موسوعة التفسير

سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيات (146-148)

ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ

غريبُ الكَلِمات :

وَكَأَيِّنْ: لفظةٌ مركَّبةٌ من كافِ التَّشبيهِ و(أيٍّ)، حدَث فيها بَعدَ هذا التركيبِ معنى التَّكثيرِ يُنظر: ((تفسير الرازي)) (9/380)، ((تفسير أبي السعود)) (2/95)، ((تفسير ابن عاشور)) (4/116-117). .
رِبِّيُّونَ: أي: جماعاتٌ كثيرة، والواحدُ منها رِبِّيٌّ، ويُقال: الأُلوف، وأصلُه من الرِّبَّة، وهي: الجماعةُ، كأنَّ الرِّبِّيَّ نُسِب إليها يُنظر: ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (1/104)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 113)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 246)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 130). .
وما اسْتَكَانُوا: أي: ما خشَعوا وما ذَلُّوا، وما خَضعوا للعدوِّ، ومنه أُخذ المستكين، وأصلُ الاستكانة: إظهارُ الضَّعْف يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 113، 299)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 102)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 131)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 115). .
وَإِسْرَافَنَا: وإفراطَنا، والسَّرَف: تجاوزُ الحدِّ في كلِّ فِعلٍ يَفعلُه الإنسانُ، وأصلُه: تعدِّي الحدِّ، والإغفالُ للشَّيءِ أيضًا يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 102)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/153)، ((المفردات)) للراغب (ص: 407)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 131). .

مشكل الإعراب:

قوله: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ:
كلمة كَأَيِّنْ مركَّبةٌ من كافِ التَّشبيه و(أيٍّ)، وحدَث فيها بعدَ التركيبِ معنى التكثيرِ المفهوم من (كَمْ) الخبريَّة و(أيٍّ) منوَّنة، وحقُّها أن يُوقفَ عليها بغير نون؛ لأنَّ التنوين يُحذف وقفًا، ولكن ثبَت في المصاحف نونٌ بعد الياء؛ لأنَّها كلمةٌ نُقلت عن أصلِها، فالوقفُ عليها بالنون اتِّباعًا للمصحف، وقيل غير ذلك في بِنيتها الصرفيَّة، وفي لُغاتها. وقيل: إن كَأَيِّن كلمة بسيطة غير مركَّبة وأنَّ آخرها نون هي مِن نفس الكلمة لا تنوين، وهذا أسهلُ، لكن النحويِّين ذكروا هذه الأشياءَ في تركيبها؛ محافظةً على أصولِهم، مع ما ينضمُّ إلى ذلك من الفوائدِ وتشحيذِ الذِّهن وتمرينه. ينظر: ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (3/426). ، وأمَّا موقعُها الإعرابيُّ: فهو الرَّفْعُ بالابتداءِ، والخبرُ جملة قَاتَلَ، والتقديرُ: كثيرٌ من الأنبياءِ قاتَلَ. وعلى هذا يكون مَعَهُ رِبِّيُّونَ جملةً في محلِّ نصْب على الحالِ مِنَ الضمير في قَاتَلَ، ويجوزُ أن يكونَ مَعَهُ وحْدَه هو الحال، ورِبِّيُّونَ فاعلًا بهذا الظرف الذي وقع حالًا، ولا يحتاج هنا إلى واو الحال؛ لأنَّ الضميرَ الذي في (معه) هو الرَّابط. أو يكون قَاتَلَ: جملةً في محلِّ جرٍّ، صفة لـنَبِيٍّ، ومَعَهُ رِبِّيُّونَ هو الخبر، وفيه الوجهان المتقدِّمان في جعْله حالًا، يعني: أن يكون مَعَهُ خبرًا مُقدَّمًا ورِبِّيُّونَ مبتدأً مؤخَّرًا، والجملة خبر كَأَيِّنْ، أو يكون مَعَهُ وحْده هو الخبرُ، ورِبِّيُّونَ فاعلٌ به. وقيل غير ذلك [5113] يُنظر: ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (1/175- 176)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (1/297)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (3/421- 426). .

المَعنَى الإجماليُّ :

يُخبر اللهُ تعالى أنَّه: كمْ مِن نبيٍّ من الأنبياءِ قاتَل وشارَكه في ذلك من أتْباعه الكثيرُ، فأصابهم ما أصابَهم في سبيلِ الله، لكنَّ ذلك لم يكُن حاملًا لهم على مفارقةِ دِينهم، أو ترْك الجِهادِ في سَبيل الله؛ فما ضعُفتْ أبدانُهم ولا قلوبُهم ولا هِمَمُهم، ولا لانَتْ عزائمُهم، ولم يَذلُّوا لعدوِّهم، واللهُ تعالى يحبُّ الصَّابرين؛ كهؤلاءِ ومَن على شاكِلتِهم.
ولم يكُن لهم مِن قولٍ يقولونه بعدَ ما حصَل لهم إلَّا أنَّهم طلَبوا المغفرةَ مِن الله لذُنوبِهم، ولتجاوُزِهم ما حدَّه الله تعالى في جميعِ أُمورِهم، وأنْ يُثبِّتَ الله أقدامَهم، وينصرَهم على أعدائِه وأعدائِهم من الكافرين، فأعطاهم اللهُ ثوابَ الدُّنيا مِن نصْرٍ وغنيمةٍ وغيرها، وحُسنَ ثوابِ الآخِرة من رِضَا الله، والخلودِ في جنَّته، واللهُ تعالى يُحبُّ المحسنين.

تفسير الآيات :

وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
أنَّه لَمَّا كان من المؤمنين ما كان يومَ أُحُد، وعتَبَ عليهم اللهُ ما وقَع منهم، أخبرَهم أنَّ طريقةَ أتْباعِ الأنبياء المتقدِّمين: الصَّبرُ على الجِهاد، وترْكُ الفرار؛ فكيف يليقُ بكم هذا الفرارُ والانهزام يُنظر: ((تفسير الرازي)) (9/380)، ((تفسير أبي حيان)) (3/368)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (5/85). ؟!
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ
القِراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التَّفسير:
في قوله تعالى: قَاتَلَ قِراءتان:
1- قِراءة قُتِلَ على البِناء للمَفعول قرأ بها نافع وابن كثير والبصريَّان. يُنظر: ((الكشف)) لمكي (1/359)، ((النشر)) لابن الجزري (ص: 194). .
2- قِراءة قَاتَلَ على البِناءِ للفاعِل قرأ بها الباقون. يُنظر: ((الكشف)) لمكي (1/359)، ((النشر)) لابن الجزري (ص: 194). .
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ
أي: كَثيرون هم الأنبياءُ الذين قاتَلَ جموعٌ كثيرةٌ من أتْباعهم، وقُتِلَ كثيرٌ منهم، فلم يحملْ ذلك بقيَّتهم على التزعزع عن دينهم، أو على أن يتركوا جهاد عدوهم يُنظر: ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 175)، ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (1/58-63)، ((تفسير السعدي)) (ص: 151). وقيل يحتمل على قراءة قاتل أن يكون القتال واقعا من النبي، وأن له أتباعا كثيرون يقاتلون معه فلم يقع منهم وهن ولا ضعف. وعلى قراءة قُتِل قيل يحتمل أن يكون القتل واقعا على النبي ولم يكن ذلك سببا لتراجعه ووهنهم. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/ 110، 111، 117)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/ 500- 501)، ((تفسير ابن عطية)) (1/ 520- 521)، ((تفسير القرطبي)) (4/ 229-203)،  ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (1/ 58 -60)، ((الحسنة والسيئة)) لابن تيمية (ص: 123-124)، ((تفسير ابن كثير)) (2/ 130- 131)، ((تفسير السعدي)) (ص: 151)، ((تفسير ابن عاشور)) (4/ 118)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (1/ 210)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة آل عمران)) (2/ 256-260). وممَّن قال من السَّلف في معنى ربيُّون بنحو ما ذُكر: ابن عبَّاس، وعبد الله، وعطاء، ومجاهد، وسعيد ابن جُبَير، وهو أحد قولي الحسَن، وعِكرمة، والسُّدِّي، وعطاء الخراساني، وقتادة، والربيع. انظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/111)، و((تفسير ابن أبي حاتم)) (3/780). .
فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
أي: إنَّ أبدانَهم لم تضعُفْ، وهمَّتهم لم تتَّثبط، ولم يَجبُنوا عن جِهادِ العدوِّ؛ بسببِ ما نالهم من جِراحٍ، وغيرِ ذلك مِن أذًى في سبيلِ الله عزَّ وجلَّ يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/117)، ((تفسير السعدي)) (ص: 151)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/260). .
وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا
أي: إنَّ قلوبهم لم تضعُف، وعَزائمَهم لم تَلِنْ، وقُواهم لم تَخِرْ؛ بسببِ ما أصابهم، ولم يَذلُّوا لعدوِّهم يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/117)، ((تفسير السعدي)) (ص: 151)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/261). فائدةٌ في الفَرْق بَينَ الضَّعف والوهن: أنَّ الضَّعفُ خِلافُ القوَّة، ويكون الضَّعفُ-بفتح الضاد وضمها- في الجَسدِ والرأي والعَقل. والوهن: هو أنْ يفعلَ الإنسان فِعلَ الضعيف؛ يقال: وهن في الأمرِ إذا أخذ فيه أخْذ الضعيف، ومنه قوله تعالى: وَلَا تَهِنُوا *آل عمران: 139*، أي: لا تَفْعلوا أفعالَ الضُّعفاء؛ ويدلُّ على صحة هذا: أنه لا يُقال: خلَقَه الله واهنًا كما يُقال خلقَه الله ضعيفًا. وقد يُستعمل الضعفُ مكانَ الوهن، كقوله: فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا *آل عمران: 146*، أي: لم يَفعلوا فِعلَ الضَّعيف. ويجوزُ أن يُقال: إنَّ الوهنَ هو انكسارُ الجَسدِ بالخوفِ ونحوه، والضَّعْف نُقصانُ القوَّة. وقيل: إنَّ الوهن الضَّعفُ في العَملِ والأمر، وكذلك في العَظم ونحوه؛ يقال: وَهَن العَظمُ، ورجُل واهنٌ في الأمر والعمل، وموهونٌ في العَظْم والبدن. ينظر: ((معجم الفروق اللغوية)) للعسكري (ص: 330- 331)، ((تهذيب اللغة)) للأزهري (1/306) و(6/234)، ((المحكم والمحيط الأعظم)) لابن سِيده (1/411) و(4/429). وقيل: هُما متقارِبان تقاربًا قريبًا من الترادُف؛ فالوهنُ: قِلَّةُ القُدرةِ على العملِ وعلى النُّهوضِ في الأمْر، والضَّعفُ: ضدُّ القوَّة في البَدن؛ فالوهنُ أقربُ إلى خَورِ العزيمة ودَبيبِ اليأس في النفوس والفِكر، والضَّعفُ أقربُ إلى الاستسلامِ والفشلِ في المقاومة. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (4/118- 119). .
وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ
أي: إنَّ الله تعالى يحبُّ هؤلاءِ وأمثالَهم من الصَّابرين على طاعتِه وجِهادِ أعدائه، ويُحبُّ مَن صبَر عن معصيتِه، وعلى أقدارِه سبحانه يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/117)، ((تفسير السعدي)) (ص: 151)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/261). .
وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
أنَّ الله تعالى لَمَّا ذَكَر ما كان عليه الرِّبِّيُّون من الجَلَد والصبر، وعدمِ الوهنِ والاستكانةِ للعدوِّ، وذلك كلُّه من الأفعالِ النفسانيَّة التي يَظهر أثرُها في الجوارح، ذكَر ما كانوا عليه من الإنابةِ والاستغفارِ، والالْتجاءِ إلى الله تعالى بالدُّعاء يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (3/373). ، فقال:
وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا
أي: ولم يكُن لدَى الربِّيِّين من قولٍ يَنطِقون به، سوى طلبِ المغفرةِ من الله تعالى بسَتْر ذنوبِهم، وسَتْر إفراطِهم في جميعِ شؤونهم، بتجاوُزهم ما حَدَّه اللهُ تعالى فيها، وطلبِهم التجاوزَ عن المؤاخذةِ بذلك يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/119، 120)، ((تفسير ابن كثير)) (2/131)، ((تفسير السعدي)) (ص: 151)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/264-266). .
وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا
أي: ومِن جملةِ دُعائهم: طلبُهم مِن اللهِ تعالى الثباتَ في وجوهِ الأعداءِ لِقتالهم يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/121)، ((تفسير السعدي)) (ص: 151)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/266). .
وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ
أي: ومِن جملةِ ما سألوه ربَّهم سبحانه: أنْ يمنحَهم الفوزَ على الكفَّار يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/121)، ((تفسير السعدي)) (ص: 151)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/266-267). .
فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
أنَّ الله تعالى لَمَّا أتمَّ الثناءَ على فِعل الرِّبِّيِّين في الصَّبر، وطريقتِهم في الدُّعاء، ذكَر ما سبَّبه لهم ذلك من الجَزاء في الدُّنيا والآخِرة يُنظر: ((تفسير الرازي)) (9/382)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (5/88). ، فقال:
فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ
أي: إنَّ الله تعالى قد منَحهم بفضله جزاءً في الدنيا، كالنَّصرِ على الأعداءِ، والظَّفر بالغنائمِ، وغيرِ ذلك، وضمَّ لهم مع أجْر الدنيا جزاءَ الآخرة الحَسَن، من الفوز برِضوانِ الله تعالى، والخلودِ في دار السَّعادة الأبديَّة يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/123)، ((تفسير ابن كثير)) (2/131)، ((تفسير السعدي)) (ص: 151)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/268-269). .
وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
أي: إنَّ الله تعالى جازاهم بالإحسان الدُّنيويِّ والأخرويِّ؛ لإحسانِهم العملَ؛ فإنَّ الله تعالى يحبُّ كلَّ محسِنٍ في عِبادتِه سبحانه، وفي تعامُلِه مع مخلوقاتِه يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/124)، ((تفسير السعدي)) (ص: 151)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/269-270). .

الفوائِدُ التربويَّةُ :

1- التأسِّي بمَن مضَى من صالحِي الأُمم السَّابقة؛ يُبيِّن ذلك قولُه تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ .. يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (3/368). .
2- أنَّ مِن طُرُقِ التَّشجيعِ على الشَّيءِ والإغراءِ به، أنْ يُذكَر للإنسانِ سَلفٌ يَقتدي به، ويَتشجَّع للحاقِ به؛ لقوله: فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/262). .
3- الإشارةُ إلى انحطاطِ مرتبةِ الذين يَذِلُّون لأعداءِ الله؛ يُؤخَذ من قوله: وَمَا اسْتَكَانُوا؛ وذلك أنَّ الإنسانَ المؤمِن يجبُ أن يكونَ أشمَّ؛ كالطَّودِ العظيمِ بالنِّسبةِ لأعداء الله، حتى إنَّه يجوزُ للإنسانِ الخُيلاءُ، وجرُّ الثوبِ في مقابلةِ الأعداءِ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/262). .
4- مَن صبَر على تحمُّل الشَّدائد في طريق الله، ولم يُظهرِ الجزعَ والعجزَ والهلعَ، فإنَّ الله يحبُّه؛ يُبيِّن ذلك قولُه تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ يُنظر: ((تفسير الرازي)) (9/381). .
5- مَن عَوَّلَ في تحصيلِ مَهمَّاته على نفْسه ذَلَّ، ومَن اعتَصَم بالله بالدعاء، والتضرُّع بطلبِ الإمدادِ والإعانةِ منه تعالى، فازَ بالمطلوب؛ يُبيِّن ذلك قولُه تعالى: وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ يُنظر: ((تفسير الرازي)) (9/381). .
6- تقديمُ التوبةِ والاستغفارِ في الدُّعاء عند النوائب والمِحَن؛ سواءٌ كان في الجهاد، أو غيرِه، فما نزَل من بلاءِ الدُّنيا إنَّما هو بذنوبِ من البَشر؛ يُبيِّن ذلك قوله تعالى: وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ يُنظر: ((تفسير الرازي)) (9/381)، ((تفسير أبي حيان)) (3/373). .
7- أنَّ الإنسانَ مُفتقرٌ إلى مغفرةِ الله؛ لقوله: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا، ولو كان غنيًّا عنها ما سألها، ولكنَّه مفتقرٌ إليها غايةَ الافتقار يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/267). .
8- في قولهم: وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا، أنَّ الإنسانَ لا يَخلو من الإسرافِ على نفْسه: إمَّا في غُلو، وإمَّا في تقصيرٍ؛ وجه ذلك: أنَّ سؤالهم اللهَ أنْ يغفرَ لهم الإسرافَ يدلُّ على وجودِ هذا الشَّيء، وإذا تأمَّل الإنسانُ نفْسَه، وجَد أنَّه لن يَخلوَ من الإسرافِ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/268). .
9- أنَّ الإنسانَ مُفتقرٌ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ في تثبيتِ القدَم؛ لقوله: وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا، وهذا يتأكَّدُ في ثلاثةِ مواطنَ: عند مواجهةِ الأعداء، وعندَ الشُّبهاتِ، وعندَ الشَّهوات يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/268). .

الفوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:

1- أنَّ هؤلاءِ الرِّبِّيِّين الذين قاتلوا مع النبيِّ كمُلت منهم الأفعال والأقوال؛ من الأفعال قولُه تعالى: فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا، ومن الأقوال: أنَّهم لَجَؤوا إلى الله عزَّ وجلَّ بسؤال المغفرةِ؛ مغفرةِ الذنوبِ والإسرافِ في الأمْر؛ لأنَّهم يَعلمون أنَّ ما أصابَهم إنَّما هو بسببِ الذُّنوب يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/267). .
2- أنَّه يَنبغي على الإنسانِ أنْ يَدعوَ الله تعالى بهذا الدُّعاء، لا سيَّما عندَ ملاقاة الكفَّار؛ حتى ينتصرَ عليهم: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/267). .
3- في قول الله تعالى: وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ، إنَّما قدَّموا قولهم: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا؛ لأنَّه تعالى لَمَّا ضمِن النُّصرةَ للمؤمنين، فإذا لم تَحصُل النصرةُ وظهَرتْ أماراتُ استيلاءِ العدوِّ، دلَّ ذلك ظاهرًا على صدورِ ذنبٍ وتقصيرٍ من المؤمنين؛ فلهذا المعنى يجبُ عليهم تقديمُ التوبةِ والاستغفارِ على طلبِ النُّصرة يُنظر: ((تفسير الرازي)) (9/381). .
وقيل: قدَّموا طلبَهم الاستغفارَ على طلبِ تثبيتِ الأقدام والنُّصرة؛ ليكونَ طلبُهم ذلك إلى الله عن زكاةٍ وطهارةٍ، فيكون طلبُهم التثبيتَ بتقديمِ الاستغفارِ حريًّا بالإجابة يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (3/374). .
4- في قول الله تعالى حكايةً عن المؤمنين: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا، بدؤوا بالتوبةِ عن كلِّ المعاصي، وهو المرادُ بقوله: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا، فدخَل فيه كلُّ الذنوب، سواء كانتْ من الصَّغائر أو من الكبائر، ثم إنَّهم خَصُّوا الذنوبَ العظيمةَ الكبيرة منها بالذِّكرِ بعد ذلك؛ لعِظَمها وعِظَم عِقابها، وهو المرادُ من قوله: وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا؛ لأنَّ الإسرافَ في كلِّ شيء هو الإفراطُ فيه يُنظر: ((تفسير الرازي)) (9/381)، ((تفسير ابن عاشور)) (4/120). .
5- الإشارةُ إلى خِفَّة شأنِ الدُّنيا بالنِّسبة للآخِرة؛ لقولِ الله تعالى: ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ، فكأنَّ الدنيا ليستْ بشيءٍ حتى يكونَ فيها حُسْن؛ ففيه إشارةٌ إلى أنَّ العاقلَ يَنبغي له أن يَعتني بثوابِ الآخِرة الذي هو حسنٌ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/273). .
6- في قول الله تعالى: فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ، قدَّم ثوابَ الدنيا؛ ليكونَ ذلك إعلامًا بتعجيلِ إجابةِ دَعوتِهم لحصولِ خيرَيِ الدُّنيا والآخِرة؛ ولأنَّ ذلك في الزَّمانِ مُتقدِّمٌ على ثوابِ الآخِرة يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (3/374)، ((تفسير ابن عاشور)) (4/121). .

بلاغة الآيات :

1- قوله: فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا: خبرٌ عن السَّابقين، فيه تعريضٌ بالمخاطَبين، بما أصابَهم من الوهنِ والانكسارِ عندَ الإرجافِ بقتْل رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وبضَعْفِهم عند ذلك عن مجاهدةِ المشركين، واستكانتِهم لهم يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/424). .
- قوله: فَمَا وَهَنُوا، وَمَا ضَعُفُوا، وَمَا اسْتَكَانُوا: فيه جمْع بين الوهن والضَّعف، وهما مُتقاربان تقاربًا قريبًا من التَّرادُف؛ للتأكيدِ، وأمَّا الاستكانةُ؛ فهي الخضوعُ والمذلَّة للعدوِّ. ومِن اللَّطائف: ترتيبُ هذه الثلاثةِ في الذِّكر على حسَب ترتيبِها في الحُصولِ؛ فإنَّه إذا خارتِ العزيمةُ، فَشِلت الأعضاءُ، وجاء الاستسلامُ، فتبعتْه المذلَّةُ والخضوعُ للعدوِّ يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (4/118- 119). .
- وفي الآية: تعريضٌ بتَشبيهِ حالِ أصحابِ أُحُدٍ بحالِ أصحابِ الأنبياءِ السَّالفين؛ لأنَّ محلَّ المَثل ليس هو خُصوصَ الانهزامِ في الحرْب، بل ذلك هو المُمثَّل، وأمَّا التَّشبيه؛ فهو بصبرِ الأَتْباعِ عند حلولِ المصائِب، أو موتِ المتبوع يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (4/116). .
2- قوله: وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ: تذييلٌ مقرِّر لِمَا قبلَه، وإظهارُ الاسمِ الجليل (الله) في موضِعِ الإضمار؛ للثَّناءِ على الصَّابرين بحُسنِ الصَّبرِ، والإشعارِ بعِلَّة الحُكم يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/96)، ((دليل البلاغة القرآنية)) للدبل (ص: 556). .
- وفيه: توكيدُ الخبرِ باسميَّة الجملة يُنظر: ((دليل البلاغة القرآنية)) للدبل (ص: 556). .
3- قوله: وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا: فيه تقديمُ خبر (كان) على اسمِها؛ لأنَّه خبرٌ عن مبتدأ محصورٌ؛ إذ المقصودُ حصْرُ أقوالِهم حينئذٍ في مقالة: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنا، فالقصرُ حقيقيٌّ؛ لأنَّه قصرٌ لقولهم الصادِر منهم، حين حصولِ ما أصابهم في سبيل الله يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (4/120). .
4- قوله: وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ: فيه تخصيصُ ثوابِ الآخِرة بالحُسن؛ للدَّلالة على فضلِه وتقدُّمه، وأنَّه هو المعتدُّ به عنده يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/425)، ((تفسير البيضاوي)) (2/42)، ((تفسير أبي السعود)) (2/95). ؛ وذلك لأنَّ ثوابَ الآخِرة كلَّه في غايةِ الحُسن، فما خصَّه اللهُ بأنَّه حَسنٌ من هذا الجِنس، فانظر كيف يكونُ حُسنُه؟! ولم يَصِفْ ثوابَ الدنيا بذلك؛ لقلَّتِها وامتزاجِها بالمضارِّ، وكونِها منقطعةً زائلة يُنظر: ((تفسير الرازي)) (9/382). .
5- قوله: واللهِ يُحِبُّ المحْسِنينَ: أي: يحبُّ كلَّ محسن، وهو تذييلٌ، وموقِعُ التذييلِ يدلُّ على أنَّ المتحدَّث عنهم هم مِن الذين أحْسنوا؛ فاللامُ للجِنس المفيدِ معنى الاستغراق يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (4/121). .