موسوعة التفسير

سُورةُ النِّساءِ
الآيات (171-175)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ

غريب الكلمات:

لَا تَغْلُوا: لا تُجاوزوا الحدَّ، وترتفِعوا عن الحقِّ، أو لا تَزيدوا ولا تُفرِطوا فيه، وأصل الغُلوِّ: الإفراط ومجاوزة الحدِّ، والزِّيادة يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 137)، ((المفردات)) للراغب (ص: 613)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 77)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 145)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 975). .
وَكَلِمَتُهُ: سُمِّي عيسى عليه السَّلام (كلِمة)؛ لكونه موجدًا بالكلمة (كن)؛ كما في قوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ يُنظر: ((المفردات)) للراغب (ص:722، 723)، ((الكليات)) للكفوي (1/742). [آل عمران: 59] .
أَلْقَاهَا: أمَر بها، أو أَعْلَمَ بها، وأصْلُ الإلقاء: طرْح الشيءِ حيث تَلْقاه يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/260)، ((المفردات)) للراغب (ص: 745)، ((تفسير القرطبي)) (6/22)، ((تفسير ابن كثير)) (2/425). .
يَسْتَنْكِفَ: يَأنَف، مِن: نكف الدَّمعَ، إذا مَسَحه عن خدِّه بإصبعيه أنفةً من أن يُرى أثَرُ البكاء عليه، وأصلُ نكف: يدلُّ على قطْعِ شيءٍ وتنحيتِه يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 137)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 506)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/478)، ((المفردات)) للراغب (ص: 824)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 77)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 145)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 991). .
فَسَيَحْشُرُهُمْ: يَبعثُهم ويَجمُعهم، والحشر: إخراجُ الجماعة عن مقرِّهم وإزعاجهم عنه إلى الحربِ ونحوها، وأصلُ (حشر): السَّوْق، والبَعْث والانبعاث يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/66)، ((المفردات)) للراغب (ص: 237)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 412). .
وَلِيًّا: أصْل (ولي) يدلُّ على القُرْب، سواء من حيث: المكان، أو النِّسبة، أو الدِّين، أو الصَّداقة، أو النُّصرة، أو الاعتقاد، وكلُّ مَن وَلِي أمرَ آخَرَ فهو وَلِيُّه يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/141)، ((المفردات)) للراغب (ص: 885)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 89). .
نَصِيرًا: ناصرًا، وعونًا، وأصل نصر: يدلُّ على إتيان خيرٍ، وإيتائِه يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 52، 295)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/435)، ((المفردات)) للراغب (ص: 808)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 207). .
بُرْهَانٌ: حُجَّةٌ ودَلالةٌ واضحة، وأصله: وضوحُ الشَّيء يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/285)، ((المفردات)) للراغب (ص: 485)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 55). .
وَاعْتَصَمُوا: استَمسَكوا وامتنعوا به، وأصلُ العِصمة: المنْع- ومنه يُقال: عَصَمَه الطَّعامُ؛ أي: مَنعَه من الجوع-، والإمساك، والملازمة يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (1 /108)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (1 /504)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4 /331)، ((المفردات)) للراغب (ص: 570)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 77)، ((التبيان)) لابن الهائم (1 /127). .
وَفَضْلٍ: أي: عطاءٍ زائِد؛ فأصلُ الفضل الزِّيادة، وكلُّ عَطيَّة لا تلزم مَن يُعطي، يُقال لها: فضل، والإفضال: الإحسان يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 19)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/508)، ((المفردات)) للراغب (ص: 639)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 72). .

مشكل الإعراب:

قوله: وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَة:
ثَلَاثَة: خبر مبتدأ محذوف، والجملة من هذا المبتدأ والخبر في محل نصب بالقول أي: ولا تقولوا: «آلهتنا ثلاثةٌ» يدلُّ عليه قوله بعد ذلك: إِنَّمَا الله إله وَاحِدٌ وقيل: تقديره: الأقانيمُ ثلاثة أو المعبود ثلاثة، وقيل: تقديره: الله ثالث ثلاثة، ثم حُذف المضاف وأقيم المضافُ إليه مُقامه، موافقةَ قوله: لَقَدْ كَفَرَ الذين قالوا إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (1/214)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (1/412)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (4/166-167)، ((إعراب القرآن الكريم)) للدعاس (1/238). [المائدة: 73] .
قوله: انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ [2779] الكلامُ في إعرابِ هذه الآيةِ مِثل الكلام في إعرابِ قوله تعالى: فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وقد تقدَّم. :
خَيْرًا مَنصوبٌ على أنَّه خبَرُ (كان) مَحذوفةٍ مع اسمِها، والتقديرُ: انْتَهُوا يَكُنِ الانتهاءُ خيرًا. أو منصوبٌ بفِعلٍ مَحذوفٍ واجبِ الإِضمارِ، تقديرُه: انتُهوا وأتُوا خيرًا لكم؛ وقيل غير ذلِك [2780] يُنظر: ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (1/214)، ((تفسير الزمخشري)) (1/593)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (1/411)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (4/164-165)، ((تفسير ابن عاشور)) (6/49- 50، 58). .

المعنى الإجمالي:

يُوجِّه الله تعالى الخِطاب إلى أهل الكتاب بأنْ لَا يُجاوزوا الحقَّ في الدِّين، وينهاهم عن الافتراء عليه سبحانه، ثم يرد على النصارى الذي غلوا في عيسى عليه السلام فزعموا أنه ابن الله، مقررا أنَّ المسيح عيسى بن مريم رسولٌ من رسل الله، خَلَقه بكلمتِه التي أوصلها إلى مريمَ، وروح من الأرواح التي خلقها الله، وليس ابنًا له، كما يعتقدون؛ ثم وجههم إلى الإيمان به سبحانه وبجميعِ رُسله، ونهاهم أن يقولوا: إنَّ الآلهة ثلاثة، وأمرهم بالانتهاء عن هذه المقولةِ الشَّنيعة، والاعتقادِ الكُفري، فإن انتهاءهم عن ذلك خيرٌ لهم فالله تعالى ليس ثالث ثلاثة إنما هو المنفردُ بالألوهيَّة، ولا تَنبغي العبادةُ إلَّا له، تنزَّه أن يكون له ولد؛ فإنَّ جميع مَن في السموات والأرض خَلْقُه وعبيده؛ فكيف يكون له منهم زوجةٌ أو ولد؟! وكفَى به سبحانه وتعالى وكيلًا فلا يحتاج إلى ابن يساعده، أو يعينه في حفظ الملك. .
ثم بيَّن تعالى أنَّ عيسى بن مريم عليه السلام لن يأنفَ أن يكون عبدًا لله، ولا الملائكةُ المقرَّبون يأنفون من ذلك، ومَن يأنفْ من عِبادة الله ويمتنع عنها ، فإنَّ الله سيحشرهم جميعًا إليه، وسيُعاملهم بما يستحقُّونه؛ فأمَّا مَن آمن وعَمِل الصالحاتِ، فسيؤتيهم اللهُ ثوابَ أعمالهم وافيًا، ويَزيدُهم من فضله الواسع، وأمَّا مَن أَنِف وامتنع وتكبَّر، فسيُعذِّبه الله عذابًا موجعًا، ولن يجدَ مَن يتولَّاه، أو ينصره من دون الله.
ثم وجَّه الله تعالى الخطابَ للناس كافَّةً، أنَّه قد جاءهم منه حُججٌ وأدلَّة قاطِعة تُبيِّن الحقَّ من الباطل، وأنزل إليهم القرآن، نورًا واضحًا يَهتدون به؛ فأمَّا المؤمنون بالله تعالى، والمعتمدون عليه في كلِّ شؤونهم، فسيُدخلهم الله تعالى في رحمته، ويَزيدُهم من فضله الواسع، وسيدلُّهم ويُوفِّقهم لسلوك الطَّريق القويم الموصل إلى مَرْضاته.

تفسير الآيات:

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا (171)
مُناسبةُ الآية لِمَا قَبلَها:
لمَّا دحض الله تعالى شُبهات اليهود وأقام الحُجَّة عليهم، وقدْ غلَوا في تحقير عيسى وإهانته، والكُفرِ به، ففرَّطوا كلَّ التفريط- قفَّى بدَحْض شُبهات النصارى الذين غلَوا في تعظيمه وتقديسه، فأَفرطوا كلَّ الإفراط يُنظر: ((تفسير المنار)) (6/67). ، فقال عزَّ مِن قائل:
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ
أي: يا أهلَ الإنجيل من النَّصارى لا تتجاوزوا الحقِّ في دِينكم فتُفْرِطُوا فيه؛ فإنَّهم قد تجاوزوا حدَّ التصديق بعيسى عليه السَّلام، حتى رفَعوه عن مقام النبوَّة والرِّسالة إلى مقام الربوبيَّة، الذي لا يَليقُ بغير الله عزَّ وجلَّ يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/700)، ((تفسير ابن كثير)) (2/477)، ((تفسير السعدي)) (ص: 216)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/506). .
وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ
أي: لا تَفتروا على اللهِ عزَّ وجلَّ بأنْ تَجعلوا له صاحبةً وولدًا يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/700)، ((تفسير ابن كثير)) (2/477)، ((تفسير السعدي)) (ص: 216)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/506). .
قال تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة: 31] .
إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ
أي: ما المسيحُ- أيُّها النصارى الغالُون في دِينهم- ابنٌ لله تعالى كما تَزْعُمون, ولكنَّه عيسى ابنُ مريم, لا نَسبَ له غير ذلك، فهو عبدٌ من عباد الله تعالى، وخَلْقٌ من خلْقه، ورسولٌ من رُسله يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/701)، ((تفسير ابن كثير)) (2/477)، ((تفسير السعدي)) (ص: 216)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/507-508). .
كما قال الله تعالى: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَام [المائدة: 75] .
وعن عُمرَ رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، قال: ((لا تُطْروني لا تُطرُونِي: أي: لا تُجاوزا الحدَّ في مَدْحي، ولا تكذبوا فيه. ينظر: ((النهاية)) لابن الأثير (3/123)، ((لسان العرب)) لابن منظور (15/6). ، كما أطْرَتِ النَّصارى ابنَ مريمَ، فإنما أنا عبدُه، فقولوا: عبدُ اللهِ ورسولُه )) رواه البخاري (3445). .
عن أنسِ بنِ مالكٍ، أنَّ رجلًا قالَ: يا مُحمَّدُ، يا سيِّدَنا وابنَ سيِّدِنا، وخَيرَنا وابنَ خيرِنا، فَقالَ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ: ((يا أيُّها الناسُ، عليكُم بقولِكُم، ولا يَستَهْوينَّكمُ يَستَهْوينَّكمُ الشَّيطانُ: يَذهبنَّ بهواكِم وعُقولِكم، أو يُحيِّرنَّكم، أو يُزيِّنن لكم هَواه فيُغويكم ويُضلِّكم. ينظر: ((تاج العروس)) للزبيدي (40/329). الشَّيطانُ، أَنا مُحمَّدُ بنُ عبدِ الله، عبدُ اللهِ ورسولُه، واللهِ ما أُحبُّ أنْ ترفعوني فوقَ منزلَتي الَّتي أَنزلَني اللهُ عزَّ وجلَّ )) رواه أحمد (12573)، وعبد بن حميد في ((المنتخب)) (1309)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (10006)، وابن حبان (6240) من حديث أنس بن مالك. صحح إسناده على شرط مسلم، ابن عبد الهادي في ((الصارم المنكي)) (459)، وصحح إسناده أحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/611)، وصحح الحديث الألباني في ((غاية المرام)) (127)، والوادعي في ((الصحيح المسند)) (132). .
وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ
أي: خَلَقه بالكلمة التي أُرسل بها جبريلُ عليه السَّلام إلى مريم يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/477)، ((تفسير السعدي)) (ص: 216)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/508). .
كما قال تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران: 59] .
وَرُوحٌ مِنْهُ
أي: إنَّ عيسى عليه السَّلام رُوحٌ مِن خَلْق الله سبحانه؛ فقد أَرسل اللهُ تعالى جبريلَ عليه السَّلام، فنَفَخ في فَرْج مريمَ عليها السَّلام، فحمَلتْ بإذن الله عزَّ وجلَّ يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/478-479)، ((تفسير السعدي)) (ص: 216)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/508-509). .
كما قال تعالى: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء: 91] .
وقال سبحانه: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ [التحريم: 12] .
عن عُبادَةَ بنِ الصَّامت رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: ((مَن شَهِدَ أنْ لا إله إلَّا اللهُ وحْدَه لا شريكَ له، وأنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، وأنَّ عيسى عبدُ اللهِ ورسولُه، وكلمتُه ألقاها إلى مريمَ ورُوحٌ منه، والجَنَّةَ حقٌّ، والنَّارَ حقٌّ، أَدْخَله اللهُ الجنةَ على ما كان من العملِ )) رواه البخاري (3435) واللفظ له، ومسلم (28). .
وفي روايةٍ: ((أدخله اللهُ مِن أيِّ أبوابِ الجنَّةِ الثَّمانيةِ شاء )) رواه البخاري (3435)، ومسلم (28) واللفظ له. .
فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ
أي: فآمِنوا بالله تعالى الواحدِ الأحد، الذي لا صاحبةَ له ولا ولدَ، وآمِنوا برُسله وبما جاؤوكم به من عند الله عزَّ وجلَّ يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/706)، ((تفسير ابن كثير)) (2/479)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/510). .
وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ
أي: ولا تقولوا: الأرباب ثلاثة، فتجعلوا عيسى وأمَّه شَريكينِ لله سبحانه وتعالى يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/706)، ((تفسير ابن كثير)) (2/479)، ((تفسير السعدي)) (ص: 216). .
كما قال تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ الآية [المائدة: 17، 72].
وقال عزَّ وجلَّ: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ [المائدة: 73].
وقال سبحانه: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ الآية [المائدة: 116] .
انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ
أي: انتَهوا عن قولِ ذلِك واعتقادِه، فإنَّ الانتهاء عن ذلك خيرٌ لكم يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/706)، ((تفسير ابن كثير)) (2/479)، ((تفسير السعدي)) (ص: 216)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/511). .
إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ
أي: ما الله سبحانه بثالثِ ثلاثةٍ، ولكن الله تعالى هو المنفردُ بالألوهيَّة، الذي لا تَنبغي العبادةُ إلَّا له؛ فلا ولدَ له, ولا والدَ, ولا صاحبةَ له, ولا شريكَ يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/707)، ((تفسير السعدي)) (ص: 216)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/511). .
سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ
أي: تنزَّه وتقدَّس الرَّبُّ عزَّ وجلَّ عن أن يكونَ له ولدٌ يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/707)، ((تفسير السعدي)) (ص: 216)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/511-512). .
لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
أي: إنَّ جميعَ ما في السَّموات وجميعَ ما في الأرض مُلكه وخَلقُه وعَبيدُه؛ فكيف يكون له منهم صاحبةٌ أو ولد؟! يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/707)، ((تفسير ابن كثير)) (2/480)، ((تفسير السعدي)) (ص: 216)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/512). .
كما قال سبحانه: بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الأنعام: 101] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [مريم: 88 - 95] .
وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا
أي: وحسْبُ الخلق كلِّهم اللهُ تعالى وحده، فهو القائمُ بشؤون كلِّ شيء، والحافظ لكلِّ شيء والمدبِّر له، فلا يُحتاج معه إلى غيرِه سبحانه من ولدٍ، أو صاحبةٍ، أو غيرهما يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/707)، ((تفسير السعدي)) (ص: 216)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/512، 518). .
لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172)
مُناسبةُ الآية لِمَا قَبلَها
لَمَّا ذَكَر تعالى غلوَّ النصارى في عيسى عليه السَّلام، وذكَر أنَّه عبدُه ورسولُه، ذكر هنا أنَّه لا يستنكفُ عن عبادة ربِّه، لا هو وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ فنزَّههم عن الاستنكافِ، ونفْيُ الشَّيءِ فيه إثباتُ ضدِّه يُنظر: ((تفسير السعدي-سورة النساء)) (ص: 216). فقال:
لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلهِ
أي: لن يأنفَ ويمتنعَ عيسى عليه السَّلام عن عبادة ربِّه عزَّ وجلَّ يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/708)، ((تفسير ابن كثير)) (2/480)، ((تفسير السعدي)) (ص: 216)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/519). .
وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
أي: ولن يأنفَ ويمتنع أيضًا من الإقرارِ لله تعالى بالعبوديَّة له وحده، ملائكتُه المقرَّبون يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/708)، ((تفسير السعدي)) (ص: 216-217)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/520). قال ابنُ عُثَيمين: (قوله: الْمُقَرَّبُونَ هل هي صفةٌ كاشفة أو صِفة قَيْد؟ الجواب: يحتمل أن تكون صِفة كاشفة؛ لأنَّ الملائكة مقرَّبون إلى الله عزَّ وجلَّ، ويحتمل أن تكونَ قيدًا، وعلى هذا الاحتمال يكون الملائكةُ فيهم المقرَّبون، وفيهم مَن ليس بمقرب. فالله أعلم) ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/520). .
وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ
أي: ومَن يأنفْ ويمتنعْ عن عِبادة ربِّه، ويَترفَّعْ عنها ويتعالَ عليها يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/708-709)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/520-521). .
فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا
أي: فسيبعثُ الله سبحانه يومَ القيامة المستنكفين والمستكبرين عن عِبادته, فيجمعهم جَمِيعًا عنده، فيفصل بينهم بحُكمه العَدْل يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/709)، ((تفسير ابن كثير)) (2/480)، ((تفسير السعدي)) (ص: 217)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/521-523). .
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
أي: فأمَّا الذين جمَعوا بين الإيمان المأمور به وعَملِ الأعمال الصالحات من واجباتٍ ومُستحبَّات يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/709)، ((تفسير السعدي)) (ص: 217). .
فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ
أي: فيؤتيهم من الثَّواب على قدْرِ إيمانهم وأعمالهم الصَّالحة، جزاءً وافيًا كاملًا يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/709)، ((تفسير ابن كثير)) (2/480)، ((تفسير السعدي)) (ص: 217)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/525). .
وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ
أي: ويَزيدهم على ما لهم من الأجور والثَّواب في الدُّنيا والآخِرة، زيادةً من فضله وإحسانِه، وسَعَةِ كرَمه ورحمتِه سبحانه يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/709-710)، ((تفسير ابن كثير)) (2/480)، ((تفسير السعدي)) (ص: 217)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/525). .
وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا
أي: وأمَّا الذين أنِفوا وامتنعوا عن عبادةِ الله تعالى، وترفَّعوا عنها، وتعالَوْا عليها يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/710)، ((تفسير ابن كثير)) (2/481)، ((تفسير السعدي)) (ص: 217)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/525). .
فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا
أي: فسيُعذِّبهم الله تعالى عذابًا موجِعًا لهم يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/710)، ((تفسير ابن كثير)) (2/481)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/525). .
كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر: 60] .
وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا
أي: ولا يَجِدون أحدًا من الخَلْق يتولَّاهم فيحصُل لهم ما يَطلُبون، ولا مَن يَنصرُهم فيدفعُ عنهم ما يَحذرون يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/710)، ((تفسير السعدي)) (ص: 217). .
يَا أيُّها الناسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174)
مُناسبةُ الآية لِمَا قَبلَها:
لَمَّا أنْ أزاح الله تعالى شُبهَ جميع المخالفين من سائر الفِرَق: اليهود، والنصارى، والمنافقين، وأقام الحُجَّة عليهم، وأقام الأدلَّةَ القاطعة على حَشْر جميع المخلوقات، فثَبَتَ أنَّهم كلَّهم عبيدُه؛ عمَّ في الإرشاد لطفًا منه بهم يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (5/526). ، فقال:
يَا أيُّها الناسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ
أي: يا أيُّها الناسُ قد جاءتْكم من الله تعالى حُججٌ قاطعةٌ للعُذر، وأدلَّةٌ واضحةٌ مزيلة للشُّبهات، تُبيِّن الحقَّ وضدَّه يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/711)، ((تفسير ابن كثير)) (2/481)، ((تفسير السعدي)) (ص: 217)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/528). .
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا
أي: وأنزلْنا إليكم ضياءً واضحًا، هو القرآن الذي أنزله اللهُ تعالى على محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، يُبيِّن لكم طريقَ الحقِّ الهادي إلى ما فيه الفوزُ الأبديُّ لكم، والنجاةُ من عذاب الله تعالى إنْ سلكتموها، واستنرتم بضَوئِه يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/711)، ((تفسير ابن كثير)) (2/481)، ((تفسير السعدي)) (ص: 217)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/529). .
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ
أي: فأمَّا المؤمنون بالله تعالى، المعتمدون عليه في جميعِ أمورِهم يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/481)، ((تفسير السعدي)) (ص: 217)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/532). .
فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ
أي: فسيتغمَّدهم الله تعالى برحمةٍ خاصَّة، فيُوفِّقهم للخيرات، ويَجزل لهم المثوبات، ويَدفع عنهم المكروهات، ويُدخلهم الجَنَّة، ويَزيدهم ثوابًا، ورَفعًا في درجاتهم، من فَضْله عليهم، وإحسانه سبحانه إليهم يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/712-713)، ((تفسير ابن كثير)) (2/481)، ((تفسير السعدي)) (ص: 217)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/532-533). .
وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا
أي: يُوفِّقهم ويُسدِّدهم لسلوك طريق مَن أنعم الله تعالى عليه من أهل طاعتِه, ولاقتفاء آثارِهم, واتِّباع دِينهم، فيوفِّقهم للعِلم النَّافع، والعمل الصالح يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/713)، ((تفسير ابن كثير)) (2/481)، ((تفسير السعدي)) (ص: 217)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/533). .

الفوائِد التربويَّة :

1- أنَّه لا يجوزُ لنا أن نغلوَ في دِيننا، سواء ما يتعلَّق برسولنا صلَّى الله عليه وسلَّمَ، أو بأعمالنا، يُرشدنا إلى ذلك قوله تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ، وعلى هذا: فمَن أحبَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ أكثرَ من محبَّةِ الله، فهو غالٍ فيه عليه الصلاة والسَّلام، ومَن نَزَّله منزلةَ الربِّ، وزعم أنَّه يتصرَّف في الكون، فهو غالٍ فيه، ومَن زعَم أنَّ غيره ممَّن هو دونه يتصرَّف في الكون، فهو غالٍ فيه، فالغلوُّ هو مجاوزة الحد في كل شيء يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/513). وينظر:((نظم الدرر)) للبقاعي (5/519)، ((تفسير ابن عاشور)) (6/50). .
2- في قوله تعالى: وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا ما يُوجب للإنسان صِدقَ الاعتماد على الله عزَّ وجلَّ، وأن يعتمدَ على الله وحده؛ لقوله تعالى: وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا، فاجعل اعتمادَك على الله؛ فإنَّه كافيك، ولو أنَّنا صَدَقْنا في ذلك لكانَ اللهُ حَسْبَنا، ومَن كان الله حسْبَه، فقد تمَّ له أمرُه يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/518). .
3- الترهيب من الكِبر؛ يُرشد إلى ذلك قولُ الله تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا، أي: مؤلِمًا، بما وجَدوا من لذاذة الترفُّع والتكبُّر يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (5/525)، ((تفسير الشربيني)) (2/1). .
4- أنَّ مَن آمَن واعتَصَم بالله، فإنَّه سوف ينالُ الرحمةَ العاجلةَ والآجلة؛ لقوله: فَسَيُدْخِلُهُمْ، والسِّين تدلُّ على القُرب، وأنعمُ الناس بالًا، وأشدُّهم انشراحًا في الصُّدور هم المؤمنون المعتصِمون بالله يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/533). .
5- في قوله: مِن رَّبِّكُمْ ما يدلُّ على شرف هذا البُرهان وعظمته، حيث كان من رَبِّكُمْ الذي ربَّاكم التربيةَ الدِّينيَّة والدنيويَّة، فمِن تربيته لكم التي يُحمد عليها ويُشكر، أن أوصلَ إليكم البيِّنات؛ ليهديَكم بها إلى الصِّراط المستقيم، والوصول إلى جنَّات النَّعيم يُنظر: ((تفسير السعدي-سورة النساء)) (ص: 217). .

الفوائِد العِلميَّة واللَّطائف:

1- النَّهي عن الغلوِّ في الدِّين؛ لقوله تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ، وإذا نهى الله أُمَّةً عن شيءٍ، وقصَّه علينا فهو عِبرةٌ لنا يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/512). .
2- إثبات رِسالة عيسى ابن مريم، وبيان أنَّه لا يستحقُّ من أمر الربوبية شيئًا، وتُؤخَذ من قوله: رَسُولُ اللهِ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/513، 516). .
3- إطلاق السَّبب على مُسبَّبه، لقوله: وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ؛ فإنَّ عيسى ليس هو الكلمة نفْسَها، لكنَّه خُلِق بالكلمة، فأُطلق السبب وأُريد المسبَّب يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/516). .
4- أنَّ عيسى عليه الصلاة والسَّلام مِن أشرف عباد الله وأكرمهم عليه؛ لأنَّه أضافه إلى نفْسه، فقال: وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ، والإضافة للتخصيص والتَّكريم يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/516). .
5- قوله: فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ: أُمِروا بالإيمان بالله مع كونِهم مؤمنين به؛ لأنَّهم لَمَّا وصفوا الله بما لا يَليق فقد أَفسدوا الإيمان، وليكون الأمرُ بالإيمان بالله تمهيدًا للأمر بالإيمان برسله، وهو المقصود يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (6/54). .
6- قول الله تعالى: وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا (ثلاثة) خبر مبتدأ محذوف، وحُذِف؛ ليصلح لكلِّ ما يصلح تقديرُه من مذاهب النصارى من التثليث؛ فإنَّ النصارى اضطربوا في حقيقة تثليث الإله يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (6/59). .
7- الاستطراد بذِكر ما يُشارك الشيءَ وإن لم يكُن له ذِكر؛ لقوله: وَلاَ الْمَلاَئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ؛ فإنَّها ذُكرت إلى جانب المسيح؛ لأنَّ مِن الناس مَن يَعبُد الملائكة، ويدَّعي أنهم بناتُ الله يُنظر: ((الفروق اللغوية)) للعسكري (ص: 248)، ((تفسير ابن عاشور)) (6/59)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/524). .
8- قال تعالى: وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ الاستنكاف غيرُ الاستكبار، فالاستنكافُ بالقلب؛ بأنْ يكونَ الإنسان عنده أنفةٌ وكبرياء قلبيَّة عن عبادة الله، والاستكبار أن يدَعَ العبادة ويستكبر عنها، ويحتقرَها، ويحتقرَ الرسول؛ كقولهم: أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولًا يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/524). [الفرقان: 41] .
9- الردُّ على الجبريَّة؛ يُؤخذ من قوله: وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فأضاف العملَ إليهم، والجبريَّة يقولون: إنَّ الإنسان لا يَعمل، ولا يُضاف العملُ إليه إلا مجازًا، وأنَّ عمله ليس باختياره ولا بقَصدِه يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/527). .
10- في قوله تعالى فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ بيان مِنَّة الله عزَّ وجلَّ؛ حيث سمَّى الثواب أجرًا، كأنَّه استأجر أجراءَ يعملون فيأجرهم، مع أنَّ فائدة العمل للعامل نفْسِه، بينما الأُجراء في غير المعاملة مع الله يكون العملُ لِمَن دفَع الأجرة، أمَّا هذا فالعمل للإنسان، ومع ذلك يَأجُره الله عزَّ وجلَّ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/527). .
11- أنَّ ثواب الأعمال الصالحة يَزيد على ما قدَّره الله تعالى مِنْ أنَّ الحسنةَ بعشْر أمثالها، لقوله: وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/527). .
12- أنَّ القرآن الكريم نازلٌ لجميع الخلق؛ لقوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ، ويترتَّب على هذا عمومُ رسالة النبي صلَّى الله عليه وسلَّمَ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/529). .
13- أنَّ القرآن الكريم فيه بيانٌ لكلِّ شيء؛ لأنَّ النور لا بدَّ أن تستبينَ به كلُّ الأشياء؛ كالنَّهار إذا طلَع بانتْ به الأشياء، وكالحُجرة إذا أسرجتها فلا بدَّ أن يَبينَ منها ما كان خافيًا، فالقرآن تبيانٌ لكلِّ شيء؛ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/530). .
14- قول الله تعالى: فَسَيُدْخِلُهُم لعلَّ السِّين ذُكرت؛ لتفيدَ مع تحقيق الوعد الحثَّ على المثابرة والمداومة على العمل؛ إشارةً إلى عِزَّة ما عنده تعالى يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (5/528). .
15- أنَّ الرحمة تُطلق صفةً من صفات الله، وتُطلق على ما كان من آثارها، وهذه الآية من إطلاق آثارِ الصِّفة؛ لأنَّه قال: فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/534). .

بلاغة الآيات:

1- قوله: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ فيه: تجريدٌ للخطاب، وتخصيص له بالنصارى؛ زجرًا لهم عمَّا هم عليه من الكفر والضلال يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/259). ، وخوطبوا بعنوان أهل الكتاب تعريضًا بأنهم خالفوا كتابهم يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) ( 6/50). .
2- قوله: لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ: فيه عطفُ الخاص وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ - على العامِّ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ؛ للاهتمام بالنَّهي عن الافتراءِ الشَّنيع يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (6/51). .
3- قوله: إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ:
- هي جملة مبيِّنة للحدِّ الذي كان الغلوُّ عنده؛ فإنَّه مُجمَل، ومبيِّنة للمراد من قول الحقِّ، ولكونِها تتنزَّل من التي قبلها منزلةَ البيان فُصِلت عنها من غير عطفٍ بالواو يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (6/51-52). ، وأيضًا هي جملة مستأنفة؛ مسوقة لتعليل النَّهي عن القول الباطل المستلزم للأمْر بضدِّه وهو الحق، أي: إنَّه مقصورٌ على رُتبة الرِّسالة لا يتخطَّاها يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/259). .
- وفيه قصرُ موصوفٍ على صفة، حيثُ قصر المسيحَ على صِفات ثلاث: صفة الرسالة، وصفة كونه كلمةَ الله أُلقيت إلى مريم، وصفة كونه رُوحًا من عند الله؛ والقصد من هذا القصر إبطالُ ما أحدثه غلوُّهم في هذه الصفات غلوًّا أخرجها عن كُنهها؛ فإنَّ هذه الصفاتِ ثابتةٌ لعيسى، وهم مُثبِتون لها فلا يُنكَر عليهم وصفُ عيسى بها؛ فأفاد القصرُ أنَّ عيسى مقصورٌ على صفة الرِّسالة، والكلمة، والرُّوح، لا يتجاوز ذلك إلى ما يُزاد على تلك الصِّفات من كون المسيح ابنًا لله، واتِّحاد الإلهية به، وكون مريمَ صاحبةً يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (6/51-52). .
- وقوله: رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ فيه: تقديمُ كونه عليه السَّلام رسولَ الله في الذِّكر مع تأخُّره عن كونه كلمته تعالى، ورُوحًا منه في الوجود؛ لتحقيقِ الحقِّ من أوَّل الأمر بما هو نصٌّ فيه غير محتمل للتأويل، وتعيين مآل ما يَحتمِله، وسدِّ باب التأويل الزائغ يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/260). .
4- قوله: فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ: فيه احتراسٌ؛ حيث أُريد بالرُّسل: جميعهم، أي: لا تكفروا بواحد من رسله، وهذا بمنزلة الاحتراس عن أن يتوهَّم متوهِّمون أن يُعرضوا عن الإيمان برسالة عيسى عليه السَّلام مبالغةً في نفْي الإلهية عنه يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (6/54). .
5- قوله: إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ: فيه حصْر بـ(إنَّما)؛ للدلالة على انفرادِ الله تعالى بالألوهيَّة، وأنَّ الله تعالى هو الإلهُ وحْدَه، وقوله: وَاحِدٌ زيادة تأكيد لذلك الحصرِ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/517). .
6- قوله: لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ فيه تقديم ما حقُّه التأخير لَهُ؛ لإفادة الحصر في انفراد الله تعالى وحده بالمُلك يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/518). .
7- قوله: لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أنْ يَكونَ عَبْدًا للهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ:
- جملة استئنافية، مقرِّرة لِمَا سبق من التنزيه يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/260). .
- وفي قوله: عَبْدًا لِلَّهِ أظهرَ الحرفَ الذي تُقدَّر الإضافة عليه وهو (اللام) في قوله: لِلهِ؛ لأنَّ التنكيرَ هنا أظهرُ في العبوديَّة، أي: عبدًا من جُملة العبيد، ولو قال: (عبد الله) لأوهمتِ الإضافة أنَّه العبدُ الخِصِّيص (الأخصُّ مِن الخاصِّ)، أو أنَّ ذلك عَلَم له يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (6/54). .
وقوله: وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ فيه: إيجاز بالحذف، حيث إنَّ المراد: (ولا الملائكة المقربون أن يكونوا عبيدًا لله) يُنظر: ((تفسير الرازي)) (11/273)، ((تفسير الزمخشري)) (1/597). .
وفيه: تخصيصُ المقرَّبين لكونِهم أرفعَ الملائكة درجةً، وأعلاهم منزلةً يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/596)، ((تفسير أبي حيان)) (4/146). وهذا على القول بأنَّ قوله: المُقرَّبُونَ صفة مقيِّدة للملائكة، وليستْ صفة كاشفة لهم كلِّهم. .
8- قوله: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ... وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا... فيه: بيان لحال الفريق المطويِّ ذِكرُه في الإجمال (وهو الفريق الذي لم يستنكف)، قُدِّم على بيان حال ما يُقابله؛ إبانةً لفضله، ومسارعةً إلى بيان كون حشْرِه أيضًا معتبرًا في الإجمال، وإيرادُه بعنوان الإيمان والعمل الصالح لا بوصف عدم الاستنكاف المناسِب لِما قبله وما بعده؛ للتنبيه على أنه المستتبع لِمَا يعقبه من الثمرات يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/262). . وتقديم ثواب المؤمنين على عِقاب المستنكفين؛ لأنَّهم إذا رأوا أولًا ثواب المطيعين، ثم شاهدوا بَعدَه عقاب أنفسهم، كان ذلك أعظم في الحسرة يُنظر: ((تفسير الرازي)) (11/274)، ((تفسير أبي حيان)) (4/148). .
9- قوله تعالى: وَاعْتَصَمُوا بِهِ جاء بصيغة الافتعال؛ للدَّلالةِ على الاجتهاد في ذلك؛ لأنَّ النفس داعيةٌ إلى الإهمال المنتِج للضلال يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (5/527). .
10- قوله: فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا فيه: تقديم ذِكر الوعدِ بإدخال الجَنَّةِ على الوعدِ بالهدايةِ إليه على خِلاف الترتيب في الوجودِ بين الموعودين؛ للمسارعةِ إلى التبشير بما هو المقصدُ الأصليُّ قبلُ يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/263). .