موسوعة التفسير

سورة الشُّورى
الآيات (16-18)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ

غريب الكلمات:

يُحَاجُّونَ: أي: يُجادِلونَ ويختَصِمونَ، والمُحاجَّةُ: أن يَطلُبَ كلُّ واحدٍ أن يَرُدَّ الآخَرَ عن حُجَّتِه، وأصلُ (حجج): يدُلُّ على قَصدٍ [309] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 66)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/30)، ((المفردات)) للراغب (ص: 219)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 24)، ((تفسير القرطبي)) (15/ 321)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 96)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 317). .
دَاحِضَةٌ: أي: باطِلةٌ ذاهِبةٌ، يُقالُ: دَحَضَتْ حُجَّةُ فلانٍ، إذا لم تَثبُتْ، وأصلُ (دحض): يدُلُّ على زَوالٍ وزَلَقٍ [310] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/488)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 220)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/332)، ((المفردات)) للراغب (ص: 308)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 453). .
مُشْفِقُونَ: أي: خائِفون حَذِرونَ، وأصلُ (شفق): يدُلُّ على رِقَّةٍ في الشَّيءِ [311] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 285)، ((تفسير ابن جرير)) (16/253)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 444)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/197)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 237)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 294)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 879). .
يُمَارُونَ: أي: يَشُكُّون ويُجادِلونَ، والمِرْيةُ: التَّرَدُّدُ في الأمرِ، وهي أخصُّ مِن الشَّكِّ [312] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 390)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 457)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/314)، ((المفردات)) للراغب (ص: 766)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 338). .

المعنى الإجمالي:

يقول تعالى مبيِّنًا سوءَ عاقِبةِ الَّذين يُجادِلونَ بالباطلِ: والَّذين يُجادِلونَ المؤمِنينَ في شأنِ اللهِ بشُبُهاتِهم مِن بَعدِ دُخولِ النَّاسِ في دِينِه سُبحانَه، فإنَّ جِدالَهم باطِلٌ عندَ رَبِّهم، وعليهم غَضَبٌ مِنَ اللهِ، ولهم عَذابٌ شَديدٌ.
ثمَّ يُبيِّنُ الله تعالى جانبًا مِن فضلِه على عبادِه، وحالَ الكافرينَ والمؤمنينَ بالنِّسبةِ ليومِ القيامةِ، فيقولُ: اللهُ الَّذي أنزَلَ القُرآنَ على رَسولِه بالحَقِّ، وأنزل العَدْلَ؛ لِيُقضَى بيْنَ النَّاسِ بالإنصافِ، وما يُعلِمُك -يا مُحمَّدُ- لَعَلَّ وقتَ قيامِ القيامةِ قد دنا واقتَرَب، يَستعجِلُ مَجيئَها الَّذين لا يُؤمِنونَ بقيامِها؛ استِهزاءً وإنكارًا لِوُقوعِها. والَّذين آمَنوا بها خائِفونَ مِن قيامِها، ويَعلَمونَ أنَّها حَقٌّ لا شَكَّ فيه، ألَا إنَّ الَّذين يُجادِلونَ ويَشُكُّونَ في قيامِ السَّاعةِ لَفي ضَلالٍ بَعيدٍ عن الحَقِّ.

تفسير الآيات:

وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّها تَقريرٌ لِقَولِه: لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ [الشورى: 15] ، فأخبَرَ هنا أنَّ الَّذين يُحاجُّونَ في اللهِ بالحُجَجِ الباطِلةِ والشُّبَهِ المُتناقِضةِ مِن بَعدِ ما استجابَ لله أولو الألبابِ والعُقولِ لَمَّا بَيَّنَ لهم مِن الآياتِ القاطِعةِ، والبَراهينِ السَّاطِعةِ؛ فهؤلاء المجادِلونَ للحَقِّ مِن بَعدِ ما تَبَيَّنَ: حُجَّتُهُمْ باطِلةٌ مَدفوعةٌ [313] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 756). .
وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ.
أي: والَّذين يُجادِلونَ ويُنازِعونَ المُؤمِنينَ في شأنِ اللهِ بشُبُهاتِهم وحُجَجِهم -كالمُجادَلةِ في تَوحيدِه أو أسمائِه وصِفاتِه- مِن بَعدِ دُخولِ النَّاسِ في دينِه والإيمانِ به سُبحانَه؛ فإنَّ مُجادَلتَهم باطِلةٌ عندَ اللهِ، ولا ثباتَ لها ولا بَقاءَ [314] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/488)، ((تفسير ابن عطية)) (5/31)، ((تفسير القرطبي)) (16/14)، ((تفسير ابن كثير)) (7/196)، ((تفسير السعدي)) (ص: 756)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/65، 66)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 159، 160). قال ابن الجوزي: (قولُه تعالى: وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ أي: يُخاصِمون في دينِه. قال قَتادةُ: هم اليهودُ؛ قالوا: كتابُنا قبْلَ كتابِكم، ونبيُّنا قبْلَ نبيِّكم، فنحن خيرٌ منكم. وعلى قولِ مجاهِدٍ: هم المشركون؛ طَمِعوا أن تعودَ الجاهليَّةُ). ((تفسير ابن الجوزي)) (4/62). ويُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/487-489). وممَّن ذهب إلى أنَّ المرادَ: اليهودُ: الرازي، وجلال الدين المحلي. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/590)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 641). وممَّن ذهب إلى أنَّ المرادَ: المشركون: القرطبي، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (16/14)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/65). ويُنظر أيضًا: ((تفسير القاسمي)) (8/361). قال الشنقيطي: (بيَّن تعالى ... أنَّ مِن أنواعِ جِدالِ الكفَّارِ: جِدالَهم للمؤمنينَ الَّذين استجابوا لله وآمَنوا به وبرسولِه، لِيَرُدُّوهم إلى الكفرِ بعدَ الإيمانِ، وبيَّن بُطْلانَ حُجَّةِ هؤلاء، وتوعَّدَهم بغَضَبِه عليهم، وعذابِه الشَّديدِ، وذلك في قولِه تعالى: وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ). ((أضواء البيان)) (6/373). .
وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ.
أي: وعليهم مِنَ اللهِ غَضَبٌ، ولهم مع ذلك عَذابٌ شَديدٌ [315] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/488)، ((تفسير القرطبي)) (16/15)، ((تفسير السعدي)) (ص: 756). قِيلَ: المُرادُ بالعذابِ هنا: عَذابُ الآخِرةِ. ومِمَّن قال بذلك: ابنُ جرير، والواحدي، والقرطبي، وابن كثير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/488)، ((الوسيط)) للواحدي (4/47)، ((تفسير القرطبي)) (16/15)، ((تفسير ابن كثير)) (7/196). وقال ابنُ عاشور: (لعلَّ المرادَ به عذابُ السَّيفِ في الدُّنيا بالقَتلِ يومَ بَدرٍ). ((تفسير ابن عاشور)) (25/66). وقال ابنُ عثيمين: (وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ أي: قَوِيٌّ، قد يكونُ في الدُّنيا، وقد يكونُ في الآخرةِ، وقد يكونُ فيهما). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 161). ويُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/280). .
كما قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ *ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [الحج: 8 - 10] .
اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ مَن يُحاجُّ في دينِ الإسلامِ؛ صَرَّح بأنَّه تعالى هو الَّذي أنزَل الكِتابَ [316] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/330). .
وأيضًا لَمَّا ذكَرَ تعالى أنَّ حُجَجَه واضِحةٌ بَيِّنةٌ، بحيثُ استجابَ لها كُلُّ مَن فيه خيرٌ؛ ذَكَر أصلَها وقاعِدتَها، بل جميعُ الحُجَجِ الَّتي أوصَلَها إلى العبادِ تَرجِعُ إليه، فقال: اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ، فالكِتابُ هو هذا القُرآنُ العَظيمُ، نَزَل بالحَقِّ، واشتَمَل على الحَقِّ والصِّدقِ واليَقينِ، وكُلُّه آياتٌ بَيِّناتٌ، وأدِلَّةٌ واضِحاتٌ، على جميعِ المطالِبِ الإلهيَّةِ، والعقائِدِ الدِّينيَّةِ، فجاء بأحسَنِ المسائِلِ، وأوضَحِ الدَّلائِلِ [317] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 756). .
اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ.
أي: اللهُ الَّذي أنزَلَ القُرآنَ على رَسولِه مُشتَمِلًا على الحَقِّ، وأنزَلَ العَدلَ؛ ليُقضَى بيْنَ النَّاسِ بالإنصافِ، ويُحكَمَ فيهم بحُكمِ اللهِ تعالى [318] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/489)، ((تفسير القرطبي)) (16/15)، ((تفسير ابن كثير)) (7/196)، ((تفسير السعدي)) (ص: 756)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/64، 65)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 165، 166). .
كما قال تعالى: وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ [البقرة: 213] .
وقال سُبحانَه: وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ [الرحمن: 7 - 9].
وقال عزَّ وجلَّ: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد: 25] .
وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ.
أي: وأيُّ شَيءٍ يُعلِمُك -يا مُحمَّدُ [319] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/767)، ((تفسير ابن جرير)) (19/187). وقيل: الخِطابُ لِغَيرِ مُعَيَّنٍ، أي: وما يُدْريكَ أيُّها المُخاطَبُ. وممَّن اختاره: أبو حيَّان، وابنُ عاشور، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/331)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/69)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 166). - لَعَلَّ وَقتَ مَجيءِ القيامةِ قد دنا واقتَرَبَ [320] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/490)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (10/6577)، ((تفسير القرطبي)) (16/15)، ((تفسير الشوكاني)) (4/609)، ((تفسير السعدي)) (ص: 756). قال السمين الحلبي: (قَولُه: لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ: إنَّما ذَكَّر قَرِيبٌ وإنْ كان خبَرًا لمؤنَّثٍ؛ لأنَّ السَّاعةَ في معنى الوَقتِ، أو البَعثِ، أو على مَعنى النَّسَبِ، أي: ذاتُ قُرْبٍ، أو على حَذفِ مُضافٍ، أي: مَجيءَ السَّاعةِ. وقيلَ: للفَرْقِ بيْنَها وبيْنَ قَرابةِ النَّسَبِ). ((الدر المصون)) (9/547). ؟
كما قال تعالى: يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا [الأحزاب: 63] .
يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18).
يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا.
أي: يَطلُبُ التَّعجيلَ بمَجيءِ السَّاعةِ الَّذين لا يُؤمِنونَ بقِيامِها؛ استِهزاءً مِنهم، أو إنكارًا وتَكذيبًا لِوُقوعِها [321] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/490)، ((تفسير القرطبي)) (16/16)، ((تفسير ابن كثير)) (7/197)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/283)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/68). .
كما قال تعالى: وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ [النمل: 71، 72].
وقال سُبحانَه: وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ [سبأ: 29، 30].
وَالَّذِينَ آَمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ.
أي: والَّذين آمَنوا بيَومِ القيامةِ خائِفونَ مِن مَجيءِ السَّاعةِ خَوفًا عَظيمًا، ويُوقِنونَ أنَّ مَجيئَها حَقٌّ لا شَكَّ فيه [322] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/490)، ((تفسير القرطبي)) (16/16)، ((تفسير ابن كثير)) (7/197)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/283)، ((تفسير السعدي)) (ص: 756)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/68). .
قال الله تبارك وتعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون: 60].
أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ.
أي: ألَا إنَّ الَّذين يُجادِلونَ ويَشُكُّونَ [323] قال الشَّوكاني: (أي: يُخاصِمونَ فيها مُخاصَمةَ شَكٍّ ورِيبةٍ، مِنَ المُماراةِ، وهي: المُخاصَمةُ والمُجادَلةُ، أو مِنَ المِرْيةِ: وهي الشَّكُّ والرِّيبةُ). ((تفسير الشوكاني)) (4/609). وقال البِقاعي: (يُظهِرونَ شَكَّهم في مَعرِضِ اللَّجاجةِ الشَّديدةِ؛ طَلبًا لظُهورِ شَكِّ غَيرِهم؛ مِن مَرَيتُ النَّاقةَ: إذا مَسَحْتَ ضَرْعَها بشِدَّةٍ للحَلْبِ؛ لِتَستخرِجَ ما عساه يكونُ فيها مِنَ اللَّبَنِ). ((نظم الدرر)) (17/284). ويُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/71). في قيامِ السَّاعةِ لَفي ذَهابٍ بَعيدٍ عن طَريقِ الحَقِّ والصَّوابِ [324] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/490)، ((تفسير القرطبي)) (16/16)، ((تفسير ابن كثير)) (7/197)، ((تفسير الشوكاني)) (4/609)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/69). .

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ أنَّ الَّذي يُجادِلُ -ولو فيما له فيه عِلْمٌ- إذا كان قصدُه إبطالَ الحقِّ وإثباتَ الباطلِ؛ فلا شكَّ أنَّه مذمومٌ [325] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/384). .
2- قال تعالى: وَالَّذِينَ آَمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا: أي خائِفونَ منها [326] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي)) (7/68). ، وقال تعالى: رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ [النور: 37] ، وقال سبحانه: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [البقرة: 281] . وخوفُ القيامةِ وسيلةٌ إلى الاستعدادِ لها [327] يُنظر: ((شجرة المعارف والأحوال)) للعز بن عبد السلام (ص: 68). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ الله تعالى: وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ هذه عُقوبةُ كُلِّ مُجادِلٍ للحَقِّ بالباطِلِ [328] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 756). .
2- الحُجَّةُ في كتابِ اللهِ يُرادُ بها نوعانِ:
أحدُهما: الحُجَّةُ الحَقُّ الصَّحيحةُ، كقَولِه تعالى: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ [الأنعام: 83] ، وقَولِه تعالى: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ [الأنعام: 149] .
والنَّوعُ الثَّاني: حُجَّةٌ يُرادُ بها مُطلَقُ الاحتِجاجِ بحَقٍّ أو بباطِلٍ، كقَولِه هنا: وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وقَولِه: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ [آل عمران: 20] ، وقَولِه: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآَبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الجاثية: 25] ، وقَولِه: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ [329] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (4/173). [البقرة: 258] .
3- في قَولِه تعالى: وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ أنَّ الحقَّ إذا ظَهَر وعُرِفَ، وكان مَقصودُ الدَّاعي إلى البِدعةِ إضرارَ النَّاسِ؛ قُوبِلَ بالعُقوبةِ [330] يُنظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية (7/173). .
4- قَولُ الله تعالى: وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ يُشيرُ إلى الانتِصارِ على أهلِ الرِّدَّةِ، وضَربِهم بكُلِّ شِدَّةٍ؛ لِسُوءِ مَنزِلتِهم عِندَه، كما كَشَف عنه الحالُ، عندَ نَدْبِ الصِّدِّيقِ إليهم بالقِتالِ، رَضِي اللهُ عنه وأرضاه [331] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/280). .
5- قولُه تعالى: أَنْزَلَ الْكِتَابَ فيه إثباتُ عُلُوِّ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ والمرادُ بالكتابِ هنا كلامُه عزَّ وجلَّ الَّذي أوحاه إلى رُسلِه؛ وجْهُ الدَّلالةِ: أنَّ النُّزولَ يكونُ مِن الأعلَى إلى الأسفلِ [332] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 169). .
6- قولُه تعالى: وَالْمِيزَانَ فيه إثباتُ القياسِ؛ لأنَّ الميزانَ ما تُوزَنُ به الأشياءُ ويُقارَنُ بيْنَها، ففيه إثباتُ القياسِ في الشَّرائعِ السَّماويةِ [333] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 168). .
7- قولُه تعالى: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ فيه أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم لا يَعلَمُ متى تقومُ السَّاعةُ؛ لقولِه: وَمَا يُدْرِيكَ، أي: ما يُعْلِمُك؟! وهذا حقٌّ ثابتٌ؛ فإنَّ جبريلَ عليه السَّلامُ سأل النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: متى السَّاعةُ، فقال: ((ما المَسؤولُ عنها بأعْلَمَ مِن السَّائلِ )) [334] أخرجه البخاري (50)، ومسلم (9) من حديث أبي هريرةَ رضي الله عنه. يعني: كما أنَّك أنت تَجهَلُها؛ فأنا أجهلُها، ولهذا مَنِ ادَّعَى عِلْمَ السَّاعةِ فإنَّه كاذبٌ، مُكَذِّبٌ لقولِ اللهِ تعالى: لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ [335] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 169). [الأعراف: 187] .
8- كلُّ موضعٍ فى القرآنِ: وَمَا أَدْرَاكَ فقد عُقِّب ببيانِه؛ نحوُ قولِه تعالى: وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ [القارعة: 10، 11]، وكلُّ موضعٍ ذُكِر بلَفظِ: وَمَا يُدْرِيكَ لم يُعقَّبْ ببيانِه، نحوُ قولِه تعالى: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ [336] يُنظر: ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (2/597). وقال الفَرَّاءُ: (كلُّ ما كان في القرآنِ مِن قولِه: وَمَا أَدْرَاكَ فقد أدراه، وما كان مِن قولِه: وَمَا يُدْرِيكَ فلم يُدْرِه). ((معاني القرآن)) (3/280). وأخرج ابن جرير في ((تفسيره)) (23/207) بسندِه عن سُفْيانَ بنِ عُيَيْنةَ، قال: (ما في القرآنِ: وَمَا يُدْرِيكَ فلم يُخبِرْه، وما كان: وَمَا أَدْرَاكَ فقد أخبَرَه). وأخرجه أيضًا ابنُ المُنذِرِ وابنُ أبي حاتم، كما في ((الدر المنثور)) للسيوطي (6/664). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالى: وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ
- قولُه: وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ عطْفٌ على جُملةِ وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ... إلخ [الشورى: 15] ، وهو يَقتضي انتِقالَ الكلامِ؛ فلمَّا استَوفَى حظَّ أهلِ الكِتابِ في شأْنِ المُحاجَّةِ معهم، رجَعَ إلى المشرِكينَ في هذا الشَّأنِ بقولِه: وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ. وتَغييرُ الأُسلوبِ بالإتيانِ بالاسمِ الظاهرِ المَوصولِ، وكَونِ صِلتِه مادَّةَ الاحتِجاجِ، مُؤْذِنٌ بتَغييرِ الغَرَضِ في المُتحدَّثِ عنهم، مع مُناسَبةِ ما أُلحِقَ به مِن قولِه: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا [الشورى: 18] ، وقولِه: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى: 21] ؛ فالمقصودُ بـ (الَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ) المشرِكونَ؛ لأنَّهم يُحاجُّونَ في شأْنِ اللهِ، وهو الوَحدانيَّةُ [337] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/65). ، وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ.
- وقيل: إطلاقُ اسمِ الحُجَّةِ على شُبُهاتِهم مُجاراةٌ لهم بطَريقِ التَّهكُّمِ، والقرينةُ قولُه: دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ [338] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/28)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/66). ويُنظر ما تقدَّم مِن القولِ بأنَّ الحُجَّةَ تُطلَقُ على مُطلَقِ الاحتِجاجِ (ص: 436). .
- ومَفعولُ يُحَاجُّونَ مَحذوفٌ، دلَّ عليه قولُه: مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ، والتَّقديرُ: يُحاجُّونَ المسْتَجيبينَ للهِ مِن بَعدِ ما اسْتَجابوا له، أي: اسْتَجابوا لِدَعْوتِه على لِسانِ رسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ [339] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/66). .
- وأيضًا حُذِفَ فاعلُ اسْتُجِيبَ إيجازًا؛ لأنَّ المقصودَ: مِن بَعدِ حُصولِ الاستِجابةِ المعروفةِ [340] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/66). .
- وفي قولِه: حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ لم يُبيَّنْ وَجْهُ دَحضِ حُجَّتِهم؛ اكتِفاءً بما بُيِّنَ في تَضاعيفِ ما نزَلَ مِن القرآنِ مِن الأدِلَّةِ على فَسادِ تَعدُّدِ الآلهةِ، وعلى صِدقِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وعلى إمكانِ البعْثِ، وبما ظهَرَ للعِيانِ مِن تَزايُدِ المسلمينَ يومًا فيومًا، وأمْنِهم مِن أنْ يُعْتدَى عليهم [341] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/66). .
- قولُه: وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ الغضبُ: غضَبُ اللهِ، وإنَّما نُكِّرَ للدَّلالةِ على شِدَّتِه، ولم يُحتَجْ إلى إضافتِه إلى اسمِ الجَلالةِ أو ضَميرِه؛ لِظُهورِ المقصودِ مِن قولِه: حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ؛ فالتَّقديرُ: وعليهم غضَبٌ منه. وإنَّما قُدِّمَ المسنَدُ على المسنَدِ إليه بقولِه: وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ؛ للاهتِمامِ بوُقوعِ الغضَبِ عليهم كما هو مُقتضَى حرْفِ الاستِعلاءِ، وكذلك القولُ في وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ [342] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/66). .
2- قولُه تعالى: اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ كان مِن جُملةِ مُحاجَّةِ المشرِكينَ في اللهِ، ومِن أشَدِّها تَشْغيبًا في زَعمِهم: مُحاجَّتُهم بإنكارِ البعْثِ، وقد دحَضَ اللهُ حُجَّتَهم في مَواضِعَ مِن كِتابِه بنفْيِ استِحالتِه، وبدَليلِ إمْكانِه، وأَوْمَأَ هنا إلى مُقتضِي إيجابِه؛ فبيَّنَ أنَّ البعْثَ والجزاءَ حقٌّ وعدْلٌ، فكيف لا يُقدِّرُه مُدبِّرُ الكَونِ ومُنزِّلُ الكتابِ والميزانِ؟! وقد أشارتْ إلى هذا المعنى آياتٌ كثيرةٌ؛ مِنها قولُه تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ [المؤمنون: 115] ، وقَولُه: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ [الدُّخان: 38- 40]، وأكثرُها جاءَ نَظْمُها على نحوِ التَّرتيبِ الَّذي في نظْمِ هذه الآيةِ؛ مِن الابتِداءِ بما يُذكِّرُ بحِكمةِ الإيجادِ، وأنَّ تَمامَ الحِكمةِ بالجزاءِ على الأعمالِ [343] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/67). .
- وقولُه: اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ استِئنافٌ وبيانٌ لحُكمِه المأمورِ به في قولِه: وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ [الشورى: 15] ، وهي كالتَّخلُّصِ والتَّمهيدِ إلى ذِكرِ عِنادِهم، وهو استِعجالُهم بالسَّاعةِ بقولِه: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ؛ لأنَّه يُؤذِنُ بمُقدَّرٍ يَقتضيهِ المعنى، تقديرُه: فجُعِل الجزاءُ للسَّائرينَ على الحقِّ، والناكِبينَ عنه في يومِ السَّاعةِ، فلا مَحيصَ للعِبادِ عن لِقاءِ الجزاءِ، وما يُدْرِيك لعلَّ السَّاعةَ قريبٌ [344] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/37)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/67). .
- وقولُه: اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ هذه الجُمْلةُ مَوقعُها مِن جُملةِ وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ [الشورى: 16] مَوقعُ الدَّليلِ، والدَّليلُ مِن ضُروبِ البَيانِ؛ ولذلك فُصِلَتِ الجُملةُ عن الَّتي قبْلَها -أي: لم تُعطَفْ عليها-؛ لشِدَّةِ اتِّصالِ معناها بمَعنى الأُخرَى [345] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/67). .
- والإخبارُ عن اسمِ الجلالةِ باسمِ المَوصولِ الَّذي مَضمونُ صِلَتِه إنزالُه الكتابَ والميزانَ اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ؛ مِن أجْلِ ما في المَوصوليَّةِ مِن الإيماءِ إلى وَجْهِ بِناءِ الخبرِ الآتي، وأنَّه مِن جِنسِ الحقِّ والعدْلِ [346] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/67، 68). .
- ولامُ التَّعريفِ في الْكِتَابَ لِتَعريفِ الجنسِ، أي: إنزالُ الكتُبِ، وهو يَنظُرُ إلى قولِه آنِفًا: وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ [347] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/68). [الشورى: 15] .
- والباءُ في بِالْحَقِّ للمُلابَسةِ، أي: أنزَلَ الكتُبَ مُقترِنةً بالحقِّ، بَعيدةً عن الباطلِ [348] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/68). .
- والميزانُ هنا معبَّرٌ به عن العدْلِ والهُدى؛ بقَرينةِ قولِه: أَنْزَلَ؛ فإنَّ الدِّينَ هو المُنزَّلُ، والدِّينُ يدْعو إلى العدْلِ والإنصافِ في المجادَلةِ في الدِّينِ، وفي إعطاءِ الحُقوقِ؛ فشُبِّهَ بالميزانِ في تَساوي رُجحانِ كِفَّتَيْه [349] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/68). .
- وجُملةُ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ مَعطوفةٌ على جُملةِ اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ، والمُناسَبةُ هي إيذانُ تلك الجُملةِ بمُقدَّرٍ، وهو: فجُعِل الجزاءُ للسَّائرينَ على الحقِّ والناكِبينَ عنه في يومِ الساعةِ؛ فلا مَحيصَ للعِبادِ عن لِقاءِ الجزاءِ [350] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/68). .
- وكلمةُ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ جاريةٌ مَجْرَى المَثَلِ، والكافُ منها خِطابٌ لِغَيرِ مُعيَّنٍ -على قولٍ-، و(ما) استفهاميَّةٌ، والاستفهامُ مُستعمَلٌ في التَّنبيهِ والتَّهيئةِ، والمعنى: أيُّ شَيءٍ يُعلِمُك أيُّها السَّامعُ السَّاعةَ قريبًا [351] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/68، 69). ؟
- وفيه مُناسَبةٌ حسنةٌ، حيثُ قال هنا: لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ، وفي (الأحزابِ): تَكُونُ قَرِيبًا، زِيدَ معه تَكُونُ؛ مُراعاةً للفواصلِ [352] يُنظر: ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 224)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (1/420). .
3- قولُه تعالى: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ
- جُملةُ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا يَجوزُ أنْ تكونَ حالًا مِن السَّاعَةَ [الشورى: 17] . ويَجوزُ أنْ تكونَ بَيانًا لِجُملةِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ [الشورى: 17] ؛ لِما تَضمَّنتْه مِن التَّنبيهِ والتَّهيئةِ بالنِّسبةِ إلى فَريقَيِ المؤمنينَ بالسَّاعةِ، والَّذين لا يُؤمِنونَ بها، فذكَرَ فيها حالَ كِلا الفريقَينِ تُجاهَ ذلك التَّنبيهِ؛ فأمَّا المشرِكونَ فيَتلقَّوْنَه بالاستِهزاءِ والتَّصميمِ على الجحْدِ بها، وهو المرادُ بقولِه: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا، والَّذين آمَنوا بها يَعمَلونَ لِما به الفوزُ عِندَها؛ ولذلك جِيءَ عَقِبَها بجُملةِ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ [353] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/69). .
- والاستِعجالُ: طلبُ التَّعجيلِ، أي: يَطلُبُ الَّذين لا يُؤمِنونَ بالسَّاعةِ مِن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يُعجِّلَ اللهُ بحُلولِ السَّاعةِ لِيَبِينَ صِدقُه؛ تَهكُّمًا واستِهزاءً، وكِنايةً عن اتِّخاذِهم تأخُّرَها دليلًا على عَدمِ وُقوعِها، وهم آيِسُونَ منها، كما دلَّ عليه قولُه في مُقابِلِه: وَالَّذِينَ آَمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا [354] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/28)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/69). .
- قولُه: وَالَّذِينَ آَمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا، أي: مُشفِقون مِن أهْوالِها، وجُعِلَ الإشفاقُ مِن ذاتِ السَّاعةِ؛ لإفادةِ تَعظيمِ أهوالِها حتَّى كأنَّ أهوالَها هي ذاتُها [355] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/70). .
- والمرادُ بـ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ: المشرِكونَ، وعُبِّرَ عنهم بالمَوصولِ؛ لأنَّ الصِّلةَ تدُلُّ على عِلَّةِ استِعجالِهم بها، والمرادُ بـ (الَّذِينَ آمَنُوا): المسلِمونَ؛ فإنَّ هذا لَقبٌ لهم، ففي الكلامِ احتِباكٌ [356] الاحتِباكُ: هو الحذفُ مِن الأوائلِ لدَلالةِ الأواخِرِ، والحذفُ مِن الأواخرِ لدَلالةِ الأوائلِ، إذا اجتمَع الحَذفانِ معًا، وله في القرآنِ نظائرُ، وهو مِن إبداعاتِ القرآنِ وعناصرِ إعجازِه، وهو مِن ألطفِ الأنواعِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/204)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/347). ، تَقديرُه: يَستعجِلُ بها الَّذين لا يُؤمِنونَ بها فلا يُشفِقونَ منها، والَّذين آمَنوا مُشفِقونَ منها فلا يَستعجِلونَ بها [357] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/70). .
- وعُطِفتْ على مُشْفِقُونَ مِنْهَا جملةُ وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ؛ لإفادةِ أنَّ إشفاقَهم منها إشفاقٌ عن يَقينٍ وجَزْمٍ، لا إشفاقٌ عن تَردُّدٍ وخشْيةِ أنْ يَكشِفَ الواقعُ عن صِدقِ الإخبارِ بها، وأنَّه احتمالٌ مُساوٍ عِندَهم [358] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/70). .
- وتَعريفُ الحَقِّ في قولِه: أَنَّهَا الْحَقُّ تَعريفُ الجِنسِ، وهو يُفيدُ قَصْرَ المسنَدِ على المسنَدِ إليه قصْرَ مُبالَغةٍ؛ لِكَمالِ الجنسِ في المسنَدِ إليه، أي: يُوقِنونَ بأنَّها الحقُّ كلَّ الحقِّ؛ وذلك لِظُهورِ دَلائلِ وُقوعِها حتَّى كأنَّه لا حَقَّ غيرُه [359] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/70). .
- وجُملةُ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ تَذييلٌ لِما قبْلَها بصَريحِها وكِنايتِها؛ لأنَّ صَريحَها إثباتُ الضَّلالِ للَّذِين يُكذِّبونَ بالسَّاعةِ، وكِنايتَها إثباتُ الهُدى للَّذين يُؤمِنونَ بالسَّاعةِ، وهذا التَّذييلُ فَذْلَكةٌ [360] الفَذْلكةُ: مِن فَذْلَكَ حِسابَه فَذْلَكَةً، أي: أَنْهاهُ وفَرَغ مِنْه، وذكَر مُجمَلَ ما فُصِّل أولًا وخُلاصتَه. و(الفَذْلكةُ) كلمةٌ منحوتةٌ كـ (البَسملة) و(الحوقلة)، مِن قولِهم: (فذَلِكَ كذَا وكذَا عددًا). ويُرادُ بالفَذلكةِ النَّتيجةُ لِمَا سبَق مِن الكلامِ، والتفريعُ عليه، ومنها فَذْلَكةُ الحسابِ، أي: مُجمَلُ تفاصيلِه، وإنهاؤُه، والفراغُ منه، كقولِه تعالى: تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ بعْدَ قولِه: فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [البقرة: 196]. يُنظر: ((تاج العروس)) للزَّبِيدي (27/293)، ((كناشة النوادر)) لعبد السلام هارون (ص: 17)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (ص: 638، 639). للجُملةِ الَّتي قبْلَها [361] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/70). .
- وافتتاحُ الجُملةِ بحرْفِ (ألَا) الَّذي هو للتَّنبيهِ؛ لِقَصْدِ العِنايةِ بالكلامِ [362] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/71). .
- وفي قولِه: لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ جُعِلَ الضَّلالُ كالظَّرفِ لهم؛ تَشبيهًا لِتَلبُّسِهم بالضَّلالِ بوُقوعِ المظروفِ في ظرْفِه [363] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/71). .
- ووَصفُ الضَّلالِ بالبَعيدِ كِنايةٌ عن عُسرِ إرجاعِه إلى المقصودِ [364] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/71). .