موسوعة التفسير

سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيات (149-155)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ

غريبُ الكَلِمات :

الرُّعْبَ: أي: الجَزَعَ والهَلَع والخوف، وقيل: الرُّعب هو الخوفُ الذي يملأُ الصَّدرَ والقلبَ، وقيل: إنَّه أشدُّ الخوفِ، وأصلُ الرُّعب: يدلُّ على الخوفِ، والملءِ، والقَطع يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/127)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/410)، ((المفردات)) للراغب (ص: 356)، ((تاج العروس)) للزبيدي (2/504). .
سُلْطَانًا: أي: حُجَّة، وأصْلُ السُّلطان: القوَّة والقَهر، من التَّسلُّط؛ ولذلك سُمِّي السُّلطانُ سُلطانًا يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 113)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/95)، ((المفردات)) للراغب (ص: 247، 420، 724). .
وَمَأْوَاهُمُ: مرجعُهم الذي يَعُودون إليه، والمَأْوى: مَكَانُ كلِّ شَيْءٍ ومرجعُه الَّذي يعودُ إليه ليلًا أو نهارًا؛ يُقال: أَوَى إلى كذا، أي: انضمَّ إليه يَأوي أُوِيًّا وإِوَاءً، وأصْله: التَّجمُّع يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/151)، ((المفردات)) للراغب (ص: 103). .
مَثْوَى: أي: مَنزِل، وأصْلُ الثَّوَاء: الإقامةُ مع الاستقرارِ؛ يُقال: ثَوَى يَثْوي ثَوَاءً يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 410)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 424)، ((المفردات)) للراغب (ص: 181)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/393)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 295). .
تَحُسُّونَهُمْ: أي: تَستأصِلونهم قتلًا، أو تقتلونهم، وأصْل حَسَس: غلبةُ الشَّيء بقتْل أو غيره، وحِكايةُ صوت عند توجُّعٍ وشَبَهِه يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 113)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 138)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/9)، ((المفردات)) للراغب (ص: 231)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 51)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 131)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 318). .
فَشِلْتُمْ: أي جَبُنتُم، والفَشل: ضَعْفٌ مع جُبن يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/504)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 360)، ((المفردات)) للراغب (ص: 637)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 51)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 699). .
إِذْ تُصْعِدُونَ: أي: تُبعِدون في الهزيمةِ، والصُّعود: الذَّهابُ في المكانِ العالي, وأصْل الصُّعود: ارتفاعٌ ومشقَّة يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 114)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/287)، ((المفردات)) للراغب (ص: 483)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 51). .
وَلَا تَلْوُونَ: تُمعِنون في الهزيمةِ، ولا يقِفُ أحدٌ لآخَر، واللَّيُّ: فَتْل الحبلِ، وأصْله: إمالة للشَّيء يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/218)، ((المفردات)) للراغب (ص: 752)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 132). .
فِي أُخْرَاكُمْ: أي: في آخِرِكم، أو مِن خَلْفِكم، وأصل (أخر): خِلافُ التَّقدُّمِ يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/148)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 91)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/70)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 132). .
يَغْشَى: يُغطِّي ويَستُر، من غَشِي الشَّيءَ، أي: غطَّاه وسَتَره يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 40)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 75)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/425)، ((المفردات)) للراغب للراغب (ص: 607)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 56). .
لَبَرَزَ: لظَهَر من الصَّفِّ للمُبارَزة للقتال، والبَرازُ المٌتَّسَعُ من الأرض، أو الفضاءُ، وأصْله: ظهورُ الشَّيء وبُدوُّه يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/218)، ((المفردات)) للراغب (ص: 118). .
مَضَاجِعِهِمْ: جمْعُ مَضْجَع، وهو موضِعُ الضُّجوع، وأصلُ (ضجع): اللُّصوقُ بالأرضِ على جَنْبٍ يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/390)، ((المصباح المنير)) للفيومي (2/358). .
وَلِيُمَحِّصَ: أي: ليُطهِّر، ويَختبِر، ويُنقِّي، والتَّمحيص: الابتلاءُ والاختبار، وأصْل المَحْصِ: تَخليصُ الشَّيءِ وتنقيتُه ممَّا فيه من عَيبٍ يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 112)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/300)، ((المفردات)) للراغب (ص: 761)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 52)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 130). .
اسْتَزَلَّهُمُ: طلَبَ زَلَلَهم، والزِّلَّة: الخطأُ، وأصل الزَّلل: استرسالُ الرِّجْلِ من غيرِ قصْدٍ يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 114)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/4)، ((المفردات)) للراغب (ص: 381). .

المَعنَى الإجماليُّ :

يُحذِّرُ الله تعالى عبادَه المؤمنين من طاعةِ الكفَّار؛ وذلك أنَّ طاعتَهم تؤدِّي بهم إلى الرِّدَّة عن دِينهم إلى الكُفْر، فيَهلِكوا في الدُّنيا والآخِرة؛ فالله سبحانه هو مَن يتولَّى عبادَه، ويَنصُرهم وهو خيرُ مَن نَصرَ.
ثم يُخبِر تعالى أنَّه سيُدخِل الرُّعبَ في قلوب الكفَّار؛ بسبب إشراكِهم بالله بلا حُجَّة ولا دليل، وسيكون مصيرُهم في الآخرة النَّارَ، وبئس المقامُ للظالِمين.
ثم يُذكِّر اللهُ سبحانه عِبادَه المؤمنين بإنجازه لِمَا وعدَهم به من النَّصر يوم أُحُد، بنصرِهم على عدوِّهم في بدايةِ المعركة؛ حيث أَعمَلوا فيهم القتلَ، حتى حان من المسلمين الضَّعفُ والجُبنُ عن القِتال، وحدَث الخلافُ بين رُماتهم، وعَصَوْا أمْرَ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، حينها حلَّت بالمسلمين الهزيمةُ بعدَ أنْ كانوا رَأوا ما يُفرِحهم من هزيمةِ العدوِّ؛ فبعضٌ من المؤمنين ابتَغَوا الدُّنيا، فذَهبوا لجَمْعِ الغنائم، وتركوا أماكنَهم التي أُمِروا بمُلازَمتها، وبعضٌ منهم كانوا يَرغَبون في أجْرِ الآخِرة، فلزِموا أماكنَهم، فصرَف اللهُ بعدَها وجوهَ المؤمنين عن الكفَّار، فكانتْ للكفَّار الغَلَبةُ، وهذا ابتلاءٌ من الله لعباده؛ ليتميَّزَ الطائعُ من العاصي، ولقد تَجاوُز اللهُ عنهم، فلم يَستأصِلوهم، ولكن هُزِموا وقُتِل بعضُهم، واللهُ ذو فضلٍ على المؤمنين.
ثم يُذكِّرهم سبحانه بلحظاتِ فِرارِهم، حيث كانوا جادِّين في الفِرار؛ لا أحدَ منهم يَلتفِت إلى غيرِه، ورسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَدْعوهم إلى الثَّبات والتَّوقُّف عن الفِرار، وقدْ خلَّفوه عليه الصَّلاة والسلام وراءَ ظُهُورهم، فلم يَستجيبوا، فجازاهم اللهُ بغمٍّ، وهو ما انتشرَ مِن خبرِ مَقتَلِ نبيِّ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، الذي كان أعظمَ مِن بقيَّة الغُمومِ التي حلَّتْ بهم من فواتِ النَّصر والغنيمة، وإصابتِهم بالقتْلِ والجراح، فخفَّفتْ شِدَّةُ ذلك الغمِّ ما سبَقَه من غُموم.
ثمَّ أَنزَل اللهُ على المؤمنين من بعد الغُمُوم التي أصابتْهم الأمانَ والطُّمأنينةَ في القلب؛ وذلك بأنْ غَشَّى المؤمنين من الخارجين مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ النُّعَاسَ، وأمَّا المنافقون فمِن شِدَّة قلَقِهم واضطرابِهم على حياتِهم، فلم يُغشِّهم النُّعاسَ. يَظُنُّ هؤلاء المنافقون بالله ظنًّا كاذبًا بأنَّه عزَّ وجلَّ لا ينصُر عبادَه، وظنُّهم هذا كظنِّ أهلِ الجهلِ بالله، يقولون: إنَّهم لم يَجِدوا بُدًّا من الخروج، فالقرارُ ليس بأيديهم، فأمَر الله نبيَّه محمدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يقول لهم: إنَّ جميعَ الأمورِ لله تعالى وَحْده، ثم أعاد سبحانه الحديثَ عن صِفةِ هؤلاء المنافقين، فأخْبَر أنَّهم يُسِرُّون في أنفسِهم ما لا يُظهِرونه لنبيِّ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وذلك قولهم فيما بَينهم: إنَّه لو كان لهم نَصيبٌ من الاختيارِ في شأنِ الخروجِ للقِتال، لَمَا اختاروا الخروجَ من المدينة، ولَمَا حصَل ما حصَل في صُفوفِهم من المَقْتَلة.
فأمَر اللهُ نبيَّه محمدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يُخبِرَهم بأنَّهم لو كانوا في بُيُوتهم، لخرَج الذين كتَب اللهُ عليهم القتلَ إلى الأماكنِ التي فيها مَصارِعُهم، وقد كان تقديرُ خروجِهم من اللهِ؛ ليَميزَ اللهُ تعالى ما في قُلوبِهم من خَبيثٍ وطيِّب، واللهُ عليمٌ بما تَحويه صدورُ العبادِ.
ثم أَخبَر تعالى أنَّ فِرار المُنهزِمين يوم المعركة إنَّما كان نتيجةُ إيقاع الشَّيطان لهم في تلك الزَّلَّة، وما كان تَسلُّطُه عليهم إلَّا بسببِ بعضِ ذُنوبهم، مُخبِرًا سبحانه أنَّه عفَا عنهم، والله غفورٌ حليمٌ.

تفسير الآيات :

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
أنَّه لَمَّا أمَر اللهُ تعالى بطاعتِه المُوجِبةِ للنَّصر والأجْر، وختَم بمحبَّته للمُحسِنين، حذَّر من طاعةِ الكافرين المقتضيةِ للخِذلان؛ رَغبةً في موالاتِهم ومُناصَرتهم يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (5/90). ، فقال:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149)
أي: احْذَروا- يا عبادَ الله المؤمنين- من طاعةِ الكفَّار فيما يأمرونكم به، وفيما يَنْهونكم عنه، فإنَّ طاعتَهم تَحمِلُكم على الارتدادِ عن الإيمانِ إلى الكفرِ، الذي عاقبتُه الهلاكُ في الدُّنيا والآخرة يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/124، 125)، ((تفسير ابن كثير)) (2/131)، ((تفسير السعدي)) (ص: 151). .
بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
أنَّه لَمَّا كان التَّقديرُ في الآية السَّابقة: فلا تُطيعوهم؛ إنَّهم ليسوا صالحين للولايةِ مُطلَقًا ما دُمْتم مؤمنين، عطَفَ عليه قوله: بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ مخبرًا بأنَّه ناصِرُهم، وأنَّ نَصْره لا يُساويه نصرُ أحدٍ سواه يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (5/91). ، فقال:
بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150)
أي: فلا تُطيعوهم خوفًا منهم، أو طلبًا لنُصْرتهم، واستَغْنُوا عن موالاتهم؛ فهم لن يَنصُروكم، بل عليكم أنْ تُطيعوا اللهَ الَّذي يتولَّاكم بتوفيقِه وتأييده ونَصْره؛ فهو خيرُ مَن يَجلِب لكم النَّصرَ يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/126)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 236)، ((تفسير ابن كثير)) (2/132)، ((تفسير السعدي)) (ص: 151)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/283-186). .
سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
أنَّ اللهَ تعالى أبان أنَّه مَوْلى المؤمنين، وأنَّه خيرُ النَّاصرين، وأنَّ مَن نصَره، سبَّب له جميعَ أسبابَ النَّصر، وأزال عنه كلَّ أسباب الخِذلان، فمنَع غيره- كائنًا من كان- من إذلاله فذكَر هاهنا مِثالًا على وَلايتِه ونُصْرتِه للمؤمنين، وقرَّر ذلك بقوله مُحقِّقًا للوعدِ يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (5/91) ((تفسير السعدي)) (ص: 151). :
سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ
أي: إنَّ الله تعالى بشَّرَ ووعَد عبادَه المؤمنين بأمْرٍ محتومٍ وقوعُه، وقريبٍ حُصولُه، وهو إدخالُ الخوفِ والفزعِ الشَّديد في قلوب الكفَّار يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/127)، ((تفسير ابن كثير)) (2/132)، ((تفسير السعدي)) (ص: 151، 152). .
عن جابر بن عبد الله رضِي الله عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((أُعطيتُ خمسًا، لم يُعطَهنَّ أحدٌ منَ الأنبياءِ قَبلي: نُصِرتُ بالرُّعبِ مَسيرةَ شهرٍ.. )) رواه البخاري (438). .
بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا
أي: إنَّ سببَ قذْفِ الرُّعب في قلوب الكفَّار، هو وقوعُهم في الشِّرك، الذي لا حُجَّةَ ولا دَليلَ على صحَّتِه يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/127)، ((تفسير ابن كثير)) (2/132)، ((تفسير السعدي)) (ص: 151، 152). وقال الواحديُّ: (قوله: مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا، أي: حُجَّة وبرهانًا في قول جميع المفسِّرين، يعني الأوثانَ التي عبدوها مع الله) ((التفسير الوسيط)) (1/503). .
وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ
أي: إنَّ النَّار ستكون المصيرَ الأخرويَّ لأولئك المشركين يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/127)، ((تفسير ابن كثير)) (2/132)، ((تفسير السعدي)) (ص: 152). .
وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ
أي: ساءتِ النَّارُ مَقامًا لكلِّ ظالم يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/127)، ((تفسير السعدي)) (ص: 152)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/297). .
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
أنَّه لَمَّا وعَد اللهُ تعالى المؤمنين في الآية المُتقدِّمة إلقاءَ الرُّعبِ في قلوب الذين كفروا، أكَّدَ ذلك بأنْ ذَكَّرهم ما أَنجَزهم من الوعدِ بالنَّصرِ في واقعةِ أُحُد؛ فإنَّه لَمَّا وعدَهم بالنُّصرةِ بشرْط أنْ يتَّقُوا ويَصبِروا؛ فحينَ أَتَوْا بذلك الشَّرطِ لا جَرَمَ وفَّى اللهُ تعالى بالمشروطِ وأعطاهم النُّصرةَ، فلمَّا تَركوا الشَّرطَ لا جرَمَ فاتَهم المشروطُ يُنظر: ((تفسير الرازي)) (9/386). ، فقال:
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ
أي: إنَّ الله عزَّ وجلَّ قد أَنجَز لكم ما وعَدَكم به يومَ أُحدٍ أيُّها المؤمنون، وهو نصْركم على عَدوِّكم، وكان ذلك في بدايةِ المعركة حين طفِقتُم تَستأصِلونهم بقتْلهم قتلًا ذريعًا، وذلك قد وقَع عن أَمرِ اللهِ تعالى شرعًا وقدَرًا يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/128-135)، ((تفسير ابن كثير)) (2/133)، ((تفسير السعدي)) (ص: 152)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (1/208)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/84)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/304-306). .
حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ
أي: لَمَّا استولَى عليكم الضَّعفُ والخَوَرُ، وجَبُنتم عن القِتال، ووقَع الخلافُ بين رُماتكم؛ هل يَلزَمون ثُغُورَهم- كما عهِد إليهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- أم يتحرَّكون لجمْعِ الغنائم، وعصَى بعضُكم في النِّهاية أمْرَ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، مِن بعدِ أنْ أَظهَر الله تعالى لكم ما تُحِبُّونه من انهزام الكفَّار، وتوليتهم الأدبار، فلمَّا وقع ذلك كلُّه، حلَّت بكم الهزيمةُ يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/136)، ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (7/60)، ((تفسير ابن كثير)) (2/133)، ((تفسير السعدي)) (ص: 152)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/84، 85). .
عن البَرَاءِ بن عازبٍ رضِي اللهُ عنه، قال: ((لَقِينا المشركين يومئذٍ، وأجلَسَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ جيشًا مِن الرُّماةِ، وأمَّرَ عليهم عبدَ الله، وقال: لا تَبرَحوا لا تَبرَحوا: أي: لا تَترُكوا أماكِنَكم وتزولوا عنها؛ يُقال: بَرِحَ مكانَه، أي: زال عنه وصارَ في البَراحِ. ينظر: ((الصحاح)) للجوهري (1/355)، ((المصباح المنير)) للفيومي (1/42). ، إنْ رأيتمونا ظهَرْنا عليهم فلا تَبرَحوا، وإنْ رأيتموهم ظهَروا علينا فلا تُعينونا، فلمَّا لَقِيناهم هرَبوا حتى رأيتُ النِّساءَ يَشتَدِدْنَ في الجبلِ، رفعْنَ عن سُوقِهنَّ، قد بدَتْ خَلاخلُهنَّ، فأخذوا يقولون: الغنيمةَ الغنيمةَ، فقال عبدُ اللهِ: عهِد إليَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ألَّا تَبرَحوا! فأَبَوا، فلمَّا أبَوْا صُرِفت وجوهُهم، فأُصِيبَ سبعون قتيلًا، وأَشَرَفَ أبو سفيان، فقال: أفي القومِ محمدٌ؟ فقال: لا تُجيبوه، فقال: أفي القومِ ابنُ أبي قُحافَةَ؟ قال: لا تُجيبوه، فقال: أفي القوم ابنُ الخطابِ؟ فقال: إنَّ هؤلاء قُتِلوا، فلو كانوا أحياءَ لأجابوا، فلم يَملِكْ عمرُ نفسَه، فقال: كذبتَ يا عدوَّ اللهِ، أبقى اللهُ عليك ما يُخْزِيك، قال أبو سفيان: اعْلُ هُبَلُ! فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أجيبوه، قالوا: ما نقولُ؟ قال: قولوا: اللهُ أعلى وأجلُّ، قال أبو سفيانَ: لنا العُزَّى ولا عُزَّى لكم! قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أجيبوه، قالوا: ما نقولُ؟ قال: قولوا: اللهُ مولانا ولا مولى لكم، قال أبو سفيان: يومٌ بيومِ بدرٍ، والحربُ سِجَالٌ، وتجدون مُثْلَةً، لم آمرْ بها ولم تَسؤْني )) رواه البخاري (4043). .
مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ
أي: إنَّ بعضًا منكم- أيُّها المؤمنون- قد ابتَغَوا الدُّنيا، وهم الرُّماةُ الذين تَرَكوا أماكنَهم وأخَذوا في جمْعِ الغنائمِ والحُطامِ الفاني يَومَ أُحُد، والبعضَ الآخَرَ كانوا يَرغبونَ في أجْرِ الآخرةِ الباقي، وهم الرُّماةُ الذين لزِموا مَقاعدَهم التي أَقعَدَهم فيها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/139)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/504)، ((تفسير ابن كثير)) (2/133)، ((تفسير السعدي)) (ص: 152)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (308-309). .
ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ
أي: بعدَ أنِ انصرفَ بعضُ الرُّماة من المؤمنين من أماكنهم، مُنصرِفين بذلك عن طاعةِ رسوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وانصرَفتْ قلوبُهم للدُّنيا، ردَّ الله وجوهَكم عن الكفَّار، فصارتِ الدَّائرة عليكم؛ امتحانًا مِن الله تعالى لكم، ليَتميَّز الطَّائعُ من العاصي، والصَّابرُ على البلاء من الجازِع يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/142)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/505)، ((تفسير السعدي)) (ص: 152)، ((تفسير ابن عاشور)) (4/130). .
وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ
أي: إنَّ الله عزَّ وجلَّ قد تَجاوَز عن عقوبة استئصالِكم جميعًا أيُّها الرُّماة، لمعصيتكم الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ واستبدَل بها عقوبةً أخفَّ وطأة عليكم، وهي إلحاقُ الهزيمة بكم، وقَتْل بعضكم يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/143)، ((تفسير ابن عطية)) (1/525)، ((تفسير القرطبي)) (4/237). .
وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
أي: إنَّ اللهَ تعالى صاحِبُ الفضلِ على جميعِ المؤمنين؛ لأجْلِ ما معهم من إيمانٍ، ومن ذلك: العَفوُ عمَّا يَقَعُ منهم من عِصيان يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/144)، ((تفسير القرطبي)) (4/237)، ((تفسير السعدي)) (ص: 152). .
إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153)
إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ
أي: اذكُروا- أيُّها المؤمنون- حين كنتُم تَجدُّون في الفِرارِ والإبعادِ في الأرض، ولا أحدَ منكم يَلتفِتُ إلى غيره أو يَنظُر إليه؛ إذ لم يكُن لديكم مِن همٍّ سِوى النَّجاةِ من الأعداء يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/148)، ((تفسير ابن كثير)) (2/137)، ((تفسير السعدي)) (ص: 152)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/316-317). .
وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ
أي: إنَّ محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قد خلَّفتموه وراءَ ظُهورِكم ممَّا يلي جِهةَ العدوِّ، وهو يدعوكم- أيُّها المؤمنون- إلى التَّوقُّفِ عن الفِرار والثَّبات، فلم تَلتفِتوا إليه يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/148)، ((تفسير ابن كثير)) (2/137)، ((تفسير السعدي)) (ص: 152)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/317). .
فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ
أي: بسببِ ما قُمْتم به من الفِرار وعدمِ الاستجابةِ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يوم أُحُد، جازاكم اللهُ تعالى بغمِّ نبأِ مَقتَل النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وهو أعظمُ من بقيَّةِ الغُموم التي نالتْكم، كفواتِ النَّصرِ والغنائم، وإصابتِكم بالقَتْل والجراح يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/149-158)، ((تفسير السعدي)) (ص: 152)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/321-322). .
لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ
أي: إنَّ الله تعالى قد أَصابَكم بغمِّ سماعِكم إشاعةَ مَقتَل محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وهو أشدُّ من الغُمُوم الأخرى؛ لئلَّا يُصيبَكم الحَزنُ على ما ذهَب عنكم من النَّصر والغنائم، ولا على ما نالَكم من جراحٍ، وما أصابَ إخوانَكم مِن قتْل، فيُنسيكم سماعُ مقتلِ النَّبيِّ ذلك كلَّه، أو يُخفِّف من وطْأَتِه عليكم يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/151-158)، ((تفسير السعدي)) (ص: 152)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/321-322). .
وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
أي: واللهُ تعالى هو وحْدَه العالمُ ببواطنِ ما تَعمَلونه من خيرٍ أو شرٍّ- أيُّها المؤمنون- ومِن ذلك: ما قُمتُم به في غزوةٍ أُحُد، كما أنَّ ما ترتَّبَ عليها من ابتلاءاتٍ ومِحَنٍ وأسرار، إنَّما هو صادرٌ عن كمال عِلْمه ببواطنِ الأمور يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/159)، ((تفسير السعدي)) (ص: 152)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/321-322). .
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
أنَّ الله تعالى لَمَّا وعَد بنصرِ المؤمنين على الكافرين، وهذا النَّصرُ لا بدَّ وأنْ يكون مسبوقًا بإزالةِ الخوف عن المؤمنين- بيَّن في هذه الآية أنَّه تعالى أزالَ الخوفَ عنهم؛ ليصيرَ ذلك كالدَّلالةِ على أنَّه تعالى يُنجِز وعْدَه بنصْرِ المؤمنين يُنظر: ((تفسير الرازي)) (9/393). .
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً
أي: إنَّ اللهَ تعالى قدْ أَنزَل عليكم- أيُّها المؤمنون- بعدَ كلِّ تلك الغُمومِ التي أصابتْكم يومَ أُحُد، أنزل عليكم ما به حُلولُ الأمان، وحصولُ الاطمئنانِ في قلوبكم يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/159)، ((تفسير ابن كثير)) (2/144)، ((تفسير السعدي)) (ص: 153)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/326-327). .
نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ
أي: إنَّ الأمانَ الذي نزَل بقلوبهم مصدره النُّعاس الذي غشي أهلَ الإيمان من بين مَن خرج مع رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لأُحد يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/160)، ((تفسير ابن كثير)) (2/145)، ((تفسير السعدي)) (ص: 153)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/327). .
عن أنسِ بن مالكٍ، أنَّ أبا طلحةَ رضِي الله عنهما قال: ((رَفعتُ رأسي يومَ أُحدٍ فجعلتُ أَنظُر، وما منهُم يَومئذٍ أحدٌ إلَّا يَميدُ تحتَ حَجفتِهِ الحَجَفَة: التُّرْسُ؛ يُقال للتُّرس- إذا كان من جُلودٍ ليسَ فيه خشَبٌ، ولا عَقَبٌ وهو العَصَبُ الذي تُعمَلُ منه الأوتارُ-: حَجَفةٌ ودَرَقةٌ. ((الصحاح)) للجوهري (4/1341)، (1/185)، ((النهاية)) لابن الأثير (1/345). منَ النُّعاسِ، فذلِكَ قَولُهُ تعالى: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا)) أخرجه الترمذي (3007) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وصحح إسناده الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (3007) وقال الوادعي : صحيح على شرط مسلم في ((الصحيح المسند)) (366). .
وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ
أي: إنَّ ثمَّة جماعةً أخرى مِن بين مَن خرجَ لأُحد، لم يَغْشَهم النعاسُ مِن شِدَّة قلقِهم واضطرابِهم على حياتِهم، وهم المنافِقون الذين لا همَّ لديهم غيرُ أنفسِهم التي يَحذرون من قتْلِها يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/164)، ((تفسير ابن كثير)) (2/145)، ((تفسير السعدي)) (ص: 153). .
يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ
أي: يظنُّ أفرادُ هذه المجموعةِ ظنونًا كاذبةً، كما هو دَيدنُ أهلِ الجهلِ بالله تعالى، وذلك حين رأوا هجمةَ المشركين على المسلمين، وإعمالَ القتْل فيهم؛ إذ ظنُّوا أنَّ دِينَ الله تعالى مُضمحِلٌّ وأتباعَه مَهزومون يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/165-166)، ((تفسير ابن كثير)) (2/145)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/328). .
قال تعالى: بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا [الفتح: 12] .
يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ
أي: قال هؤلاء الحريصونَ على سلامةِ أنفسِهم مُستنكِرين بأنَّهم لم يكونوا يَملِكون شيئًا من قرارِ خُروجِهم للقِتال يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/166)، ((تفسير ابن عاشور)) (4/134-135)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/328-330). .
قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ
أي: قل- يا محمَّدُ- لهؤلاء المنافقين: إنَّ جميعَ الأمور، مُبتدَأها ومنتهاها لله تعالى وحده لا شريكَ له، فهو الذي يُصرِّفها كيف شاء، ويُدبِّرها كيفما أراد، فجميعُ الأمورِ بقضائِه وقدَره، ومِن ذلك خُروجُكم للقتال، وما يقَعُ فيه من نصْرٍ أو هزيمة، كما أنَّ العاقبةَ في النهاية لدِين اللهِ تعالى وأوليائِه، وإنْ وقَع عليهم ما وقَع يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/167)، ((تفسير السعدي)) (ص: 153)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/330). .
يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ
أي: يُضمِر أولئك المنافقون في نفوسِهم ما لا يُظهرونه لك- يا محمَّدُ يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/167)، ((تفسير السعدي)) (ص: 153)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/330-331). .
يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا
أي: إنَّ الذي كانوا يُخفونه عنك- يا محمَّدُ- هو قولهم فيما بينهم مُتحسِّرين ونادِمين: لو كان لنا في شَأنِ الخروجِ لهذا القِتال نَصيبٌ من الرأي والاختيارِ في ذلك، لَمَا اتَّخذنا قرارًا بالخروجِ مِن المدينة مُطلقًا، ولَمَا وقعتْ في صُفوفنا مَقتلةٌ يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/167)، ((تفسير ابن كثير)) (2/145)، ((تفسير السعدي)) (ص: 153)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/331-332). .
قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ
أي: قل- يا محمَّدُ- لأولئك المنافقين- ردًّا على قولِهم الذي أسرُّوه وأَطْلَعَك اللهُ تعالى عليه-: إنَّما وقَع ما وقَع بقدَر الله تعالى وحْدَه، وهو حُكمٌ ماضٍ لا بدَّ أن ينفُذ، فحتى لو كنتُم في بيوتِكم التي ليستْ بمظنَّةٍ لوقوعِ القتْل فيها، فسيخرُج منها مَن كتَب اللهُ تعالى عليه ذلك ويأتي الموضعَ الذي يَلقَى فيه مصرعَه يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/169)، ((تفسير ابن كثير)) (2/146)، ((تفسير السعدي)) (ص: 153)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/332-333). .
وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ
أي: إنَّ الله عزَّ وجلَّ قد قدَّر عليكم الخروجَ والقتل؛ ليختبرَ قلوبَكم يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/146)، ((تفسير السعدي)) (ص: 153). .
وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ
أي: ليَميزَ الله تعالى ما في قلوبِكم من خَبيثٍ وطيِّب، ويُظهرَ أمْرِ المؤمِن والمنافِقِ للنَّاس في أقوالهم وأفعالهم يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/146). ويُنظر: ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/509)، ((تفسير السعدي)) (ص: 153)، ((تفسير ابن عاشور)) (4/139)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/334). .
وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ
أي: إنَّ اللهَ تعالى ذو عِلمٍ بكلِّ ما تُكنُّه صُدورُ عِبادِه، لا يَخفى عليه شيءٌ من ذلك، ومُجازٍ كلًّا منهم بحسبَه. لكنَّ حِكمتَه اقتضتْ أنْ يُقدِّر من الأسبابِ ما تَتبيَّن به مُخبَّآتُ الصُّدور يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/170)، ((تفسير ابن كثير)) (2/146)، ((تفسير السعدي)) (ص: 153). .
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا
أي: إنَّ الذين ولَّوا منكم المشركين أَدْبارَهم، وانْهَزموا عنهم يومَ تلاقى جمْعُ المسلمين والمشركين بأُحُد، إنَّما أَوْقَعَهم الشيطانُ في تلك الزَّلَّة، وما تَسلَّط عليهم إلَّا بسببِ بعضِ ذُنوبهم يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/171-172)، ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (35/375)، ((تفسير السعدي)) (ص: 153)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/340-342). .
وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ
أي: إنَّ اللهَ تعالى قد تجاوزَ عن معاقبةِ أولئك الذين تَولَّوا، فلم يُؤاخِذْهم على فِرارهم يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/174)، ((تفسير ابن كثير)) (2/146)، ((تفسير السعدي)) (ص: 153). .
عن عثمانَ بن مَوهَبٍ، قال: ((جاء رجلٌ حجَّ البيتَ، فرأى قومًا جلوسًا، فقال: مَن هؤلاء القعودُ؟ قالوا: هؤلاء قريشٌ, قال: مَن الشَّيخُ ؟ قالوا: ابنُ عمرَ، فأتاه فقال:... أَتَعْلمُ أنَّ عُثمانَ بنَ عفَّانَ فرَّ يومَ أُحُدٍ؟ قال: نعَمْ... أمَّا فِرارُهُ يومَ أُحُدٍ فأَشهدُ أنَّ اللهَ عفا عنه وغفَر له... )) رواه البخاري (4066). .
إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ
أي: إنَّ اللهَ تعالى هو الذي يَستُر ذُنوبَ عِبادِه، ويتجاوزُ عن المؤاخذةِ بها، وهو الذي يُمهِلُ عِبادَه؛ ليتوبوا، فلا يُعاجِلهم بالعقوبةِ يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/175)، ((تفسير ابن كثير)) (2/146)، ((تفسير السعدي)) (ص: 153)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/342). .

الفوائد التربوية :

1- في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فضيلةُ الإيمان، حيثُ يُوجَّه الخطابُ إلى الناس بوصْفِ الإيمان في مقامِ الإرشادِ والتنبيه؛ لأنَّ الإيمانَ مُقتضٍ للامتثال يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/286). .
2- تحذيرُ المؤمنين من الانقيادِ للعدوِّ والتذلُّلِ له وإظهارِ الحاجة إليه، وأنْ يُخامرَهم خاطرُ الدُّخول في صُلح المشركين وأمانهم؛ فإذا مالوا إليهم اسْتدرَجوهم رويدًا رويدًا، بإظهارِ عدمِ كراهية دِينهم المخالِف لهم، حتى يردُّوهم عن دِينهم؛ قال تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ يُنظر: ((تفسير الرازي)) (9/383)، ((تفسير ابن عاشور)) (4/122) ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/286). .
3- التحذيرُ من الشِّرك؛ فهو جالبٌ لهم الشرَّ في الدُّنيا والآخِرة، فالمشركون في الدنيا مَرعُوبون، وفي الآخرة مُعذَّبون؛ وذلك بسبب إشراكهم؛ قال الله تعالى: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ يُنظر: ((تفسير الرازي)) (9/385)، ((تفسير أبي حيان)) (3/378). .
4- أنَّ وعْد الله تعالى المؤمنين النصرَ على عَدوِّهم مشروطٌ تحقُّقُه بـما إذا لم يَعصُوا بتنازعهم وفشَلِهم؛ يُبيِّن ذلك قولُه تعالى: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ يُنظر: ((تفسير الرازي)) (9/399)، ((تفسير أبي حيان)) (3/380). .
5- أنَّ النِّزاعَ والمعصيةَ سببانِ لفوات النَّصر؛ لأنَّ المسلمين في أوَّل الأمر انْتَصروا وقَتَلوا المشركين، لكن لَمَّا حدَث هذا المانعُ، امتنع أو انتفَى النصرُ؛ قال تعالى: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ... يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/313). .
6- الحثُّ على اجتماعِ الكلمة؛ وجهُه: أنَّ النزاعَ سببٌ للخِذلان، فيكون الاتِّفاق سببًا للنَّصر، وهو كذلك؛ فاجتماعُ الناسِ على كَلمةٍ واحدةٍ لا شكَّ أنَّه سببٌ للنصر؛ ولهذا يَنبغي لطلبةِ العِلمِ وللعلماء ألَّا يُظهروا خِلافَهم ونزاعَهم أمامَ العامَّة؛ قال تعالى: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ .... يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/313). .
7- أنه ينبغي للقائدِ أنْ يكونَ ذا شجاعةٍ في قيادتِه، بحيثُ يثبُت ويدعو إلى الثَّبات؛ لقولِه تعالى: وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ؛ لأنَّه لو لم يثبُت وهرَب معهم، لم يكُن صالحًا للقيادة يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/324). .
8- التربيةُ العظيمةُ للعِباد، وهي ألَّا يَحزنوا على ما فاتهم، فإذا فاتك ما تظنُّه خيرًا لنفسك، فقل: قَدَّرَ الله وما شاء فَعَل، وكذلك إذا أصابَك ما تَكرَهُ، فقل: قدَّر اللهُ وما شاء فَعَل، واعلمْ أنَّ الحزن لا يَردُّ الغائب أبدًا، وإنَّما يَزيد الإنسان بلاءً، والله عزَّ وجلَّ يحبُّ من عِباده ألَّا يحزنوا؛ لأنَّه دفَعَ الغمَّ بالغمِّ من أجْل ألَّا يحزنوا؛ وذلك لأنَّ الحُزن يُحدِث للإنسان انقباضًا ربَّما يَمنعُه عن كثيرٍ من المصالح؛ قال تعالى: لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ يُنظر: ((أمراض القلوب وشفاؤها)) (ص: 42)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/325). .
9- أنَّ الإنسانَ الذي لا يكونُ له همٌّ إلَّا نفسُه في هذه المواطن قد يُبتلى-والعياذ بالله- بهذه البلوى العظيمة، وهي أنْ يظنَّ باللهِ غير الحقِّ؛ كما قال تعالى: وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/337). .
10- الحَذرُ لا يَدفعُ القدَر، والتدبيرُ لا يُقاوِم التقديرَ؛ يُبيِّن ذلك قولُه تعالى: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ، فالذين قدَّر الله تعالى عليهم القتْلَ لا بدَّ وأن يُقتلوا على جميعِ التقديرات يُنظر: ((تفسير الرازي)) (9/397). .
11- الذَّنبُ يجرُّ إلى الذنب؛ يبيِّن ذلك قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا، فقد أزلَّهم الشيطان بشُؤمِ بعضِ ما سبَق لهم مِن الذُّنوب، وأوقعَهم في الهزيمةِ يُنظر: ((تفسير الرازي)) (9/399)، ((تفسير أبي حيان)) (3/398). .

الفوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:

1- إثباتُ الأفعالِ الاختياريَّة لله؛ لقوله: سَنُلْقِي يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/297). .
2- مِن كمالِ الله عزَّ وجلَّ تجدُّدُ أفعالِه التي تكون تابعةً لإرادتِه وحِكمتِه؛ لأنَّ إلقاءَ الرُّعب في قلوبِ هؤلاءِ حادثٌ؛ سَنُلْقِي، أي: في المستقبَل يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/297). .
3- إثباتُ الأسبابِ؛ لقوله: بِمَا أَشْرَكُوا؛ لأنَّ الباءَ للسببيَّةِ وهو الحقُّ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/299). .
4- في قول الله تعالى: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا، دلالةٌ على أنَّ الرُّعبَ إذا كان يُلقَى في قلوبِ الذين كفروا؛ لإشراكِهم، فإنَّ الأمْنَ يُلقَى في قلوبِ الذين آمَنوا؛ لتوحيدِهم يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/300). .
5- أنَّه لا دليلَ لأحدٍ يحتجُّ به على اعتناقِ الشِّرك؛ لقوله تعالى: مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/302). .
6- شِدَّةُ عزيمةِ الصحابةِ رضي الله عنهم في طَلبِ العدوِّ؛ لأنَّه قال: إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ، والحسُّ: القتل، أو أشدُّه، كأنَّه يُسمعُ له صوتٌ عند القتْل، وهكذا يَنبغي للمسلمين أنْ يأتوا أعداءَهم الحربيِّين على شِدَّة وغِلظة، كما قال الله تعالى: وَلاَ تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ [النساء: 104] ، يعني: لا تَضعُفوا في طلبِهم يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/313). .
7- المعصيةُ بعدَ النِّعمة أشدُّ من المعصيةِ قبل النِّعمة؛ لقوله: وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ، وإلَّا لكان يقول: وَعَصَيْتُمْ فقط، لكن كون المعصيةِ تقعُ بعدَ أنْ أراهم اللهُ ما يُحبُّون؛ هذه أعظمُ ممَّا إذا لم يكُن الله قد أراهم ما يحبُّون يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/313). وينظر: ((تفسير الرازي)) (9/388). .
8- في قول الله تعالى: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ...، جاءتِ المخاطبةُ بجمْع ضميرِ المؤمنين في هذه الآيات، وإنْ كان لم يصُدرْ ما يُعاتبُ عليه مِن جميعِهم؛ وذلك على طريقةِ العربِ في نِسبةِ ما يَقع من بعضِهم للجميعِ على سبيلِ التجوُّز، وفي ذلك إبقاءٌ على مَن فعَل وسَتْرٌ؛ إذ لم يُعيَّن، وزجرٌ لِمَن لم يَفعلْ أن يفعلَ يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (3/378). .
9- أنَّ العِبرةَ والمدارَ على القلوبِ التي في الصُّدور؛ لقوله: وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ، وقال: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ وكأنَّ هذا- والله أعلم- فيه إشارةٌ إلى أنَّ سببَ الجُبن والنِّزاع والمعصية سوءُ النيَّةِ من بعضِ مَنْ كان فيهم، ويُمكن أن نجعلَ قوله: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا جملةٌ استئنافيَّة تعليليَّة لِمَا حَصَل، ولا شكَّ أنَّ المدارَ كلَّه على ما في القلبِ، وأنَّه متى كان القلبُ صالحًا، صلَح العملُ، ومتى كان فاسدًا، فسَد العملُ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/314). .
10- أنَّه قد يكونُ في خيرِ القرون مَن يُعاب عليه الفِعل؛ لقوله: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا، ولكنَّ الصحابة رضي الله عنهم بخاصَّة، لهم مِن الفضائل والسَّوابق والصُّحبة ما يُكفِّر ما حصَل منهم مِن الآفات وغيرِها يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/314). .
11- في قوله تعالى: ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ، وقوله: لِكَيْلَا، وقوله: وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ إثباتُ الحِكمة في أفعال الله؛ فإنَّ اللام هنا للتعليل، فيكون في هذا ردٌّ على الجهميَّةِ ونحوهم ممَّن يُنكرون حِكمةَ الله عزَّ وجلَّ، ويقولون: إنَّ اللهَ يفعل لا لحِكمةٍ ولكن لمجرَّد مشيئة، ونحن نُؤمِنُ بأنَّ الله سبحانه وتعالى لا يَفعل شيئًا ولا يَشرَع شيئًا إلَّا لحِكمة، لكن من الحِكمِ ما هو معلومٌ للبشر، وما هو مجهولٌ لا تَبلغُه العقولُ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/315، 324، 339). .
12- في تَعقيبِ الملامِ من الله تعالى للذين انهزموا في المعركةِ بقوله: وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ تسكينٌ لخواطرِهم؛ فما حصَلَ من المؤمنين- من التنازُع، والفشل، والمعصية، وإرادة الدنيا- كلُّه مَحاهُ اللهُ عزَّ وجلَّ، وفي ذلك تلطُّفٌ معهم على عادةِ القرآن في تقريعِ المؤمنين، وأعظمُ مِن ذلك تقديمُ العفوِ على الملامِ في ملامِ الرَّسولِ عليه السَّلام في قوله تعالى: عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التوبة: 43] ، فتِلك رُتبةٌ أشرفُ من رُتبةِ تعقيبِ الملام بذِكر العفو يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (4/130). ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/316). .
وفي تعقيبِ الملامِ أيضًا دلالةٌ على صِدقِ إيمانهم؛ إذ عجَّلَ لهم الإعلامَ بالعفو؛ لكيلَا تطيرَ نفوسُهم رهبةً وخوفًا من غضَبِ الله تعالى يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (4/130). .
13- خصَّ سبحانه العملَ في قوله: وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ، وإنْ كان تعالى خبيرًا بجميعِ الأحوال مِن الأعمالِ والأقوالِ والنيَّات؛ تنبيهًا على أعمالهم من توليةِ الأدبار، والمبالغةِ في الفِرار، وهي أعمالٌ تُخشَى عاقبتُها وعِقابُها يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (3/389). .
14- أفاد قولُ الله تعالى: وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ، وجوبَ الحذرِ مِن مخالفةِ الله عزَّ وجلَّ؛ ووجهُه: أنَّه إذا كان خبيرًا بعَمَلِنا، فإنَّ ذلك يُوجِب لنا ألَّا نخالِفَه؛ لأنَّنا إنْ خالفْناه عَلِمَ، وإذا عَلِمَ فسوف يُحاسبنا يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/325). .
15- الردُّ على الجبريَّة مِن قوله: تَعْمَلُونَ؛ ووجهُ ذلك: أنَّه أَضاف العملَ إليهم، والجبريَّةُ يقولون: إنَّ الإنسانَ لا يَعمل، لا يَفعلُ شيئًا باختيارِه يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/325). .
16- الردُّ على غُلاة القدريَّة من قوله: خَبِيرٌ؛ لأنَّ غلاة القدرية يُنكِرون عِلمَ الله بفِعل العبدِ، ويقولون: إنَّ الله عزَّ وجلَّ لا يعلمُ أفعالَ العبد، لكن إذا فعَلَها علِمَ بها، تعالى الله عمَّا يقولون يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/325). .
17- أنَّه لا يَظنُّ أحدٌ بالله ظنًّا غير الحقِّ إلَّا وهو جاهلٌ؛ لقوله تعالى: ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ، فكلُّ مَن ظنَّ بالله غيرِ الحقِّ، فإنَّه بلا شكٍّ جاهلٌ، لم يَقدُرِ اللهَ حقَّ قدْره يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/337). .
18- الردُّ على الجبريَّة، وذلك من قوله: بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا، ومن قوله: تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/345). .
19- إثباتُ أنَّ للشيطان تأثيرًا على العبدِ، حتى في عَملِه الصَّالح، وحتى في الجِهاد؛ لقوله: إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/344). .

بلاغة الآيات :

1- قوله: يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا...: استئنافٌ ابتدائيٌّ؛ للانتقالِ مِن التوبيخِ واللَّومِ والعِتابِ إلى التحذيرِ؛ ليُتوسَّلَ منه إلى معاودةِ التَّسليةِ على ما حَصَل من الهزيمة يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (4/121). .
- وتصديرُ الخِطابِ بالنِّداء والتنبيهِ يَا أَيُّهَا؛ لإظهارِ الاعتناءِ بما في حَيِّزه، ووصْفُهم بالإيمان؛ لتذكيرِ حالِهم وتثبيتِهم عليها بإظهارِ مُباينتِها لحالِ أعدائِهم، كما أنَّ وصْفَ المنافقين بالكُفر في قوله تعالى: إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا لذلك؛ قَصْدًا إلى مزيدِ التنفيرِ عنهم، والتَّحذيرِ عن طاعتِهم يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/97). .
2- قوله تعالى: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا:
- في قوله: سَنُلْقِي التفاتٌ- على قِراءة مَن قرأ (وسَيجزي) بالياء- يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (2/71). ، حيث التفتَ من الغَيبة إلى التكلُّمِ؛ للاهتمامِ بما يُلقيه تعالى في قلوبِهم.
3- وقوله: بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّل بِهِ سُلْطَانًا: مَا لَمْ يُنَزِّل بِهِ سُلْطَانًا أي: ما لَا سُلطانَ له، ففيه التَّعبيرُ عن نفْي تنزيلِ السُّلطان، والمرادُ نفيُ وجودِه، فلمْ يَعْنِ أنَّ هناك حُجَّةً إلَّا أنَّها لم تَنزِلْ عليهم؛ لأنَّ الشِّركَ لا يستقيمُ أنْ يقومَ عليه حُجَّةٌ، وإنَّما المرادُ نفيُ الحُجةِ ونزولِها جميعًا؛ لأنَّه لو كان لنزَل، أي: لأَوْحى الله به إلى الناس؛ لأنَّ الله لم يَكتمِ الناسَ الإرشادَ إلى ما يجبُ عليهم من اعتِقادِ على ألْسِنة الرُّسُل، فالتنزيلُ إمَّا بمعنى الوحي، وإمَّا بمعنى نصب الأدلَّة عليهم يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/425- 426)، ((تفسير الرازي)) (9/385)، ((تفسير ابن عاشور)) (4/126). .
- وقوله: مَا لَمْ يُنَزِّل بِهِ سُلْطَانًا وصفٌ كاشف؛ لأنَّ الإشراكَ لا يُمكن أنْ يكونَ قد نزَلَ بسلطانٍ، ولا يوجدُ ما يُسمِّيه أحدٌ شريكًا إلَّا وهو ممَّا لم يُنزل به الله سُلطانًا، بل ولا حُجَّة به في الواقِع ولا بُرهان يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (7/391)، عند الحديثِ عن آية الأعراف: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ *الأعراف: 33*. وقال ابنُ عاشور في تفسيرِه لآية الأعراف: (فعرَّف الشركاءَ المزعومين تعريفًا لطريقِ الرَّسم بأنَّ خاصَّتهم: أنْ لا سلطانَ على شِركتهم لله في الإلهية؛ فكلُّ صنم من أصنامهم واضحةٌ فيه هذه الخاصَّة، فإنَّ الموصولَ وصِلتَه من طرق التعريف، وليس ذلك كالوصفِ، وليس للموصولِ وصِلتِه مفهومُ مخالفةٍ، ولا الموصولات معدودة في صِيغ المفاهيم، فلا يتَّجه ما أوردَه الفخرُ مِن أن يقول قائلٌ: هذا يُوهم أنَّ مِن بين الشرك ما أنزل الله به سلطانًا واحتياجه إلى دفْع هذا الإيهامِ، ولا ما قَفاه عليه صاحبُ «الانتصاف» من تنظيرِ نفْي السلطانِ في هذه الآيةِ بنحو قولِ امرئ القيس: عَلى لاحِبٍ لا يُهتدَى بمَنارِه ولا يَتَّجه ما نحاهُ صاحبُ «الكشاف» من إجراءِ هذه الصِّلة على طريقةِ التهكُّم). ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/101- 102) ، وذلك يُفيد التوكيدَ.
4- قوله: وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ: فيه وضْعُ الظاهرِ الظَّالِمِينَ موضِعَ المُضمَر- حيث لم يقل: (مثواهم)-؛ للتغليظِ، والإشعارِ بأنَّهم في إشراكِهم ظالِمُون واضِعُون للشيءِ في غيرِ موضعِه يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (2/42)، ((تفسير أبي السعود)) (2/98). ، وللتَّعميمِ وتعليق الحُكم بالوصف يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (5/92). .
- والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ؛ للدَّلالة عليه، أي: بِئسَ مثوى الظالِمين النارُ، وفي جَعْلها مثواهم بعدَ جَعْلِها مأواهم نوعُ رَمزٍ إلى خلودِهم فيها؛ فإنَّ المثْوى مكانُ الإقامةِ المنبئةِ عن المُكثْ، وأمَّا المأوى، فهو المكانُ الذي يَأوي إليه الإنسانُ يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (2/42)، ((تفسير أبي السعود)) (2/98). .
5- قول الله تعالى: مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ عدَلَ عن ذِكرِ الغنيمةِ باسمِها إلى الموصول مَا؛ تنبيهًا على أنَّهم عَجِلوا في طلبِ المالِ المحبوبِ يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (4/129). .
6- قوله: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ: فيه تفصيلٌ للإجمالِ الذي في قولِه: وتَنَازَعْتُمْ، وتبيينٌ لـوَعَصَيْتُمْ، وتخصيصٌ له بأنَّ العاصين بعضُ المخاطَبين المتنازِعين؛ إذِ الَّذين أرادوا الآخِرةَ ليسوا بعاصين؛ ولذلك أُخِّرتْ هذه الجملةُ إلى بعدِ الفِعلين، وكان مُقتضى الظاهرِ أنْ يُعقِّب بها قوله: وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ، وفي هذا الموضعِ للجملةِ ما أغْنى عن ذِكر ثلاثِ جُمَل، وهذا مِن أبدعِ وجوهِ الإعجاز، والقرينةُ واضحةٌ يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (4/129). .
7- قوله: وَمَنْ يُرِدْ، ومِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ... فيه حُسْنُ تقسيمٍ يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (3/381). .
8- قوله: وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ: تذييلٌ؛ لتأكيدِ ما اقتضاه قولُه: وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (4/130). .
- وتنكيرُ فَضْلٍ؛ للتفخيم يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/99). .
- والإظهارُ عَلَى المُؤْمِنِينَ في موقعِ الإضمارِ (عليهم)؛ للتَّشريفِ، والإشعارِ بعلَّة الحُكم، وتعليق الحُكم بالوصف يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (5/95)، ((تفسير أبي السعود)) (2/99). .
9- قوله: وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ: فيه إيجازٌ بالحَذْف؛ إذ المعنى: ولا يَلوي أحدٌ على أحدٍ، فأوجزَ بالحذف، والمرادُ: على أحدٍ منكم يُنظر: ((تفسير الرازي)) (9/390)، ((تفسير ابن عاشور)) (4/131). .
10- قوله: غَمًّا بِغَمٍّ فيه تنكيرُ (غَمّ)؛ للتكثيرِ يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/100). .
11- قوله: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا فيه التصريحُ بتأخُّر الإنزالِ عنه بقوله مِنْ بَعْدِ، مع دَلالة ثُمَّ عليه وعلى تَراخِيه عنه؛ لزِيادةِ البيانِ، والتذكيرِ بعِظَم النِّعمةِ يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/100). .
- وقوله: عَلَيْكُمْ يدلُّ على تجلُّل النُّعاسِ واستعلائِه وغلبتِه عليهم يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (3/390)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (5/97). .
- وقوله: أَمَنَةً نُعَاسًا: في إبدال نُعَاسًا من أَمَنَةً إيجازٌ كثيرٌ، يدلُّ على أنَّ الأمنَ والهدوءَ استوليَا عليهم بمجرَّدِ مُخالطةِ النُّعاس، وإنَّما ينعَسُ مَن أمِن وزايلَه الخوف، والخائِف لا يَنامُ، بل يرَى أعداءَه في كلِّ مكان يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (2/79- 80). .
- وتقديمُ الظَّرفينِ مِنْ بَعْدِ على المفعولِ الصَّريح أَمَنَةً؛ للاعتناءِ بشأنِ المقدَّمِ، والتشويقِ إلى المؤخَّر يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/101). .
- وتَخصيصُ الخوفِ من بين فُنونِ الغمِّ بالإزالة؛ لأنَّه المهمُّ عندَهم حينئذٍ؛ لأنَّ المشركين لَمَّا انصرَفوا كانوا يَتوعَّدون المسلمين بالرُّجوع، فلم يأمنوا رجْعَتَهم إليهم، وكانوا تحتَ الأسلحةِ متأهِّبين للقِتال، فأنزلَ اللهُ تعالى عليهم الأَمنةَ فأَخذَهم النُّعاسُ يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/101). .
12- قوله: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ: استئنافٌ بيانيٌّ نشأ عن قوله: قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ، وفيه تعريضٌ بأنَّهم لم يُزيلوا بعضَ أوصاف الجاهليَّة، ولم يُخلصوا الدِّينَ لله يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (4/135). .
- وقوله: غَيْرَ الحَقِّ: تأكيدٌ لـيَظُنُّونَ، مثل قولك: هذا القولُ غيرُ ما تقول، وهذا القولُ لا قولك يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/428). .
13- قوله: يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ: هَلْ للاستفهامِ الإنكاريِّ بمعنى النَّفي، بقرينةِ زيادة مِن قبل النَّكرة، وهي مِن خَصائصِ النَّفي، وهو تبرئةٌ لأنفسِهم من أنْ يكونوا سببًا في مقابلةِ العدوِّ، حتى نَشأَ عنه ما نَشأ، وتَعريضٌ بأنَّ الخروجَ للقتالِ يومَ أُحُدٍ خَطأٌ وغُرور يُنظر: ((تفسير الرازي)) (9/395)، ((تفسير ابن عاشور)) (4/135). .
14- قوله: قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ: فيه تأكيدُ الخبر بـ(إنَّ)، واسميَّة الجملة.
- وكُلَّهُ- على قِراءة النَّصب- تأكيدٌ لاسم (إنَّ) يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (4/137). ، فلمَّا أُكِّد في كلامِهم بزيادة (مِن) في قوله: مِنْ شَيْءٍ، جاءَ الكلام مؤكَّدًا بـ(إنَّ)، وبُولغ في توكيدِ العمومِ بقولِه: كُلَّهُ لِلَّهِ، فكان الجوابُ أبلغَ يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (3/393). .
15- قوله: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ: خبرٌ فيه وعدٌ ووعيد، وتنبيهٌ على أنَّه غنيٌّ عن الابتلاء؛ وإنما فعَل ذلك لتَمرينِ المؤمنين، وإظهارِ حالِ المنافقين يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (2/44). .
16- قوله: يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ: فيه مِن البلاغة: المخالفةُ في جواب لَوْ؛ فقد جاء مرَّةً بغيرِ لام مَا قُتِلْنَا، وجاء مرة مقترنًا بها لَبرَزَ، وفي هذا سرٌّ عجيبٌ، والقاعدةُ المعروفةُ هي أنَّ جوابَ (لو) إذا كان منفيًّا بـ(ما)، فالأكثرُ عدمُ اللام، وفي الإيجابِ بالعكس؛ لأنَّ الإيجابَ أحوجُ إلى التَّثبيتِ والترسيخِ يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (2/79- 80). .
17- أفاد قوله تعالى: وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ أنَّه يَنبغي التأكيدُ من أجْل زيادةِ طُمأنينةِ المخاطَب؛ لأنَّه أكَّد هذه الجملةَ الخبريَّةَ التي تُفيد العفوَ عنهم؛ أكَّدها بقَسَم، ولام، وقدْ؛ من أجْل أنْ تَزدادَ طُمأنينتُهم في هذا العفو يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/345). .
18- قوله: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ: الجملةُ تعليلٌ لِمَا قَبْلَها على سبيلِ التَّحقيق، وفي إظهارِ لفظ الجَلالةِ (الله) في موضِع الإضمارِ تربيةٌ للمهابةِ، وتأكيدٌ للتَّعليل يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/103). .