موسوعة التفسير

سورة الشُّورى
الآيات (51-53)

ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ

غريب الكلمات:

حِجَابٍ: أي: سِترٍ. وكُلُّ ما يَستُرُ المطلوبَ ويَمنَعُ مِنَ الوُصولِ إليه فهو حِجابٌ، وأصلُ (حجب): يدُلُّ على المَنعِ مِن الوُصولِ [930] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/166)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/143)، ((المفردات)) للراغب (ص: 219)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 360). .
رُوحًا: أي: قُرآنًا، وتُطلَقُ الرُّوحُ كذلك على الوَحيِ، وعلى جِبريلَ عليه السَّلامُ، وأصلُ (روح): يدُلُّ على سَعةٍ وفُسحةٍ [931] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 386)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/454)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 334)، ((تفسير ابن كثير)) (8/309). .

مشكل الإعراب:

قَولُه تعالى: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ
- قَولُه: لِبَشَرٍ: شِبهُ جُملةٍ مُتعَلِّقٌ بمَحذوفٍ، خَبَرُ (كان) مُقَدَّمٌ، والمصدَرُ المُؤوَّلُ أَنْ يُكَلِّمَهُ: اسمُ كان مُؤَخَّرٌ. إِلَّا: للحَصرِ، والاستِثناءُ مُفَرَّغٌ. وَحْيًا: مَفعولٌ مُطلَقٌ لفِعلٍ مَحذوفٍ، أو مَصدَرٌ في موضِعِ الحالِ، والتَّقديرُ: إلَّا أن يُوحِيَ إليه وَحيًا، أو إلَّا مُوحِيًا. أَوْ مِنْ وَرَاءِ: شِبهُ جُملةٍ مُتعَلِّقٌ بفِعلٍ مُقَدَّرٍ مَعطوفٍ على (يُوحيَ) العامِلِ في وَحْيًا، أي: أوْ أن يُكَلِّمَه مِن وَراءِ حِجابٍ، أو مُتعَلِّقٌ بحالٍ مَحذوفةٍ مَعطوفةٍ على وَحْيًا، والتَّقديرُ: إلَّا مُوحِيًا أو مُكَلِّمًا مِن وراءِ حِجابٍ. أَوْ يُرْسِلَ: في نَصبِه أوجُهٌ؛ الأوَّلُ: أنَّ المُضارِعَ مَنصوبٌ بـ (أن) مُضمَرةٍ جَوازًا بعدَ (أو)، و(أن والفِعلُ) في تأويلِ مَصدَرٍ في محَلِّ نَصبٍ مَعطوفٌ على وَحْيًا، أي: إلَّا وَحْيًا أو إرسالًا. الثَّاني: أنَّ المصدرَ (أن يُرسِلَ) مَعطوفٌ على معنى وَحْيًا؛ فإنَّه مَصدرٌ مُقَدَّرٌ بـ (أنْ والفعلِ)، والتَّقديرُ: إلَّا بأن يُوحِيَ إليه أو بأن يُرسِلَ. الثَّالثُ: أنَّ يُرْسِلَ مَعطوفٌ على الفِعلِ الَّذي تَعلَّقَ به مِنْ وَرَاءِ؛ إذ تقديرُه: أو يُكَلِّمَه مِن وراءِ حِجابٍ أو يُرسِلَ. والمعنى: إلَّا بوَحيٍ، أو تكليمٍ مِن وَراءِ حِجابٍ، أو إرسالِ رَسولٍ.
ولا يجوزُ أن يُعطَفَ يُرْسِلَ على يُكَلِّمَهُ؛ لفَسادِ المعنى؛ إذ يصيرُ التَّقديرُ: وما كان لبَشَرٍ أن يُرسِلَ اللهُ رَسولًا؛ فيَفسُدَ لَفظًا ومَعنًى.
وقُرِئَ أَوْ يُرْسِلُ بالرَّفعِ على الاستِئنافِ [932] قرأها نافعٌ برفعِ اللَّامِ، وقرأها الباقون بالنَّصبِ. يُنظر: ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 644)، ((النشر في القراءات العشر)) لابن الجزري (2/368). ، أي: أو هو يُرسِلُ. أو بالرَّفعِ عَطفًا على وَحْيًا على تأويلِه بالحالِ، كأنَّه قال: إلَّا مُوحيًا أو مُرسِلًا. أو عَطفًا على ما يتعلَّقُ به مِنْ وَرَاءِ على تقديرِه بالحالِ كذلك، والتَّقديرُ: إلَّا مُوحيًا أو مُكَلِّمًا مِن وراءِ حِجابٍ، أو مُرسِلًا [933] يُنظر: ((شرح كتاب سيبويه)) للسيرافي (3/245)، ((تفسير أبي حيان)) (9/350)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (9/566)، ((الجدول في إعراب القرآن)) لمحمود صافي (25/ 60)، ((المجتبى من مشكل إعراب القرآن)) للخراط (3/1144). .

المعنى الإجمالي:

يُبيِّنُ الله تعالَى طُرُقَ تَكليمِه للمُختارينَ مِن عِبادِه، فيقولُ: ما كان لِبَشَرٍ أن يُكَلِّمَه اللهُ في الدُّنيا إلَّا وَحْيًا، أو يُكَلِّمَه اللهُ جَهرًا مِن وَراءِ حِجابٍ فيَسمَعَ كلامَه ولا يَراه، أو يُكَلِّمَه اللهُ تعالى بواسِطةِ مَلَكٍ يُرسِلُه اللهُ بما يَشاءُ وَحْيَه، إنَّ اللهَ عَلِيٌّ حَكيمٌ.
ثمَّ يُبيِّنُ بعضَ مظاهرِ فَضلِه على نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم، فيقولُ: ومِثلَ ذلك الإيحاءِ أوحَيْنا إليك القُرآنَ مِن أمْرِنا -يا مُحمَّدُ- ما كُنتَ تَعلمُ مِن قبْلِ ذلك ما القُرآنُ وما الإيمانُ، ولكِنْ جعَلْنا هذا القُرآنَ نُورًا للنَّاسِ نَهدي به مَن نَشاءُ هِدايتَه مِن عِبادِنا.
 وإنَّك -يا مُحمَّدُ- لَتُرشِدُ النَّاسَ إلى طريقٍ مُستقيمٍ؛ طَريقِ اللهِ الَّذي له مُلكُ ما في السَّمَواتِ وما في الأرضِ، ألَا إلى اللهِ وَحْدَه تَرجِعُ جميعُ الأمورِ.

تفسير الآيات:

وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا بَيَّن كَمالَ قُدرتِه وعِلمِه وحِكمتِه؛ أتْبَعَه ببَيانِ أنَّه كيف يَخُصُّ أنبياءَه بوَحْيِه وكَلامِه [934] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/611). .
وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا.
أي: وما يَنبغي لبَشَرٍ أن يُكَلِّمَه اللهُ في الدُّنيا إلَّا وَحْيًا [935] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/775)، ((تفسير ابن جرير)) (20/540)، ((الوسيط)) للواحدي (4/60)، ((تفسير الزمخشري)) (4/233)، ((تفسير ابن كثير)) (7/217)، ((تفسير السعدي)) (ص: 762). قال مقاتلُ بنُ سُلَيْمانَ: (يقولُ: ليس لنبيٍّ مِن الأنبياءِ أن يُكَلِّمَه اللهُ إِلَّا وَحْيًا فيَسمَعَ الصَّوتَ فيَفْقَه). ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/775). وقال ابن جرير: (وما ينبغي لبشَرٍ مِن وَلَدِ آدمَ أن يُكَلِّمَه رَبُّه إلَّا وَحيًا يُوحي اللهُ إليه كيف شاء؛ إمَّا إلهامًا، وإمَّا غيرَه). ((تفسير ابن جرير)) (20/540). وقال البِقاعي: (إِلَّا وَحْيًا أي: كَلامًا خَفيًّا يُوجِدُه فيه بغيرِ واسِطةٍ بوَجهٍ خَفيٍّ لا يَطَّلِعُ عليه أحَدٌ إلَّا بخارقِ العادةِ؛ إمَّا بإلهامٍ، أو برؤيا مَنامٍ، أو بغيرِ ذلك). ((نظم الدرر)) (17/358). وقال ابنُ تيميَّةَ: (قَولُه: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا يتناوَلُ وَحيَ الأنبياءِ وغَيرِهم، كالمُحَدَّثِينَ المُلْهَمِينَ). ((النبوات)) (2/691). ومِمَّن قال: المرادُ: الوَحيُ في المنامِ، أو الإلهامُ: الواحدي، والزمخشري، وابن عاشور. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/60)، ((تفسير الزمخشري)) (4/233)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/142). .
أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ.
أي: أو يُكَلِّمَه اللهُ جَهرًا مِن وَراءِ حِجابٍ، بحيثُ يَسمَعُ كَلامَ اللهِ ولا يَراه، كما كلَّمَ اللهُ تعالى موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ [936] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/540)، ((تفسير ابن كثير)) (7/217)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/359)، ((تفسير السعدي)) (ص: 762)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 347). .
كما قال الله تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ [البقرة: 253] .
وقال الله سُبحانَه وتعالى: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ * قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي [الأعراف: 143، 144].
وقال عزَّ وجلَّ: فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [القصص: 30].
وعن أبي موسى الأشْعَريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((حِجابُه النُّورُ، لو كشَفَه لأحرَقَت سُبُحاتُ [937] سُبُحاتُ وَجهِه: نُورُه وجَلالُه وبَهاؤه. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (3/14). وَجهِه ما انتهى إليه بَصَرُه مِنْ خَلْقِه)) [938] رواه مسلم (179). .
أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ.
أي: أو يُكَلِّمَه اللهُ تعالى بواسِطةِ مَلَكٍ يُرسِلُه اللهُ، فيُوحِيَ إلى المُرسَلِ إليه ما يَشاءُ اللهُ وَحْيَه، كجِبريلَ الَّذي كان يَنزِلُ بكَلامِ اللهِ تعالى على أنبيائِه عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ [939] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/540)، ((تفسير ابن كثير)) (7/217)، ((تفسير السعدي)) (ص: 762). قال ابن كثير: (كان جِبريلُ يأتي إلى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في صِفاتٍ مُتعدِّدةٍ؛ فتارةً يأتي في صورةِ دِحْيَةَ بنِ خليفةَ الكَلْبيِّ، وتارةً في صورةِ أعرابيٍّ، وتارةً في صورتِه الَّتي خُلِق عليها له سِتُّمِئةِ جَناحٍ ما بيْنَ كلِّ جَناحَينِ كما بيْنَ المَشرِقِ والمغربِ، كما رآه على هذه الصِّفةِ مرَّتَينِ؛ مرَّةً مُنْهَبِطًا مِن السَّماءِ إلى الأرضِ، وتارةً عندَ سِدرةِ المُنتهَى عندَها جنَّةُ المأْوى). ((البداية والنهاية)) (1/91). .
إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ.
أي: إنَّ اللهَ سُبحانَه عَليٌّ بذاتِه فوقَ خَلْقِه، وعَليٌّ بصِفاتِه عن كُلِّ عَيبٍ ونَقصٍ،  قد قهَر كلَّ شيءٍ، ودانَتْ له المخلوقاتُ، حَكيمٌ في شَرعِه وصُنعِه، وفي تَدبيرِ خَلْقِه؛ فيَضَعُ كُلَّ شَيءٍ في مَوضِعِه اللَّائِقِ به [940] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/775)، ((تفسير ابن جرير)) (20/541)، ((تفسير السعدي)) (ص: 762)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 351، 352). .
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52).
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا.
أي: ومِثلَ ذلك الإيحاءِ [941] قال أبو حيَّان: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا: أي: مِثلَ ذلك الإيحاءِ الفَصلِ أوحينا إليك؛ إذ كان عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ اجتَمَعت له الطُّرُقُ الثَّلاثُ: النَّفْثُ في الرُّوعِ، والمنامُ، وتكليمُ اللهِ له حقيقةً ليلةَ الإسراءِ، وإرسالُ رَسولٍ إليه، وهو جِبريلُ. وقيل: كما أوحَيْنا إلى الأنبياءِ قَبْلَك أوحَيْنا إليك رُوحًا مِن أمْرِنا). ((تفسير أبي حيان)) (9/351). ومِمَّن قال بالمعنى الأوَّلِ أيضًا: ابنُ عطية، والبِقاعي، والقاسمي. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/44)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/361)، ((تفسير القاسمي)) (8/376). ومِمَّن قال بالمعنى الثَّاني: مكِّي، والبغوي، وابن الجوزي، والرَّسْعَني. يُنظر: ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (10/6618)، ((تفسير البغوي)) (4/153)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/70)، ((تفسير الرسعني)) (7/95). قال ابن جرير: (وكما كنَّا نُوحي إلى سائرِ رُسُلِنا، كذلك أوحَيْنا إليك يا مُحمَّدُ هذا القرآنَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا). ((تفسير ابن جرير)) (20/541). وقال الزَّجَّاجُ: (أي: فَعَلْنا في الوحيِ إليك كما فَعَلْنا بالرُّسلِ مِن قَبْلِك). ((معاني القرآن وإعرابه)) (4/404). ويُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/61). أوحَيْنا إليك القُرآنَ [942] قال مكِّي: (قَولُه: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا يعني: القرآنَ، في قَولِ جَميعِ المفَسِّرينَ). ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) (10/6412). مِن أمْرِنا [943] قال ابنُ عطية: (قَولُه تعالى: مِنْ أَمْرِنَا أي: واحدٍ مِن أُمورِنا). ((تفسير ابن عطية)) (5/44). وقال ابن عثيمين: (قَولُه: مِنْ أَمْرِنَا قال المفَسِّر [جلال الدِّين المحلِّي] رحمه الله: «الَّذي نوحيه إليك» يعني: ممَّا نأمُرُ به، ويحتمِلُ أن يكونَ الأمرُ هنا واحِدَ الأمورِ لا واحِدَ الأوامِرِ، أي: مِن شَأنِنا). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 354). ويُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/253)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 646). -يا مُحمَّدُ [944] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/541)، ((تفسير ابن كثير)) (7/217)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/361، 362)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 354، 355). .
مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ.
أي: ما كُنتَ تَعلَمُ -يا مُحمَّدُ- مِن قبْلِ نُزولِ الوَحيِ عليك أيَّ شَيءٍ القُرآنُ، وأيَّ شَيءٍ الإيمانُ وشَرائِعُه على وَجهِ التَّفصيلِ [945] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/542)، ((تفسير السمعاني)) (5/88)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/70)، ((تفسير أبي حيان)) (9/351)، ((تفسير ابن كثير)) (7/217)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/362، 363)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/78، 79)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 355). قال ابنُ عثيمين: (مَا الْكِتَابُ يحتمِلُ أن يكونَ المرادُ بها ما الكِتابةُ، ويحتمِلُ أن يُرادَ بذلك... القُرآنُ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 355). ومِمَّن قال بأنَّ المرادَ بالكِتابِ هنا القُرآنُ: ابنُ جرير، والسمعاني، والزمخشري، وابن الجوزي، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/542)، ((تفسير السمعاني)) (5/88)، ((تفسير الزمخشري)) (4/234)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/70)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/78). قال السعدي: (أي: ليس عندَك عِلمٌ بأخبارِ الكُتُبِ السَّابِقةِ، ولا إيمانٌ وعَمَلٌ بالشَّرائعِ الإلهيَّةِ، بل كُنتَ أُمِّيًّا لا تَخُطُّ ولا تَقرَأُ). ((تفسير السعدي)) (ص: 762). وقال ابن عاشور: (ومعنى عَدَمِ دِرايةِ الكِتابِ: عدَمُ تعَلُّقِ عِلمِه بقِراءةِ كِتابٍ أو فَهْمِه. ومعنى انتِفاءِ درايةِ الإيمانِ: عدَمُ تعَلُّقِ عِلْمِه بما تحتوي عليه حَقيقةُ الإيمانِ الشَّرعيِّ مِن صِفاتِ اللهِ وأُصولِ الدِّينِ). ((تفسير ابن عاشور)) (25/152). ولا يَقتضي معنى الآيةِ أنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يَكُنْ مؤمِنًا بوجودِ اللهِ ووحدانيَّةِ إلهيَّتِه قبْلَ نُزولِ الوحيِ عليه! قال ابن عاشور: (إِذ الأنبياءُ والرُّسلُ معصومونَ مِن الشِّركِ قبْلَ النُّبُوَّةِ، فهم موحِّدونَ للهِ، ونابِذونَ لعبادةِ الأصنامِ، ولكنَّهم لا يَعلَمونَ تفاصيلَ الإيمانِ، وكان نبيُّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في عهدِ جاهليَّةِ قَومِه يَعلَمُ بُطْلانَ عبادةِ الأصنامِ). ((تفسير ابن عاشور)) (25/153). ويُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/351). .
كما قال تعالى: وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [النساء: 113].
وقال سُبحانَه: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ [يوسف: 3] .
وقال جَلَّ جَلالُه: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى [الضحى: 7] .
وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا.
أي: ولكِنْ جعَلْنا هذا القُرآنَ نُورًا للنَّاسِ تَزولُ به ظُلُماتُ الكُفرِ والشِّركِ، والشَّكِّ والجَهلِ، والأهواءِ والمعاصي؛ فنَهدي به إلى الحَقِّ مَن نَشاءُ هِدايتَه مِن عِبادِنا [946] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/542، 543)، ((تفسير ابن كثير)) (7/217)، ((تفسير السعدي)) (ص: 762)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/79، 80). قيل: الضَّميرُ في قَولِه تعالى: جَعَلْنَاهُ عائِدٌ إلى الكتابِ، وهو القُرآنُ المذكورُ في قَولِه تعالى: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ، أي: ولكِنْ جعَلْنا الكِتابَ نُورًا. ومِمَّن قال بذلك: ابنُ جرير، والزجاج، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/542)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/404)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/153). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: السُّدِّيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/543). وقيل: عائِدٌ إلى الرُّوحِ المذكورِ في قَولِه تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا. ومِمَّن ذهب إلى هذا: ابنُ تيميَّة، وابن القيِّم، والشنقيطي. يُنظر: ((المستدرك على مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (1/200)، ((اجتماع الجيوش الإسلامية)) لابن القيم (2/87، 88)، ((إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان)) لابن القيم (1/21)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/79). وقيل: عائِدٌ إلى الإيمانِ المذكورِ في قَولِه تعالى: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ. يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (5/213). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ. يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (8/326). وقال أبو حيَّان: (يحتمِلُ أن يعودَ إلى قَولِه: رُوحًا، وإلى الْكِتَابُ، وإلى الْإِيمَانُ، وهو أقرَبُ مذكورٍ. وقال ابنُ عطية: عائِدٌ على الكتابِ. انتهى. وقيل: يعودُ إلى الكتابِ والإيمانِ معًا؛ لأنَّ مَقصدَهما واحِدٌ، فهو نظيرُ: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [التوبة: 62] ). ((تفسير أبي حيان)) (9/352). ويُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/44). .
كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا [النساء: 174] .
وقال سُبحانَه: قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [المائدة: 15، 16].
وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
أي: وإنَّك -يا مُحمَّدُ- لَتُرشِدُ النَّاسَ وتَدْعوهم إلى طَريقٍ مُستَقيمٍ لا اعوِجاجَ فيه [947] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/543، 544)، ((تفسير القرطبي)) (16/60)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (10/581)، ((تفسير السعدي)) (ص: 762)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/154). .
صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53).
صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ.
أي: تَدْعوهم إلى طَريقٍ مُستَقيمٍ؛ طَريقِ اللهِ الموصِلِ إليه وإلى جنَّتِه، الَّذي له مُلكُ ما في السَّمَواتِ وما في الأرضِ، المتصَرِّفِ فيهما وَحْدَه لا شَريكَ له [948] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/544)، ((تفسير ابن كثير)) (7/217)، ((تفسير السعدي)) (ص: 762). .
أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ.
أي: ألا إلى اللهِ وَحْدَه تَرجِعُ جَميعُ الأُمورِ [949] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/217)، ((تفسير السعدي)) (ص: 762)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/156)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/81)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 358، 363). .
كما قال الله سبحانه وتعالى: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ [آل عمران: 109].
وقال سُبحانَه: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ [هود: 123] .

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا بيانُ أنَّ هذا القُرآنَ الكريمَ رُوحٌ تحيا به القُلوبُ، وعلى هذا فإذا وجدْتَ قلبَك مَيِّتًا، أو وجَدْتَه مَريضًا، أو وجَدْتَه قاسيًا؛ فعليك بالقُرآنِ، اقرأْه عن محبَّةٍ وتَدَبُّرٍ فسيتغيَّرُ القَلبُ مِن مَرَضٍ إلى صِحَّةٍ، ومِن مَوتٍ إلى حَياةٍ، ومِن قَسوةٍ إلى لِينٍ [950] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 358). .
2- في قَولِه تعالى: وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى جَعَل الكتابَ نورًا يَهدي به مَن يشاءُ، ويَنبني على هذه الفائدةِ: أنَّك إذا أردْتَ أنْ يَستنيرَ قلبُك؛ فعليك بالقُرآنِ، وقراءتِه قراءةَ تَدَبُّرٍ [951] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 361). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا إثباتُ تكليمِ اللهِ عزَّ وجلَّ [952] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 352). .
2- قَولُ الله تعالى: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا استَدَلَّ به مالِكٌ -رحمه الله- على أنَّ مَن حَلَف لا يُكَلِّمُ زَيدًا، فأرسَلَ إليه رَسولًا أو كِتابًا، يحنَثُ؛ لأنَّه تعالى استثناه مِنَ الكلامِ، فدَلَّ على أنَّه منه [953] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 231). ويُنظر أيضًا: ((البيان والتحصيل)) لابن رشد الجد (6/96). وهو مذهبُ الحنابلةِ، خلافًا للحنفيَّةِ والشَّافعيَّةِ. يُنظر: ((حاشية ابن عابدين)) (3/792)، ((المجموع شرح المهذب)) للنووي (18/89)، ((كشاف القناع)) للبُهُوتي (6/260). .
3- قَولُ الله تعالى: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا استدَلَّت به عائِشةُ -رَضِيَ اللهُ عنها- على أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يَرَ ربَّه [954] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 231). قال ابن القيِّم: (وهي مسألةُ خِلافٍ بيْنَ السَّلفِ والخلَفِ، وإن كان جمهورُ الصَّحابةِ بل كلُّهم مع عائشةَ كما حكاه عثمانُ بنُ سعيدٍ الدَّارِميُّ إجماعًا للصَّحابةِ). ((زاد المعاد)) (1/79). ويُنظر: ((النقض على المريسي)) للدارمي (ص: 287)، ((الرد على الجهمية)) للدارمي (ص: 124)، ((اجتماع الجيوش الإسلامية)) لابن القيم (1/22). .
4- قَولُ الله تعالى: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا دَلَّ على انتِفاءِ أن يكونَ إبلاغُ مُرادِ اللهِ تعالى لأُمَمِ الرُّسُلِ بغَيرِ أحَدِ هذه الأنواعِ الثَّلاثةِ -أعني: خُصوصَ نَوعِ إرسالِ رَسولٍ- بدَلالةِ فَحوى الخِطابِ [955] ينقسِمُ المفهومُ مِن الكلامِ إلى مَفهومِ موافَقةٍ، ومفهومِ مُخالَفةٍ؛ فمَفهومُ الموافَقةِ هو ما يُوافِقُ حُكْمُه المنطوقَ؛ فإنْ كان أَوْلى سُمِّيَ فَحْوى الخِطابِ، كدَلالةِ: فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [الإسراء: 23] على تَحريمِ الضَّربِ؛ لأنَّه أشَدُّ، وإنْ كان مُساوِيًا سُمِّيَ لَحْنَ الخِطابِ، أي: معناه، كدَلالةِ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا [النساء: 10] على تَحريمِ الإحراقِ؛ لأنَّه مُساوٍ للأكْلِ في الإتلافِ. وعُرِّف لَحْنُ الخِطابِ أيضًا بأنَّه دَلالةٌ للاقتِضاءِ، وهو دَلالةُ اللفظِ الْتزامًا على ما لا يَستقِلُّ الحكمُ إلَّا به، وإنْ كان اللفظُ لا يَقتضيه وضْعًا. يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 53)، ((الذخيرة)) للقرافي (1/62)، ((البحر المحيط في أصول الفقه)) للزركشي (5/ 124)، ((الدرر اللوامع في شرح جمع الجوامع)) للكوراني (1/438 - 440)، ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (3/106).. ؛ فإنَّه إذا كان الرُّسُلُ لا يخاطِبُهم اللهُ إلَّا بأحَدِ هذه الأنحاءِ الثَّلاثةِ، فالأُمَمُ أَولى بألَّا يُخاطَبوا بغيرِ ذلك مِن نحوِ ما سأله المُشرِكونَ مِن رُؤيةِ اللهِ يُخاطِبُهم، أو مَجيءِ الملائِكةِ إليهم، بل لا يتوجَّهُ إليهم خِطابُ اللهِ إلَّا بواسِطةِ رَسولٍ مِنهم يَتلقَّى كلامَ اللهِ بنَحوٍ مِن الأنحاءِ الثَّلاثةِ [956] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/140، 141). .
5- قَولُ الله تعالى: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا... يُؤخَذُ مِن هذه الآيةِ أنَّ النَّبيَّ محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قد أُعطِيَ أنواعَ الوحيِ الثَّلاثةَ، وهو أيضًا مُقتضَى الغرَضِ مِن مَساقِ هذه الآياتِ [957] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/151). قال ابن القيِّم: (كمَّل اللهُ له [أي: للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ] مِن مراتبِ الوحيِ مراتبَ عديدةً: إحداها: الرُّؤْيا الصَّادقةُ، وكانت مَبدأَ وحْيِه صلَّى الله عليه وسلَّم، وكان لا يَرى رؤيا إلَّا جاءتْ مِثلُ فَلَقِ الصُّبحِ. الثَّانيةُ: ما كان يُلْقِيه المَلَكُ في رُوعِه وقلبِه مِن غيرِ أن يَراه. الثَّالثةُ: أنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم كان يَتمثَّلُ له المَلَكُ رجُلًا فيُخاطِبُه حتَّى يَعيَ عنه ما يقولُ له، وفي هذه المرتبةِ كان يَراه الصَّحابةُ أحيانًا. الرَّابعةُ: أنَّه كان يأتيه في مِثلِ صَلْصَلةِ الجَرَسِ، وكان أشَدَّه عليه، فيَتلبَّسُ به المَلَكُ حتَّى إنَّ جَبينَه لَيَتفَصَّدُ عَرَقًا في اليومِ الشَّديدِ البَرْدِ، وحتَّى إنَّ راحلتَه لَتَبْرُكُ به إلى الأرضِ إذا كان راكِبَها. الخامسةُ: أنَّه يَرى المَلَكَ في صورتِه الَّتي خُلِق عليها، فيُوحي إليه ما شاء اللهُ أن يُوحيَه، وهذا وقَع له مرَّتَينِ. السَّادسةُ: ما أوحاه الله وهو فوقَ السَّمواتِ لَيلةَ المِعراجِ مِن فَرضِ الصَّلاةِ وغيرِها. السَّابعةُ: كلامُ اللهِ له منه إليه بلا واسِطةِ مَلَكٍ، كما كلَّم اللهُ موسى بنَ عِمْرانَ، وهذه المرتبةُ هي ثابتةٌ لموسى قَطعًا بنصِّ القرآنِ، وثُبوتُها لنبيِّنا صلَّى الله عليه وسلَّم هو في حديثِ الإسراءِ). ((زاد المعاد)) (1/77-79). ويُنظر: ((معترك الأقران في إعجاز القرآن)) للسيوطي (2/265). .
6- في قَولِه تعالى: حَكِيمٌ إثباتُ الحِكمةِ في شَرعِه وخَلْقِه، وإثباتُ الحُكْمِ الكَونيِّ والشَّرعيِّ؛ لأنَّ كَلِمةَ «حكيم» تعني: الحُكْمَ والحِكمةَ [958] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 353). .
7- في قَولِه تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا سمَّى سُبحانَه الوَحيَ رُوحًا؛ لِمَا يَحصُلُ به مِن حياةِ القُلوبِ والأرواحِ [959] يُنظر: ((الروح)) لابن القيم (ص: 153). ، ولأنَّه تحيا به مَصالحُ الدُّنيا والدِّينِ؛ لِما فيه مِنَ الخَيرِ الكثيرِ والعِلمِ الغَزيرِ، وهو مَحضُ مِنَّةِ اللهِ سُبحانَه على رَسولِه وعبادِه المؤمِنينَ مِن غَيرِ سَبَبٍ منهم [960] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 762). ، وسمَّاه نورًا؛ لِما يَحصُلُ به مِن الهدَى واستِنارةِ القلوبِ والفرقانِ بيْنَ الحقِّ والباطلِ [961] يُنظر: ((اجتماع الجيوش الإسلامية)) لابن القيم (2/41). ، ولِما يَحصُلُ به مِنَ الإشراقِ والإضاءةِ، وهما متلازِمانِ؛ فحيث وُجِدَت هذه الحياةُ بهذا الرُّوحِ وُجِدَت الإضاءةُ والاستِنارةُ، وحيث وُجِدَت الاستِنارةُ والإضاءةُ وُجِدَت الحياةُ، فمَن لم يَقبَلْ هذا الرُّوحَ فهو مَيِّتٌ مُظلِمٌ [962] يُنظر: ((الوابل الصيب)) لابن القيم (ص: 54). ؛ فيَجِبُ على كُلِّ مُسلمٍ أن يَستضيءَ بنُوره، فيَعتَقِدَ عقائِدَه، ويُحِلَّ حلالَه، ويُحَرِّمَ حرامَه، ويمتَثِلَ أوامِرَه، ويجتَنِبَ ما نهى عنه، ويعتَبِرَ بقَصَصِه وأمثالِه [963] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/80). .
8- في قَولِه تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا أنَّ القُرآنَ غيرُ مَخلوقٍ؛ فقد جَعَله اللهُ تعالى مُوحًى إلى الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، ولو كان مخلوقًا ما صحَّ أن يكونَ مُوحًى. فإذا كان وَحْيًا لَزِمَ ألَّا يكونَ مخلوقًا؛ لأنَّ اللهَ هو الَّذي تَكَلَّمَ به [964] يُنظر: ((شرح العقيدة الواسطية)) لابن عثيمين (1/431). .
9- في قَولِه تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا أنَّ القُرآنَ رُوحٌ تحصُلُ به الحياةُ، ونورٌ تحصُلُ به الهِدايةُ؛ فأتْباعُه لهم الحياةُ والهِدايةُ، ومُخالِفوه لهم الموتُ والضَّلالُ [965] يُنظر: ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 277). .
10- في قَولِه تعالى: رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا أنَّ القُرآنَ هو مِن أمرِ اللهِ تعالى، ويَنبني عليه أنَّه ليس بمخلوقٍ؛ وجْهُ ذلك: قولُ اللهِ تبارك وتعالى: أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف: 54]، ففَصَل الخَلْقَ عن الأمرِ، وجَعَلَه قَسيمًا له؛ فدلَّ ذلك على أنَّ الأمرَ ليس مِن الخَلقِ، وهذا هو المرادُ، فهذه الآيةُ ممَّا يُستَدَلُّ بها على طائِفَتَي المُعتَزِلةِ والأشعريَّةِ الَّذين يقولونَ: إنَّ القُرآنَ مَخلوقٌ [966] يُنظر: ((معارج القبول بشرح سلم الوصول)) لحافظ حكمي (1/269)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 360). !
11- قَولُ الله تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ استُدِلَّ به على أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يكُنْ متعبِّدًا قبْلَ النُّبوَّةِ بشَرعٍ [967] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (3/551)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/153). قال السمين الحلبي في الردِّ على مذهبِ مَن يرَى أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم لم يكُنْ مُتعبدًا قبْلَ المبعَثِ: (وهو مذهَبٌ ساقِطُ الاعتبارِ؛ لأنَّ الأحاديثَ الصَّحيحةَ ترُدُّه، وهي: أنَّه كان يَتحنَّثُ، كان يتعَبَّدُ، كان يصومُ، كان يطوفُ، كان يَقِفُ، ولم يَقُلْ بخلافِ ذلك إلَّا شذوذٌ مِن النَّاسِ، وفي الجُملةِ فالمسألةُ خِلافيَّةٌ، وإذا كان مُتعَبِّدًا فبأيِّ شَرعٍ كان يتعَبَّدُ به؟ ...). ((الدر المصون)) (11/137). .
12- في قَولِه تعالى: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم كان أُمِّيًّا لا يَقرأُ ولا يَكتبُ، فيَكونُ فيه إبطالٌ لدعوَى أنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم كاذِبٌ؛ لأنَّه لا يَستطيعُ أنْ يأتيَ بهذا القُرآنِ مِن عِندِه [968] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 360). .
13- قَولُه تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ فيه أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم يدُلُّ على الصِّراطِ المُستقيمِ؛ فإنْ قال قائلٌ: ما الجَمعُ بيْنَ هذه الآيةِ وقَولِه تعالى: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص: 56] ؟
فالجَوابُ: الهدايةُ في الآيةِ الثَّانيةِ هدايةُ التَّوفيقِ؛ فإنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم لا يَملِكُ أنْ يَهديَ أحدًا، وأمَّا الهدايةُ في الآيةِ الَّتي هنا فهي هدايةُ الدَّلالةِ والإرشادِ، كما في قَولِ اللهِ تعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [فصلت: 17] هَدَيْناهم هِدايةَ دَلالةٍ، يعني: بَيَّنَّا لهم الحَقَّ ودَلَلْناهم عليه، ولكِنَّهم -والعياذُ باللهِ- استحَبُّوا العَمَى على الهُدَى، فلم يَهتَدوا [969] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/37)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 361). ، فالهدَى المنفيُّ عنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هو منحُ التوفيقِ، والهدَى المُثبَتُ له هو إبانةُ الطَّريقِ [970] يُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب)) للشنقيطي (ص: 178). .
14- قَولُه تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ حُجَّةٌ في قَبولِ السُّنَنِ، وزَوالِ الارتيابِ في أنَّ قَولَ الرَّسولِ كُلَّه حَقٌّ مِن عندِ اللهِ، وهادٍ إلى سَبيلِ اللهِ [971] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/121). .
15- في قَولِه تعالى: إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ أنَّ هَدْيَ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم هَدْيٌ مُستقيمٌ لا اعوِجاجَ فيه؛ فليس فيه اعوِجاجٌ في الخَبَرِ -والاعوجاجُ في الخَبَرِ هو الكَذِبُ-، وليس فيه اعوِجاجٌ في الشَّرائعِ، بل كلُّها مَبنيَّةٌ على العَدلِ والفَضلِ. والحَمدُ للهِ ربِّ العالَمينَ [972] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 361). .
16- في قَولِه تعالى: صِرَاطِ اللَّهِ هنا أُضيفَ الصِّراطُ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ؛ وقد أُضيفَ في سورةِ (الفاتحةِ) إلى غيرِ اللهِ، فقال تعالى: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة: 7] ، ولا تَعارُضَ بيْنَ الإضافتَينِ؛ فإنَّ إضافتَه إلى اللهِ تعالى هي باعتبارِ أنَّه هو الَّذي وَضَعَه لعِبادِه، وأنَّه مُوصِلٌ إليه، وإضافتَه إلى النَّاسِ في قَولِه تعالى: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ باعتبارِ أنَّهم أهلُه وسالِكوه، فالإضافةُ مختَلِفةٌ؛ فلهذا صَحَّ أنْ تُضافَ إلى هذا تارةً، وإلى هذا تارةً [973] يُنظر: ((شرح مقدمة التفسير)) لابن عثيمين (ص: 20). .
17- في قَولِه تعالى: أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ بيانُ أنَّ الأمورَ كلَّها تصيرُ إلى اللهِ؛ أي: تَرجِعُ إليه خَلْقًا ومُلْكًا وتدبيرًا وحُكْمًا، كلُّ شيءٍ يَرجِعُ إلى اللهِ، إذا اختَلَفْنا في حُكْمٍ في مسألةٍ مِن مسائلِ العلمِ نَرجِعُ إلى اللهِ، إذا كان يومُ القيامةِ يُبعَثُ الخلائقُ ويَرجِعون إلى اللهِ، فهو سُبحانَه منه المُبتدَأُ، وإليه المنتهَى، تبارك وتعالى [974] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 363). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالى: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ
- قولُه: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ عطْفٌ على ما سبَقَ مِن حكايةِ تُرَّهاتِهم عطْفَ القِصَّةِ على القصَّةِ، وهو عَوْدٌ إلى إبطالِ شُبَهِ المشرِكينَ الَّتي أشارَ إليها قولُه تعالَى: كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الشورى: 3] ، وقولُه تعالَى: كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ [الشورى:13] ، ويَزيدُ الأمرَ وضوحًا قولُه عَقِبَه: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا [الشورى: 52] ، وهذه الآيةُ تُبطِلُ الشُّبهةَ الثَّانيةَ مِن شُبُهاتِهم في كَونِ القرآنِ وحيًا مِن اللهِ إلى محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ إذ زعَموا أنَّ محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لو كان مرسَلًا مِن اللهِ لَكانتْ معه ملائكةٌ تُصدِّقُ قولَه، أو لأُنزِلَ عليه كتابٌ جاهزٌ مِن السَّماءِ يُشاهِدونَ نُزولَه [975] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/140). !
- وإذ قد كان أهمُّ غرَضِ هذه السُّورةِ إثباتَ كَونِ القرآنِ وحيًا مِن اللهِ إلى محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كما أُوحِيَ مِن قبْلِه للرُّسلِ، كان العَوْدُ إلى ذلك مِن قبيلِ رَدِّ العَجُزِ على الصَّدْرِ [976] رَدُّ العَجُزِ على الصَّدرِ -ويُعرَفُ أيضًا بالتَّصديرِ-: هو أنْ تكونَ اللَّفظةُ بعَيْنِها تقدَّمتْ في أوَّلِ الكَلامِ، ثُمَّ تُعادُ في آخِرِه، وبتعبيرٍ آخَرَ: هو أنْ يُجعَلَ أحدُ اللَّفظينِ المُكرَّرينِ، أو المتجانسَينِ، أو المُلحقَينِ بهما في أوَّلِ الفِقرةِ، ثُمَّ تُعادُ في آخِرِها، وهو على ثلاثةِ أقسامِ؛ الأوَّلُ: أن يُوافِقَ آخِرُ الفاصِلةِ آخِرَ كَلمةٍ في الصَّدرِ؛ كقوله تعالى: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [النساء: 166]. والثَّاني: أنْ يُوافِقَ أوَّلَ كَلمةٍ منه؛ كقولِه: وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران: 8]. والثَّالثُ: أنْ يُوافِقَ بعضَ كَلِماتِه؛ كقولِه: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [الأنعام: 10] . يُنظر: ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (3/461)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/354)، ((جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع)) للهاشمي (ص: 333)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/514). ، فبيَّنَ اللهُ للمكذِّبينَ أنَّ سُنَّةَ اللهِ في خِطابِ رُسلِه لا تَعْدو ثلاثةَ أنحاءٍ مِن الخِطابِ، منها ما جاء به القرآنُ؛ فلمْ يكُنْ ذلك بِدْعًا ممَّا جاءتْ به الرُّسلُ الأوَّلونَ، وما كان اللهُ لِيُخاطِبَ رُسلَه على الأنحاءِ الَّتي اقترَحَها المشرِكونَ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فجيءَ بصيغةِ حَصْرٍ مُفتتَحةٍ بصيغةِ الجُحودِ المفيدةِ مُبالَغةَ النَّفيِ، وهي وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ، أي: لم يَتهيَّأْ لأحدٍ مِن الرُّسلِ أن يأتيَه خِطابٌ مِن اللهِ إلَّا بنَوعٍ مِن هذه الثَّلاثةِ [977] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/91)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/140، 141). .
- والاستِثناءُ في قولِه: إِلَّا وَحْيًا استِثناءٌ مِن عمومِ أنواعِ التَّكلُّمِ الَّتي دلَّ عليها الفعلُ الواقعُ في سياقِ النَّفيِ، وهو وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ، فانتِصابُ وَحْيًا على الصِّفةِ لمصدرٍ محذوفٍ دلَّ عليه الاستثناءُ، والتَّقديرُ: إلَّا كلامًا وحيًا، أي: مُوحًى به، كما تقولُ: لا أُكلِّمُه إلَّا جهرًا، أو إلَّا إخفاتًا؛ لأنَّ الجهرَ والإخفاتَ صِفَتانِ للكلامِ [978] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/91)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/140، 141). .
- وقولُه: إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ يُفيدُ التَّعليلَ لِما سبَقَ، أي: ما صحَّ لأحدٍ مِن البشرِ أنْ يُكلِّمَه اللهُ إلَّا على هذه الأَوجُهِ [979] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/91)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/140، 141). .
- ومِن لطائفِ نَسْجِ هذه الآيةِ تَرْتيبُ ما دلَّ على تكليمِ اللهِ الرُّسلَ بدَلالاتٍ؛ فجيءَ بالمصدرِ أوَّلًا في قولِه: إِلَّا وَحْيًا، وجيءَ بما يُشبِهُ الجملةَ ثانيًا، وهو قولُه: مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وجيءَ بالجِملةِ الفعليَّةِ ثالثًا بقولِه: يُرْسِلَ رَسُولًا [980] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/144). .
- وكلُّ هذه الأقسامِ الثَّلاثةِ يَصْدُقُ عليها أنَّها وحْيٌ، وخُصَّ الأوَّلُ باسمِ الوحيِ هنا؛ لأنَّ ما يَقَعُ في القلبِ على سبيلِ الإلهامِ يقعُ دَفْعةً واحدةً، فكان تخصيصُ لفظِ الوحيِ به أَولى [981] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/350). .
2- قولُه تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ
- قولُه: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا عطْفٌ على جُملةِ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا ... الآيةَ [الشورى: 51] ، وهذا دليلٌ عليهم أنَّ القرآنَ أُنزِلَ مِن عِندِ اللهِ، أعقَبَ به إبطالَ شُبهتِهم الَّتي تَقدَّمَ لإبطالِها قولُه: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا الآيةَ، أي: كان وحْيُنا إليك مِثلَ كلامِنا الَّذي كلَّمْنا به مَن قبْلَك، والمقصودُ مِن هذا هو قولُه: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ [982] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/150). .
- والإشارةُ إلى سابقٍ في الكلامِ، وهو المذكورُ آنِفًا في قولِه: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا الآيةَ [الشورى: 51] ، أي: ومِثلُ الَّذي ذُكِر مِن تكليمِ اللهِ وحْيُنا إليك رُوحًا مِن أمْرِنا. ويَجوزُ أن تكونَ الإشارةُ إلى ما يأتي مِن بعدُ، وهو الإيحاءُ المأخوذُ مِن أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ، أي: مِثلَ إيحائِنا إليك أَوحَيْنا إليك، أي: لو أُريدَ تشبيهُ إيحائِنا إليك في رِفعةِ القَدرِ والهُدى، ما وُجِد له شبيهٌ إلَّا نفْسُه، على طريقةِ قولِه تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة: 143] ، والمعنى: إنَّ ما أَوحَيْنا إليك هو أعَزُّ وأشرَفُ وحيٍ بحيثُ لا يُماثِلُه غيرُه [983] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/151). .
- واختِتامُ السُّورةِ بهذه الآيةِ مع افتتاحِها بقولِه: (كَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) الآيةَ؛ فيه مُحسِّنُ رَدِّ العَجُزِ على الصَّدْرِ [984] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/152). .
- وجُملةُ مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ في مَوضعِ الحالِ مِن ضَميرِ أَوْحَيْنَا، أي: أَوحَيْنا إليك في حالِ انتفاءِ عِلمِك بالكِتابِ والإيمانِ، أي: أفَضْنا عليك مَوهبةَ الوحْيِ في حالِ خُلُوِّك عن عِلمِ الكتابِ وعِلمِ الإيمانِ، وهذا تَحَدٍّ للمُعانِدينَ؛ لِيَتأمَّلوا في حالِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فيَعلَموا أنَّ ما أُوتيَه مِن الشَّريعةِ والآدابِ الخلُقيَّةِ هو مِن مَواهبِ اللهِ تعالى الَّتي لم تَسبِقْ له مُزاوَلتُها، ويَتضمَّنُ امتِنانًا عليه وعلى أُمَّتِه المسلِمينَ [985] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/152). .
- وإدخالُ (لا) النَّافيةِ في قولِه: وَلَا الْإِيمَانُ تأْكيدٌ لِنَفْيِ دِرايتِه إيَّاه، أي: ما كنتَ تَدري الكتابَ ولا الإيمانَ؛ للتَّنصيصِ على أنَّ المنفيَّ دِرايةُ كلِّ واحدٍ منهما [986] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/153). .
- وقولُه: وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا عطْفٌ على جُملةِ مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ، وضَميرُ جَعَلْنَاهُ عائدٌ إلى الكتابِ في قولِه: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ، والتَّقديرُ: وجعَلْنا الكتابَ نورًا، وأُقحِمَ في الجُملةِ المعطوفةِ حرفُ الاستِدراكِ؛ للتَّنبيهِ على أنَّ مضمونَ هذه الجُملةِ عكْسُ مَضمونِ جُملةِ مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ، والاستِدراكُ بـ (لكنْ) ناشئٌ على ما تَضمَّنتْه جُملةُ مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ؛ لأنَّ ظاهرَ نفْيِ دِرايةِ الكتابِ أنَّ انتفاءَها مُستمرٌّ، فاستُدْرِكَ بأنَّ اللهَ هَداهُ بالكتابِ، وهَدَى به أُمَّتَه؛ فالاستدراكُ واقعٌ في المَحَزِّ [987] المَحَزُّ: مَوضِعُ الحَزِّ، أي: القَطعِ. وأصابَ المحَزَّ: عبارةٌ عن فِعلِ الأمرِ على ما يَنبَغي ويَليقُ. يُنظر: ((مختار الصحاح)) للرازي (ص: 71)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 873). ، والتَّقديرُ: ما كنتَ تَدري ما الكتابُ ولا الإيمانُ، ثمَّ هدَيْناك بالكِتابِ ابتِداءً، وعرَّفْناك به الإيمانَ، وهدَيتَ به النَّاسَ ثانيًا، فاهْتَدى به مَن شِئْنا هِدايتَه، أي: وبقِيَ على الضَّلالِ مَن لم نشَأْ له الاهتِداءَ [988] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/153، 154). .
- وفي قولِه: وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا شُبِّهَ الكِتابُ بالنُّورِ؛ لِمُناسَبةِ الهَدْيِ به؛ لأنَّ الإيمانَ والهُدى والعِلمَ تُشبَّهُ بالنُّورِ، والضَّلالَ والجَهلَ والكُفرَ تُشبَّهُ بالظُّلْمةِ، وإذا كان السَّائرُ في الطَّريقِ في ظُلمةٍ ضَلَّ عن الطَّريقِ، فإذا استنارَ له اهْتَدى إلى الطَّريقِ، فالنُّورُ وَسيلةُ الاهتِداءِ، ولكنْ إنَّما يَهتدي به مَن لا يكونُ له حائلٌ دونَ الاهتِداءِ، وإلَّا لم تَنفَعْه وَسيلةُ الاهتِداءِ؛ ولذلك قال تعالى: نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [989] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/154). .
- قولُه: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ تَقريرٌ لِهِدايتِه تعالى، وبَيانٌ لكيفيَّتِها، فلمَّا أثبَتَ الهَدْيَ إلى اللهِ، وجعَلَ الكتابَ سببًا لِتَحصيلِ الهِدايةِ، عطَفَ عليه وساطةَ الرَّسولِ في إيصالِ ذلك الهَديِ؛ تَنويهًا بشَأنِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ [990] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/38)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/154). .
- وأيضًا جُملةُ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ عطْفٌ على جُملةِ نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا، وفي الكلامِ تَعريضٌ بالمشرِكينَ؛ إذ لم يَهتَدوا به، وإذ كبُرَ عليهم ما يَدْعوهم إليه معَ أنَّه يَهديهِم إلى صِراطٍ مُستقيمٍ [991] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/154). .
- وحُذِف مَفعولُ لَتَهْدِي للعُمومِ، أي: لَتَهدي جميعَ النَّاسِ، أو هو مَحذوفٌ ثِقةً بغايةِ الظُّهورِ، أي: نَهدي به مَن نَشاءُ بدعْوتِك وواسطتِك [992] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/38)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/154، 155). .
- وتأْكيدُ الخبرِ بحَرْفِ (إنَّ)؛ للاهتِمامِ به؛ لأنَّ الخبرَ مُستعمَلٌ في تَثْبيتِ قلْبِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالشَّهادةِ له بهذا المَقامِ العظيمِ، فالخبَرُ مُستعمَلٌ في لازِمِ معناه، على أنَّه مُستعمَلٌ أيضًا للتَّعريضِ بالمُنكِرينَ لِهَدْيِه، فيَكونُ في التَّأكيدِ مُلاحَظةُ تَحقيقِه، وإبطالُ إنكارِهم [993] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/155). .
- وتَنكيرُ صِرَاطٍ للتَّعظيمِ؛ لأنَّ التَّنكيرَ أنسَبُ بمَقامِ التَّعريضِ بالَّذين لم يَأبَهوا بهِدايَتِه [994] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/155). .
- وعُدِل عن إضافةِ صِرَاطٍ إلى اسمِ الجلالةِ ابتِداءً؛ لِقَصْدِ الإجمالِ الَّذي يَعقُبُه التَّفصيلُ؛ بأنْ يُبدَلَ منه بعدَ ذلك صِرَاطِ اللَّهِ؛ لِيَتمكَّنَ بهذا الأسلوبِ المعنى المقصودُ فضْلَ تمكُّنٍ [995] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/155). .
- وإضافةُ صِرَاطٍ إلى اسمِ الجلالةِ (الله) باسمِ المَوصولِ وصِلتِه، ووَصْفُه بقولِه تعالى: الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ؛ لِتَفْخيمِ شأنِه، وتَقريرِ استقامتِه، وتأْكيدِ وُجوبِ سُلوكِه؛ فإنَّ كَونَ جميعِ ما فيهما مِن الموجوداتِ له تعالى خَلْقًا ومِلْكًا وتصرُّفًا ممَّا يُوجِبُ ذلك أتمَّ إيجابٍ. وللإيماءِ إلى أنَّ سَببَ استقامةِ الصِّراطِ الَّذي يَهْدي إليه النَّبيُّ أنَّه صِراطُ الَّذي يَملِكُ ما في السَّمواتِ وما في الأرضِ، فلا يَعزُبُ عنه شَيءٌ ممَّا يَليقُ بعِبادِه، فلمَّا أرسَلَ إليهم رسولًا بكِتابٍ لا يُرتابُ في أنَّ ما أَرسَلَ لهم فيه صلاحُهم [996] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/38)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/155). .
- وقولُه: أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ تَذييلٌ وتَنْهيةٌ للسُّورةِ بخِتامِ ما احتوَتْ عليه مِن المجادَلةِ والاحتجاجِ بكلامٍ قاطعٍ جامعٍ، مُنذِرٍ بوَعيدٍ للمُعرِضينَ فاجِعٍ، ومُبشِّرٍ بالوعدِ لكلِّ خاشعٍ، ففيه مِن الوعدِ للمُهتدينَ إلى الصِّراطِ المستقيمِ والوعيدِ للضَّالِّينَ عنه ما لا يَخْفى [997] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/38)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/155). .
- وافتُتِحَتِ الجُملةُ بحَرْفِ التَّنبيهِ أَلَا؛ لاستِرعاءِ أسماعِ النَّاسِ [998] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/155). .
- وتَقديمُ المجرورِ إِلَى اللَّهِ؛ لإفادةِ الاختِصاصِ، أي: إلى اللهِ، لا إلى غيرِه [999] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/156). .
- وأخبَرَ بالمضارعِ تَصِيرُ، والمرادُ به الدَّيمومةُ؛ كقولِه: زيدٌ يُعطي ويَمنَعُ، أي: مِن شأنِه ذلك، ولا يُرادُ به حقيقةُ المُستقبَلِ، أي: تُرَدُّ جميعُ أمورِ الخلْقِ إليه تعالى يومَ القيامةِ فيَقضي بيْنَهم بالعدلِ. وخُصَّ ذلك بيومِ القِيامةِ؛ لأنَّه لا يُمكِنُ لأحدٍ أنْ يَدَّعيَ فيه لِنَفْسِه شيئًا [1000] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/352). .
- وفي تَنْهيةِ هذِه السُّورةِ الجَليلةِ بهذه الآيةِ العَظيمةِ مُحسِّنُ حُسنِ الخِتامِ [1001] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/156). .