ، متى شاءَ، بما شاءَ، بحرفٍ وصَوتٍ مسموعٍ، لا يُماثِلُ أصواتَ المخلوقينَ [805] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 294)، ((شرح العقيدة الواسطية)) لابن عثيمين (1/423). .
3- قولُه تعالى: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ وقولُه: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ: النِّداءُ الأوَّلُ عن سؤالِ التَّوحيدِ، والثَّاني فيه إثباتُ النُّبوَّاتِ [806] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/250). ، فالنَّاسُ يُسألونَ عن إيمانِهم بالرُّسلِ، كما يُسألونَ عن التَّوحيدِ [807] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 294). .
4- في قَولِه تعالى: فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ أنَّه لا يُغني أحَدٌ عن أحدٍ يومَ القيامةِ، ولا يُنقِذُه ممَّا وَقَع فيه [808] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 295). .
5- في قَولِه تعالى: فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ فضيلةُ هذه الأوصافِ الثَّلاثةِ: التَّوبةِ، والإيمانِ، والعملِ الصَّالحِ، وأنَّها سببٌ للفلاحِ [809] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 299). .
6- في قَولِه تعالى: وَعَمِلَ صَالِحًا أنَّ العملَ لا يَنفعُ إلَّا إذا كان صالِحًا، وهو ما جَمَعَ شَرطينِ؛ هما: الإخلاصُ، والمتابعةُ للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ [810] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 299). .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قولُه تعالى: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ
- قولُه: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ ... فيه الْتِفاتٌ مِنَ الغَيبةِ في قَولِه: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا [القصص: 57] إلى الخِطابِ بقولِه: أُوتِيتُمْ؛ لأنَّ ما تَقدَّمَ مِنَ الكلامِ أَوْجَب تَوجيهَ التَّوبيخِ مُواجَهةً إليهم [811] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/154). .
- وفي قَولِه: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا مُناسَبةٌ حسَنةٌ؛ حيثُ قالَه هنا بالواوِ وَمَا أُوتِيتُمْ، وفي سُورةِ (الشُّورَى) قال: فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الشورى: 36] بالفاءِ؛ لأنَّ ما هنا لم يَتَعَلَّقْ بما قبْلَه كبيرَ تعلُّقٍ، فناسَبَ الإتيانُ به بالواوِ المُقْتَضِيةِ لمُطْلَقِ الجَمْعِ، وما هناك مُتعلِّقٌ بما قبْلَه أشَدَّ تعلُّقٍ؛ لأنَّه عَقَّبَ ما لهم مِنَ المَخافَةِ بما لهم مِنَ الأمَنَةِ، فناسَبَ الإتيانُ به بالفاءِ المُقْتَضِيةِ للتَّعقيبِ [812] يُنظر: ((أسرار التكرار)) للكرماني (ص: 196)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (1/356)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 432). .
- وأيضًا قولُه: فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا قالَهُ هنا بزيادةِ: وَزِينَتُهَا، وفي (الشُّورَى) بحَذْفِه؛ لأنَّ ما هنا -لسَبْقِهِ- قُصِدَ فيه ذِكْرُ جميعِ ما بُسِطَ مِنْ رِزْقِ أعْراضِ الدُّنيا، فذَكَرَ وَزِينَتُهَا مع المَتاعِ؛ لِيَسْتَوْعِبَ جميعَ ذلك؛ إذِ المتاعُ ما لا بُدَّ منه في الحياةِ؛ مِنْ مَأكولٍ، ومَشْروبٍ، ومَلْبُوسٍ، ومَسْكَنٍ، ومَنْكُوحٍ، والزِّينةُ ما يَتجَمَّلُ به الإنسانُ وقد يُسْتَغنى عنه؛ كالثِّيابِ الفاخرةِ، والمراكبِ الرَّائقةِ، والدُّورِ المجصَّصةِ، والأطعمةِ الملبَّقةِ (اللَّيِّنةِ)، وحذَفَه في (الشُّورى) اختِصارًا، أو لأنه لم يُقصَدِ الاستيعابُ، بلْ ما هو مطلوبُهم في تلك الحالةِ مِن النَّجاةِ والأمْنِ في الحياةِ، فلم يُحْتَجْ إلى ذِكْرِ الزِّينةِ [813] يُنظر: ((أسرار التكرار)) للكرماني (ص: 196)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (1/356، 357)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 432). .
- وقيل: إنَّ سُورةَ (القصصِ) تضمَّنت ذِكْرَ قارونَ وما أُوتِيَه مِن المالِ الَّذي هو زِينةُ الحياةِ الدُّنيا، قال تعالى: وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ [القصص: 76] ، ثمَّ أخبَرَ تعالى عن زَهْوِه واختيالِه بمالِه وظَنِّه استِحقاقَه إيَّاه، قال تعالى: فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ [القصص: 79] ، حتَّى قال مَن غفَلَ عن آخرتِه ولم يَعلَمْ ما أعدَّ اللهُ فيها للمؤمنينَ: يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ [القصص: 79] ، فقدَّم سُبحانَه للمُعتبِرينَ مِن عِبادِه المؤمنينَ، وتنبيهًا للغافِلينَ؛ لتَحصُلَ السَّلامةُ للسُّعداءِ ممَّن عصَمَ بما ابْتَلى به قارونَ؛ فقال تعالى: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ -أي: للمؤمنينَ- خَيْرٌ وَأَبْقَى [القصص: 60] ، وقد أخبَرَهم سُبحانَه في موضعٍ آخَرَ أنَّ الدُّنيا وحياتَها غُرورٌ، وأخبَرَهم أنَّ الآخرةَ هي دارُ القرارِ، وبعْدَ تَحذيرِ المؤمنينَ ورَدَت قِصَّةُ قارونَ، فالتَحمَتِ الآيةُ بتلك القِصَّةِ، وقيلَ هنا: وَزِينَتُهَا، كما قيل في تلك: فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ [القصص: 79] ، ومَنِ الَّذي يَعدِلُ عمَّا عندَ اللهِ سُبحانَه إلى ما جعَلَه تعالى سببًا لإهلاكِ المشركينَ؟! فتناسَبَ هذا كلُّه وتلاءَمَ.
ولم يقَعْ في آيةِ (الشُّورى) ذِكْرُ (وزِينتُها)؛ إذ لم يَرِدْ فيها ما ورَدَ هنا ممَّا اسْتَدعَى هذه المناسبةَ، ولم يَرِدْ في سُورةِ (الشُّورى) مِن أوَّلِها إلى آخِرِها ذِكْرُ بسْطِ حالٍ دُنياويٍّ لأحدٍ، بلْ تضمَّنَت حقارةَ الدُّنيا ونَزارةَ رِزْقِها، وأنَّه مَقْدورٌ غيرُ مبسوطٍ، وتلك حالُ الأكثرِ، فقال تعالى: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ [الشورى: 27] ، وقال عندَ ذِكرِ مَنِ اختارَ الدُّنيا ومالَ إليها: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا [الشورى: 20] ، فقال: مِنْهَا بأداةِ التَّبعيضِ، فلم يقَعْ في هذه السُّورةِ ما يَسْتدعي ذِكْرَ الزِّينةِ الماليَّةِ؛ فلذلك لم تُذْكَرْ، واللهُ أعلَمُ [814] يُنظر: ((ملاك التأويل)) للغرناطي (2/384، 385). .
- وأيضًا عُقِّبَت الآيةُ هنا بقولِه: أَفَلَا تَعْقِلُونَ [القصص: 60] ، وفي سُورةِ (الشُّورى) بقولِه: لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الشورى: 36] ؛ وذلك لأنَّ قولَه تعالى في آيةِ (القصصِ): أَفَلَا تَعْقِلُونَ مُلتحِمٌ أوضحَ الْتِحامٍ بما اتَّصلَ به مِن قولِه: أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ [القصص: 61] ، فكأنْ قد قِيل بعْدَ قولِه: وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى [القصص: 60] ، وكأنْ قد قيل: أفلَا تعقِلون ما بيْنَ الأمْرَينِ؟! ثمَّ أخبَرَ بقولِه: أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ في العذابِ الذي لا آخِرَ له، فقولُه: أَفَلَا تَعْقِلُونَ مِن تَمامِ ما قبْلَه، وذلك بَيِّنُ التَّناسُبِ.
ولَمَّا ورَدَ قبْلَ آيةِ (الشُّورى): وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى: 7] ، وقولُه: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا إلى قولِه: فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ [الشورى: 13 - 15] ، وقولُه: أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ [الشورى: 18] ، وقولُه: تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ [الشورى: 22] ، وقولُه: وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ [الشورى: 31] ؛ ناسبَ هذا المتقدِّمَ مِن التَّخويفِ ما يُنبِّئُ المؤمنينَ المستجيبِينَ بأصنافِ قولِه: وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى؛ فقولُه تعالى: لِلَّذِينَ آَمَنُوا [الشورى: 36] أي: بكلِّ هذا، وبما يجِبُ الإيمانُ به، وعَلِمُوا انفرادَه سُبحانَه بالخلْقِ والأمْرِ، فتوكَّلوا عليه؛ فأُعْقِبَت كلُّ آيةٍ منها بما يُناسِبُها، وورَدَتْ على ما يجِبُ، واللهُ أعلَمُ [815] يُنظر: ((ملاك التأويل)) للغرناطي (2/385، 386). .
- قولُه: أَفَلَا تَعْقِلُونَ استِفْهامٌ تَوْبيخيٌّ وتَقْريريٌّ على عدَمِ عَقْلِ المُخاطَبينَ، تَفرَّعَ على الخبَرِ السَّابقِ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى؛ لأنَّهم لَمَّا لم يَسْتَدِلُّوا بعُقولِهم على طريقِ الخَيرِ نُزِّلُوا مَنزِلةَ مَنْ أفْسَدَ عَقْلَه، فسُئِلُوا: أهُمْ كذَلكَ [816] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/154). ؟
- وقُرِئَ قولُه: أَفَلَا تَعْقِلُونَ: (أَفَلَا يَعْقِلُونَ) بِيَاءِ الغَيْبةِ [817] يُنظر: ((النشر في القراءات العشر)) لابن الجزري (2/342)، ((إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربعة عشر)) للبناء (ص: 437). على الالْتِفاتِ عن خِطابِهم؛ لِتَعَجُّبِ المُؤمنينَ مِنْ حالِهم، وقيلَ: لأنَّهم لَمَّا كانوا لا يَعْقِلونَ نُزِّلوا مَنزلةَ الغائبِ؛ لبُعْدِهم عن مَقامِ الخِطابِ [818] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/425)، ((تفسير البيضاوي)) (4/182)، ((تفسير أبي حيان)) (8/317)، ((تفسير أبي السعود)) (7/20)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/154). .
2- قولُه تعالى: أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ هذِه الآيةُ كالنَّتيجةِ للَّتي قَبْلَها؛ ولذلكَ رُتِّبَتْ عليها بالفاءِ، وهي أيضًا تقريرٌ وإيضاحٌ للَّتي قَبْلَها؛ أمَّا كَونُها تقريرًا فإنَّه ضَرَب المَعْنَيينِ -وَمَا أُوتِيتُمْ، وَمَا عِنْدَ اللَّهِ- مَثَلًا في هذه الآيةِ، وأخْرَجَهما مُخْرَجَ المُشَبَّهِ والمُشَبَّهِ به، وأدْخَلَ همزةَ الإنكارِ على فاءِ التَّعْقيبِ العاطفةِ لهذه الجملةِ على الأُولَى: أَفَمَنْ، فموقِعُ هذه الفاءِ أنَّه قد ذَكَر في الآيةِ الَّتي قبْلَها مَتاعَ الحياةِ الدُّنيا وما عِنْدَ اللهِ وتَفاوُتَهما، ثمَّ عقَّبَه بقولِه: أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ ... على معنى: أبَعْدَ هذا التَّفاوُتِ الظَّاهِرِ يُسوَّى بيْنَ أبناءِ الآخِرَةِ وأبناءِ الدُّنيا؟! فهو تَرْتيبُ إنكارِ التَّشابُهِ بينَ أهلِ الدُّنيا وأهلِ الآخرةِ على ما قَبْلَها مِنْ ظُهورِ التَّفاوُتِ بيْنَ مَتاعِ الحياةِ الدُّنيا وبينَ ما عِنْدَ اللهِ تعالى.
وأمَّا البَيانُ فإنَّهُ تعالى ذَكَر أنَّ ما أُوتُوا مِنْ شيءٍ فهو تمتُّعٌ وزينةٌ أيامًا قَلائلَ، ولم يُبَيِّنْ في تلكَ الآيةِ مآلَها وسُوءَ مغَبَّتِها؛ فبَيَّنَ في هذِه الآيةِ أنَّ المَآلَ أنَّهم يَحْضُرونَ النَّارَ، وذَكَر فيها أنَّ ما عِنْدَ اللهِ خيرٌ وأبْقى، ولم يُبَيِّنِ العاقِبةَ فيه؛ فبَيَّنَ في هذِه أنَّ المَوْعودَ الجنَّةُ [819] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/425)، ((تفسير البيضاوي)) (4/182)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/87، 88)، ((تفسير أبي حيان)) (8/317)، ((تفسير أبي السعود)) (7/21). ؛ فمَوْقِعُ فاءِ التَّفْريعِ هنا: أنَّ ممَّا أَوْمَأَ إليه قولُه: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [القصص: 60] ما كان المُشركونَ يَتَبَجَّحُونَ به على المُسلمينَ مِنْ وَفْرةِ الأموالِ ونَعيمِ التَّرَفِ، في حينِ كان مُعظَمُ المُسلمينَ فُقراءَ ضُعَفاءَ؛ فيَظْهَرُ مِنْ آياتِ القُرآنِ أنَّ المُشركينَ كان مِن دأْبِهمُ التَّفاخُرُ بما هم فيه مِنَ النِّعمةِ، وهي تُفيدُ مع ذلكَ تحقيقَ مَعنى الجملةِ الَّتي قبْلَها؛ لأنَّ الثانيةَ زادَتِ الأُولى بَيانًا بأنَّ ما أُوتُوهُ زائِلٌ زَوالًا مُعَوَّضًا بضِدِّ المتاعِ والزِّينةِ، وذلكَ قولُه: ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ [820] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/154، 155). .
- والاستِفْهامُ في قَولِه: أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ مُستعمَلٌ في إنكارِ المُشابَهةِ والمُماثَلةِ الَّتي أفادَها كافُ التَّشْبِيهِ؛ فالمَعنى: أنَّ الفريقَينِ ليسُوا سواءً؛ إذْ لا يَستَوي أهلُ نعيمٍ عاجلٍ زائلٍ، وأهلُ نعيمٍ آجِلٍ خالدٍ [821] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/155). .
- وجملةُ فَهُوَ لَاقِيهِ مُعتَرِضةٌ؛ لِبَيانِ أنَّه وعْدٌ مُحقَّقٌ، وقولُه: فَهُوَ لَاقِيهِ أيْ: مُدْرِكُه لا مَحالةَ لامْتِناعِ الخُلْفِ في وَعْدِه تعالى؛ جِيءَ بالجُملةِ الاسْمِيَّةِ المُفيدةِ لتحقُّقِه الْبَتَّةَ، وعُطِفَتْ بالفاءِ المُنْبِئةِ عن مَعنى السَّبَبِيَّةِ؛ لأنَّ لِقاءَ المَوْعودِ مُسَبَّبٌ عن الوَعْدِ الَّذي هو الضَّمانُ في الخيرِ [822] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/182)، ((تفسير أبي السعود)) (7/21)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/155). .
- وجُملةُ   ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ عَطْفٌ على جُملةِ: مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا؛ فهِيَ مِن تَمامِ صِلَةِ المَوصولِ، داخلٌ معه في حَيِّزِ الصِّلةِ، مُؤكِّدٌ لإنكارِ التَّشابُهِ، ومُقرِّرٌ له؛ كأنَّه قِيلَ: كمَنْ متَّعْناهُ مَتاعَ الحياةِ الدُّنْيا، ثم نُحْضِرُه أو أحْضَرْناه يومَ القيامةِ النَّارَ أوِ العذابَ. وإيثارُ الجُملةِ الاسْمِيَّةِ؛ للدَّلالةِ على التَّحقُّقِ حَتْمًا. وفي جَعْلِه مِن جُملةِ المُحْضَرينَ مِن التَّهويلِ ما لا يَخْفى [823] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/21). .
- و(ثُمَّ) قيلَ: للتَّراخي في الزَّمانِ، وقيلَ: للتَّراخي الرُّتَبي؛ لبيانِ أنَّ رُتبةَ مَضْمُونِها في الخَسارةِ أعظَمُ مِن مضمونِ الَّتي قبْلَها، أيْ: لم تَقْتَصِرْ خَسارتُهم على حِرْمانِهم مِن نعيمِ الآخرةِ، بل تَجاوَزَتْ إلى التَّعويضِ بالعَذابِ الأليمِ؛ فـ (ثُمَّ) لتَراخي حالِ الإحْضارِ عن حالِ التَّمْتيعِ، لا لِتَراخِي وقتِه عن وقتِه؛ وذلك لأنَّه أبلَغُ وأكثرُ إفادةً؛ لأنَّ تأخُّرَ زمانِ الإحْضارِ عن زمانِ التَّمْتيعِ ظاهرٌ بَيِّنٌ، لا يَحتاجُ إلى التَّنْبيهِ عليه [824] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/425)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/88)، ((تفسير أبي حيان)) (8/317)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/155). .
- قولُه: مِنَ الْمُحْضَرِينَ أيْ: مِنَ المُحْضَرينَ للجَزاءِ؛ على ما دَلَّ عليه التَّوبيخُ في أَفَلَا تَعْقِلُونَ [القصص: 60] ، والمُقابَلةُ في قَولِه: أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا ... المُقْتَضِيةُ أنَّ الفريقَ المُعَيَّنَ مَوْعُودونَ بضِدِّ الحَسَنِ؛ فحُذِف مُتعلَّقُ المُحْضَرينَ اختِصارًا [825] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/155). .
3- قولُه تعالى: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ تَخلُّصٌ مِن إثباتِ بَعثةِ الرُّسُلِ وبَعْثةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى إبْطالِ الشُّركاءِ للهِ؛ فالجملةُ مَعطوفةٌ على جُملةِ: أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا [القصص: 61] ، مُفيدةٌ سببَ كَونِهم مِنَ المُحْضَرينَ، أيْ: لأنَّهم اتَّخَذُوا مِن دونِ اللهِ شُركاءَ، وزَعَموا أنَّهم يَشْفَعُونَ لهم، فإذا هم لا يَجِدونَهم يومَ يُحضَرونَ للعذابِ، فيَجوزُ أنْ يكونَ مَبدأُ الجُملةِ قولَه: يُنَادِيهِمْ، فيَكونَ عَطْفًا على جُملةِ: ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ [القصص: 61] ، أيْ: يُحْضَرونَ ويُنادِيهم فيقولُ: أينَ شُركائي... إلخ، ويَجوزُ جَعْلُ مَبدأِ الجُملةِ قولَه: (يَوْمَ يُنَادِيهِمْ)، وجَعْلُه عَطْفَ مُفرداتٍ؛ فيَكونُ (يَوْمَ يُنَادِيهِمْ) عَطْفًا على يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ [القصص: 61] ؛ فيَكونُ (يَوْمَ يُنَادِيهِمْ) عَيْنَ يومِ القيامةِ، وكان حقُّه أنْ يأتيَ بدَلًا مِن يومِ القيامةِ، لكنَّه عدَلَ عن الإبْدالِ إلى العَطْفِ؛ لاخْتِلافِ حالِ ذلكَ اليومِ باخْتِلافِ العُنوانِ، فنُزِّلَ مَنزِلةَ يومٍ مُغايِرٍ؛ زيادةً في تَهْويلِ ذلكَ اليومِ.
ويَجُوزُ جَعْلُ (يَوْمَ يُنَادِيهِمْ) مَنصوبًا بفِعْلٍ مُقَدَّرٍ بعْدَ واوِ العطفِ بتَقْديرِ: (اذْكُرْ)، أو بتَقْديرِ فِعْلٍ دَلَّ عليه مَعنى النِّداءِ. واستِفْهامُ التَّوبيخِ مِن حُصُولِ أمْرٍ فَظيعٍ، تقْديرُه: يومَ يُنادِيهمْ يكونُ ما لا يُوصَفُ مِن الرُّعْبِ [826] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/156). .
- قولُه: أَيْنَ شُرَكَائِيَ الاستِفْهامُ بكلمةِ (أينَ) ظاهِرُه استِفْهامٌ عنِ المكانِ الَّذي يُوجَدُ فيه الشُّركاءُ، ولكنَّه مُستَعْمَلٌ كنايةً عن انْتِفاءِ وُجودِ الشُّركاءِ المَزْعومينَ يَومَئذٍ، فالاستِفْهامُ مُستَعْمَلٌ في الانْتِفاءِ [827] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/156). ، وقال: شُرَكَائِيَ بِناءً على زَعْمِهم، وفيه تهكُّمٌ بهم [828] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (3/425). .
- ومَفْعولَا تَزْعُمُونَ مَحْذُوفانِ؛ دَلَّ عليهما شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ، أيْ: تَزْعُمونَهم شُركائِيَ، وهذا الحَذْفُ اختِصارٌ؛ لدَلالةِ الكَلامِ عليهما [829] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/426)، ((تفسير البيضاوي)) (4/182)، ((تفسير أبي حيان)) (8/318)، ((تفسير أبي السعود)) (7/21)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/156). .
4- قولُه تعالى: قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ
- جُرِّدَتْ جُملةُ قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ عن حَرْفِ العَطْفِ؛ لأنَّها وَقَعَتْ في مَوقِعِ المُحاوَرةِ؛ فهي جوابٌ عن قولِه تعالى: أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [القصص: 62] [830] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/157). .
- وقيلَ: إنَّ قولَه: قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ استِئْنافٌ مَبنيٌّ على حكايةِ السُّؤالِ؛ كأنَّه قيلَ: فمَاذَا صدَرَ عنهُم حينَئذٍ؟ فقيلَ: قالَ... [831] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/21). .
- قولُه: قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ وهمْ شُركاؤُهم مِنَ الشَّياطينِ، أو رُؤَساؤُهمُ الَّذينَ اتَّخذُوهمْ أربابًا مِن دُونِ اللهِ تعالى، وتَخْصيصُهم بهذا الحُكْم -مع شُمولِه للأتْباعِ أيضًا- لأصالَتِهم في الكُفرِ واستِحْقاقِ العذابِ، ومُسارَعَتُهم إلى الجوابِ مع كَوْنِ السُّؤالِ للعَبَدَةِ؛ إمَّا لِتَفَطُّنِهم أنَّ السُّؤالَ عنهم لاستِحْضارِهم وتَوْبيخِهم بالإضْلالِ، وجَزْمِهم بأنَّ العَبَدَةَ سيَقولونَ: هؤلاءِ أضَلُّونا، وإمَّا لأنَّ العَبَدَةَ قد قالُوه اعتِذارًا، وهؤلاءِ إنَّما قالوا ما قالوا ردًّا لقولِهم، إلَّا أنَّه لم يُحْكَ قولُ العَبَدَةِ إيجازًا؛ لِظُهورِه [832] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/21). .
- وفي قَولِهم: رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا ابتَدَؤُوا جَوابَهم بتَوْجيهِ النِّداءِ إلى اللهِ بعُنوانِ أنَّه ربُّهم؛ نداءً أُريدَ منه الاستِعطافُ بأنَّه الَّذي خلَقَهم؛ اعترافًا منهم بالعُبوديَّةِ، وتَمْهيدًا للتَّنصُّلِ مِن أنْ يَكُونوا هُمُ المُخْتَرِعينَ لدِينِ الشِّرْكِ؛ فإنَّهم إنَّما تَلَقَّوْه عن غيرِهم مِن سَلَفِهم، والإشارةُ بـ (هؤلاءِ) إلى بقيَّةِ المُنادَينَ معهم؛ قَصْدًا لأنْ يَتَمَيَّزوا عمَّنْ سِواهُمْ مِن أهلِ المَوقِفِ، وذلكَ بإلهامٍ مِنَ اللهِ؛ ليَزْدادوا رُعبًا، وأن يكونَ لهم مَطْمَعٌ في التَّخليصِ [833] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/157، 158). .
- وفيه حَذْفُ مَفعولِ فِعْلِ أَغْوَيْنَا الأَوَّلِ -وهو العائِدُ مِنَ الصِّلةِ إلى المَوصولِ- لكَثرةِ حَذْفِ أمْثالِه؛ لأنَّ اسمَ المَوصولِ (الَّذينَ) مُغْنٍ عن ذِكْرِه ودالٌّ عليه؛ فكان حَذْفُ العائدِ اختِصارًا، وذِكْرُ مَفعولِ فِعْلِ أَغْوَيْنَاهُمْ الثَّاني اهتِمامًا بذِكْرِه؛ لعدَمِ الاستِغْناءِ عنه في الاستِعْمالِ [834] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/159). .
- وقولُهم: أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا هو الجوابُ حَقيقةً، وما قبْلَه تمهيدٌ له، وهو اسْتِئنافٌ للدَّلالةِ على أنَّهم غَوَوْا باخْتِيارهِم، وأنَّهم لم يَفْعَلوا بهم إلَّا وَسْوَسةً وتَسْوِيلًا، وما أكْرَهوهم على الغَيِّ بالقَسْرِ والإلْجاءِ، ولكنَّهم غَوَوْا باخْتِيارِهم غَيًّا مِثْلَ غَيِّنا باخْتِيارِنا [835] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/182)، ((تفسير أبي السعود)) (7/21، 22). ؛ فجُملةُ أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا استِئْنافٌ بَيانيٌّ لجُملةِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا؛ لأنَّ اعْتِرافَهم بأنَّهم أغْوَوْهُم يُثيرُ سُؤالَ سائلٍ مُتعَجِّبٍ: كيفَ يَعْتَرِفونَ بمِثْلِ هذا الجُرْمِ؟ فأرادوا بَيانَ الباعثِ لهم على إغْواءِ إخْوانِهم، وهو أنَّهم بَثُّوا في عامَّةِ أتْباعِهم الغَوايةَ المُستقِرَّةَ في نُفُوسِهم، وظَنُّوا أنَّ ذلكَ الاعتِرافَ يُخفِّفُ عنهم مِن العذابِ؛ بقَرينةِ قولِهم: تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ، وإنَّما لم يَقْتَصِرْ على جُملةِ: أَغْوَيْنَاهُمْ؛ لقَصْدِ الاهتِمامِ بذِكْرِ هذا الإغْواءِ بتَأكيدِه اللَّفظيِّ، وبإجْمالِه في المرَّةِ الأُولى، وتَفْصيلِه في المرَّةِ الثانيةِ؛ فلَيسَتْ إعادةُ فِعْلِ (أَغْوَيْنَا) لمجَرَّد التَّأكيدِ [836] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/158). .
- وفيه احتباكٌ [837] الاحتِباكُ: هو الحذفُ مِنَ الأوائلِ لدَلالةِ الأواخِرِ، والحذفُ مِنَ الأواخرِ لدَلالةِ الأوائلِ، إذا اجتمَع الحذفانِ معًا، وله في القرآنِ نظائرُ، وهو مِن إبداعاتِ القرآنِ وعناصرِ إعجازِه، وهو مِن ألطفِ الأنواعِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/204)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/347). ، حيثُ حُذِفَ أوَّلًا (فغَوَوا)؛ لدَلالةِ غَوَيْنَا عليه، وثانيًا (لَمَّا أغْوانا مَن قَبْلَنا)؛ لدَلالةِ أَغْوَيْنَاهُمْ عليه [838] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/334). .
- وإخلاءُ الجُملتَيْنِ تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ مِنَ العاطفِ؛ لِكَونِهما مُقرِّرتَينِ لمَعنى الجملةِ الأُولى [839] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/426)، ((تفسير البيضاوي)) (4/182)، ((تفسير أبي السعود)) (7/22). ، وجملةُ تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ استِئْنافٌ، والمُتَبَرَّأُ منه هو مَضمونُ جملةِ: مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ؛ فهي بَيانٌ لِإجْمالِ التَّبَرُّؤِ [840] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/159). .
- وتقديمُ إِيَّانَا على يَعْبُدُونَ دونَ أنْ يُقالَ: (يَعْبُدُونَنَا)؛ للاهْتِمامِ بهذا التَّبَرُّؤِ، مع رعايةِ الفاصِلةِ [841] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/159). .
5- قولُه تعالى: وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ
- قولُه: ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ أمْرٌ على سَبيلِ التَّهكُّمِ والاسْتِهْزاءِ بهم، أو التَّبْكيتِ لهم؛ لأنَّه يَعلَمُ أنه لا فائدةَ في دُعائِهم [842] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/319)، ((تفسير أبي السعود)) (7/22). .
- قولُه: وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فيه إسنادُ فِعْلِ القَوْلِ وَقِيلَ إلى المَفعولِ؛ لأنَّ الفاعلَ مَعلومٌ ممَّا تَقَدَّمَ، أيْ: وقالَ اللهُ. وإضافةُ الشُّركاءِ إلى ضَميرِ المُخاطَبينَ؛ لأنَّهمُ الَّذينَ ادَّعَوْا لهمُ الشَّركةَ كما في آيةِ (الأنعامِ): الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ [843] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/160). [الأنعام: 94] .
- قولُه: وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ يَحْتَمِلُ أنْ يكونَ عطْفًا على جملةِ: فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ، والرُّؤيةُ بَصَريَّةٌ، والعذابُ عذابُ الآخرةِ، أيْ: أحْضَرَ لهم آلةَ العذابِ ليَعْلَمُوا أنَّ شُركاءَهم لا يُغْنُونَ عنهم شيئًا، وعلى هذا تكونُ جُملةُ: لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ مُستَأْنَفةً ابتِدائيَّةً مُستَقِلَّةً عن جملةِ: وَرَأَوُا الْعَذَابَ.
ويَحْتَمِلُ أن تكونَ الواوُ للحالِ، والرُّؤيةُ أيضًا بصَريَّةً، والعذابُ عذابَ الآخرةِ، أيْ: وقد رأَوُا العذابَ فارْتَبَكوا في الاهْتِداءِ إلى سبيلِ الخَلاصِ، فقيلَ لهم: ادْعُوا شُركاءَكُم لخَلاصِكُم، وتكونَ جملةُ: لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ كذلكَ مُسْتَأْنَفةً ابتِدائيَّةً.
ويَحْتَمِلُ أن تكونَ الرُّؤيةُ عِلْميَّةً، وحُذِفَ المفعولُ الثَّاني اختِصارًا، والعذابُ عذابَ الآخرةِ، والمَعنى: وعَلِمُوا العذابَ حائِقًا بهم، والواوُ للعطفِ أوِ الحالِ، وجملةُ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ مُستَأْنَفَةٌ استِئْنافًا بيانيًّا، كأنَّ سائلًا سأَلَ: ماذا صَنَعُوا حينَ تَحَقَّقُوا أنَّهمْ مُعَذَّبونَ؟ فأُجيبَ: بأنَّهم لو أنَّهم كانُوا يَهْتَدونَ سبيلًا لَسَلَكُوه، ولكنَّهم لا سَبيلَ لهم إلى النَّجاةِ. وعلى هذه الوُجوهِ الثلاثةِ تكونُ (لو) حرفَ شرطٍ، وجوابُها مَحذوفًا دَلَّ عليه حَذْفُ مفعولِ يَهْتَدُونَ، أيْ: يَهتَدُونَ خَلاصًا أو سبيلًا، والتَّقديرُ: لَتَخَلَّصُوا منه. وعلى الوُجوهِ الثلاثةِ فَفِعْلُ كَانُوا مَزيدٌ في الكلامِ لِتَوكيدِ خبَرِ (أنَّ)، أيْ: لو أنَّهم يَهْتَدونَ اهتِداءً مُتمَكِّنًا مِن نُفوسِهم، وفي ذلك إيماءٌ أنَّهم حينَئذٍ لا قَرارةَ لنُفوسِهم، وصيغةُ المضارعِ في يَهْتَدُونَ دالَّةٌ على التَّجدُّدِ، فالاهتِداءُ مُنقَطِعٌ عنهُمْ، وهو كنايةٌ عن عدَمِ الاهْتِداءِ مِن أصْلِه.
ويَحْتَمِلُ أن تكونَ (لو) للتَّمَنِّي المُستَعْمَلِ في التَّحسُّرِ عليهم، والمرادُ اهْتِداؤُهم في حياتِهمُ الدُّنيا؛ كَيْلا يقَعُوا في هذا العذابِ، وفِعْلُ كَانُوا حينَئذٍ في مَوقعِه الدَّالِّ على الاتِّصافِ بالخبَرِ في الماضي، وصِيغةُ المُضارعِ في يَهْتَدُونَ لقَصْدِ تجدُّدِ الهُدى المُتحَسَّرِ على فَواتِه عنهم؛ فإنَّ الهُدَى لا يَنْفَعُ صاحبَه إلَّا إذا استَمَرَّ إلى آخِرِ حياتِه.
ويَحْتَمِلُ أن يكونَ المرادُ بالعذابِ عذابَ الدُّنيا، والكلامُ على حَذْفِ مُضافٍ تقديرُه: ورَأَوْا آثارَ العذابِ، والرُّؤيةُ بصَريَّةٌ، أيْ: وَهُمْ رأوُا العذابَ في حياتِهم، أيْ: رأَوْا آثارَ عذابِ الأُمَمِ الَّذينَ كذَّبُوا الرُّسُلَ، وهذا في مَعنى قولِه تعالى في سورة (إبراهيم): وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ [إبراهيم: 45] ، وجملةُ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ شَرْطٌ، جَوابُه مَحذوفٌ دَلَّ عليه: لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ، أيْ: بالاتِّعاظِ وبالاسْتِدلالِ بحُلولِ العذابِ في الدُّنيا على أنَّ وَراءَه عذابًا أعْظَمَ منه، لاهْتَدَوْا فأقْلَعوا عنِ الشِّرْكِ، وصدَّقوا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ وهذا لأنَّهُ يُفيدُ مَعنًى زائدًا على ما أفادَتْه جملةُ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ.
فهذه عِدَّةُ مَعانٍ يُفيدُها لَفْظُ الآيةِ، وكلُّها مَقْصودةٌ؛ فالآيةُ مِن جَوامعِ الكَلِمِ [844] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/160، 161). .
6- قولُه تعالى: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ هو كقولِه: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [القصص: 62] ؛ كُرِّر الحديثُ عنه باعتِبارِ تعدُّدِ ما يَقَعُ فيهِ؛ لأنَّ مَقامَ المَوعِظةِ يَقتَضي الإطْنابَ في تَعْدادِ ما يُستحَقُّ به التَّوبيخُ، وكُرِّرَتْ جملةُ (يَوْمَ يُنَادِيهِمْ)؛ لأنَّ التَّكْرارَ مِن مُقتَضياتِ مَقامِ المَوعظةِ، وهذا تَوْبيخٌ لهُمْ على تَكْذيبِهم الرُّسُلَ بعدَ انقِضاءِ تَوبيخِهم على الإشْراكِ باللهِ [845] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/161، 162). .
- والاستِفهامُ بـ مَاذَا صُوريٌّ، مَقْصودٌ منه إظْهارُ بَلْبَلَتِهم [846] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/162). .
7- قولُه تعالى: فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ
- قولُه: فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ أصْلُه: (فعَمُوا عنِ الأَنْباءِ)، وقد عَكَسَ هنا؛ للمُبالَغةِ، والتَّنبيهِ على أنَّ ما يَحْضُرُ الذِّهْنَ يفيضُ عليه، ويَصِلُ إليه مِنْ خارجٍ، فإذا أخْطَأَه لم يَكُنْ له حيلةٌ إلى اسْتِحضارِه، وتَعْدِيةُ الفِعْلِ بـ (على)؛ لِتَضَمُّنِه مَعنى الخَفاءِ والاشْتِباهِ [847] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/183)، ((تفسير أبي السعود)) (7/22). .
- وأتَى بلَفْظِ الماضي فَعَمِيَتْ؛ لِتَحقُّقِ وُقوعِه [848] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/320). .
8- قولُه تعالى: فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ تَخَلَّلَ بينَ حالِ المُشركينَ ذِكْرُ حالِ الفريقِ المُقابِلِ -وهو فريقُ المُؤمنينَ- على طريقةِ الاعْتِراضِ؛ لأنَّ الأحوالَ تَزْدادُ تميُّزًا بذِكْرِ أضْدادِها، والفاءُ في فَأَمَّا للتَّفريعِ على ما أفادَه قولُه: فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ [القصص: 66] مِنْ أنَّهم حَقَّ عليهم العذابُ [849] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/163). .
- ولَمَّا كانتْ (أَمَّا) تُفيدُ التَّفصيلَ -وهو: التَّفكيكُ والفَصْلُ بيْنَ شَيئَينِ أو أشياءَ في حُكمٍ- فهي مُفيدةٌ هنا أنَّ غيرَ المُؤمنينَ خاسِرونَ في الآخرةِ، وذلكَ ما وَقَعَ الإيماءُ إليه بقولِه: فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ [القصص: 66] ؛ فإنه يَكتَفي بتَفْصيلِ أحدِ الشَّيئينِ عن ذِكْرِ مُقابِلِه [850] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/163). .
- قولُه: فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا التَّوبةُ هنا: الإقْلاعُ عن الشِّركِ، والنَّدَمُ على تقَلُّدِه، وعَطْفُ الإيمانِ عليها؛ لأنَّ المَقصودَ حُصولُ إقْلاعٍ عن عقائدِ الشِّرْكِ، وإحْلالِ عَقائدِ الإسلامِ مَحلَّها؛ ولذلكَ عَطَفَ عليه: وَعَمِلَ صَالِحًا؛ لأنَّ بعضَ أهْلِ الشِّرْكِ كانوا شاعِرينَ بفَسادِ دينِهِم [851] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/163). .
- قولُه: فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (عَسَى) للتَّحقيقِ على عادةِ الكرامِ، أو للتَّرجِّي مِنْ قِبَلِ التَّائبِ، بمعنى: فلْيَتَوَقَّعِ الإفْلاحَ؛ فهي تَرَجٍّ لتَمْثيلِ حالِهم بحالِ مَنْ يُرجى منه الفَلاحُ [852] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/427)، ((تفسير أبي السعود)) (7/22)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/164). .
- وقولُه: أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ أشَدُّ في إثباتِ الفَلاحِ مِن: (أَنْ يُفْلِحَ)؛ لأنَّه يُفيدُ أنَّهم مِن جُملةِ المفلحينَ وزُمْرَتِهم [853] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/164). .