موسوعة التفسير

سورةُ النَّحلِ
الآيات (43-47)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ

غريب الكلمات:

بِالْبَيِّنَاتِ: أي: بالحُجَجِ والأدِلَّةِ الواضِحةِ؛ يُقالُ: بان الشَّيءُ وأبانَ: إذا اتَّضحَ وانكَشفَ [487] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/359)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/328)، ((البسيط)) للواحدي (13/67)، ((المفردات)) للراغب (ص: 157). .
وَالزُّبُرِ: أي: الكُتُبِ، جمْعُ زَبورٍ، وأصلُ (زبر): يدُلُّ على الفَخامةِ والغِلَظ؛ يقال: زبَرْتُ الكِتابَ: إذا كَتبْتَه كِتابةً غليظةً، وكلُّ كتابٍ غليظِ الكِتابةِ يُقالُ له: زَبُورٌ [488] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 243)، ((الفروق اللغوية)) للعسكري (ص: 290)، ((المفردات)) للراغب (ص: 377)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 56)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 160). .
تَقَلُّبِهِمْ: أي: تَصَرُّفِهم في البِلادِ، وتَردُّدِهم في أسفارِهم، وأصلُ (قلب): يدُلُّ على رَدِّ شَيءٍ مِن جِهةٍ إلى جِهةٍ [489] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 385)، ((تفسير ابن جرير)) (14/233)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 154)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/17)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 366). .
تَخَوُّفٍ: أي: تَنَقُّصٍ؛ إمَّا بقَتلٍ أو بمَوتٍ، يَنقُصُ مِن أطرافِهم ونَواحيهم الشَّيءَ بعد الشَّيءِ حتى يُهْلِكَ جميعَهم. أو: حالَ تخَوُّفٍ وتوَقُّعٍ للبَلايا. وعلى المعنى الثَّاني فأصلُ (خوف): يدلُّ على ذُعرٍ وفَزَعٍ [490] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 243)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 145)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/230)، ((البسيط)) للواحدي (13/70)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 195)، ((تفسير القرطبي)) (10/111)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 260)، ((فتح القدير)) للشوكاني (3/198). .

مشكل الإعراب:

قَولُه تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ
قولُه: بِالْبَيِّنَاتِ فيما يتعَلَّقُ به أوجهٌ؛ أحدُها: أنَّه مُتعَلِّقٌ بمَحذوفٍ، على أنَّه صِفةٌ لـ  رِجَالًا أي: رِجالًا مُتَلبِّسينَ بالبَيِّناتِ. الثاني: أنَّه مُتعَلِّقٌ بمحذوفٍ جوابًا لسُؤالٍ مُقَدَّرٍ، كأنَّه قيل: بمَ أُرسِلوا؟ فقيل: أرسَلْناهم بالبَيِّناتِ والزُّبُرِ. الثالث: أنَّه مُتعَلِّقٌ بـ أَرْسَلْنَا داخِلٌ تحتَ حُكمِ الاستثناءِ مع رِجَالًا، أي: وما أرسَلْنا إلَّا رِجالًا بالبَيِّناتِ [491] وهذا مبني على مذهب الكسائي والأخفش، وبه قال الحوفي والزمخشري. ولا يجيزه البصريون؛ إذ لا يُجيزون أن يقع بعد «إلا» إلَّا مُستثنًى، أو مُستثنًى منه، أو تابعٌ لذلك، وما ظُنَّ بخلافِه قُدِّرَ له عاملٌ. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/1328)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (7/223)، ((حاشية الصبان)) (2/208). . وقيلَ غيرُ ذلك [492] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/1328)، ((تفسير أبي حيان)) (6/533)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (7/222)، ((تفسير الألوسي)) (7/387)، ((الجدول في إعراب القرآن)) لمحمود صافي (14/325). .

المعنى الإجمالي:

يقول عزَّ وجلَّ: وما أرسَلْنا في السَّابقينَ قَبلَك- يا مُحمَّدُ- إلَّا رُسُلًا مِن الرِّجالِ لا مِن الملائكةِ، نُوحي إليهم، فاسألوا - أيُّها المُشرِكونَ- أهلَ الكُتُبِ السَّابقةِ يُخبِروكم أنَّ الأنبياءَ كانوا بشرًا، إنْ كُنتُم لا تعلمونَ، أرسَلْنا الأنبياءَ السَّابِقينَ بالحُجَجِ الواضِحةِ وبالكُتُبِ السَّماويَّةِ، وأنزَلْنا إليك- يا مُحمَّدُ- القُرآنَ؛ لتُوضِّحَ للنَّاسِ ما نزَّلَ اللهُ إليهم فيه، ولكي يتدَبَّروه ويهتَدوا به.
أفأمِنَ الكُفَّارُ المُدبِّرونَ للمكايدِ أن يخسِفَ اللهُ بهم الأرضَ، أو يأتيَهم عذابُ اللهِ مِن حيثُ لا يَشعُرونَ، أو يأخُذَهم اللهُ بالعذابِ وهم يتقَلَّبونَ في سَفَرِهم ومَعايشِهم؟ فما هم بمُمتَنِعينَ على اللهِ، ولا ناجينَ مِن عذابِه، أو يأخُذَهم اللهُ بنَقصٍ من نَواحيهم شيئًا بعد شَيءٍ حتى يُهلِكَ جميعَهم؛ فإنَّ رَبَّكم لرؤوفٌ بعباده رَحيمٌ بهم.

تفسير الآيات:

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا أخبَرَ اللهُ تعالى أنَّه بعثَ الرُّسُلَ، وكان عاقِبةَ مَن كَذَّبَهم الهَلاكُ، بدَلالةِ آثارِهم، وكانوا قد قَدَحوا في الرِّسالةِ بكَونِ الرَّسولِ بشَرًا، ثمَّ بكَونِه ليس معه ملَكٌ يُؤيِّدُه- ردَّ ذلك بقَولِه مُخاطِبًا لأشرَفِ خَلقِه صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وسَلَّم؛ لكَونِه أفهَمَهم عنه، مع أنَّه أجَلُّ مَن توكَّلَ وصبَرَ، عائدًا إلى مَظهَرِ الجَلالِ بيانًا لأنَّه يُظهِرُ من يشاءُ على مَن يشاءُ [493] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/166). :
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ.
أي: وما أرسَلْنا الأنبياءَ مِن قَبلِك- يا مُحمَّدُ- إلَّا رِجالًا بَشَرًا مِن بني آدمَ لا ملائِكةً، نُوحي إليهم الشَّرائِعَ والأحكامَ [494] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/226)، ((تفسير ابن كثير)) (4/573، 574)، ((تفسير السعدي)) (ص: 441)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/378). قال الشنقيطي: (حَصْرُ الرسُلِ في الرِّجالِ في الآيات المذكورة لا يُنافي أنَّ مِن الملائكة رسُلًا، كما قال تعالى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [الحج: 75]، وقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا [فاطر: 1]؛ لأنَّ الملائكةَ يُرسَلونَ إلى الرسُل، والرسُلَ تُرسَلُ إلى النَّاسِ. والذي أنكَرَه الكفَّارُ هو إرسالُ الرسلِ إلى الناس، وهو الذي حصر اللهُ فيه الرسُلَ في الرجالِ مِن الناسِ، فلا ينافي إرسالَ الملائكةِ للرسلِ بالوحيِ، ولقَبضِ الأرواح، وتسخيرِ الرياح والسحابِ، وكتْبِ أعمالِ بني آدمَ، وغيرِ ذلك). ((أضواء البيان)) (2/379). .
كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى [يوسف: 109] .
وقال سُبحانه: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ [الفرقان: 20] .
فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ.
أي: فاسألوا- أيُّها المُشرِكونَ- أهلَ الكِتابِ الذين قَرَؤوا الكُتُبَ مِن قَبلِكم كالتَّوراةِ والإنجيلِ، إنْ كُنتُم لا تَعلَمونَ أنَّ رُسُلَ اللهِ كانوا رِجالًا من البشَرِ لا مَلائِكةً، فاسألُوهم: هل كان الأنبياءُ والرُّسُلُ بشرًا أو ملائِكةً [495] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/226، 227)، ((تفسير ابن كثير)) (4/574)، ((تفسير السعدي)) (ص: 441)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/379).  قال الخازن: (إنما أمَرَهم الله بسؤال أهل الكتاب؛ لأنَّ كُفَّارَ مكَّةَ كانوا يعتَقِدونَ أن أهلَ الكتاب أهلُ علمٍ، وقد أرسَلَ الله إليهم رسُلًا منهم، مثل موسى وعيسى وغيرِهم مِن الرسلِ، وكانوا بشرًا مِثلَهم، فإذا سألوهم فلا بدَّ أن يُخبِروهم بأنَّ الرسُلَ الذين أُرسِلوا إليهم كانوا بشرًا، فإذا أخبروهم بذلك زالت الشبهةُ عن قلوبِهم. إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ الخطابُ لأهل مكَّة). ((تفسير الخازن)) (3/78). ؟!
بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44).
بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ.
أي: أرسَلْنا الأنبياءَ السَّابِقينَ بالحُجَجِ والكُتُبِ [496] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/229-231)، ((تفسير القرطبي)) (10/109)، ((تفسير ابن كثير)) (4/574). .
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ.
أي: وأنزَلْنا إليك- يا مُحمَّدُ [497] قال ابنُ كثير: (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ من رَبِّهم، أي: لعِلمِك بمعنى ما أُنزِلَ عليك، وحِرصِك عليه، واتِّباعِك له، ولعِلْمِنا بأنَّك أفضَلُ الخلائِقِ، وسَيِّدُ ولَدِ آدَمَ). ((تفسير ابن كثير)) (4/574). - القُرآنَ؛ لتوضِّحَ للنَّاسِ ما نزَّلَ اللهُ إليهم فيه- لفظًا بتلاوتِه، ومَعنًى بتفسيرِه، وبيانِ ما أشكَلَ عليهم منه- وتُفصِّلَ لهم بسُنَّتِك القَوليَّةِ والفِعليَّةِ ما أُجمِلَ مِن أحكامِه [498] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/232)، ((تفسير القرطبي)) (10/109)، ((تفسير الخازن)) (3/79)، ((تفسير ابن جزي)) (1/427)، ((تفسير ابن كثير)) (4/574)، ((تفسير السعدي)) (ص: 441).  قال ابنُ الجوزي: (قولُه تعالى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ وهو القرآنُ، بإجماع المفسِّرين). ((تفسير ابن الجوزي)) (2/562). .
كما قال سُبحانه: إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ [النساء: 105] .
وقال سُبحانه: وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ [النحل: 64] .
وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ.
أي: وأنزَلْنا إليك القُرآنَ؛ كي يتفكَّرَ النَّاسُ في آياتِه، ويَعتَبِروا بها ويتَّعِظوا، فيَهتَدوا بالعمَلِ بها [499] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/232)، ((تفسير الخازن)) (3/79)، ((تفسير ابن كثير)) (4/574). .
كما قال تعالى: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص: 29] .
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّه بعدَ أن ذُكِرَت مَساوئُ المُشرِكينَ ومكايدُهم، وبعدَ تهديدِهم بعذابِ يومِ البَعثِ تَصريحًا وبعذابِ الدُّنيا تعريضًا، فرَّع على ذلك تهديدَهم الصَّريحَ بعذابِ الدُّنيا [500] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/164). .
وأيضًا فإنَّه لَمَّا نَبَّه اللهُ سُبحانَه على التفكُّرِ، وكان داعيًا للعاقِلِ إلى تجويزِ المُمكِنِ، والبُعدِ مِن الخطَرِ، سبَّبَ عنه إنكارَ الأمنِ مِن ذلك، فقال تعالى [501] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/169). :
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ.
أي: أفأمِنَ الذين كَفَروا باللهِ وعَصَوه- ومِن ذلك سَعيُهم في إبطالِ الإسلامِ، وكَيدُهم بالمُسلِمينَ لإيذائِهم- أن تبتَلِعَهم الأرضُ فيَغيبوا في بَطنِها [502] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/232)، ((تفسير القرطبي)) (10/109)، ((تفسير الخازن)) (3/79)، ((تفسير ابن كثير)) (4/575)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/169)، ((تفسير السعدي)) (ص: 441)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/380). قال ابنُ جُزيٍّ: (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ يعني: كُفَّارَ قُرَيشٍ عند جمهورِ المُفَسِّرين). ((تفسير ابن جزي)) (1/427). ؟
كما قال تعالى: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ [الملك: 16] .
أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ.
أي: أو يأتيَهم عذابُ اللهِ غِرَّةً مِن حيثُ لا يَشعُرونَ بمَجيئِه إليهم، ولا يَدرونَ مِن أين يأتيهم [503] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/232)، ((تفسير ابن كثير)) (4/575)، ((تفسير السعدي)) (ص: 441). .
أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46).
أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ.
أي: أو يُهلِكَ اللهُ الكافرينَ بالعذابِ في حالِ سَفَرِهم وتصَرُّفِهم في مَعايشِهم وأشغالِهم [504] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/233)، ((تفسير القرطبي)) (10/109)، ((تفسير ابن كثير)) (4/575). .
كما قال تعالى: أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف: 98- 99] .
فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ.
مُناسَبتُها لِما قَبلَها:
لَمَّا كانت هذه الأحوالُ الثَّلاثةُ مَفروضةً في حالِ أمنِهم من العذابِ، وكان الأمنُ مِن العدُوِّ يكونُ عن ظَنِّ عدَمِ قُدرتِه عليه؛ علَّلَ ذلك بقَولِه تعالى [505] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/170). :
فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ.
أي: فلَيسوا بفائِتينَ اللهَ، ولا مُمتَنِعينَ عليه؛ فهُم في قَبضتِه، يُهلِكُهم متى شاء، ولا مَهرَبَ لهم [506] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/233)، ((البسيط)) للواحدي (13/69)، ((تفسير القرطبي)) (10/109)، ((تفسير أبي السعود)) (5/117)، ((تفسير السعدي)) (ص: 441). .
أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47).
أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ.
أي: أو يُهلِكَهم بنَقصٍ مِن أطرافِهم ونَواحيهم شيئًا بعد شَيءٍ، حتى يُهلِكَ جميعَهم [507] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/234)، ((الوسيط)) للواحدي (3/64)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 608)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/170). وممَّن اختار هذا المعنى للتخوُّف: ابنُ جرير، والواحدي، والبقاعي، ونسبه الواحدي إلى عامَّة المفسِّرين. يُنظر: المصادر السابقة. وممن قال بنحو هذا القولِ مِن السلفِ: ابنُ عباسٍ، ومجاهدٌ، وابنُ زيد. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/237، 238)، ((تفسير ابن أبي حاتم)) (7/2285)، ((تفسير ابن الجوزي)) (2/562). وقيل: المعنى: يأخُذُهم حالَ تخوُّفٍ وتوقُّعٍ للبلايا؛ بأن يكونوا متوقِّعينَ للعذابِ حَذِرينَ منه غيرَ غافلين عنه. وممَّن اختار هذا المعنى: ابنُ كثير، والشوكاني، والقاسمي. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (4/575)، ((تفسير الشوكاني)) (3/198)، ((تفسير القاسمي)) (6/376). .
فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ.
أي: فإنَّ ربَّكم لا يُعاجِلُ الكافرينَ والعاصينَ بالعُقوبةِ؛ لأنَّه رؤوفٌ رَحيمٌ بعبادِه، يَرزُقُهم ويُعافيهم، ويُمهِلُهم ليتُوبوا [508] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/238)، ((تفسير ابن كثير)) (4/575)، ((تفسير السعدي)) (ص: 441). .
عن أبي موسى رَضِيَ الله عنه، قال: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ما أحدٌ أصبَرَ على أذًى يَسمَعُه مِن الله تعالى؛ إنَّهم يجعَلونَ له نِدًّا، ويَجعَلونَ له ولدًا، وهو مع ذلك يَرزُقُهم ويُعافيهم ويُعطيهم! )) [509] رواه البخاري (6099)، ومسلم (2804). .
وعن أبي موسى رضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إنَّ اللهَ لَيُملي للظَّالمِ حتى إذا أخَذَه لم يُفلِتْه. قال: ثمَّ قرأ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود: 102] )) [510] رواه البخاري (4686)، ومسلم (2583). .

الفوائد التربوية:

1- قال الله تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ عمومُ هذه الآيةِ فيه مَدحُ أهلِ العِلمِ، وأنَّ أعلى أنواعِه العِلمُ بكتابِ اللهِ المُنَزَّلِ؛ فإنَّ اللهَ أمَرَ مَن لا يعلَمُ بالرُّجوعِ إليهم في جميعِ الحوادِثِ، وفي ضِمنِه تعديلٌ لأهلِ العِلمِ وتَزكيةٌ لهم؛ حيث أمَرَ بسُؤالِهم، وأنَّه بذلك يخرُجُ الجاهِلُ مِن التَّبِعةِ، فدَلَّ على أنَّ الله ائتَمَنهم على وحْيِه وتَنزيلِه، وأنَّهم مأمورونَ بتَزكيةِ أنفُسِهم، والاتِّصافِ بصِفاتِ الكَمالِ [511] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:441). .
2- قَولُ الله تعالى: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ هذا تخويفٌ مِن الله تعالى لأهلِ الكُفرِ والتَّكذيبِ وأنواعِ المعاصي مِن أن يأخُذَهم بالعذابِ على غِرَّةٍ، وهم لا يشعُرونَ؛ إمَّا أن يأخُذَهم العذابُ مِن فَوقِهم، أو مِن أسفَلَ منهم بالخَسفِ وغَيرِه، وإمَّا في حالِ تقَلُّبِهم وشُغلِهم، وعدمِ خُطورِ العذابِ ببالهم، وإمَّا في حالِ تَخَوُّفِهم مِن العَذابِ- على وجهٍ في التفسيرِ- فليسُوا بمُعجِزينَ لله في حالةٍ مِن هذه الأحوالِ، بل هم تحتَ قَبضتِه، ونواصيهم بيَدِه، ولكِنَّه رؤوفٌ رَحيمٌ لا يُعاجِلُ العاصينَ بالعُقوبةِ، بل يُمهِلُهم ويُعافيهم ويَرزُقُهم، وهم يُؤذونَه، ويُؤذونَ أولياءَه، ومع هذا يفتَحُ لهم أبوابَ التَّوبةِ، ويدعوهم إلى الإقلاعِ عن السَّيِّئاتِ التي تضُرُّهم، ويَعِدُهم بذلك أفضَلَ الكَراماتِ، ومغفرةَ ما صدَرَ منهم من الذُّنوبِ؛ فلْيَستَحِ المُجرِمُ مِن رَبِّه أن تكونَ نِعَمُ اللهِ عليه نازِلةً في جميعِ اللَّحظاتِ، ومعاصيه صاعِدةً إلى رَبِّه في كلِّ الأوقاتِ، ولْيَعلَمْ أنَّ اللهَ يُمهِلُ ولا يُهمِلُ، وأنَّه إذا أخذ العاصِيَ أخَذَه أخْذَ عزيزٍ مُقتَدِرٍ؛ فلْيَتُبْ إليه، ولْيَرجِعْ في جميعِ أمورِه إليه؛ فإنَّه رَؤوفٌ رحيمٌ، فالبِدارَ البِدارَ إلى رحمتِه الواسعةِ، وبِرِّه العَميمِ، وسُلوكِ الطُّرُقِ المُوصِلةِ إلى فَضلِ الرَّبِّ الرحيم، ألا وهي تَقواه، والعمَلُ بما يُحبُّه ويَرضاه [512] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:441). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا يدُلُّ على أنَّه تعالى ما أرسلَ أحدًا مِن النِّساءِ [513] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (20/210). .
2- في قَولِه تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ دَلالةٌ على أنَّه سُبحانَه لم يَبعَثْ نبيًّا إلَّا بآيةٍ تُبَيِّنُ صِدْقَه، وتقومُ بها الحُجَّةُ؛ إذ تصديقُه بما لا يدُلُّ على صِدقِه غيرُ جائزٍ [514] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (14/188). ، وذلك لِكَمالِ عَدلِه- سُبحانَه- ورَحمتِه، وإحسانِه، وحِكمتِه، ومحبَّتِه للعُذْرِ، وإقامتِه للحُجَّةِ [515] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (3/431). .
3- في قَولِه تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ حُجَّةٌ في تثبيتِ خَبَرِ الواحدِ؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ مِن المسؤولينَ مُخبِرٌ عن ذلك على الانفرادِ، والحُجَّةَ لازِمةٌ على المُخْبَرِ بقَولِه [516] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (2/306). .
4- في قَولِه تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ أنَّه يجوزُ التَّقليدُ في العَقائدِ، مِمَّا لا يُتَمَكَّنُ مَعرِفتُه بالدَّليلِ، فسؤالُنا أهلَ الذِّكْرِ عن هؤلاءِ الرُّسُلِ معناه أن نُقَلِّدَ المَسؤولَ، ونأخذَ بقَولِه، فالتَّقليدُ في المَسائلِ العَقَدِيَّةِ كالتَّقليدِ في المَسائلِ العَمَليَّةِ تمامًا ولا فَرقَ، فالذي لا يستطيعُ الوصولَ إلى الحقِّ بنفسِه ففَرضُه التَّقليدُ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [517] يُنظر: ((لقاء الباب المفتوح)) لابن عثيمين (رقم اللقاء: 94). ، فالتَّقليدُ جائِزٌ لِمَن لا يَصِلُ إلى العِلمِ بنَفسِه [518] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (5/95).
5- ليس في كلامِ اللهِ ورَسولِه شيءٌ لا يَعرِفُ معناه جميعُ الأُمَّةِ، بل لا بُدَّ أن يكونَ مَعروفًا لجميعِ الأُمَّةِ أو بَعضِها؛ لِقَولِه تعالى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ، وقَولِه تعالى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل: 89] ، ولأنَّه لو كان فيه ما لا يَعلَمُ معناه أحدٌ لكان بعضُ الشَّريعةِ مجهولًا للأمَّةِ، ولكِنَّ المَعرِفةَ والخفاءَ أمرانِ نِسبيَّانِ؛ فقد يكونُ معروفًا لشَخصٍ ما كان خَفيًّا على غَيرِه، إمَّا لنَقصٍ في عِلمِه، أو قُصورٍ في فَهمِه، أو تَقصيرٍ في طَلَبِه، أو سوءٍ في قَصدِه [519] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (4/155). .
6- لله تعالى حِكَمٌ في إبقاءِ أهلِ الكِتابينِ بينَ أظهُرِنا؛ فإنَّهم مع كُفرِهم شاهِدونَ بأصلِ النبُوَّاتِ والتَّوحيدِ، واليومِ الآخِرِ والجنَّةِ والنَّارِ، وفي كُتُبِهم من البِشاراتِ بالنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وذِكرِ نُعوتِه وصِفاتِه، وصفاتِ أُمَّتِه، ما هو مِن آياتِ نُبوَّتِه وبراهينِ رسالتِه، وما يَشهَدُ بصِدقِ الأوَّلِ والآخِرِ، وهذه الحِكمةُ تختَصُّ بأهلِ الكتابِ دونَ عَبَدةِ الأوثانِ، فبَقاؤُهم مِن أقوى الحُجَجِ على مُنكِرِ النبُوَّاتِ والمعادِ والتوحِيدِ، وقد قال تعالى لمُنكري ذلك: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ، ذكَرَ هذا عَقِبَ قَولِه تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ يعني: سَلُوا أهلَ الكِتابِ: هل أرسلنا قبلَ محمَّدٍ رِجالًا يُوحَى إليهم، أم كان محمَّدٌ بِدْعًا مِن الرُّسُلِ لم يتقَدَّمْه رَسولٌ، حتى يكونَ إرسالُه أمرًا مُنكَرًا لم يَطرُقِ العالَمَ رَسولٌ قبله [520] يُنظر: ((أحكام أهل الذمة)) لابن القيم (1/96). ؟!
7- في قَولِه تعالى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ دَلالةٌ على أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى وَكَلَ بيانَ ما أَشكَلَ مِن التَّنزيلِ إلى الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [521] يُنظر: ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (1/195). .
8- قَولُ الله تعالى: بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ في الاقتِصارِ على إنزالِ الذِّكرِ عَقِبَ قَولِه تعالى: بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ إيماءٌ إلى أنَّ الكِتابَ المُنَزَّلَ على مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هو بَيِّنةٌ وزَبورٌ مَعًا، أي: هو مُعجِزةٌ وكِتابُ شَرعٍ، وذلك مِن مزايا القُرآنِ التي لم يُشارِكْه فيها كِتابٌ آخَرُ، ولا مُعجِزةٌ أخرى [522] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/163). .
9- قال الله تعالى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ إنَّما سَمَّاه ذِكرًا؛ لأنَّ فيه مواعِظَ، وتَنبيهًا للغافِلينَ [523] يُنظر: ((تفسير الخازن)) (3/79). .
10- قال الإمامُ أبو عبدِ اللهِ محمَّدُ بنُ إدريسَ الشَّافِعيُّ: (كلُّ ما حكَمَ به رسولُ الله صلَّى الله عليه وسَلَّم فهو ممَّا فَهِمَه من القُرآنِ؛ قال الله تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلاَ تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا [النساء: 105] ، وقال تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ، وقال تعالى: وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [النحل: 64] ) [524] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (13/363). .
11- الدِّينُ الذي اجتَمع عليه المُسلِمونَ اجتِماعًا ظاهِرًا مَعلومًا، هو مَنقولٌ عن نبيِّهم نَقلًا متواتِرًا، نقلوا القرآنَ، ونَقلوا سُنَّتَه؛ وسُنَّتُه مُفَسِّرةٌ للقرآنِ، مُبَيِّنةٌ له، كما قال تعالى له: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ؛ فبَيَّنَ ما أنزَلَ اللهُ لَفْظَه ومَعناه، فصارت معاني القُرآنِ التي اتَّفقَ عليها المُسلِمونَ اتِّفاقًا ظاهِرًا ممَّا توارثَتْه الأمَّةُ عن نبيِّها، كما توارَثَت عنه ألفاظَ القرآنِ، فلم يكُنْ- ولله الحمدُ- فيما اتَّفَقَت عليه الأمَّةُ شَيءٌ مُحَرَّفٌ مُبدَّلٌ مِن المعاني، فكيف بألفاظِ تلك المعاني؟! فإنَّ نَقْلَها والاتِّفاقَ عليها أظهَرُ منه في الألفاظِ، فكان الدِّينُ الظَّاهِرُ للمُسلِمينَ- الذي اتَّفَقوا عليه ممَّا نقلوه عن نبيِّهم- لفظه ومعناه، فلم يكُنْ فيه تحريفٌ ولا تبديلٌ، لا لِلَّفظِ ولا للمَعنى، بخلافِ التَّوراةِ والإنجيلِ؛ فإنَّ مِن ألفاظِها ما بَدَّلَ معانيَه وأحكامَه اليهودُ والنَّصارى- أو مَجموعَهما- تبديلًا ظاهِرًا مَشهورًا في عامَّتِهم [525] يُنظر: ((الجواب الصحيح)) لابن تيمية (3/17). .
12- قوله تعالى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل: 44] قد ذكرَ جلَّ وعلا في هذه الآيةِ حِكمَتَينِ مِن حِكَمِ إنزالِ القُرآنِ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
 إحداهما: أنْ يُبَيِّنَ للنَّاسِ ما نُزِّلَ إليهم في هذا الكِتابِ مِن الأوامِرِ والنَّواهي، والوعدِ والوعيدِ، ونحوِ ذلك.
الحكمةُ الثانيةُ: هي التفَكُّرُ في آياتِه والاتِّعاظُ بها [526] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/380). .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ
- قولُه: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فيه تَغييرُ أُسلوبِ نَظْمِ الكلامِ هنا بتَوجيهِ الخِطابِ إلى النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، بعدَ أنْ كان جاريًا على أُسلوبِ الغَيبةِ ابتداءً مِن قولِه تعالى: فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ، وقولِه تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا...؛ تأنيسًا للنَّبيِّ صَلَّى الله عليه وسلَّمَ؛ لأنَّ فيما مَضى من الكلامِ آنفًا حكايةَ تكذيبِهم إيَّاه تصريحًا وتعريضًا، فأقبَلَ اللهُ على الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالخِطابِ؛ لِمَا في هذا الكلامِ مِن تَنويهِ مَنزلتِه بأنَّه في مَنزلةِ الرُّسلِ الأوَّلين عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ، وفي هذا الخطابِ تَعريضٌ بالمُشركينَ؛ ولذلك الْتفَتَ إلى خِطابِهم بقولِه تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ [527] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/160 - 161). .
- قولُه: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ فيه الإقبالُ عليهم بالخطابِ؛ تَوبيخًا لهم؛ لأنَّ التَّوبيخَ يُناسِبُه الخطابُ لكونِه أوقَعَ في نفْسِ المُوبَّخِ، فاحتجَّ عليهم بقولِه: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ. ولمَّا كان المقصودُ مِن الخطابِ لرسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ تَنبيهَ الكُفَّارِ على مَضمونِه، صُرِفَ الخطابُ إليهم فقيل: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ [528] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/116)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/161). .
- وصِيغَةُ القَصرِ (ما... إلَّا) لقلْبِ اعتقادِ المُشركينَ؛ حيثُ قُصِرَ الإرسالُ على التعَلُّقِ برِجالٍ موصوفينَ بأنَّهم يُوحَى إليهم [529] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/161). .
- وفي قولِه تعالى: إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ إيماءٌ إلى أنَّهم يَعْلمونَ ذلك، ولكنَّهم قَصَدوا المُكابرةَ والتَّمويهَ لتَضليلِ الدَّهماءِ؛ فلذلك جِيءَ في الشَّرطِ بحَرفِ (إنْ) الَّتي ترِدُ في الشَّرطِ المَظنونِ عدَمُ وُجودِه [530] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/160 - 161). .
2- قوله تعالى: بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ
- لعلَّ عطفَ (الزُّبُرِ) على (الْبَيِّنَاتِ) عطفُ تَقسيمٍ بقَصدِ التَّوزيعِ، أي: بعضُهم مَصحوبٌ بالبيِّناتِ، وبعضُهم بالأمرينِ؛ لأنَّه قد تَجِيءُ رسُلٌ بدُونِ كُتُبٍ، وقد تُجْعَلُ الزُّبُرُ خاصَّةً بالكُتبِ الوجيزةِ الَّتي ليست فيها شَريعةٌ واسعةٌ، مثلُ صُحُفِ إبراهيمَ وزَبورِ داودَ عليهما السَّلامُ، والإنجيلِ [531] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/162). .
- قولُه: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ التَّعريفُ في النَّاسِ للعُمومِ [532] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/163). .
3- قوله تعالى: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ
- قولُه: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ... الاستفهامُ للتَّعجيبِ مِن استرسالِهم في المُعانَدةِ غيرَ مُقدِّرينَ أنْ يقَعَ ما يُهدِّدُهم به اللهُ على لِسانِ رسولِه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فلا يُقْلِعونَ عن تَدبيرِ المكرِ بالنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ فكانت حالُهم في استرسالِهم كحالِ مَن هم آمِنونَ بأْسَ اللهِ، فالاستفهامُ مُستعمَلٌ في التَّعجُّبِ المَشوبِ بالتَّوبيخِ [533] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/163). .
- قولُه: مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ أي: من مكانٍ لا يترقَّبونَ أنْ يأتيَهم منه ضَرٌّ؛ فمعناه: أنَّه يأتيهم بَغتةً، لا يَستطيعونَ دفْعَه؛ لأنَّهم لبأْسِهم ومنعَتِهم لا يَبْغَتُهم ما يَحذرونه؛ إذ قد أعَدُّوا له عُدَّتَه، فكان عذابًا غيرَ مَعهودٍ؛ فوقَعَ قولُه: مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ كِنايةً عن عذابٍ لا يُطيقون دفْعَه بحسَبِ اللُّزومِ العُرفيِّ، وإلَّا فقد جاء العذابُ عادًا من مكانٍ يَشعُرون به؛ قال تعالى: فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا [سورة الأحقاف: 24]، وحَلَّ بقومِ نُوحٍ عذابُ الطُّوفانِ وهم ينظُرونَ، وكذلك عذابُ الغَرقِ لفِرعونَ وقومِه [534] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/166). .
4- قوله تعالى: أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ
- تَفريعُ قولِه: فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ اعتراضٌ، أي: لا يمنَعُهم مِن أخْذِه إيَّاهم في تقلُّبِهم شَيءٌ؛ إذ لا يُعجِزُه اجتماعُهم وتعاونُهم [535] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/166). .
5- قوله تعالى: أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ
- تفرَّعَ قولُه: فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ على الجُملِ الماضيةِ تَفريعَ العِلَّةِ على المُعلَّلِ، وحَرفُ (إنَّ) هنا مُفيدٌ للتَّعليلِ ومُغنٍ عن فاءِ التَّفريعِ؛ فهِيَ مُؤكِّدةٌ لِمَا أفادتْه الفاءُ. والتَّعليلُ هنا لِمَا فُهِمَ من مَجموعِ المذكوراتِ في الآيةِ مِن أنَّه تعالى قادرٌ على تَعجيلِ هلاكِهم، وأنَّه أمهَلَهم حتَّى نَسُوا بأسَ اللهِ، فصاروا كالآمنينَ منه بحيث يُستفهَم عنهم: أهم آمِنون من ذلك أمْ لا [536] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/167). ؟