موسوعة التفسير

سورة الشُّورى
الآيات (1-6)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ

غريب الكلمات:

يَتَفَطَّرْنَ: أي: يَتشَقَّقْنَ ويَتصدَّعْنَ، وأصلُ (فطر): يدُلُّ على فَتحِ شَيءٍ وإبرازِه [7] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 276، 391)، ((تفسير ابن جرير)) (9/176)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/510)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 991). .
حَفِيظٌ: أي: حافظٌ، ورَقيبٌ، وشاهدٌ، وأصلُ (حفظ): يدُلُّ على مُراعاةِ الشَّيءِ [8] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/87)، ((تفسير السمعاني)) (5/64)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 340)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/43)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/32). .

المعنى الإجمالي:

ابتدأَتْ هذه السُّورةُ الكَريمةُ ببَعضِ الحُروفِ المُقَطَّعةِ، وقد تقدَّم الكلامُ عنها في تفسيرِ أوَّلِ سُورةِ (فصلت)، ثمَّ يُخبِرُ تعالى نَبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قائِلًا له: مِثلَ ذلك الإيحاءِ يُوحِي إليك -يا مُحمَّدُ- وإلى الَّذين مِن قَبلِك مِنَ الأنبياءِ: اللهُ العَزيزُ الحَكيمُ، له سُبحانَه ملْكُ ما في السَّمَواتِ وما في الأرضِ، وهو العَليُّ العَظيمُ.
ثمَّ يُبيِّنُ اللهُ تعالى بعضَ مظاهرِ كمالِه وجلالِه وعظَمتِه، فيقولُ: تَكادُ السَّمَواتُ يَتشقَّقْنَ مِن فَوقِهنَّ، والملائِكةُ يُنزِّهونَ اللهَ تعالى عمَّا لا يليقُ بجَلالِه وكَمالِه، ويَسألونَ اللهَ المَغفِرةَ لذُنوبِ مَن في الأرضِ، ألَا إنَّ اللهَ وَحْدَه هو الغَفورُ الرَّحيمُ.
ثمَّ يُبيِّنُ سبحانَه سوءَ عاقبةِ المشركينَ، فيقولُ: والَّذين اتَّخَذوا مِن دُونِ اللهِ أَولياءَ يُطيعونَهم ويَعبُدونَهم فاللهُ شَهيدٌ ورَقيبٌ على أعمالِهم، وما أنت -يا مُحمَّدُ- بمُوكَّلٍ بحِفظِ أعمالِهم أو هِدايتِهم.

تفسير الآيات:

حم (1) عسق (2).
تقدَّم الكلامُ عن هذه الحُروفِ المُقطَّعةِ في تَفسيرِ أوَّلِ سُورةِ (فصلت) [9] قال ابنُ عثيمين: (هذه الحروفُ ذاتُها ليس لها معنًى... لكِنْ لها مغزًى يقترِنُ بالتَّحَدِّي، وهو أن يُقالَ: إنَّكم -أيُّها العَرَبُ- تُرَكِّبونَ كَلامَكم مِن هذه الحُروفِ، والقرآنُ لم يأتِ بحَرفٍ لم تتكَلَّموا به، بل كُلُّه مِن الحروفِ الَّتي تتكَلَّمون بها، وهذا مِثالُ «ح م ع س ق»، ومع هذا عجَزْتُم أن تأتوا بمِثلِه... ويدُلُّ لهذا المغزى ... أنَّك لا تجِدُ سُورةً مَبدوءةً بهذه الحُروفِ إلَّا وبعدَها ذِكرُ القُرآنِ الكريمِ، أو ذِكرُ ما لا يمكِنُ إلَّا بوَحيٍ... ليس هناك إلَّا سورتانِ أو ثلاثٌ، لكِنْ في حقيقةِ الأمرِ أنَّ الَّذي يلي هذه الحروفَ لا يَتأتَّى العِلمُ به إلَّا عن طريقِ الوَحيِ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 21). .
كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3).
أي: مِثلَ ذلك الإيحاءِ [10] ممَّن اختار المعنَى المذكورَ، وأنَّ الإشارةَ تعودُ إلى الإيحاءِ: جلالُ الدِّين المحلِّي، والشوكاني، وابن عاشور، والشنقيطي، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير الجلالين)) (ص: 638)، ((تفسير الشوكاني)) (4/602)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/26)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/37)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 15). وقال ابن عاشور: (المعنى: مِثلَ هذا الوحيِ يُوحي اللهُ إليك، فالمشارُ إليه: الإيحاءُ المأخوذُ مِن فِعلِ يُوحِي). ((تفسير ابن عاشور)) (25/26). وقيل: الإشارةُ بـ (ذلك) تعودُ على ما تَضَمَّنه القرآنُ أو السُّورةُ. ممَّن اختار أنَّ الإشارةَ تعودُ على القرآنِ: ابنُ كثير، والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/190)، ((تفسير السعدي)) (ص: 753). قال ابن كثير: (كما أنْزَل إليكَ هذا القرآنَ، كذلك أنْزَل الكُتُبَ والصُّحُفَ على الأنبياءِ قَبْلَك). ((تفسير ابن كثير)) (7/190). وممَّن اختار أنَّ الإشارةَ تعودُ على السُّورةِ، وأنَّ معنى قولِه تعالى: كَذَلِكَ: أي: مِثلَ ما في هذه السُّورةِ مِن المعاني: الزمخشريُّ، والرازي، والعُلَيمي. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/208)، ((تفسير الرازي)) (27/575)، ((تفسير العليمي)) (6/171). قال أبو السُّعودِ: (على أنَّ مناطَ المُماثَلةِ ما أُشيرَ إليه مِن الدَّعوةِ إلى التَّوحيدِ، والإرشادِ إلى الحَقِّ وما فيه صلاحُ العِبادِ، في المعاشِ والمَعادِ). ((تفسير أبي السعود)) (8/21). وقيل في معنى الآية غيرُ ذلك. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (4/59). يُوحِي إليك -يا مُحمَّدُ- وإلى الَّذين مِن قَبلِك مِنَ الأنبياءِ: اللهُ العَزيزُ ذو القَدْرِ العَظيمِ، الغالبُ القاهرُ لِمَن سِواه، المُمتَنِعُ عليه كُلُّ عَيبٍ ونَقصٍ، الحَكيمُ الَّذي يَضَعُ كُلَّ شَيءٍ في مَوضِعِه اللَّائِقِ به [11] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/465)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 14-21)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 41، 42). .
لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا أخبَرَ اللهُ سُبحانَه أنَّه صاحِبُ الوَحيِ بالشَّرائِعِ دائِمًا قَديمًا وحديثًا؛ عَلَّل ذلك بأنَّه صاحِبُ المُلْكِ العامِّ، فقال [12] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/241). :
لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ.
أي: لله مُلكُ ما في السَّمَواتِ وما في الأرضِ؛ فكُلُّ شَيءٍ تحتَ قَهرِه وتَدبيرِه [13] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/466)، ((تفسير ابن كثير)) (7/190)، ((تفسير السعدي)) (ص: 753). .
وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ.
أي: وهو العَلِيُّ على كُلِّ شَيءٍ بذاتِه وصِفاتِه وقَدْرِه وقَهْرِه؛ فلا شَيءَ أعلَى منه، ذو العَظَمةِ في ذاتِه وصِفاتِه؛ فلا شَيءَ أعظَمُ منه [14] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/763)، ((تفسير ابن جرير)) (20/466)، ((تفسير ابن كثير)) (7/190)، ((تفسير السعدي)) (ص: 753)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/38)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 26-31). .
تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان السِّياقُ مُفهِمًا عَظيمَ مُلكِه سُبحانَه وقُدرتِه، بكَثرةِ ما في الأكوانِ مِن الأجسامِ والمعاني الَّتي هي لِفَظاعتِها لا تُحتَمَلُ، قال مُبَيِّنًا لذلك [15] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/242). :
تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ.
أي: تُوشِكُ السَّمَواتُ أن يَتشَقَّقْنَ مِن فَوقِهنَّ [16] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/763)، ((تفسير ابن جرير)) (20/466)، ((معاني القرآن)) للزجاج (4/394)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/161)، ((تفسير ابن كثير)) (7/190)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/30)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/39، 40). قيل: المرادُ: تكادُ السَّمَواتُ يَتفَطَّرْنَ؛ تَعظيمًا ومَخافةً لِمَن فَوقَهنَّ، وهو اللهُ تعالى. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/763). وقال الثَّعلبيُّ: (يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ أي: مِن عَظَمةِ الله وجَلالِه فَوْقَهُنَّ). ((تفسير الثعلبي)) (8/303). ويُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/236). وقيل: المرادُ: يَتشَقَّقنَ مِن فَوقِ الأرَضينَ؛ مِن عَظَمةِ الرَّحمنِ وجَلالِه. ومِمَّن ذهب إلى هذا المعنى: ابنُ جرير، ومكِّيٌّ ونسَبه لجميعِ المفسِّرينَ، والسَّمْعانيُّ، وابنُ الجوزي، والخازنُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/466)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (10/6556)، ((تفسير السمعاني)) (5/63)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/59)، ((تفسير الخازن)) (4/93). ممَّن قال مِن السَّلفِ إنَّ المعنى: مِن عَظَمةِ الله: ابنُ عبَّاسٍ، وقَتادةُ، والضَّحَّاكُ، والسُّدِّيُّ، وكعبُ الأحبارِ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/466، 467)، ((تفسير ابن كثير)) (7/190). وقال البِقاعي: (مِنْ فَوْقِهِنَّ الَّذي جَرَت العادةُ أن يكونَ أصلَبَ مِمَّا تحتَه؛ فانفِطارُ غَيرِه مِن بابِ الأَولى، وابتداءُ الانفطارِ مِن ثَمَّ؛ لأنَّ جِهةَ الفَوقِ أجدَرُ بتجَلِّي ما يَشُقُّ حَملُه مِن عظيمِ العَظَمةِ والجَلالِ والكِبرياءِ والعِزَّةِ... أو يكونُ انفِطارُهنَّ مِن عظيمِ شَناعةِ الكُفرِ بالَّذي خَلَق الأرضَ في يومَينِ، وجَعْلِهم له أندادًا... وهذا كنايةٌ عن التَّخويفِ بالعذابِ؛ لأنَّ مِن المعلومِ أنَّ العاليَ إذا انفطر تهيَّأَ للسُّقوطِ، فإذا سَقَط أهلَكَ مَن تحتَه، فكيف إذا كان مِن العُلُوِّ والعِظَمِ وثِقلِ الجِسمِ على صِفةٍ لا يحيطُ بها إلَّا بارِئُها؟! فذِكرُ الفَوقِ تَصويرٌ لِما يترتَّبُ على هذا الانفطارِ مِن البلايا الكِبارِ، وعلى هذا يَحسُنُ أن يعودَ الضَّميرُ على الأراضي الَّتي كَفَروا بفاطِرِها). ((نظم الدرر)) (17/242، 243). وقال ابنُ عاشور: (يُوشِكُ إنْ هُنَّ تفَطَّرْنَ أن يَخْرِرْنَ على الأرضِ، أي: يَكادُ يَقَعُ ذلك؛ لِما فشا في الأرضِ مِن إشراكٍ وفَسادٍ، على معنى قَولِه تعالى: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا [مريم: 88 - 90] ، ويُرَجِّحُه قَولُه الآتي: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ [الشورى: 6] ). ((تفسير ابن عاشور)) (25/30). وقيل: المعنى: كُلُّ واحدةٍ منها تتفَطَّرُ فوقَ الَّتي تليها؛ بسَبَبِ قَولِ المُشرِكينَ: اتَّخَذ اللهُ ولَدًا. وممَّن ذهب إليه: الواحديُّ، والبغويُّ. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/43)، ((تفسير البغوي)) (4/138). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ عنه. يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (8/303). قال الشنقيطي: (اعلَمْ أنَّ سببَ مُقارَبةِ السَّمواتِ لِلتَّفطُّرِ في هذه الآيةِ الكريمةِ فيه للعلماءِ وجْهانِ، كِلاهما يدُلُّ له قرآنٌ؛ الوجهُ الأوَّلُ: أنَّ المعنى: تَكادُ السَّمواتُ يَتفطَّرْنَ خَوفًا مِن الله، وهَيْبةً وإجلالًا، ويدُلُّ لهذا الوجهِ قولُه تعالى قبْلَه: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [الشورى: 4] ؛ لأنَّ عُلُوَّه وعَظَمتَه سبَّبَ للسَّمواتِ ذلك الخَوفَ والهَيبةَ والإجلالَ، حتَّى كادتْ تَتفطَّرُ. وعلى هذا الوجهِ فقولُه بعدَه: وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ مُناسَبتُه لِما قبْلَه واضحةٌ؛ لأنَّ المعنى: أنَّ السَّمواتِ في غايةِ الخَوفِ منه تعالى والهَيبةِ والإجلالِ له، وكذلك سُكَّانُها مِن الملائكةِ، فهم يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ أي: يُنَزِّهونه عن كلِّ ما لا يَليقُ بكمالِه وجَلالِه، مع إثباتِهم له كلَّ كمالٍ وجلالٍ؛ خَوفًا منه وهَيبةً وإجلالًا، كما قال تعالى: وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ [الرعد: 13] ، وقال تعالى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [النحل: 49، 50]. فهُم لِشِدَّةِ خَوفِهم مِن الله وإجلالِهم له يُسَبِّحون بحمدِ ربِّهم، ويَخافون على أهلِ الأرضِ؛ ولذا يَستغفِرون لهم خَوفًا عليهم مِن سخطِ الله وعِقابِه... الوجهُ الثَّاني: أنَّ المعنى: تَكادُ السَّمواتُ يَتفطَّرْنَ مِن شِدَّةِ عِظَمِ الفِريةِ الَّتي افتراها الكفَّارُ على خالقِ السَّمواتِ والأرضِ جلَّ وعلا، مِن كَونِه اتَّخذ ولَدًا سبحانه وتعالى عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا! وهذا الوجهُ جاء موضَّحًا في سورةِ «مريمَ» في قولِه تعالى: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا [مريم: 88 - 93]... وكِلا الوجهَينِ حقٌّ). ((أضواء البيان)) (7/39). .
كما قال تعالى: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا [مريم: 88 - 92] .
وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ.
أي: والمَلائِكةُ يُنَزِّهونَ اللهَ تعالى عمَّا لا يَليقُ به مِنَ النَّقائِصِ، ويَصِفونَه بصِفاتِ الكَمالِ؛ مَحبَّةً له وتَعظيمًا [17] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (16/4)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/243، 244)، ((تفسير السعدي)) (ص: 753)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/33)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/39)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (38-41). .
وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ.
أي: ويَسألونَ اللهَ المَغفِرةَ لذُنوبِ مَن في الأرضِ مِن المُؤمِنينَ [18] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/468)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/34)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/40). .
كما قال تعالى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ [غافر: 7] .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِي اللهُ عنه، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الملائكةُ تُصَلِّي على أحَدِكُم ما دام في مُصلَّاه الذي صلَّى فيه، ما لم يُحدِثْ، تقولُ: اللَّهُمَّ اغفِرْ له، اللَّهُمَّ ارحَمْه )) [19] رواه البخاري (445) واللفظ له، ومسلم (649) (1/459). .
أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
أي: ألَا إنَّ اللهَ وَحْدَه هو البالِغُ المَغفرةِ لِذُنوبِ عِبادِه، العَظيمُ الرَّحمةِ بهم [20] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/468)، ((تفسير السعدي)) (ص: 753)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/34)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/41، 42). .
كما قال تعالى: وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران: 135] .
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6).
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ.
أي: وأمَّا الَّذين اتَّخَذوا مِن دُونِ اللهِ أولياءَ يَتوَلَّونَهم بالعِبادةِ والطَّاعةِ، فاللهُ شَهيدٌ ورَقيبٌ على أعمالِهم يُحْصيها عليهم؛ ليُجازيَهم بها يومَ القيامةِ [21] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/468، 469)، ((تفسير البغوي)) (4/138)، ((تفسير ابن كثير)) (7/191)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/247)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/42 - 44)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 49، 50). .
وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ.
أي: وما أنت -يا مُحمَّدُ- بمُوكَّلٍ بحِفظِ أعمالِهم، أو بقَسْرِهم على الهِدايةِ، وإنَّما عليك إنذارُهم وتَبليغُهم، وعلى الله حِسابُهم [22] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/469)، ((تفسير أبي حيان)) (9/324)، ((تفسير السعدي)) (ص: 753)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/44)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 50). .
كما قال تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ [يونس: 108] .

الفوائد التربوية:

1- قال تعالى: الْحَكِيمُ فإذا آمَن العبدُ أنَّ الله حكيمٌ في شرعِه، حكيمٌ في خَلقِه، فإنَّه لا يبقَى لديه شكٌّ في أنَّ ما شرَعه خيرٌ، وما قدَّره خيرٌ [23] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 19). .
2- في قَولِه تعالى: أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ أنَّنا إذا عَلِمْنا أنَّ اللهَ غفورٌ رحيمٌ؛ فجديرٌ بنا أنْ نسألَه المغفرةَ والرَّحمةَ؛ لأنَّه أهلٌ لذلك، فيكونُ في هذا تربيةٌ للإنسانِ وسلوكِه في وُصولِه إلى اللهِ عزَّ وجلَّ بأنْ يَعلَمَ بأنَّه غفورٌ فيَستغفِرَ؛ وأنَّه رحيمٌ فيَسترحِمَ [24] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 47). .
3- في قَولِه تعالى: وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ تسليةُ الدُّعاةِ إلى اللهِ إذا لم يُطِعْهم النَّاسُ [25] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 51). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قولِه تعالى: حم * عسق لم تُوصَلِ الميمُ بالعَينِ كما وُصِلَتِ الميمُ بالرَّاءِ في طالعةِ سُورةِ (الرَّعْدِ) المر، وكما وُصِلَتِ الميمُ بالصَّادِ في مُفتتَحِ سُورةِ (الأعرافِ) المص، وكما وُصِلَتِ العَينُ والصَّادُ بما قبْلَهما في مُفتتَحِ سُورةِ (مريمَ) كهيعص؛ لأنَّ ما بعْدَ الميمِ في سورةِ (الرَّعدِ) وسورةِ (الأعرافِ) حرْفٌ واحدٌ، وما بعدَ الحرفِ الثَّالثِ في سورةِ (مريمَ) حَرفانِ، فاتِّصالُه بما قبْلَه أَولى، بخِلافِ ما في هذه السُّورةِ؛ فإنَّه ثلاثةُ حُروفٍ تُشبِهُ كلمةً، فكانتْ أَولى بالانفصالِ [26] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/26). . وقيل: لأنَّها سورةٌ أوائلُها «حم»، فجرَتْ مَجرى نظائرِها، فكان «حم» مُبتدَأً و«عسق» خبرَه، ولأنَّهما عُدَّا آيتَينِ، وأخَواتُها مِثلُ: «كهيعص» و«المص» و«المر» عُدَّتْ آيةً واحدةً. وقيل غيرُ ذلك [27] يُنظر: ((تفسير البغوي)) (4/138). .
2- قَولُ الله تعالى: كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فيه بَيانُ فَضلِه تعالى بإنزالِ الكُتُبِ وإرسالِ الرُّسُلِ سابِقًا ولاحِقًا، وأنَّ مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليس ببِدْعٍ مِنَ الرُّسُلِ، وأنَّ طَريقتَه طَريقةُ مَن قَبْلَه، وأحوالَه تُناسِبُ أحوالَ مَن قبْلَه مِن المُرسَلينَ، وما جاء به يُشابِهُ ما جاؤوا به؛ لأنَّ الجَميعَ حَقٌّ وصِدقٌ [28] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 752). .
3- قال عزَّ وجلَّ: كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ في قَولِه تعالى: الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ كمالُ عِزَّتِه وكمالُ حكمتِه؛ لأنَّ اللهَ قَرَن بيْنَ العزيزِ والحكيمِ؛ إشارةً إلى أنَّ عِزَّتَه وغَلَبَتَه مَبنيَّةٌ على الحكمةِ، فعِزَّةُ المخلوقِ قد تُوجِبُ أنْ يَتصرَّفَ تصرُّفًا سفيهًا، كما في قَولِه تبارك وتعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ [البقرة: 206] ، فهنا صار له عِزَّةٌ لكنَّها لم تَنْفَعْه؛ لأنَّها ليست مَقرونةً بالحكمةِ، كذلك أيضًا حكمةُ اللهِ عزَّ وجلَّ مقرونةٌ بعِزَّتِه؛ لأنَّ الحكيمَ قد يكونُ خَوَّارًا ليس عندَه غلَبةٌ؛ فيَفوتُه شَيءٌ كثيرٌ، ويَفوتُه الحَزْمُ مِن أجْلِ أنَّه يقولُ: إنَّ ذلك هو الحكمةُ! لكنَّ حكمةَ اللهِ عزَّ وجلَّ مقرونةٌ بعِزَّتِه، ولهذا نحن نستفيدُ الآنَ مِن قَرْنِ الأسماءِ بعضِها ببعضٍ معنًى زائدًا على ما نستفيدُه مِن مجرَّدِ الاسمِ [29] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 22). .
4- قال عزَّ وجلَّ: كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ في قَولِه تعالى: الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أنَّ الشَّرائعَ الَّتي أُوحِيَت إلى الرُّسُلِ عِزَّةٌ وحِكمةٌ؛ قال اللهُ تبارك وتعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون: 8] ، وقال اللهُ تعالى: وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [النساء: 113] ، فمَن تَمسَّكَ بهذه الشَّرائعِ نال الأمْرَينِ جَميعًا وهما مجتَمِعانِ: العِزَّةُ والحِكمةُ، والحُكمُ أيضًا [30] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 22). .
5- قال عزَّ وجلَّ: كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ اسْتِقْراءُ القرآنِ قد دَلَّ على أنَّ اللهَ -جَلَّ وعَلا- إذا ذَكَر تَنْزيلَه لِكِتابِه أتْبَع ذلك بعضَ أسمائِه الحسنَى وصِفاتِه العُلْيا [31] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/38). .
6- في قَولِه تعالى: وَهُوَ الْعَلِيُّ أنَّ العُلُوَّ صِفةٌ لازِمةٌ ليست مِن صِفاتِ الأفعالِ الَّتي إنْ شاء فَعَلها وإنْ شاء لم يَفعَلْها. وَجْهُ الدَّلالةِ: أنَّ العَلِيَّ صِفةٌ مُشبَّهةٌ [32] الصِّفةُ المُشَبَّهةُ: ما اشتُقَّ مِن فِعلٍ لازِمٍ لِمَن قام به على معنى الثُّبوتِ. يُنظر: ((الكافية في علم النحو)) للإسنوي (ص: 41)، ((التعريفات)) للجرجاني (ص: 133). ، والصِّفةُ المُشبَّهةُ تُفيدُ الثُّبوتَ، وعدَمَ التَّحوُّلِ [33] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 32). .
7- قَولُه تعالى: وَهُوَ الْعَلِيُّ فيه التَّصريحُ بالعُلُوِّ المُطلَقِ الدَّالِّ على جَميعِ مَراتِبِ العُلُوِّ؛ ذاتًا وقَدْرًا وشَرَفًا [34] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (2/301). .
8- في قَولِه تعالى: تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ بيانُ عَظَمةِ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ وأنَّ هذه السَّمواتِ -على شِدَّتِها وقُوَّتِها- تَكادُ تَتَفَطَّرُ مِن عظَمةِ اللهِ تعالى، وهذا كقولِه لَمَّا سأل موسَى أنْ يرَى ربَّه، قال: قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا [الأعراف: 143] ، بل إنَّ كلامَ اللهِ عزَّ وجلَّ -وهو كلامُه- لو نَزَل على جبلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الحشر: 21] ، ففي هذه الآيةِ: بيانُ عظَمةِ اللهِ عزَّ وجلَّ [35] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 44). .
9- قولُه تعالى: مِنْ فَوْقِهِنَّ فيه بيانُ عُلُوِّ اللهِ عزَّ وجلَّ الذَّاتيِّ، ، فلم يقُلْ: (مِن أسفلُ)؛ لأنَّ اللهَ سبحانَه فوقُ، والسَّمواتُ تَكادُ تَنفطِرْنَ مِن فَوقِهنَّ مِن عظَمتِه [36] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 44). ، وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ.
10- قولُه تعالى: يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ فيه فَضيلةُ الجَمعِ بيْنَ التَّسبيحِ والتَّحميدِ، وقد ثَبَتَ عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قَولُه: ((كَلِمتانِ حَبيبتانِ إلى الرَّحمنِ، خَفيفتانِ على اللِّسانِ، ثَقيلتانِ في الميزانِ: سُبحانَ اللهِ وبحَمْدِه، سُبحانَ اللهِ العَظيمِ )) [37] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 46). والحديث أخرجه البخاريُّ (7563) واللَّفظُ له، ومسلم (2694) من حديث أبي هريرةَ رضي الله عنه. .
11- قال الله تعالى: وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ التَّسبيحُ مُقَدَّمٌ على التَّحميدِ؛ لأنَّ التَّسبيحَ عِبارةٌ عن تنزيهِ اللهِ تعالى عمَّا لا يَنبغي، والتَّحميدَ عِبارةٌ عن وَصفِه بكَونِه مُفيضًا لكُلِّ الخَيراتِ. وكَونُه مُنزَّهًا في ذاتِه عمَّا لا يَنبغي مُقَدَّمٌ بالرُّتبةِ على كَونِه فيَّاضًا للخَيراتِ والسَّعاداتِ؛ لأنَّ وُجودَ الشَّيءِ مُقَدَّمٌ على إيجادِ غَيرِه، وحُصولَه في نَفْسِه مُقَدَّمٌ على تأثيرِه في حُصولِ غَيرِه؛ فلهذا السَّبَبِ كان التَّسبيحُ مُقَدَّمًا على التَّحميدِ [38] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/578). .
12- قَولُ الله تعالى: وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ فيه سُؤالٌ: كيف يَصِحُّ أن يَستَغفِروا لِمَن في الأرضِ وفيهم الكُفَّارُ، وقد قال تعالى: أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ [البقرة: 161] ، فكيف يَكونونَ لاعِنِينَ ومُستَغفِرينَ لهم؟
الجوابُ مِن وُجوهٍ:
الوَجهُ الأوَّلُ: أنَّ قَولَه لِمَنْ فِي الْأَرْضِ لا يُفيدُ العُمومَ؛ لأنَّه يَصِحُّ أن يُقالَ: إنَّهم استَغفَروا لكُلِّ مَن في الأرضِ، وأن يُقالَ: إنَّهم استَغفَروا لِبَعضِ مَن في الأرضِ دونَ البَعضِ، ولو كان قَولُه: لِمَنْ فِي الْأَرْضِ صريحًا في العُمومِ لَما صَحَّ ذلك التَّقسيمُ.
الوَجهُ الثَّاني: هَبْ أنَّ هذا النَّصَّ يُفيدُ العُمومَ، إلَّا أنَّه تعالى حكى عن الملائِكةِ في سورةِ (غافرٍ) فقال: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ [غافر: 7] .
الوَجهُ الثَّالِثُ: يجوزُ أن يكونَ المرادُ مِنَ الاستِغفارِ ألَّا يُعاجِلَهم بالعِقابِ، كما في قَولِه تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا [فاطر: 41] إلى أن قال: إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا.
الوَجهُ الرَّابعُ: يجوزُ أن يُقالَ: إنَّهم يَستَغفِرونَ لكُلِّ مَن في الأرضِ، أمَّا في حَقِّ الكُفَّارِ فبِواسِطةِ طَلَبِ الإيمانِ لهم، وأمَّا في حَقِّ المؤمِنينَ فبالتَّجاوُزِ عن سَيِّئاتِهم [39] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/578، 579). .
13- قَولُ الله تعالى: وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ يدُلُّ على أنَّهم لا يَستغفِرونَ لأنفُسِهم، وحيثُ لم يَذكُرِ اللهُ عنهم استِغفارَهم لأنفُسِهم، عَلِمْنا أنَّهم مُبَرَّؤونَ عن كلِّ الذُّنوبِ [40] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/579). .
14- في قولِه تعالى: الْغَفُورُ الرَّحِيمُ أنَّ الأسماءَ الحسنى تكونُ كامِلةً بانفِرادِها واجتِماعِها؛ لأنَّه لَمَّا جَمَعَ بيْنَ الغفورِ والرَّحيمِ تَوَلَّدَ منهما صِفةٌ ثالثةٌ غيرُ المغفرةِ والرَّحمةِ، وهي اجتماعُ هذَينِ الاسمَينِ الدَّالَّينِ على الوصفِ في حقِّ اللهِ عزَّ وجلَّ، فبِالمغفرةِ تُمْحَى الذُّنوبُ؛ وبالرَّحمةِ يَحصُلُ المطلوبُ [41] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 48). .
15- قولُه تعالى: لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ إلى قولِه: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ في وَصفِه تعالى بهذه الأوصافِ بعدَ أنْ ذَكَر أنَّه أوحى إلى الرُّسُلِ كُلِّهم عُمومًا، وإلى محمَّدٍ -صلَّى الله عليهم أجمعينَ- خُصوصًا: إشارةٌ إلى أنَّ هذا القُرآنَ الكريمَ فيه مِنَ الأدِلَّةِ والبَراهينِ والآياتِ الدَّالَّةِ على كمالِ الباري تعالى، ووَصفِه بهذه الأسماءِ العَظيمةِ المُوجِبةِ لامتِلاءِ القُلوبِ مِن مَعرفتِه ومَحبَّتِه، وتَعظيمِه وإجلالِه وإكرامِه، وصَرفِ جَميعِ أنواعِ العُبوديَّةِ الظَّاهِرةِ والباطِنةِ له تعالى، وأنَّ مِن أكبَرِ الظُّلمِ وأفحَشِ القَولِ اتِّخاذَ أندادٍ لله مِن دونِه، ليس بيَدِهم نَفعٌ ولا ضَرَرٌ، بل هم مخلوقون مُفتَقِرون إلى اللهِ في جميعِ أحوالِهم [42] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 753). .
16- قولُه تعالى: اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ فيه بيانُ عُمومِ عِلْمِ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ لأنَّ قولَه: حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ يَشملُ جميعَ ما يَقومون به مِن عمَلٍ، وهذا يدُلُّ على سَعةِ عِلْمِ اللهِ سُبحانَه واطِّلاعِه [43] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 51). .
17- قولُه تعالى: اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ فيه أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم بَشَرٌ ليس له مِن الأمرِ شَيءٌ؛ فهو لا يَعْلَمُ الغَيبَ، ولا يستطيعُ أنْ يُحصيَ أعمالَ العبادِ، ولا أنْ يَهديَ أحدًا، ولا يَلْزَمُه إلَّا أنْ يُبَلِّغَ، وهذه الآيةُ لها شواهدُ لفظيَّةٌ ومعنويَّةٌ، قال اللهُ تبارك وتعالى: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يونس: 99] ، يعني: لا تستطيعُ، وإذا كان سيِّدُ الدُّعاةِ وإمامُهم لا يَمْلِكُ أنْ يَهديَهم؛ فما بالُك بمَن سِواه [44] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 51، 53). ؟!

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالى: حم * عسق * كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
- ابتُدِئتْ هذه السُّورةُ بالحُروفِ المقطَّعةِ حم * عسق؛ لأنَّ ابتِداءَها مُشيرٌ إلى التَّحدِّي بعَجْزِهم عن مُعارَضةِ القرآنِ، وأنَّ عجْزَهم عن مُعارَضتِه دَليلٌ على أنَّه كلامٌ مُنزَّلٌ مِن اللهِ تعالى. وخُصَّتْ بزِيادةِ كَلمةِ عسق على أوائلِ السُّورِ مِن (آل حم)؛ ولعلَّ ذلك لحالٍ كانوا عليه مِن شِدَّةِ الطَّعنِ في القُرآنِ وَقتَ نُزولِ هذه السُّورةِ، فكان التَّحدِّي لهم بالمعارَضةِ أشَدَّ؛ فزِيدَ في تَحدِّيهم مِن حُروفِ التَّهجِّي [45] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/26). .
- قولُه: كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ المشارُ إليه: الإيحاءُ المأخوذُ مِن فِعلِ يُوحِي، أي: مِثلَ هذا الوحْيِ يُوحِي اللهُ إليك. وقولُه: وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ إدْماجٌ [46] الإدماجُ: أنْ يُدمِجَ المُتكلِّمُ غرَضًا في غرَضٍ، أو بديعًا في بديعٍ، بحَيثُ لا يَظهرُ في الكلامِ إلَّا أحدُ الغرَضينِ أو أحدُ البَديعَينِ، بمعنى: أن يَجعلَ المتكلِّمُ الكلامَ الَّذي سِيق لمعنًى -مِن مَدحٍ أو غيرِه- مُتضمنًا معنًى آخَرَ، كقولِه تعالى: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ [القصص: 70] ؛ فهذا مِن إدماجِ غرَضٍ في غَرَضٍ؛ فإنَّ الغرَضَ منها تَفرُّدُه تعالى بوصْفِ الحَمدِ، وأُدمِجَ فيه الإشارةُ إلى البعثِ والجزاءِ. وقيل: أُدمِجتِ المُبالَغةُ في المُطابَقةِ؛ لأنَّ انفِرادَه بالحمدِ في الآخِرةِ -وهي الوقتُ الَّذي لا يُحمَدُ فيه سِواهُ- مُبالَغةٌ في الوَصفِ بالانفِرادِ بالحمدِ. يُنظر: ((التبيان في البيان)) للطِّيبي (ص: 225)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/298)، ((علوم البلاغة البيان المعاني البديع)) للمراغي (ص: 344)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/427). . والتَّشبيهُ بالنِّسبةِ إليه على أصلِه، أي: مِثلُ وَحْيِ اللهِ إليك وَحْيُه إلى الَّذين مِن قبْلِك، والغرَضُ مِن التَّشبيهِ إثباتُ التَّسويةِ، أي: ليس وحْيُ اللهِ إليك إلَّا على سُنَّةِ وَحْيِه إلى الرُّسلِ مِن قبْلِك؛ فليس وَحْيُه إلى الرُّسلِ مِن قبْلِك بأوضَحَ مِن وَحْيِه إليك، وهذا كقولِه تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ [النساء: 163] ، أي: ما جاء به مِن الوحْيِ إنْ هو إلَّا مِثلُ ما جاءتْ به الرُّسلُ السَّابِقونَ، فما إعراضُ قَومِك عنه إلَّا كإعراضِ الأُممِ السَّالِفةِ عمَّا جاءتْ به رُسُلُهم؛ فحصَلَ هذا المعنى الثَّاني بغايةِ الإيجازِ معَ حُسنِ مَوقِعِ الاستِطرادِ [47] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/26، 27). .
- وقيل: قولُه: كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ كلامٌ مُستأنَفٌ واردٌ لِتَحقيقِ أنَّ مَضمونَ السُّورةِ مُوافقٌ لِمَا في تَضاعيفِ سائرِ الكُتبِ المنزَّلةِ على الرُّسلِ المتقدِّمةِ في الدَّعوةِ إلى التَّوحيدِ، والإرشادِ إلى الحقِّ، أو أنَّ إيحاءَها مِثلُ إيحائِها بعْدَ تَنويهِها بذِكرِ اسْمِها، والتَّنبيهِ على فَخامةِ شأْنِها [48] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/21). .
- وما في اسمِ الإشارةِ (ذَلِكَ) مِن مَعنى البُعدِ؛ للإيذانِ بعُلوِّ رُتبةِ المُشارِ إليهِ، وبُعْدِ مَنزلتِه في الفضْلِ [49] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/21). .
- وفي جَعْلِ مَضمونِ السُّورةِ أو إيحائِها مُشبَّهًا به مِن تَفخيمِها ما لا يَخْفى [50] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/21). .
- وتَقديمُ المجرورِ مِن قولِه: كَذَلِكَ على يُوحَى إِلَيْكَ؛ للاهتِمامِ بالمشارِ إليه، والتَّشويقِ بتَنبيهِ الأذهانِ إليه [51] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/27). .
- والجارُّ والمجرورُ كَذَلِكَ صِفةٌ لِمَفعولٍ مُطلَقٍ مَحذوفٍ دلَّ عليه يُوحَى؛ إذ لمْ يَتقدَّمْ في الكلامِ ما يَحتمِلُ أنْ يكونَ مُشارًا إليه بـ (كذلك)، فعُلِمَ أنَّ المشارَ إليه مُقدَّرٌ مَعلومٌ مِن الفعلِ الَّذي بعْدَ اسمِ الإشارةِ، وهو المصدرُ المأْخوذُ مِن الفِعلِ، أي: كذلك الإيحاءِ يُوحي إليك اللهُ [52] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/27). .
- قولُه: كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ قاله بلَفظِ المضارِعِ، مع أنَّ الوحيَ إلى مَن قبْلَ النَّبيِّ ماضٍ؛ للإيذانِ باستِمرارِ الوحْيِ، وأنَّ إيحاءَ مِثلِه عادتُه وسُنَّتُه، وهذا لا يُوجَدُ في لفظِ الماضي [53] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/208)، ((تفسير البيضاوي)) (5/76)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 508)، ((تفسير أبي السعود)) (8/21). .
- وأيضًا العُدولُ عن صِيغةِ الماضي إلى صِيغةِ المضارِعِ في قولِه: يُوحِي؛ للدَّلالةِ على أنَّ إيحاءَه إليه مُتجدِّدٌ لا يَنقطِعُ في مدَّةِ حياتِه الشَّريفةِ؛ لِيَيْئَسَ المشرِكونَ مِن إقلاعِه، بخِلافِ قولِه: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا [الشورى: 52] ، وقولِه: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا [الشورى: 7] ؛ إذ لا غرَضَ في إفادةِ معنى التَّجدُّدِ هناك، وأمَّا مُراعاةُ التَّجدُّدِ هنا؛ فلأنَّ المقصودَ مِن الآيةِ هو ما أُوحِيَ به إلى محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن القرآنِ، وأنَّ قولَه: وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ إدماجٌ [54] الإدماجُ: أنْ يُدمِجَ المُتكلِّمُ غرَضًا في غرَضٍ، أو بديعًا في بديعٍ، بحَيثُ لا يَظهرُ في الكلامِ إلَّا أحدُ الغرَضينِ أو أحدُ البَديعَينِ، بمعنى: أن يَجعلَ المتكلِّمُ الكلامَ الَّذي سِيق لمعنًى -مِن مَدحٍ أو غيرِه- مُتضمنًا معنًى آخَرَ، كقولِه تعالى: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ [القصص: 70] ؛ فهذا مِن إدماجِ غرَضٍ في غَرَضٍ؛ فإنَّ الغرَضَ منها تَفرُّدُه تعالى بوصْفِ الحَمدِ، وأُدمِجَ فيه الإشارةُ إلى البعثِ والجزاءِ. وقيل: أُدمِجتِ المُبالَغةُ في المُطابَقةِ؛ لأنَّ انفِرادَه بالحمدِ في الآخِرةِ -وهي الوقتُ الَّذي لا يُحمَدُ فيه سِواهُ- مُبالَغةٌ في الوَصفِ بالانفِرادِ بالحمدِ. يُنظر: ((التبيان في البيان)) للطِّيبي (ص: 225)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/298)، ((علوم البلاغة البيان المعاني البديع)) للمراغي (ص: 344)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/427). . ويجوزُ اعتبارُ صِيغةِ المضارعِ مَنْظورًا فيها إلى مُتعلَّقَيِ الإيحاءِ، وهو إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ، فيَكونُ المضارِعُ لاستِحضارِ الصُّورةِ مِن الإيحاءِ إلى الرُّسلِ؛ حيثُ استبْعَدَ المشرِكونَ وُقوعَه، فجُعِلَ كأنَّه مُشاهَدٌ [55] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/27، 28). .
- وقولُه: اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ على قِراءةِ يُوحَى بالبِناءِ للمفعولِ [56] قرأها ابنُ كثيرٍ بفتحِ الحاءِ على ما لم يُسَمَّ فاعِلُه، وقرأها الباقون بكَسرِها. يُنظر: ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 639)، ((النشر في القراءات العشر)) لابن الجزري (2/367). ، على أنَّ إِلَيْكَ نائبُ فاعلٍ؛ فيكونُ اسمُ الجَلالةِ مَرْفوعًا على الابتِداءِ بجُملةٍ مُستأنَفةٍ استِئْنافًا بَيانيًّا، كأنَّه لَمَّا قال: يُوحى إليك، قِيل: ومَن يُوحِيه؟ فقِيل: اللهُ العزيزُ الحَكيمُ، أي: يُوحِيه اللهُ [57] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/208)، ((تفسير أبي السعود)) (8/21)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/28). .
- وتأخيرُ الفاعلِ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ؛ لِمُراعاةِ الفواصلِ، مع ما فيه من التَّشويقِ [58] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/21). .
- وإجراءُ وَصْفَيِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ على اسمِ الجَلالةِ دونَ غيرِهما؛ لأنَّ لِهاتَينِ الصِّفتَينِ مَزيدَ اختِصاصٍ بالغرَضِ المقصودِ مِن أنَّ اللهَ يَصْطفي مَن يَشاءُ لرِسالتِه؛ فالعزيزُ: المُتصرِّفُ بما يُريدُ لا يَصُدُّه أحدٌ، والحكيمُ: يَحمِلُ كَلامُه مَعانيَ لا يَبلُغُ إلى مِثلِها غيرُه، وهذا مِن مُتمِّماتِ الغرَضِ الَّذي افتُتِحَتْ به السُّورةُ؛ وهو الإشارةُ إلى تَحدِّي المعانِدينَ بأنْ يأْتوا بسُورةٍ مِثلِ سُوَرِ القرآنِ الكريمِ [59] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/27). .
- وأيضًا في وَصْفِه تعالى بوَصفَيِ العِزَّةِ والحِكمةِ مِن التَّفخيمِ ما لا يَخْفى، وهما صِفتانِ للَفظِ الجلالةِ مُقرِّرتانِ لِعُلوِّ شأْنِ الموحَى به [60] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/76)، ((تفسير أبي السعود)) (8/21). .
2- قولُه تعالى: لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ
- جملةُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ استِئنافٌ مُقرِّرٌ لِوَصْفِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الشورى: 3] ؛ لأنَّ مَن كان ما في السَّمواتِ وما في الأرضِ مِلكًا له، تَتحقَّقُ له العِزَّةُ؛ لقُوَّةِ ملَكوتِه، وتَتحقَّقُ له الحِكمةُ؛ لأنَّ الحِكمةَ تَقتضي خَلْقَ ما في السَّمواتِ والأرضِ، وإتقانَ ذلك النِّظامِ الَّذي تَسيرُ به المخلوقاتُ. ولِكَونِ هذه الجُملةِ مُقرِّرةً معنَى الَّتي قبْلَها، كانتْ بمَنزلةِ التَّأكيدِ؛ فلم تُعطَفْ عليها [61] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/76)، ((تفسير أبي السعود)) (8/22)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/28). .
- وجملةُ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ عطفٌ على جملةِ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، مُقرِّرةٌ لِما قرَّرَتْه الجُملةُ قبْلَها؛ فإنَّ مَنِ اتَّصَفَ بالعَلاءِ والعظَمةِ لو لم يكُنْ عَزيزًا، لَتَخلَّفَ عَلاؤُه وعظَمتُه، ولا يكونُ إلَّا حكيمًا؛ لأنَّ عَلاءَه يَقتضي سُمُوَّه عن سَفاسفِ الصِّفاتِ والأفعالِ، ولو لم يكُنْ عظيمًا لَتعلَّقتْ إرادتُه بسَفاسفِ الأمورِ، ولَتنازَلَ إلى عبَثِ الفِعالِ. وأفادتْ صِيغةُ الجُملةِ (بتعريفِ جُزْأَيْها) معنى القَصْرِ، أي: لا عَلِيَّ ولا عظيمَ غيرُه؛ لأنَّ مَن عَداهُ لا يَخْلو عن افتقارٍ إليه؛ فلا عُلوَّ له ولا عظَمةَ، وهذا قصْرُ قلْبٍ [62] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/29). قصر القلب: هو أنْ يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السَّامع، كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرَفٍ معيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زيدٌ هناك بشاعرٍ. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 288). .
3- قولُه تعالى: تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ
- قولُه: تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ جُملةٌ مُستأنَفةٌ مقرِّرةٌ لمعنى جُملةِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [الشورى: 4] ؛ ولذلك لم تُعطَفْ عليها [63] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/29). .
- قولُه: تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ أي: يَتشقَّقْنَ مِن عَظَمةِ اللهِ؛ يَدُلُّ عليه أنَّ الآيةَ بجُمْلتِها مُبَيِّنةٌ لِمَعنى العَظَمةِ والعُلوِّ في قولِه: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ، ولذلك تُرِكَ العاطفُ. وقِيل: يَتفطَّرْنَ مِنِ ادِّعاءِ الولَدِ له؛ يُؤيِّدُه مَجِيءُ قولِه: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ بعْدَه؛ والآيةُ على الأوَّلِ زِيادةُ تَقريرٍ لِعَظَمتِه، وعلى الثَّاني بَيانٌ لِكَمالِ تَقدُّسِه عمَّا نُسِبَ إليه، وأنَّ تَرْكَ مُعاجَلَتِهم بالعِقابِ على تلك الكلمةِ الشَّنْعاءِ بسَببِ استِغفارِ الملائكةِ، وفَرْطِ غُفرانِه ورَحمتِه؛ ففيها رمْزٌ إلى أنَّه تعالى يَقبَلُ استِغفارَهم، ويَزيدُهم على ما طَلَبوه مِن المغفرةِ رَحمةً [64] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/209)، ((تفسير البيضاوي)) (5/76)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/8)، ((تفسير أبي السعود)) (8/22). .
- وقرَأَ الجُمهورُ بالياءِ: يَتَفَطَّرْنَ، وأصلُه مُضارعُ التَّفطُّرِ، وهو مُطاوِعُ التَّفطيرِ الَّذي هو تَكريرُ الشَّقِّ، وقُرِئَ: يَنْفَطِرْنَ [65] قرأها أبو عَمْرٍو ويعقوبُ وأبو بكرٍ بالنُّونِ وكسرِ الطَّاءِ، والباقون يَتَفَطَّرْنَ. يُنظر: ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 640)، ((النشر في القراءات العشر)) لابن الجزري (2/319). ، وهو مُضارعُ (انفَطَرَ)، وليس المقصودُ منه على القِراءتَينِ قَبولَ أثَرِ الفاعلِ؛ إذ لا فاعلَ هنا للشَّقِّ؛ وإنَّما المقصودُ الخبرُ بحُصولِ الفعلِ، وهذا كثيرٌ؛ كقولِهم: انشَقَّ ضَوءُ الفَجرِ؛ فلا الْتِفاتَ هنا لِما يُقصَدُ غالبًا في مادَّةِ التَّفعُّلِ مِن تَكريرِ الفعلِ؛ إذ لا فاعلَ للشَّقِّ هنا ولا لِتكرُّرِه، فاستَوَتِ القِراءتانِ في بابِ البلاغةِ [66] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/30). . وقيل: الأوَّلُ أبلَغُ؛ لأنَّه مُطاوِعُ (فطَّر)، والثَّاني مُطاوِعُ (فطَرَ) [67] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/76)، ((تفسير أبي السعود)) (8/22). .
- ويَجوزُ أنْ يكونَ ضميرُ فَوْقِهِنَّ عائدًا على السَّمواتِ؛ فيكونَ المجرورُ مُتعلِّقًا بفِعلِ يَتَفَطَّرْنَ؛ بمعنى: أنَّ انشِقاقَهنَّ يَحصُلُ ويُبْتدَأُ مِن أعلاهُنَّ، وذلك أبلَغُ الانشِقاقِ؛ لأنَّه إذا انشَقَّ أعلاهُنَّ كان انشِقاقُ ما دُونَه أَولى. ويَجوزُ أنْ يكونَ الضميرُ عائدًا إلى الأرضِ مِن قولِه: وَمَا فِي الْأَرْضِ [الشورى: 4] ، على تأويلِ الأرضِ بأرَضينَ؛ باعتبارِ أجزاءِ الكُرةِ الأرضيَّةِ، أو بتأويلِ الأرضِ بسُكَّانِها، وتَكونَ (مِن) زائدةً زِيادتَها مع الظُّروفِ لِتَأكيدِ الفَوقيَّةِ؛ فيُفيدُ الظَّرفُ استِحضارَ حالةِ التَّفطُّرِ وحالةِ مَوقعِه [68] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/30). .
- وقيل: إنَّما قال: مِنْ فَوْقِهِنَّ؛ لأنَّ أعظَمَ الآياتِ وأدَلَّها على الجَلالِ والعَظَمةِ فَوقَ السَّمواتِ، وهي: العرْشُ، والكُرسيُّ، وصُفوفُ الملائكةِ المرتجَّةُ بالتَّسبيحِ والتَّقديسِ حوْلَ العرْشِ، وما لا يَعلَمُ كُنْهَه إلَّا اللهُ تعالى مِن آثارِ مَلَكوتِه العُظْمى؛ فلذلك قال: يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ، أي: يَبتدِئُ الانفطارُ مِن جِهَتِهنَّ الفوقانيَّةِ. أو لأنَّ كَلمةَ الكُفرِ جاءتْ مِن الَّذين تحتَ السَّمواتِ؛ فكان القياسُ أنْ يُقالَ: يَتفطَّرْنَ مِن تَحتِهنَّ مِن الجِهةِ الَّتي جاءتْ منها الكلمةُ، ولكنَّه بُولِغَ في ذلك، فجُعِلَت مُؤثِّرةً في جِهةِ الفَوقِ، كأنَّه قيل: يَكَدْنَ يَتفطَّرْنَ مِن الجِهةِ الَّتي فَوقَهنَّ، دَعِ الجِهةَ الَّتي تَحتَهنَّ، ونَظيرُه في المُبالَغةِ قولُه عزَّ وعلا: يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ [الحج: 19، 20]؛ فجُعِلَ الحميمُ مُؤثِّرًا في أجْزائهم الباطنةِ [69] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/209)، ((تفسير البيضاوي)) (5/76)، ((تفسير أبي حيان)) (9/323)، ((تفسير أبي السعود)) (8/22)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/11). .
- وعُطِفتْ جُملةُ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ... على جُملةِ تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ؛ لإفادتِها تَقريرَ معنى عظَمةِ اللهِ تعالى وجلالِه، المدلولِ عليهما بقولِه: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [الشورى: 4] . وهي أيضًا كالبيانِ لِما في جُملةِ تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ [الشورى: 5] ؛ لأنَّ مِن أسبابِ مُقارَبةِ تَفطُّرِهنَّ كَثرةَ ما فيهنَّ مِن الملائكةِ، ولولا أنَّها أُريدَ منها زِيادةُ تَقريرِ معنى جملةِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [الشورى: 4] ، لَكانتْ جَديرةً بأنْ تُفصَلَ ولا تُعطَفَ، ولكنْ رُجِّحَ العطفُ مِن أجْلِ الاهتِمامِ بتَقريرِ العُلوِّ والعظَمةِ للهِ تعالى، وأمَّا التَّبيينُ فيَحصُلُ بمُجرَّدِ تعقيبِ جُملةِ تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ؛ فقولُه: وَالْمَلَائِكَةُ [الشورى: 5] مبتدَأٌ، وجُملةُ يُسَبِّحُونَ [الشورى: 5] خبرٌ، والمقصودُ الإعلامُ بجَلالِ اللهِ [70] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/31، 33). .
- ومَفعولُ يُسَبِّحُونَ مَحذوفٌ؛ دَلَّ عليه مُصاحبتُه بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [الشورى: 5] ، تَقديرُه: يُسبِّحونَ ربَّهم، والباءُ للمُصاحَبةِ، أي: يُسبِّحونَ تَسبيحًا مُصاحِبًا لحمْدِهم ربَّهم، أي: الثَّناءِ عليه بصِفاتِه الكَماليَّةِ، ومِن الثَّناءِ ما هو شُكرٌ على نِعَمِه عليهم وعلى غيرِهم؛ فالمعنى: يُسبِّحونَ اللهَ ويَحمَدونَه. وهذا تَعريضٌ بالمشرِكينَ؛ إذ أعرَضوا عن تَسبيحِ ربِّهم وحمْدِه، وشُغِلوا بتَحميدِ الأصنامِ الَّتي لا نِعمةَ لها عليهم، ولا تَنفَعُهم ولا تَضُرُّهم [71] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/33). .
- وفي قولِه: وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ عدَل عن التَّأنيثِ مراعاةً للَّفظِ إلى التَّذكيرِ، وضميرِ الجمعِ؛ إشارةً إلى قوَّةِ التَّسبيحِ، وكثرةِ المسبِّحينَ [72] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/243). .
- وفي تَقديمِ التَّسبيحِ على الحمْدِ إشارةٌ إلى أنَّ تَنزيهَ اللهِ عمَّا لا يَلِيقُ به أهمُّ مِن إثباتِ صِفاتِ الكمالِ له؛ لأنَّ التَّنزيهَ تَمهيدٌ لإدراكِ كَمالاتِه تعالى [73] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/33). .
- وجملةُ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ تَذييلٌ لِجُملةِ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ؛ لإبطالِ وَهْمِ المشرِكينَ أنَّ شُركاءَهم يَشفَعونَ لهم؛ ولذلك جِيءَ في هذه الجُملةِ بصِيغةِ القَصْرِ بضَميرِ الفصْلِ، أي: إنَّ غيرَ اللهِ لا يَغفِرُ لأحدٍ. وصُدِّرَتْ بأداةِ التَّنبيهِ (ألَا)؛ للاهتِمامِ بمُفادِها [74] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/34). .
4- قولُه تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ عطفٌ على جُملةِ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ [الشورى: 4] ، بعْدَ أنْ أُفيدَ ما هو كالحُجَّةِ على أنَّ للهِ ما في السَّمواتِ وما في الأرضِ مِن قولِه: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ [الشورى: 4، 5] الآيتَينِ؛ فالمعنى: قد نهَضَت حُجَّةُ انفرادِه تعالى بالعِزَّةِ والحِكمةِ والعُلوِّ والعظَمةِ، وعَلِم المؤمنونَ ذلك، فاستَغفَرتْ لهم الملائكةُ، وأمَّا الَّذين لم يُبصِروا تلك الحُجَّةَ، وعَمِيَتْ عليهم الأدِلَّةُ، فلا تَهتمَّ بشَأْنِهم؛ فإنَّ اللهَ حَسْبُهم، وما أنت عليهم بوكيلٍ؛ فهذا تَسكينٌ لحُزنِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن أجْلِ عدَمِ إيمانِهم بوَحدانيَّةِ اللهِ تعالى، وهذه مُقدِّمةٌ لِما سيُؤْمَرُ به الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن الدَّعوةِ، ابتِداءً مِن قولِه: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا [الشورى: 7] ، ثمَّ قولِه: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا الآياتِ [الشورى: 13] ، ثمَّ قولِه: فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ [الشورى: 15] ، وقولِه: قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا الآيةَ [75] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/31، 32). [الشورى: 23] .
- قولُه: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ كأنَّه صَلواتُ اللهِ عليه -على ما هو دأْبُه وعادتُه- يَحرِصُ على إيمانِ المشركينَ؛ فجِيءَ بقولِه: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءَ إنكارًا عليه، ثمَّ بَنى عليه النَّفيَ بقولِه: وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ؛ للتَّشديدِ فيه، يعني: أمثالُ هؤلاء المُصرِّينَ ليس في وُسعِك وقُدرتِك أنْ تَهديَهم، واللهُ وحْدَه هو القادرُ على ذلك، والَّذي عليك هو الإنذارُ فقط. وأيضًا سِيقَ قولُه: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ ...؛ لِنَهْيِ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن شِدَّةِ الحِرْصِ على إيمانِ قَومٍ اتَّخَذوا مِن دُونِ اللهِ أولياءَ، ونُزِّلَ لذلك مَنزلةَ مُدَّعٍ أنَّه ولِيُّهم ونَصيرُهم، وهو الوكيلُ على غَرْسِ الإيمانِ في قُلوِبهم، حتَّى رُدَّ بقولِه: وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ [76] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/11- 14). .
- قولُه: اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ الحَفيظُ: فَعيلٌ بمعنى فاعلٍ، أي: حافظٌ، وتَختلِفُ مَعانيه، ومَرْجِعُها إلى رِعايةِ الشَّيءِ والعِنايةِ به، ويَكثُرُ أنْ يُستعمَلَ كِنايةً عن مُراقَبةِ أحوالِ المَرقوبِ وأعمالِه، وباختلافِ مَعانيه تَختلِفُ تَعديتُه بنَفْسِه، أو بحَرْفِ جَرٍّ يُناسِبُ المعنى، وقد عُدِّيَ هنا بحَرْفِ (على) كما يُعدَّى الوكيلُ؛ لأنَّه بمَعناهُ. والوكيلُ: فَعيلٌ بمعنى مَفعولٍ، وهو المَوكولُ إليه عمَلٌ في شَيءٍ أو اقتِضاءُ حقٍّ؛ يُقالُ: وكَّلَه على كذا، ومنه الوكالةُ في التَّصرُّفاتِ الماليَّةِ والمُخاصَمةِ، ويَكثُرُ أنْ يُستعمَلَ كِنايةً عن مُراقَبةِ أحوالِ الموكَّلِ عليه وأعمالِه، وقد استُعْمِلَ (حَفيظٌ) و(وكيلٌ) هنا في استِعمالِهما الكِنائيِّ عن مُتقارِبِ المعنى، ومادَّةُ (حفِظ) تَقْتضي قِيامَ الحدَثِ بفاعلٍ وتَعديتَه إلى مَفعولٍ، ومادَّةُ (وكَل) تَقْتضي قِيامَ الحدَثِ بفاعلٍ وتَعديتَه إلى مَفعولٍ، وتُجاوزَه مِن ذلك المفعولِ إلى شَيءٍ آخَرَ هو مُتعلِّقٌ به، وبذلك كان فِعلُ (حَفِظَ) مُفيدًا بمُجرَّدِ ذِكرِ فاعلِه ومَفعولِه دونَ احتياجٍ إلى مُتعلَّقٍ آخَرَ، بخِلافِ فِعلِ (وَكَلَ)؛ فإفادتُه مُتوقِّفةٌ على ذِكرِ -أو على تَقديرِ- ما يدُلُّ على شَيءٍ آخَرَ زائدٍ على المفعولِ ومِن علائقِه؛ فلذلك أُوثِرَ وَصْفُ (حَفيظٍ) هنا بالإسنادِ إلى اسمِ الجلالةِ؛ لأنَّ اللهَ جلَّ عن أنْ يُكلِّفَه غيرُه حِفْظَ شَيءٍ، فهو فاعلُ الحِفظِ، وأُوثِرَ وَصْفُ (وكيلٍ) بالإسنادِ إلى ضَميرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لأنَّ المقصودَ أنَّ اللهَ لم يُكلِّفْه بأكثَرَ مِن التَّبليغِ. وإذ قد كان الحَفيظُ والوَكيلُ بمعنًى، كان إثباتُ كَونِ اللهِ حفيظًا عليهم، ونفْيُ كَونِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وكيلًا عليهم: مُفيدًا قَصْرَ الكَونِ حَفيظًا عليهم على اللهِ تعالى دونَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، بطَريقٍ غيرِ أحَدِ طُرقِ القصْرِ المعروفةِ؛ فإنَّ هذا مِن صَريحِ القصْرِ ومَنطوقِه لا مِن مَفهومِه، وهو الأصلُ في القصْرِ وإنْ كان قليلًا. والقصرُ قصرُ قلبٍ [77] قصر القلب: هو أنْ يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السَّامع، كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرَفٍ معيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زيدٌ هناك بشاعرٍ. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 288). ، كما هو صريحُ طرَفِه الثَّاني في قولِه: وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ؛ نُزِّلَ الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مَنزلةَ مَن يَحسَبُ أنَّه وكيلٌ على إيمانِهم، وحصَلَ مِن هذا التَّنزيلِ تَعريضٌ بهم بأنَّهم لا يَضُرُّونَ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إذا لم يُصدِّقوه [78] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/32 - 35). .