موسوعة التفسير

سورة الشُّورى
الآيات (19-24)

ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ

غريب الكلمات:

لَطِيفٌ: أي: رَفيقٌ أو عالمٌ بدقائقِ الأمورِ، وأصلُ (لطف): يدُلُّ على رِفْقٍ وعلى صِغَرٍ فِي الشَّيءِ [365] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/250)، ((المفردات)) للراغب (ص: 740)، ((تفسير القرطبي)) (16/16). قال السعدي: (واللُّطفُ مِن أوصافِه تعالى معناه: الَّذي يُدرِكُ الضَّمائِرَ والسَّرائرَ، والَّذي يُوصِلُ عِبادَه -وخُصوصًا المؤمِنينَ- إلى ما فيه الخَيرُ لهم مِن حيثُ لا يَعلَمونَ ولا يَحتَسِبونَ). ((تفسير السعدي)) (ص: 756). .
حَرْثَ: أي: عَمَلَ وثَوابَ وكَسْبَ، وأصلُ (حرث): يدُلُّ على جَمعٍ وكَسبٍ [366] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 84، 109)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/49)، ((المفردات)) للراغب (ص: 226)، ((تفسير القرطبي)) (16/19)، ((تفسير ابن كثير)) (7/198). .
مُشْفِقِينَ: أي: خائفينَ، والإشفاقُ: عنايةٌ مُختلِطةٌ بخَوفٍ، فإذا عُدِّيَ بـ (مِن) فمعنى الخَوْفِ فيه أظهَرُ، وإذا عُدِّيَ بـ (على) فمعنى العنايةِ فيه أظهَرُ [367] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 425)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (10/ 6582)، ((المفردات)) للراغب (ص: 458، 459). .
رَوْضَاتِ: جمعُ رَوْضةٍ، وهي المكانُ الَّذي يَكثُرُ نَبْتُه، وأصلُ (روض): اتِّساعٌ [368] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/493)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/459)، ((المفردات)) للراغب (ص: 372)، ((تفسير القرطبي)) (16/20). .
الْمَوَدَّةَ: أي: المَحَبَّةَ، والوُدُّ: محبَّةُ الشَّيءِ، أو هو خالصُ الحُبِّ وألطفُه وأرَقُّه، يُقالُ: وَدِدْتُ الرَّجُلَ وُدًّا: أحببْتُه، وأصلُ (ودد): يدُلُّ على محبَّةٍ [369] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/75)، ((مختار الصحاح)) للرازي (ص: 335)، ((روضة المحبين ونزهة المشتاقين)) لابن القيم (ص: 46، 47)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (5/184)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/82). .
يَقْتَرِفْ: أي: يَكتَسِبْ ويَعمَلْ، والاقتِرافُ: الاكتِسابُ حُسنًا كان أو سُوءًا، وهو في الإساءةِ أكثرُ استِعمالًا، وأصلُ (قرف): يدُلُّ على مُخالَطةِ الشَّيءِ والالتِباسِ به [370] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 393)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 522)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/73)، ((المفردات)) للراغب (ص: 667)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 341)، ((تفسير ابن كثير)) (7/204)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 370). .
يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ: أي: يَطْبَعْ على قلبِك، فتَنْسَ هذا القرآنَ، وأصلُ (ختم): يدُلُّ على بُلوغِ آخِرِ الشَّيءِ، والطَّبعُ على الشَّيءِ لا يَكونُ إلَّا بعْدَ بُلوغِ آخِرِه [371] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/504)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/245)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (10/6587). .
وَيَمْحُ: أي: يُذْهِبُ ويَمحَقُ، والمَحْوُ: إزالةُ الأثَرِ، وأصلُ (محو): يدُلُّ على الذَّهابِ بالشَّيءِ [372] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/504)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/302)، ((المفردات)) للراغب (ص: 762). .
وَيُحِقُّ الْحَقَّ: أي: ويُثبِتُه ويُعلِيه، وأصلُ (حقق): يدُلُّ على إحكامِ الشَّيءِ وصِحَّتِه [373] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/504)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/15)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (10/6588)، ((المفردات)) للراغب (ص: 246، 247)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 990). .

مشكل الإعراب:

قَولُه تعالى: فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ
قَولُه: وَيَمْحُ: كَلامٌ مُستأنَفٌ ليس مَعطوفًا على جزاءِ الشَّرطِ يَخْتِمْ؛ إذ ليس المعنى على: إنْ يَشَأِ اللهُ يَمحُ الباطِلَ، بل هو تحقيقٌ لِمَحْوِه للباطِلِ؛ لأنَّه تعالى يمحو الباطِلَ مُطلقًا. فـ (يَمْحُ) مرفوعٌ بضمَّةٍ مُقَدَّرةٍ على الواوِ المحذوفةِ، لا مجزومٌ بالعَطفِ على يَخْتِمْ، وحَقُّه ظهورُ الواوِ في آخِرِه، ولكِنْ حُذِفَت الواوُ مِنه لفظًا لالتِقاءِ السَّاكِنَينِ، وحُذِفَت خَطًّا حَملًا للخَطِّ على اللَّفظِ، كما في قَولِه تعالى: سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ [العلق: 18] ، وقَولِه تعالى: وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ [الإسراء: 11] ، وكان القياسُ إثباتَ الواوِ رَسمًا، لكِنْ رَسمُ المُصحَفِ لا يلزَمُ جَريُه على القياسِ، ويُؤَيِّدُ الاستِئنافَ دونَ العَطفِ على يَخْتِمْ إعادةُ الاسمِ الجَليلِ (اللهُ) في وَيَمْحُ اللَّهُ، ورَفعُ المعطوفِ (يُحِقُّ) [374] يُنظر: ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (9/551)، ((تفسير الألوسي)) (13/34)، ((الجدول في إعراب القرآن)) لمحمود صافي (25/38)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/87). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى مُخبِرًا عن لُطْفِه بخَلْقِه: اللهُ بالِغُ اللُّطفِ بعِبادِه، يَرزُقُ مَن يَشاءُ منهم حَسَبَ ما تَقتَضيه حِكمتُه، وهو القَويُّ العَزيزُ.
ثمَّ يَذكُرُ اللهُ تعالى سُنَّةً مِن سُننِه الَّتي لا تتخلَّفُ، فيقولُ: مَن كان يريدُ عمَلَ الآخِرةِ والإعدادَ لها نُقَوِّهِ على الازديادِ مِن الأعمالِ الصَّالِحةِ، ونُيَسِّرْ له ذلك، ونُضاعِفْ له ثوابَه، ومَن كان يريدُ الدُّنيا دونَ الآخِرةِ نُعْطِه مِن مَتاعِها ما قُسِمَ له، وليس له في الآخِرةِ نَصيبٌ مِن ثَوابِ اللهِ تعالى.
ثمَّ يقولُ تعالى مُوبِّخًا المشركينَ: أمْ لأولئك المُشرِكينَ شُرَكاءُ شَرَعوا لهم مِنَ الدِّينِ ما لم يأذَنْ به اللهُ ولم يأمُرْ به؟! ولولا قَضاءُ اللهِ السَّابِقُ بتأخيرِ العَذابِ عنهم لَعَجَّل لهم العُقوبةَ، وإنَّ الظَّالِمينَ لهم عذابٌ مُؤلِمٌ!
ثمَّ يَذكُرُ اللهُ تعالى عاقِبةَ المشركينَ، مقابِلًا بيْنَها وبيْنَ عاقِبةِ المؤمنينَ، فيقولُ: ترَى الظَّالِمينَ يومَ القيامةِ -يا مُحمَّدُ- خائِفينَ مِن عذابِ اللهِ على ما عَمِلوه في الدُّنيا، وذلك العذابُ نازِلٌ بهم لا مَحالةَ. والَّذين آمَنوا وعَمِلوا الأعمالَ الصَّالِحاتِ في الدُّنيا هم في رَوْضاتِ الجنَّاتِ، لهم في الجَنَّةِ ما يَشاؤُونَه عندَ رَبِّهم، ذلك هو الفَضلُ الكبيرُ، ذلك النَّعيمُ العَظيمُ هو الَّذي يُبَشِّرُ اللهُ به عِبادَه الَّذين آمَنوا به وعَمِلوا الصَّالِحاتِ.
قل -يا مُحمَّدُ- لِقَومِك مِن قُرَيشٍ: لا أسألُكم على تَبليغي رِسالةَ رَبِّي جَزاءً، لكِنِّي أطلُبُ منكم أنْ تَوَدُّوني في قَرابَتي مِنكم، فتَكُفُّوا عنِّى أذاكم، وتمنَعوا عنِّى أذَى غيرِكم.
ثمَّ يُبيِّنُ سبحانَه جانبًا مِن مَظاهِرِ فضلِه على عِبادِه، فيقولُ: ومَن يَعمَلْ مِنَ المؤمِنينَ عَمَلًا صالِحًا فإنَّ اللهَ تعالى يَزيدُ له ثوابَ عَمَلِه، إنَّ اللهَ غَفورٌ لِذُنوبِ عبادِه، شَكورٌ أعمالَهم الصَّالِحةَ؛ فيَقبَلُها منهم، ويُضاعِفُها لهم.
ثمَّ يُوبِّخُ الله المشركينَ، فيقولُ: أمْ يَقولُ أولئك المُشرِكونَ: كَذَب مُحَمَّدٌ على رَبِّه في دعوى الوَحيِ والنُّبُوَّةِ؟! فإنْ يَشأِ اللهُ يَطبَعْ على قَلْبِك -يا مُحمَّدُ- فيُنسِك القُرآنَ. ويُذهِبُ اللهُ الباطِلَ، ويُثَبِّتُ الحَقَّ بكَلِماتِه الكَونيَّةِ والدِّينيَّةِ، إنَّ اللهَ عَليمٌ بما تُكِنُّه الضَّمائِرُ، لا يَخفَى عليه شَيءٌ سُبحانَه.

تفسير الآيات:

اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه أنزَل عليهم الكِتابَ المُشتَمِلَ على تلك الدَّلائِلِ اللَّطيفةِ، فكان ذلك مِن لُطفِ الله بعبادِه، فحسُنَ ذِكرُ ذلك هاهنا.
وأيضًا المتفَرِّقون استَوجَبوا العذابَ الشَّديدَ، ثمَّ إنَّه تعالى أخَّر عنهم ذلك العَذابَ، فكان ذلك أيضًا مِن لُطفِ الله تعالى، فلمَّا سَبَق ذِكرُ إيصالِ أعظَمِ المنافِعِ إليهم، ودَفْعِ أعظَمِ المَضارِّ عنهم؛ لا جَرَمَ حَسُنَ ذِكرُه هاهنا [375] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/590). .
اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ.
أي: اللهُ بالِغُ اللُّطفِ بعِبادِه، فيُيَسِّرُ لهم الخَيرَ، ويَسوقُ لهم الأرزاقَ بطُرُقٍ خَفيَّةٍ مِن حَيثُ لا يَشعُرونَ [376] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/491)، ((تفسير ابن كثير)) (7/197)، ((تفسير الشوكاني)) (4/610، 611)، ((تفسير السعدي)) (ص: 756). قال ابن عثيمين: (اللهُ لَطيفٌ بالعِبادِ كُلِّهم؛ البَرِّ والفاجِرِ، لكِنَّ لُطفَه بالبَرِّ لُطفٌ خاصٌّ مُستَمِرٌّ في الدُّنيا وفي الآخِرةِ، ولُطفَه بالفاجِرِ لُطفٌ عامٌّ يكونُ ابتِلاءً وامتِحانًا). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 191). ويُنظر: ((تفسير الألوسي)) (13/27، 28). .
كما قال تعالى: إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ [يوسف: 100] .
يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ.
أي: يَرزُقُ اللهُ مَن يَشاءُ مِن عبادِه بحَسَبِ ما تَقتَضيه حِكمتُه [377] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/491)، ((تفسير ابن كثير)) (7/197)، ((تفسير السعدي)) (ص: 757)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 192، 193). قال ابن عاشور: (المعنى: أنَّه لِلُطفِه بجميعِ عبادِه لا يَترُكُ أحدًا منهم بلا رِزقٍ، وأنَّه فَضَّل بَعضَهم على بَعضٍ في الرِّزقِ؛ جَريًا على مَشيئتِه). ((تفسير ابن عاشور)) (25/72). .
وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ.
أي: وهو المتَّصِفُ بكَمالِ القُوَّةِ؛ فلا يَلحَقُه سُبحانَه ضَعفٌ، ولا حَولَ ولا قُوَّةَ لأحَدٍ مِن المَخلوقينَ إلَّا به، وهو المتَّصِفُ بكَمالِ العِزَّةِ؛ فهو ذو القَدْرِ العَظيمِ، الغالِبُ القاهِرُ، المُمتَنِعُ عليه كُلُّ سُوءٍ ونَقصٍ [378] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/491)، ((تفسير ابن كثير)) (7/197)، ((تفسير السعدي)) (ص: 757)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 193- 195). .
مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا بَيَّن كَوْنَه لَطيفًا بعبادِه، كثيرَ الإحسانِ إليهم؛ بيَّن أنَّه لا بُدَّ لهم مِن أن يَسعَوا في طَلَبِ الخيراتِ، وفي الاحترازِ عن القبائِحِ [379] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/591). .
وأيضًا لَمَّا ذكَرَ الله تعالى الرِّزقَ؛ ذكَرَ حَديثَ الكَسبِ [380] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/331). .
وأيضًا لَمَّا بيَّن أنَّ الرِّزقَ ليس إلَّا في يَدِ الله تعالى؛ أتْبَعَه ما يُزَهِّدُ في طَلَبِ رِزقِ البَدَنِ، ويُرَغِّبُ في رِزقِ الرُّوحِ، فقال [381] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/287). :
مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ.
أي: مَن كان يُريدُ عَمَلَ الآخِرةِ والسَّعيَ والإعدادَ لها، فإنَّ اللهَ يُقَوِّيه ويُعينُه، ويُيسِّرُ له ذلك، فيَزدادُ مِن الصَّالحاتِ، ويُضاعِفُ الله له الثَّوابَ، ويَجْزيه بالحسنةِ عَشْرَ أمثالِها إلى سَبعِمئةِ ضِعفٍ [382] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/491)، ((تفسير ابن عطية)) (5/32)، ((تفسير القرطبي)) (16/18)، ((تفسير ابن كثير)) (7/198)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/287، 288). قال ابنُ عاشور: (نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ يحتمِلُ مَعنيَينِ: أن تكونَ الزِّيادةُ في ثوابِ العَمَلِ... وأن تكونَ الزِّيادةُ في العَمَلِ، أي: نُقَدِّرْ له العَونَ على الازديادِ مِن الأعمالِ الصَّالحةِ، ونُيَسِّرْ له ذلك، فيَزداد مِن الصَّالِحاتِ). ((تفسير ابن عاشور)) (25/75). ومِمَّن ذهب إلى المعنى الأوَّلِ: ابنُ جرير، والسمعاني، والبغوي، والقرطبي، وابن جُزَي، والشوكاني، والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/491)، ((تفسير السمعاني)) (5/72)، ((تفسير البغوي)) (4/142)، ((تفسير القرطبي)) (16/18)، ((تفسير ابن جزي)) (2/247)، ((تفسير الشوكاني)) (4/611)، ((تفسير السعدي)) (ص: 757). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: الحسَنُ. يُنظر: ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/166). وممَّن ذهب إلى المعنى الثَّاني: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/768). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: السُّدِّيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/492). وممَّن جمَع بيْنَ المعنيَينِ: ابنُ كثير، والبِقاعي. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/198)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/287). ويُنظر أيضًا: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/397). .
وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا.
أي: ومَن كان يُريدُ عَمَلَ الدُّنيا والسَّعيَ لها دونَ الآخِرةِ، فإنَّ اللهَ يُعطيه مِن مَتاعِها نَصيبَه الَّذي قَسَمَه له، ولا يَحرِمُه مِمَّا شاء له مِنَ رِزقٍ [383] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/491)، ((تفسير القرطبي)) (16/18)، ((تفسير ابن كثير)) (7/198)، ((تفسير السعدي)) (ص: 757)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/75). .
وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ.
أي: وليس له في الآخِرةِ نَصيبٌ مِن ثَوابِ اللهِ [384] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/491، 492)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/166)، ((تفسير السعدي)) (ص: 757). قال ابن القيِّم: (وهاهنا أمرٌ يَجِبُ التَّنبُّه له، وهو أنَّه لا يُمكِنُ إرادةُ الدُّنيا وعاجِلِها بأعمالِ البِرِّ دونَ الآخِرةِ مع الإيمانِ بالله ورَسولِه ولقائِه، أبدًا؛ فإنَّ الإيمانَ بالله والدَّارِ الآخِرةِ يَستلزِمُ إرادةَ العبدِ لرَحمةِ الله والدَّارِ الآخرةِ بأعمالِه؛ فحيث كان مُرادُه بها الدُّنيا فهذا لا يجامِعُ الإيمانَ أبدًا، وإن جامَعَ الإقرارَ والعِلمَ، فالإيمانُ وراءَ ذلك، والإقرارُ والمعرفةُ حاصِلان لِمَن شَهِدَ اللهُ سُبحانَه له بالكُفرِ مع هذه المعرفةِ، كفِرعَونَ وثمودَ، واليهودِ الَّذين شاهَدوا رسولَ اللهِ وعَرَفوه كما عَرَفوا أبناءَهم وهم مِن أكفَرِ الخَلقِ؛ فإرادةُ الدُّنيا وعاجِلِها بالأعمالِ قد تُجامِعُ هذه المعرفةَ والعِلمَ، ولكِنَّ الإيمانَ الَّذي هو وراءَ ذلك لا بدَّ أن يُريدَ صاحِبُه بأعمالِه اللهَ والدَّارَ الآخِرةَ. واللهُ المُستعانُ). ((عدة الصابرين)) (ص: 167). وقال ابن كثير: (وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ أيْ: ومَنْ كان إنَّما سَعْيُه لِيَحصُلَ له شَيءٌ مِن الدُّنيا، وليس له إلى الآخرةِ همَّةٌ البتَّةَ بالكلِّيَّةِ؛ حَرَمه اللهُ الآخرةَ، والدُّنيا إنْ شاءَ أعطاه منها، وإنْ لم يَشَأْ لم يَحصُلْ له لا هذه ولا هذه، وفازَ هذا السَّاعي بهذه النِّيَّةِ بالصَّفقةِ الخاسِرةِ في الدُّنيا والآخرةِ. والدَّليلُ على هذا أنَّ هذه الآيةَ هاهنا مُقَيَّدَةٌ بالآيةِ الَّتي في «سُبْحانَ» وهي قولُه تعالَى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا * كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا * انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا [الإسراء: 18-21] ). ((تفسير ابن كثير)) (7/198). .
كما قال تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا [الإسراء: 18، 19].
وقال سُبحانَه: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود: 15، 16].
وعن أُبَيِّ بنِ كَعبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((بَشِّرْ هذه الأُمَّةَ بالسَّناءِ [385] بالسَّناءِ: أي: بارتِفاعِ المَنزلةِ والقَدْرِ عندَ اللهِ تعالى. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (2/414). والرِّفْعةِ، والدِّينِ والنَّصرِ، والتَّمكينِ في الأرضِ، فمَن عَمِلَ مِنهم عَمَلَ الآخِرةِ للدُّنيا لم يكُنْ له في الآخِرةِ نَصيبٌ )) [386] أخرجه أحمد (21220) واللَّفظُ له، وابنُ حِبَّانَ (405)، والحاكمُ (7862). صَحَّحه ابنُ حِبَّان، والألباني في ((صحيح الجامع)) (2825)، وصَحَّح إسنادَه الحاكمُ، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/223): (رجالُه رجالُ الصَّحيحِ). ووثَّق رواتَه البوصيريُّ في ((إتحاف الخيرة المهرة)) (7/348)، وقوَّى إسنادَه شُعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (35/145). .
أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى أنَّه شَرَع للنَّاسِ ما وصَّى به نوحًا... الآيةَ؛ أخَذَ يُنكِرُ ما شَرَع غَيرُه تعالى [387] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/332). .
وأيضًا فإنَّ اللهَ تعالى لَمَّا بيَّن القانونَ الأعظَمَ والقِسْطاسَ الأقوَمَ في أعمالِ الآخِرةِ والدُّنيا؛ أردَفَه بالتَّنبيهِ على ما هو الأصلُ في بابِ الضَّلالةِ والشَّقاوةِ، فقال [388] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/592). :
أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ.
أي: أم للمُشرِكينَ شُرَكاءُ وَضَعوا لهم مِنَ الدِّينِ أمورًا لم يأذَنِ اللهُ بوَضعِها، ولم يأمُرْ بها [389] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/492، 493)، ((تفسير السمعاني)) (5/72)، ((تفسير ابن عطية)) (5/32، 33)، ((تفسير القرطبي)) (16/19)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/290، 291)، ((تفسير السعدي)) (ص: 757)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 202، 203). قال الطِّيبي: (أَمْ في قولِه: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ مُنقطِعةٌ، فيها معنى: «بل» والهمزةِ، ولا بدَّ مِن سَبْقِ كلامِ إخبارٍ أو إنشاءٍ يُضرَبُ عنه، حتَّى يُقرَّرَ ما بعدَه، وما سبَق هو قولُه تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا [الشورى: 13]). ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/42). ويُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/32). وقال القرطبي: (قوله تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ أي: ألَهم. والميمُ صِلةٌ، والهمزةُ للتَّقريعِ). ((تفسير القرطبي)) (16/19). ؟
كما قال تعالى: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [المائدة: 103] .
وقال سُبحانَه: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة: 31] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النحل: 116، 117].
وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ.
أي: ولولا قَضاءُ اللهِ السَّابِقُ بتأخيرِ العَذابِ عنهم لَعَجَّل لهم العُقوبةَ [390] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/493)، ((تفسير ابن كثير)) (7/198)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/77). .
كما قال تعالى: وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [يونس: 19].
وقال سُبحانَه: وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ [الشورى: 14] .
وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ.
أي: وإنَّ الظَّالِمينَ لهم -بسَبَب ظُلمِهم- عَذابٌ مُؤلِمٌ [391] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/493)، ((تفسير القرطبي)) (16/20)، ((تفسير ابن كثير)) (7/198). قِيلَ: المُرادُ بالعذابِ هنا: عذابُ الآخِرةِ. ومِمَّن قال بهذا: ابنُ جرير، وابنُ كثير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/493)، ((تفسير ابن كثير)) (7/198). وقِيلَ: المُرادُ: عذابُ الدُّنيا بالقَتلِ أو الأسْرِ والقَهرِ، وعذابُ الآخِرةِ. ومِمَّن قال بهذا: القرطبي، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (16/20)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/77). .
تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22).
تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا.
أي: ترى الظَّالِمينَ يَومَ القيامةِ -يا مُحمَّدُ- خائِفينَ خَوفًا عَظيمًا مِن عذابِ اللهِ لهم على ما كَسَبوه في الدُّنيا [392] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/493)، ((تفسير القرطبي)) (16/20)، ((تفسير ابن كثير)) (7/198)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/292، 293)، ((تفسير السعدي)) (ص: 757). ممَّن اختار أنَّ الخِطابَ للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ابنُ جرير، ومكِّي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/493)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (10/6582). وقيل: الخِطابُ لِغَيرِ مُعَيَّنٍ. وممَّن اختاره: الكرماني، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير الكرماني)) (1/601)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/78). قال الكرماني: (ليس بخِطابٍ لواحدٍ مُعَيَّنٍ، بل هو جارٍ مَجرى قولِ القائلِ: أيُّها الرَّجُلُ، وكلُّكم ذلك الرَّجُلُ، ومِثلُه في القرآنِ كثيرٌ، منه قولُه: ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا [الزمر: 21] و[الحديد: 20] ، وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ [الزمر: 75] ، تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ، وكذلك في سورةِ الملائكةِ -أي: قوله: وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ [فاطر: 12] -). ((تفسير الكرماني)) (1/601). وقال ابن عطية: (قوله: تَرَى الظَّالِمِينَ هي رؤيةُ بصَرٍ). ((تفسير ابن عطية)) (5/33). .
وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ.
أي: وذلك العَذابُ الَّذي يُشفِقونَ مِنه نازِلٌ بهم لا مَحالةَ [393] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/493)، ((تفسير ابن كثير)) (7/198)، ((تفسير السعدي)) (ص: 757). .
وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ.
أي: والَّذين آمَنوا في الدُّنيا بما وَجَب عليهم الإيمانُ به، وعَمِلوا الأعمالَ الصَّالِحاتِ بإخلاصٍ لله تعالى ومُتابَعةٍ لِشَرعِه: في رَوْضاتِ الجنَّاتِ مَسرُورون مُنَعَّمونَ [394] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/769)، ((تفسير ابن جرير)) (20/493)، ((تفسير ابن كثير)) (7/199)، ((تفسير السعدي)) (ص: 757). قال ابن جرير: (يعني بالرَّوضاتِ: جمْعَ رَوْضةٍ، وهي المكانُ الَّذي يَكثُرُ نَبْتُه... وإنَّما عنى جلَّ ثناؤُه بذلك: الخبرَ عمَّا هم فيه مِن السُّرورِ والنَّعيمِ). ((تفسير ابن جرير)) (20/493، 494). وقال الشوكاني: (رَوضةُ الجنَّةِ: أطيَبُ مَساكِنِها، كما أنَّها في الدُّنيا لأحسَنِ أمكِنَتِها). ((تفسير الشوكاني)) (4/611). .
لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ.
أي: للمُؤمِنينَ في الجنَّةِ عندَ رَبِّهم ما يَشاؤُونَه مِمَّا تَشتَهيه أنفُسُهم [395] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/494)، ((تفسير القرطبي)) (16/20)، ((تفسير السعدي)) (ص: 757). .
ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ.
أي: ذلك النَّعيمُ العَظيمُ الَّذي يُؤتيه اللهُ للمُؤمِنينَ في الجنَّةِ: هو الفَضلُ الكبيرُ الَّذي لا تَبلُغُ العُقولُ عَظيمَ قَدْرِه، ولا حَقيقةَ صِفَتِه [396] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/494)، ((تفسير القرطبي)) (16/20)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/294)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/80). قال ابن عاشور: (الفضلُ يجوزُ أن يكونَ مصدرًا بمعنى الشَّرفِ والتَّفوُّقِ على الغيرِ، فيَكونَ في معنى: فَضْلُهم، ويجوزُ أن يكونَ اسمًا لِما يتفضَّلُ به مِن عطاءٍ، فيكونَ في معنى: ذلك فَضْلُنا عليهم). ((تفسير ابن عاشور)) (25/80). وقال البِقاعي: (الْفَضْلُ أي: الَّذي هو أهلٌ لأن يكونَ فاضلًا عن كفايةِ صاحبِه ولو بالغ في الإنفاقِ الْكَبِيرُ الَّذي ملأ جميعَ جهاتِ الحاجةِ، وصغرَ عندَه كلُّ ما ناله غيرُهم مِن هذا الحُطامِ). ((نظم الدرر)) (17/294). .
ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23).
ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ.
أي: ذلك النَّعيمُ العَظيمُ هو الَّذي يُبَشِّرُ اللهُ به عِبادَه الَّذين آمَنوا به، وعَمِلوا بطاعتِه في الدُّنيا، فهم فائِزونَ به لا مَحالةَ [397] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/494)، ((تفسير القرطبي)) (16/21)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/294، 295)، ((تفسير ابن كثير)) (7/199). .
قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا كانت العادةُ جاريةً بأنَّ البشيرَ لا بدَّ له مِن حِبَاءٍ [398] الحِبَاءُ: ما يَحْبُو به الرَّجُلُ صاحِبَه ويُكرِمُه به. يُنظر: ((تهذيب اللغة)) للأزهري (5/172). وإن لم يَسأَلْ؛ لأنَّ بِشارتَه قائمةٌ مَقامَ السُّؤالِ، كان كأنَّه قيل: ماذا تَطلُبُ على هذه البِشارةِ؟ فأُمِر بالجوابِ بقولِه [399] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/295، 296). :
قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى.
أي: قُلْ -يا مُحمَّدُ- لِقَومِك مِن قُرَيشٍ: لا أطلُبُ منكم جَزاءً وعِوَضًا تُعطونَني إيَّاه على تبليغي إيَّاكم القُرآنَ ورِسالةَ اللهِ، لَكِنِّي أطلُبُ منكم أنْ تَوَدُّوني في قَرابَتي مِنكم، وتَصِلوا الرَّحِمَ الَّتي بيْني وبيْنَكم، فتَكُفُّوا عنِّي أذاكم، وتَمْنَعوني مِن أذَى النَّاسِ [400] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/494، 501، 502)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 964)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (3/129)، ((تفسير ابن كثير)) (7/199)، ((تفسير القاسمي)) (8/363)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/82، 83)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/69، 70). ومِمَّن ذهب إلى هذا المعنى في الجملةِ: ابنُ جرير، والواحديُّ، وابن القيم، وابن كثير، والقاسمي، وابن عاشور، والشنقيطي ونَسَبه إلى جُمهورِ المفَسِّرينَ، وأكثَرِ عُلَماءِ السَّلَفِ. يُنظر: المصادر السابقة. وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ، ومُجاهِدٌ، وعِكْرِمةُ، والضَّحَّاكُ، وقَتادةُ، والسُّدِّيُّ، وأبو مالكٍ، وعطاءُ بنُ دينارٍ، وعبدُ الرَّحمنِ بنُ زَيدِ بنِ أسْلَمَ، وغيرُهم. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/495)، ((تفسير ابن كثير)) (7/199). قيل: المُرادُ بذلك: طَلَبُ الإيمانِ به واتِّباعِه. ومِمَّن ذهب إلى هذا المعنى: البِقاعي. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/296). ويُنظر أيضًا: ((تفسير القرطبي)) (16/21). قال البِقاعي: (فإنَّكم إذا وصَلْتُم ما بيْني وبيْنَكم مِنَ الرَّحِمِ لم تُكَذِّبوني بالباطِلِ، ولم تَرُدُّوا ما جِئتُكم به مِن سَعادةِ الدَّارَينِ). ((نظم الدرر)) (17/296). وقال الواحدي: (كأنَّه يقولُ: إذا لم تُؤمِنوا بي فاحفَظوا قَرابتي ولا تُؤْذُوني). ((الوجيز)) (ص: 964). وقال السعدي: (يحتمِلُ أنَّ المرادَ: لا أسألُكم عليه أجرًا إلَّا أجرًا واحِدًا هو لكم، وعائِدٌ نَفعُه إليكم، وهو أن تَوَدُّوني وتُحِبُّوني في القَرابةِ، أي: لأجْلِ القَرابةِ. ويكونُ على هذا المَوَدَّةَ الزَّائِدةَ على موَدَّةِ الإيمانِ... ويحتمِلُ أنَّ المرادَ: إلَّا مَوَدَّةَ اللهِ تعالى الصَّادقةَ، وهي الَّتي يَصحَبُها التَّقَرُّبُ إلى الله، والتَّوسُّلُ بطاعتِه الدَّالَّةِ على صِحَّتِها وصِدْقِها؛ ولهذا قال: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى أي: في التَّقَرُّبِ إلى الله. وعلى كِلا القَولَينِ فهذا الاستِثناءُ دَليلٌ على أنَّه لا يَسألُهم عليه أجرًا بالكُلِّيَّةِ إلَّا أن يكونَ شَيئًا يعودُ نَفعُه إليهم، فهذا ليس مِن الأجرِ في شَيءٍ، بل هو مِن الأجرِ منه لهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم). ((تفسير السعدي)) (ص: 757، 758). .
عنِ ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما: (أنَّه سُئِلَ عن قَولِه: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى، فقال سَعيدُ بنُ جُبَيرٍ: قُرْبَى آلِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. فقال ابنُ عبَّاسٍ: عَجِلْتَ؛ إنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يَكُنْ بَطنٌ مِن قُرَيشٍ إلَّا كان له فيهم قَرابةٌ، فقال: إلَّا أن تَصِلوا ما بيْني وبيْنَكم مِنَ القَرابةِ) [401] رواه البخاري (4818). قال ابنُ تيميَّةَ: (ابنُ عبَّاسٍ كان من كِبارِ أهلِ البَيتِ وأعلَمِهم بتفسيرِ القُرآنِ، وهذا تفسيرُه الثَّابِتُ عنه... ويُبَيِّنُ ذلك أنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يَسألُ أجرًا أصلًا، إنَّما أجرُه على الله. وعلى المُسلمين مُوالاةُ أهلِ البيتِ، لكِنْ بأدِلَّةٍ أخرى غيرِ هذه الآيةِ، وليست مُوالاتُنا لأهلِ البَيتِ مِن أجرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في شَيءٍ. وأيضًا فإنَّ هذه الآيةَ مَكِّيَّةٌ، ولم يكُنْ عَلِيٌّ بعدُ قد تزوَّج بفاطِمةَ، ولا وُلِدَ له أولادٌ). ((منهاج السنة النبوية)) (4/26، 27). ويُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (4/562، 563). وقال ابنُ كثير: (الحَقُّ تَفسيرُ الآيةِ بما فَسَّرَها به الإمامُ حَبْرُ الأمَّةِ وتَرجُمانُ القُرآنِ: عبدُ اللهِ بنُ عبَّاسٍ، كما رواه عنه البخاريُّ رحمه الله، ولا تُنكَرُ الوَصاةُ بأهلِ البَيتِ، والأمرُ بالإحسانِ إليهم، واحترامُهم وإكرامُهم؛ فإنَّهم مِن ذُرِّيَّةٍ طاهِرةٍ؛ مِن أشرَفِ بيتٍ وُجِدَ على وَجهِ الأرضِ؛ فَخرًا وحسَبًا ونَسَبًا، ولا سيَّما إذا كانوا مُتَّبِعينَ للسُّنَّةِ النَّبَويَّةِ الصَّحيحةِ الواضِحةِ الجَلِيَّةِ، كما كان عليه سَلَفُهم؛ كالعبَّاسِ وبَنِيه، وعليٍّ وأهلِ بَيتِه وذُرِّيَّتِه -رَضِيَ اللهُ عنهم أجمعينَ). ((تفسير ابن كثير)) (7/201). .
وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا.
أي: ومَن يَعمَلْ مِنَ المؤمِنينَ حسَنةً مِن الحسناتِ ويَكْتَسِبْها، فإنَّ اللهَ تعالى يَزيدُ له ثوابَ عمَلِه ويُضاعِفُه له [402] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/502)، ((تفسير القرطبي)) (16/24)، ((تفسير ابن كثير)) (7/204)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/72). ومِمَّن ذهب إلى أنَّ معنى: نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا: نَزيدُه أجرًا وثوابًا لعمَلِه الصَّالحِ: ابنُ جرير، والقرطبي، وابن كثير، والشنقيطي. يُنظر: المصادر السابقة. قال البِقاعي: (وَمَنْ يَقْتَرِفْ أي: يَكسِبْ ويُخالِطْ، ويَعمَلْ بجِدٍّ واجتِهادٍ، وتعَمُّدٍ وعِلاجٍ). ((نظم الدرر)) (17/298). وقال السعدي: (نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا بأنْ يَشرَحَ اللهُ صَدْرَه، ويُيَسِّرَ أمْرَه، وتكونَ سَببًا للتَّوفيقِ لعمَلٍ آخَرَ، ويَزدادَ بها عَمَلُ المؤمِنِ، ويَرتَفِعَ عندَ الله وعندَ خَلْقِه، ويَحصُلَ له الثَّوابُ العاجِلُ والآجِلُ). ((تفسير السعدي)) (ص: 758). .
كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء: 40] .
وقال سُبحانَه: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [الأنعام: 160] .
وقال الله تبارك وتعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى [الليل: 5 - 7] .
إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ.
أي: إنَّ اللهَ بالِغُ المَغفِرةِ لِذُنوبِ عِبادِه، فيَستُرُها عليهم، ويَتجاوَزُ عن مُؤاخَذتِهم بها وإنْ كَثُرتْ؛ شَكورٌ لحَسَناتِهم، فيَقبَلُها منهم، ويُضاعِفُها لهم وإن قَلَّتْ [403] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/503)، ((تفسير ابن كثير)) (7/204)، ((تفسير السعدي)) (ص: 758). .
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ الكلامَ في أوَّلِ السُّورةِ إنَّما ابتُدئَ في تقريرِ أنَّ هذا الكِتابَ إنَّما حَصَل بوَحي اللهِ سبحانه، وهو قَولُه تعالى: كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الشورى: 3] ، واتَّصل الكَلامُ في تقريرِ هذا المعنى، وتعَلَّق البَعضُ بالبَعضِ حتَّى وَصَل إلى هاهنا، ثمَّ حكى هاهنا شُبهةَ القَومِ، وهي قَولُهم: إنَّ هذا ليس وحيًا مِن الله تعالى، فقال [404] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/596). .
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا.
أي: أم يَقولُ المُشرِكونَ: اختَلَق مُحمَّدٌ مِن تِلْقاءِ نَفْسِه دَعوى الوَحيِ والنُّبُوَّةِ؛ كَذِبًا منه على الله تعالى [405] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/503)، ((تفسير البيضاوي)) (5/81)، ((تفسير الشوكاني)) (4/612)، ((تفسير القاسمي)) (8/366)، ((تفسير السعدي)) (ص: 758)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 210). قال ابن عطية: (أَمْ هذه ... مُنقطِعةٌ مُضمَّنةٌ إضرابًا عن كلامٍ مُتقدِّمٍ، وتقريرًا على هذه المقالةِ منهم). ((تفسير ابن عطية)) (5/34). ويُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/53)، ((تفسير الزمخشري)) (4/221)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 210). ؟!
فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ.
فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ.
أي: إنِ افتَرَيتَ عليه كَذِبًا كما يَزعُمُ هؤلاء الجاهِلونَ -يا مُحمَّدُ- فإنَّ اللهَ قادِرٌ على أنْ يَطبَعَ على قَلْبِك، فيَسلُبَك ما آتاك مِنَ القُرآنِ؛ فإنَّ الله تعالى لا يُقِرُّه على افتِرائِه ولا يُمكِّنُه منه؛ فلولا أنَّ اللهَ أنزَلَه على قَلْبِه، ويَسَّرَه بلِسانِه، لَما أمكَنَه أنْ يأتيَهم بشَيءٍ منه [406] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/503)، ((التبيان)) لابن القيم (ص: 185 - 190)، ((تفسير ابن كثير)) (7/204)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/300-302)، ((تفسير السعدي)) (ص: 758)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/86)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 210-212). قال ابن عطية: (وقولُه تعالى: فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ معناه في قولِ قَتادةَ وفِرقةٍ مِن المفسِّرينَ: يُنسِيك القرآنَ، والمرادُ: الرَّدُّ على مَقالةِ الكفَّارِ وبيانُ إبطالِها، وذلك كأنَّه يقولُ: وكيف يَصِحُّ أن تكونَ مُفترِيًا وأنت مِن الله بمَرْأًى ومَسمَعٍ، وهو قادرٌ لو شاء على أن يَختِمَ على قلبِك فلا تعقل ولا تنطق ولا يستمر افتراؤُك؟! فمَقصدُ اللَّفظِ هذا المعنى، وحُذِف ما يدُلُّ عليه الظَّاهرُ اختصارًا واقتصارًا). ((تفسير ابن عطية)) (5/34). وقال الشوكاني: (فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ أي: لو افْتَرى على اللهِ الكذبَ لَشاءَ عدَمَ صُدورِه منه، وخَتَم على قلبِه بحيثُ لا يُخطِرُ ببالِه شيئًا مِمَّا كَذَب فيه كما تَزْعُمونَ. قالَ قَتادةُ: يَخْتِمْ على قلبِكَ فيُنْسِكَ القرآنَ، فأخْبَرهم أنَّه لو افْتَرى عليه لَفَعَل به ما أخْبَرهم به في هذه الآيةِ. وقال مُجاهِدٌ ومُقاتِلٌ: إنْ يَشأْ يَربِطْ على قلبِكَ بالصَّبرِ على أذاهم حتَّى لا يَدخُلَ قلبَكَ مَشَقَّةٌ مِن قولِهم. وقيلَ: الخِطابُ له، والمرادُ الكفَّارُ، أي: إنْ يَشَأْ يَخْتِمْ على قلوبِ الكفَّارِ، ويُعاجِلْهم بالعقوبةِ، ذَكَره القُشَيْريُّ. وقيل: المعنَى: لو حدَّثَتْكَ نفْسُكَ أنْ تَفتَريَ على اللهِ كَذِبًا لَطَبَع على قَلْبِك؛ فإنَّه لا يَجتَرِئُ على الكذبِ إلَّا مَن كانَ مطبوعًا على قلبِه). ((تفسير الشوكاني)) (4/612). !
كما قال تعالى: وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا [الإسراء: 86] .
وقال سُبحانَه: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ [الحاقة: 44 - 47] .
وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ.
أي: ويُذهِبُ اللهُ الباطِلَ ويُزيلُه [407] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/504)، ((معاني القرآن)) للزجاج (4/399)، ((تفسير الشوكاني)) (4/613)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/86، 87). قال الزمخشري: (ومِن عادةِ اللهِ أن يَمحوَ الباطِلَ ويُثَبِّتَ الحَقَّ بكَلِماتِه بوَحْيِه أو بقَضائِه، كقَولِه تعالى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ [الأنبياء: 18] ، يعني: لو كان مُفتَريًا كما تَزعُمونَ لَكَشَفَ اللهُ افتِراءَه ومَحَقَه، وقَذَف بالحَقِّ على باطِلِه فدَمَغَه! ويجوزُ أن يكونَ عِدَةً لِرَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنَّه يمحو الباطِلَ الَّذي هم عليه مِن البَهْتِ والتَّكذيبِ، ويُثَبِّتُ الحَقَّ الَّذي أنت عليه بالقُرآنِ وبقضائِه الَّذي لا مَرَدَّ له مِن نُصرتِك عليهم). ((تفسير الزمخشري)) (4/222). ويُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/248). .
كما قال الله تعالى: وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء: 81] .
وقال سُبحانَه وتعالى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ [الأنبياء: 18] .
وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ.
أي: ويُثبِّتُ اللهُ بكَلِماتِه الكَونيَّةِ والدِّينيَّةِ [408] قِيلَ: المُرادُ بالكَلِماتِ: القُرآنُ. ومِمَّن ذهب إلى هذا المعنى: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، والقرطبي، والشوكاني، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/770)، ((تفسير ابن جرير)) (20/504)، ((تفسير القرطبي)) (16/25)، ((تفسير الشوكاني)) (4/613)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/88). وفسَّر السَّمعانيُّ الكلماتِ بالمعجزاتِ الَّتي يُظهِرُها، وفسَّرها ابنُ كثيرٍ بالحُجَجِ والبَراهينِ. يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (5/75)، ((تفسير ابن كثير)) (7/204). وقيل: بِكَلِمَاتِهِ بوَحْيِه وقَضائِه. وممَّن اختاره: العُلَيمي، والقاسمي. يُنظر: ((تفسير العليمي)) (6/187)، ((تفسير القاسمي)) (8/367). قال السعدي: (وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ الكونيَّةِ، الَّتي لا تُغَيَّرُ ولا تُبَدَّلُ، ووعْدِه الصَّادقِ، وكلماتِه الدِّينيَّةِ الَّتي تُحقِّقُ ما شرَعه مِن الحقِّ، وتُثبِّتُه في القلوبِ، وتُبصِّرُ أُولي الألبابِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 758). وقال ابن عاشور: (والباءُ في بِكَلِمَاتِهِ للسَّبَبيَّةِ، والكَلِماتُ هي: كَلِماتُ القُرآنِ والوَحيِ، كقَولِه تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ [الفتح: 15] ، أو المرادُ: كَلِماتُ التَّكوينِ المُتعَلِّقةُ بالإيجادِ على وَفْقِ عِلْمِه، كقَولِه تعالى: لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ [الكهف: 27] ). ((تفسير ابن عاشور)) (25/88). الحقَّ على وَجهٍ لا يُمكِنُ معه زَوالُه [409] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/504)، ((تفسير القرطبي)) (16/25)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/303، 304)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/86، 87). .
كما قال تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة: 32، 33].
وقال سُبحانَه: وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا [التوبة: 40].
إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ.
أي: إنَّ اللهَ عَليمٌ بما تُكِنُّه الضَّمائِرُ، وتَنطوي عليه السَّرائِرُ مِن خَيرٍ وشَرٍّ، لا يَخفَى عليه سُبحانَه شَيءٌ مِن ذلك [410] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/504)، ((تفسير ابن كثير)) (7/204)، ((تفسير السعدي)) (ص: 758). قال ابن جرير: (يقولُ لنَبِيِّه صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم: لو حَدَّثْتَ نَفْسَك أنْ تَفتَرِيَ علَيَّ كذبًا، لَطَبَعْتُ على قلبِكَ، وأذهَبْتُ الَّذي آتَيْتُكَ مِن وحْيِي؛ لِأنِّي أمحُو الباطلَ فأُذْهِبُه، وأُحِقُّ الحقَّ. وإنَّما هذا إخبارٌ مِن اللهِ الكافرينَ به، الزَّاعِمينَ أنَّ مُحمَّدًا افترَى هذا القرآنَ مِن قِبَلِ نفْسِه، فأخبَرَهم أنَّه لو فَعَل ذلك لَفَعَل به ما أُخْبِر في هذه الآيةِ). ((تفسير ابن جرير)) (20/505). وقال البِقاعي: (ولَمَّا كانوا يَعلَمونَ أنَّه على حَقٍّ وهم على باطِلٍ، وكان مَن أحاط عِلمُه بشَيءٍ قَدَرَ على ما يُريدُه مِن ذلك الشَّيءِ؛ بيَّنَ ذلك بقَولِه مُعَلِّلًا على وَجهِ التَّأكيدِ؛ لِأنَّ عَمَلَهم عَمَلُ مَن يَظُنُّ أنَّ اللهَ لا يَعلَمُ مَكْرَهم: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ، أي: ما هو فيها مِمَّا يَعلَمُه صاحِبُه ومِمَّا لا يَعلَمُه، فيُبطِلُ باطِلَه ويُثَبِّتُ حَقَّه وإنْ كَرِهَ الخلائِقُ ذلك). ((نظم الدرر)) (17/304). .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ الله تعالى: اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يُخبِرُ تعالى بلُطفِه بعِبادِه؛ لِيَعرِفوه ويُحِبُّوه، ويَتعَرَّضوا لِلُطفِه وكَرَمِه [411] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 756). .
2- قَولُه تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ عن ابنِ عبَّاسٍ رضيَ الله عنهما قال: (مَن يُؤثِرُ دُنياه على آخِرتِه لم يُجعَلْ له نَصيبٌ في الآخرةِ إلَّا النَّارُ، ولم يَزْدَدْ بذلك مِنَ الدُّنيا شَيئًا إلَّا رِزقًا قد فُرِغَ منه، وقُسِمَ له) [412] أخرجه ابن المنذر كما في ((الدر المنثور)) للسيوطي (7/343). !
3- في قَولِه تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ حَثٌّ على أنْ يُريدَ الإنسانُ بعَمَلِه الآخرةَ [413] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 198). .
4- الإشارةُ إلى أنَّ الأعمالَ بالنِّيَّاتِ؛ لِقَولِه تعالى: يُرِيدُ، ففيه إشارةٌ إلى حُسنِ النِّيَّةِ، وأنَّ الإنسانَ يجبُ عليه إحسانُ النِّيَّةِ [414] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 199). .
5- قَولُه تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ فيه التَّحذيرُ مِن إرادةِ الدُّنيا فقط [415] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 199). .
6- قَولُ الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ أي: لِكُلِّ ذَنْبٍ تابَ منه صاحِبُه، أو كان يَقبَلُ الغُفرانَ وإنْ لم يَتُبْ منه، إنْ شاء؛ فلا يَصُدَّنَّ أحَدًا سَيِّئةٌ عَمِلَها عن الإقبالِ على الحَسَنةِ [416] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/299). .
7- في قَولِه تعالى: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ أنَّ الإنسانَ إذا عَلِمَ بأنَّ اللهَ تعالى عليمٌ بما في قَلبِه فإنَّه سوف يُمسِكُ عن كلِّ إرادةٍ سَيِّئةٍ، ويُقدِمُ على كلِّ إرادةٍ حَسَنةٍ [417] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 217). .
8- في قَولِه تعالى: يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ أنَّ الطَّبعَ على القَلبِ عُقوبةٌ، سواءٌ كان طَبعًا على العِلمِ، أو طَبعًا على القَصدِ والإرادةِ؛ فإنَّه عُقوبةٌ بلا شَكٍّ؛ ولهذا كان مِن دُعاءِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((يا مُقَلِّبَ القلوبِ، ثبِّتْ قلبي على دينِك)) [418] أخرجه مِن طُرُقٍ التِّرمذيُّ (2140)، وأحمد (12107) واللَّفظُ لهما، وابن ماجه (3834) من حديثِ أنَسِ بن مالكٍ رَضِيَ الله عنه. حَسَّنه الترمذي، وصَحَّحه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2140)، وقوَّى إسنادَه على شَرطِ مُسلمٍ شعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (19/160). ، ((اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ القُلوبِ، صَرِّفْ قُلوبَنا على طاعتِك)) [419] أخرجه مسلم (2654) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رَضِيَ الله عنهما. ؛ فالإنسانُ يَجِبُ ألَّا يَعتمِدَ على ما في قَلبِه مِن اليَقينِ؛ فإنَّ هذا رُبَّما يَزولُ، بل عليه أنْ يَسألَ اللهَ دائِمًا التَّثبيتَ؛ يُؤخَذُ مِن قَولِه تعالى: فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ [420] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 213). .
9- في قَولِه تعالى: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ أنَّه يجبُ على العبدِ أنْ يُصَحِّحَ ما في قَلبِه؛ لأنَّ المدارَ عليه؛ قال اللهُ تبارك وتعالى: أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ [421] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 217). [العاديات: 9، 10].

الفوائد العلمية واللطائف:

1- إنْ قِيل: دلَّ قولُه: اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ أنَّ بِرَّه تَوصَّلَ إلى جَميعِ العِبادِ، وقولُه: يَرْزُقُ حُكمٌ تَرتَّبَ على ذلك الوصفِ؛ فيَنْبغي الشُّمولُ أيضًا، وقولُه: مَنْ يَشَاءُ يُنافِيه. والجوابُ: إنَّما خَصَّ الرِّزقَ -والكلُّ مَرزوقونَ-؛ لأنَّه قد يَختَصُّ أحدٌ بنِعمةٍ، وغيرُه بأُخرى؛ فالعُمومُ لِجِنسِ البِرِّ، والخُصوصُ لِنَوعِه [422] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/38، 39). قال القرطبي: (في تفضيلِ قَومٍ بالمالِ حِكمةٌ؛ لِيَحتاجُ البَعضُ إلى البَعضِ، كما قال تعالى: لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا [الزخرف: 32]، فكان هذا لُطفًا بالعبادِ، وأيضًا لِيُمتَحَنَ الغِنيُّ بالفقيرِ، والفَقيرُ بالغَنيِّ، كما قال تعالى: وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ [الفرقان: 20]). ((تفسير القرطبي)) (16/17، 18). .
2- في قَولِه تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ أنَّ النِّيَّةَ يُعَبَّرُ عنها بلَفظِ الإرادةِ في القُرآنِ كثيرًا [423] يُنظر: ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (1/66). .
3- في قَولِه تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ إثباتُ كَرَمِ اللهِ، وأنَّه عزَّ وجلَّ أكرَمُ مِن عَبدِه؛ يَعمَلُ العبدُ قليلًا ويُثابُ كثيرًا [424] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 200). .
4- قَولُ الله تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ أظهَرَ اللهُ تعالى الفَرقَ في هذه الآيةِ بيْنَ مَن أراد الآخِرةَ وبيْنَ مَن أراد الدُّنيا؛ مِن وُجوهٍ:
الوَجهُ الأوَّلُ: أنَّه قَدَّم مُريدَ حَرثِ الآخرةِ في الذِّكرِ على مُريدِ حَرثِ الدُّنيا، وذلك يدُلُّ على التَّفضيلِ.
الوَجهُ الثَّاني: أنَّه قال في مُريدِ حَرثِ الآخِرةِ: نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ، وقال في مُريدِ حَرثِ الدُّنيا: نُؤْتِهِ مِنْهَا، وكَلِمةُ (مِن) للتَّبعيضِ، فالمعنى: أنَّه يُعطيه بعضَ ما يَطلُبُه، ولا يُؤتيه كُلَّه، وقال في سورةِ (الإسراءِ): عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ [الإسراء: 18] .
الوَجهُ الثَّالثُ: أنَّه تعالى قال في طالِبِ حَرثِ الآخِرةِ: نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ، ولم يَذكُرْ أنَّه تعالى يُعطيه الدُّنيا أمْ لا، وأمَّا طالِبُ حَرثِ الدُّنيا فإنَّه تعالى بيَّن أنَّه لا يُعطيه شيئًا مِن نَصيبِ الآخِرةِ على التَّنصيصِ، وهذا يدُلُّ على التَّفاوُتِ العَظيمِ، كأنَّه يقولُ: الآخِرةُ أصلٌ والدُّنيا تَبَعٌ، فواجِدُ الأصلِ يكونُ واجِدًا للتَّبَعِ بقَدْرِ الحاجةِ، إلَّا أنَّه لم يَذكُرْ ذلك؛ تنبيهًا على أنَّ الدُّنيا أخَسُّ مِن أن يُقرَنَ ذِكرُها بذِكرِ الآخِرةِ.
الوَجهُ الرَّابعُ: أنَّه تعالى بَيَّنَ أنَّ طالِبَ الآخرةِ يُزادُ في مَطلوبِه، وبيَّن أنَّ طالِبَ الدُّنيا يُعطَى بعضَ مَطلوبِه مِنَ الدُّنيا، وأمَّا في الآخِرةِ فإنَّه لا يَحصُلُ له نَصيبٌ البتَّةَ؛ فبَيَّنَ بالكَلامِ الأوَّلِ أنَّ طالِبَ الآخِرةِ يكونُ حالُه أبدًا في التَّرَقِّي والتَّزايُدِ، وبيَّن بالكَلامِ الثَّاني أنَّ طالِبَ الدُّنيا يكونُ حالُه في المقامِ الأوَّلِ في النُّقصانِ، وفي المقامِ الثَّاني في البُطلانِ التَّامِّ.
الوَجهُ الخامِسُ: أنَّ الآخِرةَ نَسيئةٌ والدُّنيا نَقدٌ، والنَّسيئةُ مَرجوحةٌ بالنِّسبةِ إلى النَّقدِ؛ لأنَّ النَّاسَ يقولونَ: النَّقدُ خَيرٌ مِن النَّسيئةِ؛ فبَيَّن تعالى أنَّ هذه القضيَّةَ انعكَسَت بالنِّسبةِ إلى أحوالِ الآخِرةِ والدُّنيا؛ فالآخِرةُ وإن كانت نَسيئةً فإنَّها مُتوَجِّهةٌ للزِّيادةِ والدَّوامِ؛ فكانت أفضَلَ وأكمَلَ، والدُّنيا وإن كانت نقدًا فإنَّها مُتوَجِّهةٌ إلى النُّقصانِ، ثمَّ إلى البُطلانِ؛ فكانت أخَسَّ وأرذَلَ، فهذا يدُلُّ على أنَّ حالَ الآخرةِ لا يُناسِبُ حالَ الدُّنيا البتَّةَ، وأنَّه ليس في الدُّنيا مِن أحوالِ الآخِرةِ إلَّا مجرَّدُ الاسمِ.
الوَجهُ السَّادِسُ: الآيةُ دالَّةٌ على أنَّ منافِعَ الآخِرةِ والدُّنيا ليست حاضِرةً، بل لا بُدَّ في البابَينِ مِنَ الحَرثِ، والحَرثُ لا يَتأتَّى إلَّا بتحَمُّلِ المَشاقِّ في البَذرِ، ثمَّ التَّسقيةِ والتَّنميةِ والحَصدِ، ثمَّ التَّنقيةِ، فلمَّا سَمَّى اللهُ كِلا القِسمَينِ حَرثًا عَلِمْنا أنَّ كُلَّ واحدٍ منهما لا يَحصُلُ إلَّا بتحَمُّلِ المتاعِبِ والمَشاقِّ، ثمَّ بيَّن تعالى أنَّ مصيرَ الآخرةِ إلى الزِّيادةِ والكَمالِ، وأنَّ مصيرَ الدُّنيا إلى النُّقصانِ ثمَّ الفَناءِ؛ فكأنَّه قيل: إذا كان لا بُدَّ في القِسمَينِ جميعًا مِن تحمُّلِ مَتاعِبِ الحِراثةِ والتَّسقيةِ والتَّنميةِ، والحَصدِ والتَّنقيةِ، فلَأنْ تُصرَفَ هذه المتاعِبُ إلى ما يكونُ في التَّزايُدِ والبقاءِ أَولى مِن صَرفِها إلى ما يكونُ في النُّقصان والانقِضاءِ والفَناءِ [425] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/591، 592). .
5- في قَولِه تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا أنَّ الإنسانَ إذا سَعَى للآخرةِ حَصَّل الدُّنيا والآخرةَ، وإذا سَعَى للدُّنيا فقط فاتَتْه الدُّنيا والآخِرةُ [426] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 393). .
6- في قَولِه تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ أنَّ النَّاويَ للفِعلِ، الجازِمَ، الآتيَ بما يُمكِنُ: فإنَّه بمَنزلةِ الفاعلِ التَّامِّ؛ يُوَضِّحُ هذا أنَّ اللهَ سُبحانَه في القرآنِ رَتَّبَ الثَّوابَ والعِقابَ على مُجرَّدِ الإرادةِ [427] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (10/744). .
7- قَولُه تعالى: يُرِيدُ فيه الرَّدُّ على الجَبْريَّةِ؛ لأنَّ الجَبْريَّةَ يقولونَ: إنَّ الإنسانَ لا إرادةَ له [428] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 199). !
8- قال اللهُ تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ لا يَتوهَّمَنَّ مُتوهِّمٌ أنَّ هذه الآيةَ ونحوَها تَحجُرُ تَناوُلَ المسلمِ حُظوظَ الدُّنيا إذا أدَّى حقَّ الإيمانِ والتَّكليفِ، ولا أنَّها تَصُدُّ عن خَلْطِ الحُظوظِ الدُّنيويَّةِ مع حُظوظِ الآخرةِ إذا وقَعَ الإيفاءُ بكِلَيْهما، ولا أنَّ الخلطَ بيْن الحظَّينِ يُنافي الإخلاصَ؛ كطلَبِ التَّبرُّدِ مع الوضوءِ، وطلَبِ الصِّحَّةِ مع التَّطوُّعِ بالصَّومِ، إذا كان المَقصَدُ الأصليُّ الإيفاءَ بالحقِّ الدِّينيِّ [429] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/75). ويُنظر أيضًا: ((الفروق)) للقرافي (3/22، 23)، ((الموافقات)) للشاطبي (2/362-373)، ((مقاصد المكلفين فيما يتعبد به لرب العالمين)) لعمر بن سليمان الأشقر (ص: 450-459). .
9- قَولُه تعالى: نُؤْتِهِ مِنْهَا فيه أنَّ مَن أراد حَرْثَ الدُّنيا فإنَّه لا يُعطى كلَّ ما أراد؛ ومَن أراد حَرْثَ الآخرةِ يُعطى كلَّ مُرادِه وزيادةً [430] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 199). .
10- قال الله تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ مَن كانت الدُّنيا مُرادَه، ولها يَعمَلُ في غايةِ سَعْيِه، لم يكُنْ له في الآخِرةِ نَصيبٌ؛ ومَن كانت الآخِرةُ مُرادَه، ولها يعمَلُ، وهي غايةُ سَعْيِه، فهي له. بَقِيَ أنْ يُقالُ: فما حُكمُ مَن يريدُ الدُّنيا والآخِرةَ؛ فإنَّه داخِلٌ تحت حُكمِ الإرادتَينِ فبأيِّهما يَلحَقُ؟ قيل: مِن هاهنا نشَأ الإشكالُ، وظَنَّ مَن ظَنَّ مِن المفَسِّرينَ أنَّ الآيةَ في حَقِّ الكافِرِ؛ فإنَّه هو الَّذي يُريدُ الدُّنيا دونَ الآخِرةِ، وهذا غيرُ لازمٍ طَردًا ولا عَكسًا؛ فإنَّ بَعضَ الكُفَّارِ قد يريدُ الآخِرةَ، وبَعضَ المُسلِمينَ قد لا يكونُ مرادُه إلَّا الدُّنيا، واللهُ تعالى قد عَلَّق السَّعادةَ بإرادةِ الآخِرةِ، والشَّقاوةَ بإرادةِ الدُّنيا، فإذا تجَرَّدت الإرادتانِ تجَرَّد مُوجَبُهما ومُقتَضاهما، وإن اجتمَعَتا فحُكمُ اجتِماعِهما حُكمُ اجتِماعِ البِرِّ والفُجورِ، والطَّاعةِ والمعصيةِ، والإيمانِ والشِّركِ: في العَبدِ، وقد قال تعالى لخَيرِ الخَلقِ بعدَ الرُّسُلِ: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ [آل عمران: 152] ، وهذا خِطابٌ للَّذين شَهِدوا معه الوَقعةَ، ولم يكُنْ فيهم مُنافِقٌ، والَّذين أُريدوا في هذه الآيةِ هم الَّذين أخْلَوا مَركزَهم الَّذي أمَرَهم رَسولُ الله بحِفظِه، وهم مِن خيارِ المُسلِمينَ، ولكِنَّ هذه إرادةٌ عارِضةٌ حمَلَتْهم على تَرْكِ المركزِ، والإقبالِ على كَسْبِ الغنائِمِ، بخِلافِ مَن كان مُرادُه بعَمَلِه الدُّنيا وعاجِلَها؛ فهذه الإرادةُ لونٌ، وإرادةُ هؤلاء لونٌ [431] يُنظر: ((عدة الصابرين)) لابن القيم (ص: 166). .
11- قَولُ الله تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ فيه أنَّ الأصلَ الحَجْرُ على كُلِّ أحَدٍ أن يَشرَعَ شَيئًا لم يأتِ عن اللهِ وعن رَسولهِ [432] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 757). .
12- بابُ العِباداتِ والدِّياناتِ والتَّقَرُّباتِ مُتَلقَّاةٌ عنِ اللهِ ورَسولِه؛ فليس لأحَدٍ أنْ يَجعَلَ شَيئًا عِبادةً أو قُربَةً إلَّا بدَليلٍ شَرعيٍّ؛ قال تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [433] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (31/35). ، فالعباداتُ مبناها على التَّوقيفِ والاتِّباعِ؛ لا على الهوَى والابتِداعِ [434] يُنظر: ((جامع المسائل لابن تيمية- المجموعة السابعة)) (ص: 423). ، فمَن تَرَكَ شَرْعَ الأنبياءِ وابتدعَ شرعًا، فشَرْعُه باطِلٌ لا يَجوزُ اتِّباعُه؛ ولهذا كَفَرَتِ اليَهودُ والنَّصارى؛ لأنَّهم تَمَسَّكوا بشَرعٍ مَنسوخٍ، واللهُ أوجَب على جميعِ الخلْقِ أنْ يُؤمِنوا بجميعِ كتبِه ورسلِه، ومحمَّدٌ خاتمُ الرُّسلِ؛ فعلى جميعِ الخلْقِ اتِّباعُه، واتِّباعُ ما شرَعه مِن الدِّينِ هو ما أتَى به مِن الكتابِ والسُّنَّةِ [435] يُنظر: ((جامع الرسائل)) لابن تيمية (1/284). .
13- في قَولِه تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ أنَّ مَن أطاع الزُّعَماءَ والكِبارَ في تحريمِ شَيءٍ أحَلَّه اللهُ أو تَحليلِ شَيءٍ حَرَّمَه اللهُ أو إيجابِ شَيءٍ لم يُوجِبْه اللهُ؛ فإنَّه قد اتَّخَذَهم شُرَكاءَ، ويَترتَّبُ على هذه الفائدةِ: أنَّ مُتَّبِعي دُعاةِ البِدَعِ قد اتَّخَذوهم شُرَكاءَ [436] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 204). ، فالرَّسولُ وَجَبَت طاعتُه؛ لأنَّه مَن يُطِعِ الرَّسولَ فقد أطاع اللهَ، فالحَلالُ ما حَلَّلَه، والحَرامُ ما حَرَّمه، والدِّينُ ما شَرَعَه، ومَن سِوى الرَّسولِ مِنَ العُلماءِ والمشايخِ والأُمَراءِ والمُلوكِ: إنَّما تَجِبُ طاعتُهم إذا كانت طاعتُهم طاعةً لله [437] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (10/266). .
14- قال تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ فمَن نَدَبَ إلى شَيءٍ يُتقَرَّبُ به إلى الله، أو أوجَبَه بقَولِه أو بفِعلِه مِن غيرِ أن يُشَرِّعَه اللهُ؛ فقد شَرَع مِنَ الدِّينِ ما لم يأذَنْ به اللهُ، ومَنِ اتَّبَعَه في ذلك فقد اتَّخَذه شريكًا لله شَرَع له مِنَ الدِّينِ ما لم يأذَنْ به اللهُ! نعم: قد يكونُ مُتأوِّلًا في هذا الشَّرعِ فيُغفَرُ له؛ مِن أجْلِ تأويلِه إذا كان مُجتَهِدًا الاجتِهادَ الَّذي يُعفَى فيه عن المُخطِئِ، ويُثابُ أيضًا على اجتهادِه، لكِنْ لا يجوزُ اتِّباعُه في ذلك، كما لا يجوزُ اتِّباعُ سائِرِ مَن قال أو عَمِلَ قَولًا أو عمَلًا قد عُلِمَ الصَّوابُ في خِلافِه، وإن كان القائِلُ أو الفاعِلُ مأجورًا أو معذورًا، وقد قال سُبحانَه: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة: 31] . فمَنْ أطاع أحدًا في دينٍ لم يأذَنْ به اللهُ مِن تحليلٍ أو تحريمٍ، أو استِحبابٍ أو إيجابٍ؛ فقد لَحِقَه مِن هذا الذَّمِّ نَصيبٌ، كما يَلحَقُ الآمِرَ النَّاهِيَ أيضًا نَصيبٌ، ثمَّ قد يكونُ كلٌّ منهما معفُوًّا عنه لاجتِهادِه، ومُثابًا أيضًا على الاجتهادِ، فيَتخَلَّفُ عنه الذَّمُّ؛ لِفَواتِ شَرطِه أو لوُجودِ مانِعِه، وإن كان المُقتَضي له قائِمًا، ويَلحَقُ الذَّمُّ مَن تبَيَّن له الحَقُّ فتَرَكه، أو مَن قَصَّر في طَلَبِه حتَّى لم يَتبيَّنْ له، أو أعرَضَ عن طلَبِ مَعرفتِه لِهوًى، أو لكَسَلٍ، أو نحوِ ذلك [438] يُنظر: ((اقتضاء الصراط المستقيم)) لابن تيمية (2/84، 85). .
15- قَولُه تعالى: شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ فيه أنَّ ما سِوى الأُمورِ الدِّينيَّةِ فإنَّه خاضِعٌ للأحوالِ العاديَّةِ؛ وعلى هذا لو شَرَعوا قوانينَ ونُظُمًا لا عَلاقةَ لها بالدِّينِ فإنَّ ذلك جائزٌ، ولا تُعَدُّ مُوافَقةُ هذه النُّظُمِ شِركًا، فكيف إذا كانت هذه النُّظُمُ تُؤَيَّدُ بالقَواعدِ العامَّةِ، وهي: «جَلْبُ المصالحِ، ودَفْعُ المفاسِدِ» [439] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 205). ؟!
16- أنَّ الأُمورَ المشروعةَ الَّتي يَفعلُها الإنسانُ تَدَيُّنًا لا بُدَّ أنْ يكونَ فيها إذنٌ مِن اللهِ تعالى؛ لأنَّ اللهَ تعالى أنكَرَ على هؤلاء الَّذين اتَّخَذوا شُرَكاءَ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ، وهذا بمعنى قولِنا: «الأصلُ في العباداتِ الحَظرُ والمَنعُ إلَّا إذا قام دَليلٌ على مَشروعيَّتِها»؛ وعليه فمَن تَعَبَّدَ بعبادةٍ غيرِ معروفةٍ يُنكَرُ عليه حتَّى يأتيَ بدَليلٍ؛ لأنَّ الدِّينَ مُتَلَقًّى مِن عندِ اللهِ عزَّ وجلَّ [440] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 204). .
17- قَولُه تعالى: وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فيه أنَّ ما قضاه اللهُ أزَلًا في الماضي لا يَتغيَّرُ [441] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 205). .
18- قَولُه تعالى: وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فيه إثباتُ الأسبابِ؛ فالكَلِمةُ هي السَّبَبُ بتأخيرِ العَذابِ، وإثباتُ الأسبابِ أمرٌ لا يُنكِرُه إلَّا الجاحِدُ [442] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 207). .
19- قَولُ الله تعالى: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يدُلُّ على أنَّ كلَّ الأشياءِ حاضرةٌ عندَه مُهيَّأةٌ [443] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/593). .
20- قَولُ الله تعالى: تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جملةُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا  ... في محَلِّ نَصبٍ حالٌ من الظَّالِمِينَ، أي: تَرَى الظَّالِمينَ فِي إشفاقٍ في حالِ أنَّ الَّذينَ آمَنوا يَطْمئِنُّونَ في رَوْضاتِ الجنَّاتِ، وفي هذه الحالِ دَلالةٌ على أنَّ الَّذين آمَنوا قد استقَرُّوا في الرَّوضاتِ مِن قَبلِ عَرْضِ الظَّالِمينَ على الحِسابِ، وإشفاقِهم مِن تَبِعاتِه، وهذا مِن تَضادِّ شَأْنَيِ الفريقَينِ في الآخِرةِ، على عكْسِه بما كانوا عليه في الدُّنيا المتقدِّمِ في قولِه: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا [الشورى: 18] ، أي: فاليومَ انقلَبَ إشفاقُ المؤمنينَ اطمِئنانًا، واطمئنانُ المشرِكينَ إشفاقًا، وشتَّانَ بيْنَ الاطمِئنانَينِ والإشفاقَينِ، وبهذه المُضادَّةِ في الحالتينِ وأسبابِهما صحَّ اعتبارُ كَينونةِ الَّذين آمَنوا في الجنَّةِ حالًا مِن الظالِمينَ [444] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/79). .
21- في قَولِه تعالى: قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى دَليلٌ على أنَّ في سَجايا البَشَرِ نُفورًا عن مَوعظةِ مَن أخَذَ الدِّينارَ والدِّرهمَ، وأنَّ التَّعَفُّفَ عنهما كان مَرموقًا في الجاهليَّةِ الجَهْلاءِ بعَينِ المَدحِ [445] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/98). .
22- قَولُ الله تعالى: قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى فيه سُؤالٌ: الرُّسُلُ عليهم الصَّلواتُ والسَّلامُ لا يأخُذونَ أجرًا على التَّبليغِ، وهناك آياتٌ دالَّةٌ على ذلك، فما وجهُ الجَمعِ بيْنَ تلك الآياتِ وآيةِ سُورةِ (الشُّورى) هذه؟
الجوابُ مِن وُجوهٍ:
الوَجهُ الأوَّلُ: على القَولِ بأنَّ معنى الآيةِ: إلَّا أن تَوَدُّوني في قَرابتي الَّتي بيْني وبيْنَكم، فتَكُفُّوا عنِّي أذاكم، وتمنَعوني مِن أذى النَّاسِ، كما تَمنَعونَ كُلَّ مَن بيْنَكم وبيْنَه مِثلُ قَرابتي منكم، وكان صلَّى اللهُ عليه وسلَّم له في كُلِّ بَطنٍ مِن قُرَيشٍ رَحِمٌ؛ فهذا الَّذي سألهم ليس بأجرٍ على التَّبليغِ؛ لأنَّه مَبذولٌ لكُلِّ أحَدٍ؛ لأنَّ كُلَّ أحَدٍ يَوَدُّه أهلُ قَرابتِه، ويَنتَصِرونَ له مِن أذى النَّاسِ، وقد فَعَل له ذلك أبو طالبٍ، ولم يكُنْ يَسألُ أجرًا على التَّبليغِ؛ لأنَّه لم يُؤمِنْ، وإذا كان لا يَسألُ أجرًا إلَّا هذا الَّذي ليس بأجرٍ؛ تحَقَّق أنَّه لا يَسألُ أجرًا.
الوَجهُ الثَّاني: أنَّ معنى الآيةِ إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى، أي: لا تُؤذُوا قَرابتي وعِتْرتي [446] العِتْرَةُ: نَسْلُ الإنسانِ. يُنظر: ((المصباح المنير)) للفيومي (2/391). ، واحفَظوني فيهم، وعليه فلا إشكالَ؛ لأنَّ المَوَدَّةَ بيْنَ المُسلِمينَ واجِبةٌ فيما بيْنَهم، وأحرى قرابةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والأحاديثُ في مِثلِ هذا كثيرةٌ جِدًّا، وإذا كان نَفْسُ الدِّينِ يُوجِبُ هذا بيْنَ المسلِمينَ تَبيَّن أنَّه غيرُ عِوَضٍ عن التَّبليغ.
وقيل: الاستِثناءُ مُنقَطِعٌ على كِلا القَولَينِ [447] قال ابن عاشور: (الاستثناءُ مُنقطِعٌ؛ لأنَّ الموَدَّةَ لأجْلِ القَرابةِ ليسَت مِن الجزاءِ على تبليغِ الدَّعوةِ بالقرآنِ، ولكِنَّها مِمَّا تَقتَضيه المروءةُ؛ فليسَ استِثناؤُها مِن عُمومِ الأجرِ المنفيِّ استِثناءً حقيقيًّا. والمعنى: لا أسألُكم على التَّبليغِ أجرًا، وأسألُكم الموَدَّةَ لأجْلِ القُربى، وإنَّما سألهم الموَدَّةَ؛ لأنَّ مُعامَلتَهم إيَّاه مُعامَلةَ الموَدَّةِ مُعِينةٌ على نَشرِ دَعوةِ الإسلامِ؛ إذْ تَلينُ بتلك المعامَلةِ شَكيمتُهم، فيَترُكونَ مُقاوَمتَه، فيَتمكَّنُ مِن تَبليغِ دَعوةِ الإسلامِ على وَجهٍ أكمَلَ؛ فصارت هذه الموَدَّةُ غرَضًا دينيًّا لا نَفْعَ فيه لِنَفْسِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم). ((تفسير ابن عاشور)) (25/83). ، وعليه فلا إشكالَ، فمعناه على القَولِ الأوَّلِ: لا أسألُكم عليه أجرًا لكِنْ أُذَكِّرُكم قَرابتي فيكم. وعلى الثَّاني: لكِنْ أُذَكِّرُكم اللهَ في قَرابتي؛ فاحفَظوني فيهم.
الوَجهُ الثَّالِثُ: أنَّ معنى إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى أي: إلَّا أن تَتَودَّدوا إلى اللهِ، وتَتقَرَّبوا إليه بالطَّاعةِ والعَمَلِ الصَّالحِ، وعليه فلا إشكالَ؛ لأنَّ التَّقَرُّبَ إلى اللهِ ليس أجرًا على التَّبليغِ.
الوَجهُ الرَّابعُ: أنَّ معنى إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى أي: إلَّا أن تَتَودَّدوا إلى قراباتِكم، وتَصِلوا أرحامَكم، وعليه أيضًا فلا إشكالَ؛ لأنَّ صِلةَ الإنسانِ رَحِمَه ليست أجرًا على التَّبليغِ [448] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/69-71). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الرازي)) (27/594). .
23- قَولُ الله تعالى: قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى فيه وُجوبُ محبَّةِ قرابتِه صلَّى الله عليه وسلَّم -وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ- فمَحَبَّتُه أَولى [449] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 230). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الرازي)) (27/596). .
24- في قَولِه تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ أنَّ المُتنَبِّئينَ الكَذَّابينَ لا يُطيلُ اللهُ تَمكينَهم، بل لا بُدَّ أن يُهلِكَهم؛ لأنَّ فَسادَهم عامٌّ في الدِّينِ والدُّنيا والآخِرةِ [450] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (14/269). .
25- أنَّ اللهَ سُبحانَه لا يُخْلي الصَّادِقَ ممَّا يدُلُّ على صِدقِه، ولا يُخْلي الكاذِبَ ممَّا يدُلُّ على كَذِبِه؛ إذْ مِن نَعتِه ما أخبَرَ به في قَولِه: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ، ثمَّ قال خبَرًا مُبتَدَأً: وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ؛ فهو سُبحانَه لا بُدَّ أن يَمحَقَ الباطِلَ، ويُحِقَّ الحَقَّ بكَلِماتِه [451] يُنظر: ((النبوات)) لابن تيمية (2/1083). .
26- قَولُه تعالى: فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ فيه أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم مَربوبٌ للهِ، يَفعَلُ به ما شاء [452] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 213). .
27- قَولُه تعالى: فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ فلا يُمَكِّنْك مِن الباطلِ: فيه أنَّه لا يُمكِنُ أن يُمَكِّنَ اللهُ تبارك وتعالى لأحَدٍ كافرٍ تَمكينًا مُطلَقًا؛ وقَولُنا: «التَّمكينُ المُطلَقُ» خَرَجَ به تَمكينُ اللهِ تعالى للكافرِ على وَجهٍ لا يَستَقِرُّ، كما حَصَلَ في غَزوةِ أُحُدٍ؛ فإنَّ المُشرِكينَ هَزموا المُسلِمينَ، لكِنَّه ليس هَزْمًا مُستَقِرًّا، بل هو مِن حِكمةِ اللهِ عزَّ وجَلَّ أنْ يُمَكِّنَ للكُفَّارِ حتَّى يَتشَجَّعوا على حَربِ المُسلِمينَ، ثمَّ يَقضيَ المُسلِمونَ عليهم [453] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 215). .
28- قَولُه تعالى: يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ فيه أنَّ القَلبَ مَحَلُّ الإدراكِ والعَقلِ والتَّصَرُّفِ؛ فدلَّ هذا على أنَّ مَدارَ التَّصَرُّفِ كُلِّه على القَلبِ [454] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 213). .
29- قولُه تعالى: وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ فيه أنَّ اللهَ تعالى لا يُقِرُّ على باطلٍ، ويَتفرَّعُ على هذه الفائدةِ فائدةٌ عظيمةٌ؛ وهي: «ما فُعِل في عهدِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ولم يُعْلَمْ أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم اطَّلَعَ عليه؛ فإنَّنا نَحْكُمُ بجوازِه»؛ لأنَّ اللهَ اطَّلَع عليه وسَكَت عنه، لأنَّ اللهَ تعالى لا يُقِرُّ على باطلٍ؛ والوحيُ ما زال ينزِلُ، ولهذا يُخْطِئُ بعضُ العلماءِ رحمهم اللهُ إذا استُدِلَّ بما وَقَع في عهدِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم فيَقولون: إنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم لم يَعْلَمْ! فنقولُ: هَبْ أنَّه لم يَعْلَمْ؛ فإنَّ اللهَ قد عَلِم [455] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 214). .
30- قَولُه تعالى: بِكَلِمَاتِهِ فيه إثباتُ الكَلِماتِ للهِ تعالى، واللهُ سُبحانَه وتعالى مُتَكَلِّمٌ بكَلامٍ حَقيقيٍّ؛ بحُروفٍ وأصواتٍ مَسموعةٍ، ومُحاوَرةٍ بيْنَه وبيْنَ مَن شاء مِن خَلْقِه، وهذا مَذهَبُ السَّلَفِ الصَّالحِ [456] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 216). .

بلاغة الآيات :

1- قولُه تعالى: اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ هذه الجُملةُ تَوطئةٌ لِجُملةِ مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ [الشورى: 20] ؛ لأنَّ ما سيُذكَرُ في الجُملةِ الآتيةِ هو أثَرٌ مِن آثارِ لُطفِ اللهِ سبحانه بعِبادِه ورِفقِه بهم، وما يَسَّرَ مِن الرِّزقِ للمؤمنينَ منهم والكفَّارِ في الدُّنيا، ثمَّ ما خَصَّ به المؤمنينَ مِن رِزقِ الآخرةِ؛ فالجُملةُ مُستأنَفةٌ استئنافًا ابتدائيًّا، مُقدِّمةٌ لاستِئنافِ الجُملةِ الموطَّأِ لها، وهي جُملةُ مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ [457] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/71). [الشورى: 20] .
- وعُطِفَ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ على صِفةِ لَطِيفٌ، أو على جُملةِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ، وهو تَمجيدٌ للهِ تعالى بهاتَينِ الصِّفتينِ، ويُفيدُ الاحتراسَ مِن تَوهُّمِ أنَّ لُطفَه عن عجْزٍ أو مُصانَعةٍ؛ فإنَّه قويٌّ عَزيزٌ لا يَعجِزُ ولا يُصانِعُ، أو عن تَوهُّمِ أنَّ رِزقَه لِمَن يَشاءُ عن شُحٍّ أو قلَّةٍ؛ فإنَّه القويُّ، والقويُّ تَنتفي عنه أسبابُ الشُّحِّ، والعزيزُ يَنْتفي عنه سَببُ الفقرِ، فرِزقُه لِمَن يَشاءُ بما يَشاءُ مَنوطٌ بحِكمةٍ عَلِمَها في أحوالِ خلْقِه عامَّةً وخاصَّةً؛ قال تعالى: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ الآيةَ [458] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/73). [الشورى: 27] .
- والإخبارُ عن اسمِ الجلالةِ بالمسنَدِ المعرَّفِ باللَّامِ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ يُفيدُ معنى قصْرِ القوَّةِ والعِزَّةِ عليه تعالى، وهو قصْرُ الجِنسِ للمُبالَغةِ؛ لِكَمالِه فيه تعالى، حتَّى كأنَّ قوَّةَ غيرِه وعِزَّةَ غيرِه عَدَمٌ [459] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/73). .
2- قولُه تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ كلامٌ مُستأنَفٌ مَسوقٌ لِبَيانِ الفَرْقِ بيْن عمَلَيِ العاملَينِ؛ بأنَّ مَن عَمِل للآخرةِ وُفِّق في عَملِه، وضُوعِفتْ حَسناتُه، ومَن كان عَملُه للدُّنيا أُعطِيَ شيئًا منها، لا ما يُريدُه ويَطمَحُ إليه، ولم يكُنْ له نَصيبٌ في الآخرةِ [460] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/27). .
- وهذه الآيةُ مُتَّصِلةٌ بقولِه: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا الآيةَ [الشورى: 18] ؛ لِما تَضمَّنتْه مِن وُجودِ فَريقينِ: فريقِ المؤمنينَ أكبرُ همِّهم حَياةُ الآخرةِ، وفَريقِ الَّذين لا يُؤمِنونَ هِممُهم قاصِرةٌ على حياةِ الدُّنيا؛ فجاء في هذه الآيةِ تَفصيلُ مُعامَلةِ اللهِ الفَريقَينِ مُعامَلةً مُتفاوِتةً، مع استوائِهم في كَونِهم عَبيدَه، وكَونِهم بمَحَلِّ لُطفٍ منه؛ فكانتْ جُملةُ اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ [الشورى: 19] تَمْهيدًا لهذه الجُملةِ، وكانتْ هاتِه الجُملةُ تَفصيلًا لِحُظوظِ الفَريقينِ في شأْنِ الإيمانِ بالآخِرةِ وعَدمِ الإيمانِ بها، ومِن أجْلِ هذا الاتِّصالِ بيْنَها وبيْن جُملةِ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا [الشورى: 18] تُرِك عطْفُها عليها، وتُرِك عطْفُ تَوطئتِها كذلك، ومِن أجْلِ الاتِّصالِ بيْنَها وبيْن جُملةِ اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ [الشورى: 19] اتِّصالَ المقصودِ بالتَّوطئةِ تُرِك عطْفُها على جُملةِ اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ [461] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/73، 74). .
- والحرْثُ في هذه الآيةِ تمثيلٌ للإقبالِ على كسبِ ما يَعُدُّه الكاسبُ نفْعًا له يَرْجو منه فائدةً وافرةً -بإقبالِ الفلَّاحِ على شَقِّ الأرضِ وزَرْعِها؛ لِيَحصُلَ له سنابلُ كثيرةٌ، وثمارٌ مِن شَجَرِ الحرْثِ [462] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/74). .
- وفي قولِه: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ لم يُذكَرْ في معنى عامِلِ الآخِرةِ (وله في الدُّنيا نَصيبٌ)، على أنَّ رِزقَه المقسومَ له واصلٌ إليه لا مَحالةَ؛ للاستِهانةِ بذلك إلى جنْبِ ما هو بصَددِه مِن زَكاءِ عمَلِه وفَوزِه في المآبِ [463] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/218). .
3- قولُه تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
- قولُه: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ حرْفُ (أَمْ) للإضرابِ الانتقاليِّ، وهو انتقالٌ مِن الكلامِ على تَفرُّقِ أهلِ الشَّرائعِ السَّالفةِ في شَرائعِهم مَن انقرَضَ منهم، ومَن بَقِيَ؛ كأهلِ الكِتابَينِ، إلى الكلامِ على ما يُشابِهُ ذلك مِن الاختلافِ على أصلِ الدِّيانةِ، وتلك مُخالَفةُ المشرِكينَ للشَّرائعِ كلِّها، وتَلقِّيهم دِينَ الإشراكِ مِن أئمَّةِ الكُفرِ، وقادةِ الضَّلالِ [464] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/76). .
- ومعنى الاستِفهامِ الذي تَقضيهِ (أَم) الَّتي للإضرابِ هو هنا للتَّقريعِ والتَّهكُّمِ؛ فالتَّقريعُ راجعٌ إلى أنَّهم شرَعوا مِن الدِّينِ ما لم يَأذَنْ به اللهُ، والتَّهكُّمُ راجعٌ إلى مَن شرَعوا لهم الشِّركَ، فسُئِلوا عمَّن شرَعَ لهم دِينَ الشِّركِ: أهُمْ شركاءُ آخَرونَ اعتَقَدوهم شُركاءَ للهِ في الإلهيَّةِ، وفي شَرْعِ الأديانِ كما شرَعَ اللهُ للنَّاسِ الأديانَ؟! وهذا تَهكُّمٌ بهم؛ لأنَّ هذا النَّوعَ مِن الشُّركاءِ لم يَدَّعِهِ أهلُ الشِّركِ مِن العرَبِ، وهذا المعنى هو الَّذي يُساعدُ تَنكيرَ شُرَكَاءُ ووَصْفَه بجُملةِ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ. ويجوزُ أنْ يكونَ المسؤولُ عن الَّذي شرَعَ لهم هو الأصنامَ الَّتي يَعبُدونَها، والمقصودُ: فضْحُ فظاعةِ شِركِهم بعُرُوِّهِ عن الانتسابِ إلى اللهِ، أي: إنْ لم يكُنْ مَشروعًا مِن الإلهِ الحقِّ؛ فهو مَشروعٌ مِن الآلهةِ الباطلةِ، وهي الشُّركاءُ، وظاهرٌ أنَّ تلك الآلهةَ لا تَصلُحُ لِتَشريعِ دِينٍ؛ لأنَّها لا تَعقِلُ ولا تَتكلَّمُ، فتَعيَّنَ أنَّ دِينَ الشِّركِ دِينٌ لا مُستنَدَ له [465] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/218)، ((تفسير البيضاوي)) (5/80)، ((تفسير أبي حيان)) (9/332)، ((تفسير أبي السعود)) (8/29)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/76). .
- وأُضيفَتِ الشُّركاءُ إليهم؛ لأنَّهم مُتَّخِذوها شُركاءَ للهِ، ولأنَّها سَببُ ضَلالتِهم وافتِتانِهم، فتارةً تُضافُ إليهم لهذه المُلابَسةِ، وتارةً إلى اللهِ [466] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/218)، ((تفسير البيضاوي)) (5/80)، ((تفسير أبي حيان)) (9/333). .
- قولُه: وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ عطْفٌ على جُملةِ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ، والمقصودُ تَحقيقُ إمْهالِهم إلى أجَلٍ مُسمًّى لا يُفلِتُهم مِن المؤاخَذةِ بما ظلَموا؛ فالعذابُ الأليمُ: عذابُ الآخرةِ لجَميعِهم، وعذابُ الدُّنيا بالسَّيفِ والذُّلِّ للَّذين أُخِّروا إلى إبَّانِ حُلولِه؛ مِثلَ: قتلِهم يومَ بَدْرٍ [467] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/77). ، وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ.
- وتَوكيدُ الخبَرِ بحَرْفِ التَّوكيدِ (إنَّ)؛ لأنَّ هذا الخبرَ مُوجَّهٌ إليهم؛ لأنَّهم يَسمَعونَ هذا الكلامَ، ويَعلَمونَ أنَّهم المقصودونَ به [468] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/77). .
4- قولُه تعالى: تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ
- قولُه: تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ بَيانٌ لِجُملةِ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [الشورى: 21] ؛ بُيِّنَ حالُ هذا العَذابِ ببَيانِ حالِ أصحابِه حينَ تَوقُّعِ حُلولِه، وكَفَى بذلك مُنبئًا عن هَولِه [469] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/78). .
- والخِطابُ بـ (تَرَى) لِغَيرِ مُعيَّنٍ -على قولٍ في التَّفسيرِ-؛ فيَعُمُّ كلَّ مَن تُمكِنُ منه الرُّؤيةُ يومَئذٍ [470] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/78). .
- وقولُه: مُشْفِقِينَ أي: خائفينَ خَوفًا شَديدًا. فإنْ قِيل: إذا كان معنى الخَوفِ: غَمٌّ يَلحَقُ الإنسانَ لِتَوقُّعِ مَكروهٍ؛ فكيف الجمْعُ بيْنَه وبيْنَ قولِه: وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ؟
فالجوابُ: أنَّ قولَه تعالى: تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ استِحضارٌ لِصُورةِ حالِ الظَّالِمينَ في مُشاهَدةِ السَّامعِ؛ لِيَنظُرَ إلى تلك الحالةِ العجيبةِ الشَّأنِ، وهو أنَّهم خائفونَ مُشفِقونَ يُحاوِلونَ الحذَرَ حينَ لا يَنفَعُهم الحذَرُ؛ لأنَّ الخائفَ إذا استَشعَرَ بما يُتوقَّعُ منه المكروهُ، وأخَذَ في الدَّفْعِ؛ رُبَّما تَخلَّصَ منه، ومَن ترَكَ الحذَرَ حتَّى إذا ألَمَّ به المحذورُ زاوَلَ الدَّفْعَ؛ كان مَظِنَّةً للتَّعجُّبِ منه والتَّعجيبِ [471] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/44)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/78). .
- وضَميرُ وَهُوَ وَاقِعٌ عائدٌ على مِمَّا كَسَبُوا باعتبارِ تَقديرِ مُضافٍ، أي: جَزاءَ ما كسَبوا، أي: في حالِ أنَّ الجزاءَ واقعٌ عليهم [472] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/78، 79). .
- قولُه: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ خَبرٌ ثانٍ عن الَّذِينَ آَمَنُوا، و(عِندَ) ظرْفٌ مُتعلِّقٌ بالكَونِ الَّذي تَعلَّقَ به الجارُّ والمجرورُ في لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ. والعِنديَّةُ تَشريفٌ لمعنى الاختِصاصِ الَّذي أفادَتْه اللَّامُ في قولِه: لَهُمْ، وعِنايةٌ بما يُعطَونَه مِن رَغْبةٍ، والمعنى: ما يَشاؤونَه حَقٌّ لهم مَحفوظٌ عِندَ ربِّهم. ولا يَنْبغي جَعْلُ (عِندَ) مُتعلِّقًا بفِعلِ (يَشاؤون)؛ لأنَّ (عِندَ) حينَئذٍ تَكونُ ظَرْفًا لِمَشيئتِهم، أي: مَشيئةٌ منهم مُتوجِّهةٌ إلى ربِّهم، فتَؤُولُ المشيئةُ إلى معنى الطَّلَبِ أنْ يُعطِيَهم ما يَطلُبون، فيَفُوتُ قصْدُ التَّشريفِ والعِنايةِ. ويَجوزُ أنْ يكونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ خَبرًا ثالثًا عن (الَّذين آمَنوا)، أي: همْ عِندَ ربِّهم، أي: في ضِيافتِه وقِراهُ [473] القِرَى: ضِيافةُ الضَّيفِ والإحسانُ إليه. والقِرَى أيضًا: ما يُقدَّمُ إلى الضَّيفِ. يُنظر: ((مختار الصحاح)) للرازي (ص: 252)، ((لسان العرب)) لابن منظور (15/179)، ((المعجم الوسيط)) (2/732). ، ويكونَ تَرتيبُ الأخبارِ الثَّلاثةِ جاريًا على نمطِ الارتقاءِ مِن الحسَنِ إلى الأحسَنِ بأنْ: أخبَرَ عنهم بأنَّهم نزَلوا في أحسَنِ مَنزِلٍ، ثمَّ أُحضِرَ لهم ما يَشتهُونَ، ثمَّ ارتَقى إلى ما هو أعظَمُ، وهو كونُهم عِندَ ربِّهم. ومِن لَطائفِ هذا الوجهِ أنَّه جاءَ على التَّرتيبِ المعهودِ في الحُصولِ في الخارجِ؛ فإنَّ الضَّيفَ أو الوافدَ يَنزِلُ أوَّلَ قُدومِه في مَنزِلِ إكرامٍ، ثمَّ يُحضَرُ إليه القِرَى، ثمَّ يُخالِطُه ربُّ المَنزِلِ ويَقترِبُ منه [474] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/79، 80). .
- وجُملةُ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ تَذييلٌ [475] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/80). .
- والإشارةُ بـ ذَلِكَ إلى ما ذُكِرَ مِن حالِ المؤمنينَ، وهو مَضمونُ قولِه: فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ بتَأويلِ: ذلك المذكورُ. وما فيه مِن معنى البُعدِ؛ للإيذانِ ببُعدِ مَنزلةِ المُشارِ إليه في المكانةِ والشَّرفِ [476] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/30)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/80). .
- وضميرُ الفَصْلِ (هو) يُفيدُ قصْرًا ادِّعائيًّا [477] القصرُ الادِّعائي: ما كان القصرُ الحَقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاء والمبالَغةِ، بتنزيلِ غَيرِ المذكورِ مَنزلةَ العدَمِ، وقصْرُ الشيء على المذكورِ وحْدَه. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118)، و(3/6)، ((التعريفات)) للجرجاني (1/175-176)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني (1/525). ؛ للمُبالَغةِ في أعظميَّةِ الفضْلِ، والفضلُ يَصلُحُ لأنْ يُعتبَرَ كالمضافِ إلى المفعولِ، أي: فضْلُ اللهِ عليهم، وأنْ يُعتبَرَ كالمضافِ إلى الفاعلِ: فضْلُهم، أي: شرَفُهم وبرَكتُهم؛ فيَؤولُ معنى القَصرِ إلى أنَّ الفضلَ الَّذي حصَلَ للَّذين آمَنوا وعَمِلوا الصالحاتِ أكبرُ فضْلٍ [478] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/80). .
5- قولُه تعالى: ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ
- قولُه: ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ اسمُ الإشارةِ ذَلِكَ مُؤكِّدٌ لِنَظيرِه الَّذي قبْلَه ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [الشورى: 22] ، أي: ذلك المذكورُ الَّذي هو فضْلٌ يَحصُلُ لهم في الجنَّةِ هو أيضًا بُشرَى لهم مِن الحياةِ الدُّنيا [479] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/80). .
- والعائدُ مِن الصِّلةِ إلى الموصولِ مَحذوفٌ، تَقديرُه: الَّذي يُبشِّرُ اللهُ به عِبادَه. وحَذْفُه هنا لِتَنزيلِه مَنزلةَ الضَّميرِ المنصوبِ باعتبارِ حذْفِ الجارِّ، على طَريقةِ حَذْفِه في نَحْوِ قولِه: وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ [الأعراف: 155] ، بتَقديرِ: مِن قَومِه، فلمَّا عُومِلَ مُعامَلةَ المنصوبِ حُذِفَ كما يُحذَفُ الضَّميرُ المنصوبُ [480] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/80). .
- وجمْعُ العِبادِ المُضافُ إلى اسمِ الجلالةِ أو ضَميرِه: غلَبَ إطلاقُه في القرآنِ في مَعرِضِ التَّقريبِ، وتَرفيعِ الشَّأنِ؛ ولذلك يكونُ مَوقعُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ هنا مَوقعَ عطْفِ البَيانِ لـ عِبَادَهُ [481] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/81). .
- وقولُه: قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى استِئنافٌ ابتدائيٌّ بمُناسَبةِ ذِكرِ ما أُعِدَّ للمُشرِكينَ مِن عذابٍ، وما أُعِدَّ للمؤمنينَ مِن خيرٍ، وضَميرُ جَماعةِ المخاطَبينَ مُرادٌ به المشرِكونَ لا مَحالةَ. وليس في الكلامِ السَّابقِ ما يُتوهَّمُ منه أن يكونَ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ جوابًا عنه؛ فتَعيَّنَ أنَّ جُملةَ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كَلامٌ مُستأنَفٌ استئنافًا ابتدائيًّا، وكان مَوقعُها هنا لِمُناسَبةِ ما سبَقَ مِن ذِكرِ حِجاجِ المشرِكينَ وعِنادِهم؛ فإنَّ مُناسَبتَها لِما معها مِن الآياتِ مَوجودةٌ؛ إذ هي مِن جُملةِ ما واجَهَ به القرآنُ مُحاجَّةَ المشرِكينَ، ونَفَى به أوهامَهم، واستَفتَح بَصائرَهم إلى النَّظرِ في عَلاماتِ صِدقِ الرَّسولِ؛ فهي جُملةٌ ابتدائيَّةٌ وقَعتْ مُعترِضةً بيْنَ جُملةِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وجُملةِ وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً [482] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/81). .
- وابتُدِئتْ الآيةُ بـ قُلْ؛ إمَّا لأنَّها جَوابٌ عن كَلامٍ صدَرَ منهم، وإمَّا لأنَّها ممَّا يُهتَمُّ بإبلاغِه إليهم [483] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/82). .
- والموَدَّةُ: المَحبَّةُ والمعامَلةُ الحسَنةُ المُشبِهةُ مُعاملةَ المتحابِّينَ، والكلامُ على تَقديرِ مضافٍ، أي: مُعاملةَ الموَدَّةِ، أي: المجاملة؛ بقَرينةِ أنَّ المَحبَّةَ لا تُسألُ؛ لأنَّها انبِعاثٌ وانفعالٌ نَفْسانيٌّ، ومعنى الآيةِ على ما يَقتضيهِ نَظْمُها: لا أَسألُكم على القرآنِ جزاءً إلَّا أنْ تَوَدُّوني، أي: أن تُعامِلوني معامَلةَ الوُدِّ، أي: غيرَ معاملةِ العداوةِ، مِن أجْلِ القَرابةِ الَّتي بيْنَنا في النَّسَبِ القُرَشيِّ [484] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/82). .
- قولُه: وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ تَذييلٌ لِجُملةِ ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آَمَنُوا، والمعنى: وكلَّما عَمِل مُؤمنٌ حَسنةً زِدْناهُ حُسنًا مِن ذلك الفضْلِ الكبيرِ [485] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/84). .
- والاقتِرافُ: افتِعالٌ مِن القَرْفِ، وهو الاكتِسابُ؛ فالاقترافُ مُبالَغةٌ في الكسْبِ نَظيرَ الاكتِسابِ، وليس خاصًّا باكتِسابِ السُّوءِ [486] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/84). .
- وفي قولِه: نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا لَمَّا كانتِ الحَسَنةُ مَأْخوذةً مِن الحُسنِ؛ جُعِلَتِ الزِّيادةُ فيها مِن الزِّيادةِ في الحُسنِ؛ مُراعاةً لأصلِ الاشتِقاقِ؛ فكان ذِكرُ الحُسنِ مِن الجِناسِ المُعبَّرِ عنه بجِناسِ الاشتِقاقِ [487] جِناسُ الاشتِقاقِ: هو أن يَجمَعَ بيْنَ اللَّفظَينِ اشتِقاقٌ، فإن توافَقَ اللَّفظانِ في الحروفِ وترتيبِها ولم يَجمَعْ بيْنَهما اشتِقاقٌ فهو الجناسُ المُطْلَقُ. يُنظر: ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 326). ، ويَتعيَّنُ أنَّ الزِّيادةَ فيها زِيادةٌ مِن غَيرِ عَملِه، ولا تَكونُ الزِّيادةُ بعَملٍ يَعمَلُه غيرُه؛ لأنَّها تَصيرُ عمَلًا يَستحِقُّ الزِّيادةَ أيضًا، فلا تَنتهي الزِّيادةُ؛ فتَعيَّنَ أنَّ المرادَ الزِّيادةُ في جَزاءِ أمثالِها عِندَ اللهِ، وهذا معنى قولِه تعالى: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [488] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/85). [الأنعام: 160] .
- وجُملةُ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ تَذييلٌ وتعليلٌ للزِّيادةِ؛ لِقَصْدِ تَحقيقِها بأنَّ اللهَ كثيرةٌ مَغفرتُه لِمَن يَستحِقُّها، كَثيرٌ شُكْرُه للمُتقرِّبينَ إليه، والمقصودُ بالتَّعليلِ هو وَصْفُ (الشَّكورِ)، وأمَّا وَصْفُ (الغفورِ) فقد ذُكِر للإشارةِ إلى تَرْغيبِ المُقترِفينَ السَّيِّئاتِ في الاستِغفارِ والتَّوبةِ لِيُغفَرَ لهم؛ فلا يَقنَطوا مِن رَحمةِ اللهِ [489] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/85)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/299). .
6- قولُه تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ
- قولُه: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ إضْرابٌ انتقاليٌّ عطْفًا على قولِه: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى: 21] ، وهو الكلامُ المُضرَبُ عنه والمُنتقَلُ منه، والمرادُ الانتقالُ إلى تَوبيخٍ آخَرَ؛ فالهمزةُ المُقدَّرةُ بعْدَ (أَمْ) للاستِفهامِ التَّوبيخيِّ وللإنكارِ؛ فإنَّهم قالوا ذلك، فاستحَقُّوا التَّوبيخَ عليه، والمعنى: أم قالوا: افتَرَى؟ ويقولونَه [490] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/221)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/51)، ((تفسير أبي حيان)) (9/335)، ((تفسير أبي السعود)) (8/30)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/85). .
- وجِيءَ بفِعلِ يَقُولُونَ بصِيغةِ المضارعِ؛ لِيَتوجَّهَ التَّوبيخُ لاستِمرارِهم على هذا القولِ الشَّنيعِ مع ظُهورِ دَلائلِ بُطلانِه، فإذا كان قَولُهم هذا شَنِعًا مِن القولِ، فاستِمرارُهم عليه أشنَعُ [491] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/85). .
- وقولُه: فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ تَفريعٌ على تَوبيخِهم، وهو تَفريعٌ فيه خَفاءٌ ودِقَّةٌ؛ لأنَّ المُتبادِرَ مِن التَّفريعِ أنَّ ما بعْدَ الفاءِ إبطالٌ لِمَا نَسَبوه إليه مِن الافتراءِ على اللهِ، وتَوكيدٌ للتَّوبيخِ، وإنَّما يُستفادُ هذا الإبطالُ مِن الشَّرطِ وجَوابِه المُفرَّعينِ على التَّوبيخِ؛ لأنَّ هذا الشَّرطَ وجَوابَه المُفرَّعينِ في ظاهرِ اللَّفظِ على التَّوبيخِ والإبطالِ هما دَليلٌ على المقصودِ بالتَّفريعِ المناسِبِ لِتَوبيخِهم، وإبطالِ قَولِهم، وتَقديرُ المُفرَّعِ هكذا: فكيف يكونُ الافتِراءُ منك على اللهِ واللهُ لا يُقِرُّ أحدًا أنْ يَكذِبَ عليه؟! فلو شاءَ لخَتَمَ على قلبِك، أي: سلَبَك العقلَ الَّذي يُفكِّرُ في الكَذِبِ، فَتُفْحَمُ عن الكلامِ، فلا تَستطيعُ أنْ تَتقوَّلَ عليه، أي: وليس ثَمَّةَ حائلٌ يَحُولُ دونَ مَشيئةِ اللهِ ذلك لو افترَيتَ عليه؛ فيكونُ الشَّرطُ كِنايةً عن انتفاءِ الافتراءِ؛ لأنَّ اللهَ لا يُقِرُّ مَن يَكذِبُ عليه كلامًا، فحصَلَ بهذا النَّظمِ إيجازٌ بَديعٌ. أو أنَّ ما بعْدَ الفاءِ هو المُفَرَّعُ على ما قبْلَها، ويكونُ الكَلامُ كِنايةً عن الإعراضِ عن قولِهم: افتَرى على اللهِ كذبًا، أي: أنَّ اللهَ يُخاطِبُ رسولَه بهذا تَعريضًا بالمشركينَ، والمعنى: أنَّ افتِراءَه على اللهِ لا يُهِمُّكم حتَّى تُناصِبوا محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ العداءَ؛ فاللهُ أَولى منكم بأنْ يَغارَ على انتهاكِ حُرمةِ رِسالتِه، وبأنْ يَذُبَّ عن جَلالِه، فلا تَجْعَلوا هذه الدَّعوى همَّكم؛ فإنَّ اللهَ لو شاء لَختَمَ على قلْبِكَ فسَلَبَك القُدرةَ على أنْ تَنسُبَ إليه كلامًا. وهذانِ الوجهانِ هما المناسِبانِ لموقعِ الآيةِ، ولِفاءِ التَّفريعِ، ولِما في الشَّرْطِ مِن الاستِقبالِ، ولِوُقوعِ فِعلِ الشَّرْطِ مُضارِعًا، فالوقْفُ على قولِه: عَلَى قَلْبِكَ، وهو انتهاءُ كَلامٍ [492] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/221، 222)، ((تفسير ابن عطية)) (5/34، 35)، ((تفسير البيضاوي)) (5/81)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/51)، ((تفسير أبي حيان)) (9/ 335)، ((تفسير أبي السعود)) (8/30)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/86، 87). .
- وقيل: المعنى: يَختِمْ على قُلوبِ الكفَّارِ وعلى ألْسِنَتِهم، ويُعاجِلْهم بالعذابِ؛ فيَكونُ الْتِفاتًا مِن الغَيبةِ إلى الخِطابِ، ومِن الجمْعِ إلى الإفرادِ، أي: يَختِمْ على قلبِك أيُّها القائلُ أنَّه افترَى على اللهِ كذبًا [493] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/336). ، وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ.
- قولُه: وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ كلامٌ مُستأنَفٌ، مُرادٌ منه أنَّ اللهَ يَمْحو باطلَ المشرِكينَ وبُهتانَهم، ويُحقِّقُ ما جاءَ به رسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وليس عطْفًا على فِعلِ الجزاءِ؛ لأنَّ المُتبادرَ أنَّ هذا وعْدٌ مِن اللهِ بإظهارِ الإسلامِ، ووَعيدُ المشرِكينَ بأنَّ دِينَهم زائلٌ، والمرادُ بالمحْوِ على هذا: الإزالةُ، والمرادُ بالباطلِ: الباطلُ المعهودُ، وهو دِينُ الشِّركِ، وبالحقِّ: الحقُّ المعهودُ، وهو الإسلامُ. أو يكونُ المعنى: أنَّ مِن شأْنِ اللهِ تعالى أنْ يُزيلَ الباطلَ ويَفضَحَه بإيجادِ أسبابِ زَوالِه، وأنْ يُوضِّحَ الحقَّ بإيجادِ أسبابِ ظُهورِه؛ حتَّى يكونَ ظُهورُه فاضحًا لِبُطلانِ الباطلِ، فلو كان القُرآنُ مُفترًى على اللهِ لَفضَحَ اللهُ بُطلانَه، وأظهَرَ الحقَّ؛ فالمرادُ بالباطلِ: جنسُ الباطلِ، وبالحقِّ: جنسُ الحقِّ، وتكونُ الجُملةُ كالتَّذييلِ للتَّفريعِ. والمعنى الأوَّلُ أنسَبُ بالاستئنافِ، ولإفادتِه الوعيدَ بإزالةِ ما همْ عليه، ونصْرَ المسلمينَ عليهم. وعلى كِلا المعنيَينِ فقولُه: وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ كَلامٌ مُستأنَفٌ ليس مَعطوفًا على جَزاءِ الشَّرْطِ؛ إذ ليس المعنى على: إنْ يَشأِ اللهُ يَمْحُ الباطلَ؛ بلْ هو تَحقيقٌ لِمَحْوِه للباطلِ [494] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/222)، ((تفسير البيضاوي)) (5/81)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/52)، ((تفسير أبي حيان)) (9/336)، ((تفسير أبي السعود)) (8/31)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/86، 87). .
- وإظهارُ اسمِ الجَلالةِ في قولِه: وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ دونَ أنْ يقولَ: ويَمْحُ الباطلَ؛ لِتَقْويةِ تَمكُّنِ المُسنَدِ إليه مِن الذِّهنِ، ولإظهارِ عِنايةِ اللهِ بمَحْوِ الباطلِ [495] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/87). .
- وإنَّما عُدِلَ عن الجُملةِ الاسميَّةِ في صَوغِ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ، فلم يقُلْ: (واللهُ يَمْحو الباطلَ)؛ لأنَّه أُريدَ أنَّ ما في إفادةِ المضارعِ مِن التَّجدُّدِ والتَّكريرِ إيماءٌ إلى أنَّ هذا شأْنُ اللهِ وعادتُه لا تَتخلَّفُ، ولم يَقصِدْ تَحقيقَ ذلك وتَثبيتَه؛ لأنَّ إفادةَ التَّكريرِ تَقتضي ذلك بطَريقِ الكِنايةِ، فحصَلَ الغرَضانِ [496] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/87، 88). .
- وجاء الرَّدُّ عليهم بأُسلوبِ الخِطابِ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لأنَّ ذلك أقْوى في الاعتِناءِ بتَلقينِه جَوابَ تَكذيبِهم؛ لأنَّ المَقامَ مَقامُ تَفظيعٍ لِبُهتانِهم، وهذا وَجْهُ التَّخالُفِ بيْنَ أُسلوبِ هذه الآيةِ وأُسلوبِ قولِه تعالى: قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ [يونس: 16] ؛ لأنَّ ذلك لم يكُنْ مَسوقًا لإبطالِ كَلامٍ صدَرَ منهم [497] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/88). .
- وجُملةُ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ تَعليلٌ لِمَجموعِ جُملتَيْ فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ إلى قولِه: بِكَلِمَاتِهِ، أي: لأنَّه لا يَخفَى عليه افتِراءُ مُفتَرٍ، ولا صِدقُ مُحِقٍّ [498] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/88). .