موسوعة التفسير

سُورةُ الأنعامِ
الآيات (100-103)

ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ

غريب الكلمات :

وَخَرَقُوا: أي: افْتَعلوا ذلِك، واخْتَلَقوه كَذِبًا، أو: فَعَلوا مَرَّةً بعدَ أُخرى، أو: حَكَموا بذلك على سبيلِ الخَرقِ، وأصلُ (خرق): مَزْقُ الشَّيءِ، وقَطْعُه على سبيلِ الفَسادِ مِن غير تدبُّرٍ ولا تَفكُّرٍ [1597] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 157)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 207)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/172)، ((المفردات)) للراغب (ص: 279-280)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 100)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 161). .
بَدِيعُ: أي: مُبدِعُ ومبتدِئُ، وأصلُه: ابتداءُ الشَّيءِ، وصُنعُه لا عن مِثالٍ سابقٍ [1598] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 17)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 117)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/209)، ((المفردات)) للراغب (ص: 111)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 22)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 105). .
اللَّطِيفُ: أي: العالِمُ بدقائقِ الأمورِ، أو الرفيقُ بالعبادِ في هدايتهم، واللُّطْف: الرِّفْق في العمل؛ يقال: هو لطيفٌ بعبادِه، أي رؤوفٌ رفيقٌ، وأصل (لطف): يدلُّ على رِفْقٍ، وعلى صِغَرٍ في الشَّيء [1599] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/250)، ((المفردات)) للراغب (ص: 740). .

مشكل الإعراب :

قوله تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ
وَجَعَلُوا: بمعنى صيَّروا، ومفعولها الأوَّل: الْجِنَّ، والثاني: شُرَكَاءَ وقُدِّمَ، ولِلَّهِ متعلِّق بـشُرَكَاءَ، ويجوز أنْ يكونَ المفعولُ الأوَّل شُرَكَاءَ، والْجِنَّ بدلًا منه، ولِلَّهِ متعلِّقًا بمحذوفٍ على أنَّه المفعولُ الثاني.
وَخَلَقَهُم: حالٌ مِن فاعلِ جَعَلُوا، أي: وقد خَلَقَهُم. وقيل: هو مستأنفٌ [1600] يُنظر: ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (1/526)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (5/83-86). .

المعنى الإجمالي :

يخبِرُ تعالى أنَّ المُشركينَ جعلوا الجِنَّ شُركاءَ لله في العبادَةِ، وهو سبحانه الذي خلق الجِنَّ، فأَوْلَى بهؤلاء المشركينَ أنْ يعبدوا الخالِقَ، وأخبَرَ أنَّهم اختَلَقوا له سبحانه- كذِبًا- بنينَ وبناتٍ بغيرِ دليلٍ؛ جهلًا به وبِعَظَمَتِه؛ تنَزَّه وتعالى عمَّا يَصِفُه هؤلاء المُشركونَ.
هو خالِقُ السَّمواتِ والأَرْضِ ومُحْدِثُهما على غيرِ مثالٍ سابقٍ؛ فكيف يكونُ له ولدٌ سبحانه، وليس له زوجةٌ، وهو الذي خَلَقَ كُلَّ شيءٍ؛ فهو الغَنِيُّ عن كلِّ مخلوقاتِه، وهي كلُّها فقيرةٌ إليه، وهو سبحانه بكلِّ شيءٍ عالِمٌ، لا يخفى عليه شيءٌ.
ذلكم هو الله المستحِقُّ وَحْدَه للعبادَةِ، ربُّ كلِّ العباد، لا إلهَ إلَّا هو، خالِقُ كلِّ شيءٍ؛ فلْيَعبُدْه كلُّ البَشَرِ، ولْيُقِرُّوا بوحدانِيَّتِه، وهو على كل شيءٍ وكيلٌ.
لا تُحيطُ به سبحانه الأبصارُ، وهو قد أحاط عِلْمُه وسَمْعُه وبَصَرُه بكلِّ شيءٍ، وهو اللَّطيفُ الخبيرُ.

تفسير الآيات :

وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100).
مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:
لَمَّا نَبَّهَ الله تعالى على أنَّ الذي يُدْرِك هذه الآياتِ المؤمنونَ بها، بخلافِ الكافرينَ؛ عَقَّبَه بتوبيخِ من أَشْرَك به، والردِّ عليه [1601] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (1/440).
وأيضًا لَمَّا بَيَّنَ اللهُ جلَّ وعلا غرائِبَ صُنْعِه وعجائِبَه، الدَّالَّةَ على أنَّه الربُّ وَحْدَه، المعبودُ وَحْدَه، كما في الآياتِ الماضية؛ كقوله: إِنَّ اللهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ...، وكقوله: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ، وكقوله: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا، وقوله: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ... إلى آخِرِ الآيات، التي بيَّن اللهُ فيها كمالَ قُدرَتِه، وغرائِبَ صُنْعِه، وعجائِبَه الدَّالَّةَ على أنَّه الرَّبُّ وَحْدَه، المعبودُ وَحْدَه، فكأنَّه يقولُ في هذه الآيةِ: مع ما أبدَيْتُ لخَلْقِي من آياتي الدالَّةِ على عَظَمَتي وجلالي، وأنِّي الربُّ المعبودُ، مع هذا أشركوا بي الجِنَّ، وعبدوا مَعِيَ المعبوداتِ التي لا تنفَعُ ولا تضرُّ [1602] يُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (2/34، 35). ، فقال تعالى:
وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ.
أي: وجعل هؤلاءِ المشركونَ الجِنَّ شركاءَ لله تعالى في العبادَةِ، والحالُ أنَّ الذي خَلَقَ الجنَّ هو اللهُ تعالى وحده؛ فكيفَ عَبدُوهم مَعَه [1603] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/453)، ((تفسير ابن كثير)) (3/307)، ((تفسير السعدي)) (ص: 267)، ((تفسير ابن عاشور)) (7/406-407). قال ابنُ كثير: (فإن قيل: فكيفَ عُبِدت الجن وإنَّما كانوا يَعبدون الأصنام؟ فالجواب: أنَّهم إنما عَبَدوا الأصنامَ عن طاعةِ الجنِّ وأمْرهم إيَّاهم بذلك، كما قال تعالى: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا * لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا * وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا [النساء: 117 - 120] ). ((تفسير ابن كثير)) (3/307).  وأيضا فهذه الأصنامُ التي كانوا يعبُدونها لربَّما قارَنها شياطينُ في بعضِ الأحيانِ، فسمِعوا منها مَن يكلِّمهم ويخاطبُهم. وكما تتمثَّل الشياطينُ أيضًا لمن يعبدُ الملائكةَ والأنبياءَ والصالحينَ وغيرَهم، ويخاطبونهم، فيظنُّون أنَّ الذي خاطَبهم مَلَكٌ أو نبيٌّ، أو وليٌّ، وإنَّما هو شيطانٌ، كما أنَّهم كانوا يصرِفون للجنِّ أنواعًا مِن العباداتِ التي لا تنبغي إلا للهِ تعالى، كالاستعاذةِ بهم والذَّبحِ لهم. يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (14/283، 284) (17/484)، ((النبوات)) لابن تيمية (2/1058-1059)، ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 27)، ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (9/245). ؟!
كما قال إبراهيمُ عليه السَّلام لقومه: قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات: 95-96] .
وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ.
أي: اختلقوا وتخرَّصوا كَذِبًا مِن تلقاءِ أَنفُسِهم، فافتَرَوْا لله تعالى بنينَ وبناتٍ بغيرِ دليلٍ، ولا برهانٍ؛ جهلًا بالله وبعظَمَته، فإنَّه لا ينبغي لِمَن كان إلهًا أن يكونَ له بنونَ وبناتٌ، ولا أنْ يشارِكَه شريكٌ في خَلْقِه [1604] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/454-456)، ((تفسير ابن كثير)) (3/307)، ((تفسير السعدي)) (ص: 267)، ((تفسير ابن عاشور)) (7/408-409). .
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ.
أي: تنزَّه اللهُ جلَّ وعلا، وتقدَّس عن الذي يَصِفُه به هؤلاءِ الجهَلَةُ الضالُّون؛ من الأولادِ والأندادِ، والنُّظَراءِ والشُّرَكاء، وذلك لا يَنبغي أن يكونَ مِنْ صِفَتِه؛ فإنَّه تعالى الموصوفُ بكلِّ كمالٍ، المنزَّهُ عن كلِّ نقصٍ وعَيبٍ [1605] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/456)، ((تفسير ابن كثير)) (3/308)، ((تفسير السعدي)) (ص: 267). .
بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) .
مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:
لَمَّا بَيَّنَ اللهُ تعالى فَسادَ قَوْلِ طوائِفِ أهْلِ الدُّنيا من المُشركينَ؛ شَرَعَ في إقامَةِ الدَّلائلِ على فَسادِ قَوْلِ من يُثْبِتُ له الوَلَدَ [1606] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (13/92). .
وأيضًا لَمَّا خَتَمَ اللهُ تعالى الآيةَ السابقةَ بالتَّنزيهِ عمَّا قاله المُشركونَ من الشَّريكِ والوَلَدِ؛ استدَلَّ على ذلك التنزيهِ بأنَّ الكُلَّ خَلْقُه، مُحيطٌ بهم عِلْمُه، ولن يكون المصنوعُ كالصَّانِعِ؛ فقال [1607] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (7/217)، ((تفسير ابن عادل)) (8/338). :
بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ.
أي: إنَّ اللهَ تعالى- الذي جَعَلَ المُشركونَ الجِنَّ شُرَكاءَ له، وخَرَقوا له بنينَ وبناتٍ بغَيْرِ عِلمٍ- هو خالِقُ السَّمواتِ والأرضِ، ومُحْدِثُهما على غيرِ مثالٍ سَبَقَ [1608] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/457)، ((تفسير ابن كثير)) (3/308)، ((تفسير السعدي)) (ص: 267). .
أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ.
أي: كيفَ يكونُ له ولَدٌ، ولا زوجةَ له؟! فالولَدُ إنَّما يكون متولِّدًا عن شيئينِ متناسِبَينِ، واللهُ لا يناسِبُه ولا يشابِهُه مِن خَلْقِه شيءٌ؛ وهو سبحانه لا يحتاجُ إلى زوجةٍ، فهو الغنيُّ عن جميعِ مخلوقاتِه، وكلُّها فقيرةٌ إليه، وجميعُ الكائناتِ خَلْقُه وعَبيدُه، ولا يُمكِنُ أن يكون شيءٌ مِن خَلْقِه ولدًا أو زوجةً له بحالٍ [1609] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/456-458)، ((تفسير ابن كثير)) (3/308)، ((تفسير السعدي)) (ص: 267)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (2/36-37). .
كما قال تعالى: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا [مريم: 88- 93] .
وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
أي: وهو سبحانه لا يَخفَى عليه شيءٌ مِمَّا خَلَق، ويعلَمُ أيضًا المعدومَ، فهو عالِمٌ بالموجوداتِ والمعدوماتِ، والجائزاتِ والمُسْتحيلاتِ، فمِنْ إحاطَةِ عِلْمِه عزَّ وجلَّ أنَّه يعلَمُ المعدومَ الذي سبق في عِلْمِه أنَّه لا يُوجَد، يعلَمُ أنْ لو كان كيف يكون؟ فمن أحاط عِلْمُه بكلِّ شيءٍ فكيف يكون جِنْسًا له- كالولَدِ- من لا يعلَمُ شيئًا إلا ما عَلَّمَه اللهُ؟ وهو عالِمٌ أيضًا بأعمالِ أولئك الذين يزعُمونَ أنَّ لله شريكًا أو ولدًا، وهو مُحْصيها عليهم فيجازِيهم بها [1610] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/458)، ((تفسير السعدي)) (ص: 267-268)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (2/37-38). .
كما قال تعالى: أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك: 14] .
ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102).
مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:
لَمَّا أقامَ اللهُ تعالى الحجَّةَ على وجودِ الإلَهِ القادِرِ المُختارِ الحَكيمِ الرَّحيمِ، وبيَّنَ فسادَ قَوْلِ مَن ذَهَبَ إلى الإشراكِ بالله، وفصَّلَ مذاهِبَهم على أحسَنِ الوُجوهِ، وبيَّنَ فسادَ كُلِّ واحدٍ منها بالدَّلائلِ اللَّائقة به. ثم حَكَى مذهَبَ مَن أثْبَتَ لله البنينَ والبناتِ، وبَيَّنَ بالدَّلائلِ القاطعة فسادَ القولِ بها- فعند هذا ثَبَتَ أنَّ إلَهَ العالَمِ فَرْدٌ واحِدٌ صَمَدٌ؛ مُنَزَّهٌ عن الشَّريكِ والنَّظيرِ، والضِّدِّ والنِّدِّ، ومُنَزَّهٌ عن الأولادِ والبنينَ والبناتِ، فعند هذا صَرَّحَ بالنتيجةِ؛ فقال [1611] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (13/94). :
ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ.
أي: ذلك- الذي لا وَلَدَ له ولا صاحِبَةَ، وخَلَقَ كُلَّ شيءٍ وهو بكلِّ شيءٍ عليمٌ- هو المألوهُ المعبودُ الذي يستحِقُّ نهايةَ الذُّلِّ ونهايةَ الحُبِّ، الرَّبُّ الذي ربَّى جميعَ خَلْقِه بنِعَمِه، فلا ينبغي أن تكون عبادَتُكم وعبادَةُ جميعِ الخَلْقِ إلَّا خالصةً له وحْدَه؛ فحَقٌّ على المصنوعِ أن يُفْرِدَ جميعَ أنواعِ العبادَةِ لصانِعِه، ويَقْصِدَ بها وَجْهَه، فاعبدوه وحْدَه لا شريكَ له، وأَقِرُّوا له بالوحدانيَّة، فلا وَلَدَ له، ولا والِدَ، ولا صاحِبَةَ له، ولا نَظيرَ ولا شريكَ [1612] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/458-459)، ((تفسير ابن كثير)) (3/308-309)، ((تفسير السعدي)) (ص: 268)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (2/41-42). .
وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ.
أي: واللهُ على جميعِ ما خَلَقَ رَقيبٌ وحَفيظٌ؛ فيقومُ بأرزاقِهم وأقواتِهم، وسياسَتِهم وتدبيرِ شئونِهم؛ بكمالِ عِلْمِه، وقُدْرَته ورَحْمَتِه، وعَدْلِه وحِكْمَتِه عزَّ وجلَّ، وكلُّ شيءٍ بِيَدِه، وأمورُ كُلِّ شيءٍ تُفَوَّضُ إليه وحده، فيفعَلُ فيها ما يشاءُ سبحانه، فذلك- الذي هذه صفاتُه- هو الذي يَستَحِقُّ أن يُعبَد وَحْدَه لا شريكَ له [1613] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/459)، ((تفسير ابن كثير)) (3/309)، ((تفسير السعدي)) (ص: 268)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (2/46). .
لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103).
لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ.
أي: لا تُحيطُ به الأبصارُ، وإنْ كانتْ تراه في الجُملةِ، أمَّا هو سبحانه فقد أحاط عِلْمُه، وسَمْعُه، وبَصَرُه بكُلِّ شيءٍ؛ فيعلَمُ ويرى كلَّ شيءٍ على حقيقَتِه التي هو عليها [1614] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (6/289) (11/481)، ((تفسير السعدي)) (ص: 268)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (2/53-59)، ((شرح العقيدة الواسطية)) لابن عثيمين (ص: 457). وفي معنى لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ أقوال أخرى. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/309-313). .
وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ.
وهو اللَّطيفُ الذي يُوصِلُ النَّفْعَ والبِرَّ والإحسانَ لخَلْقِه بالطُّرُق الخَفِيَّة، من حيثُ لا يشعرونَ، وهو الخبيرُ الذي دَقَّ عِلْمُه؛ فأدرَكَ به الخفايا والبواطِنَ [1615] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 268)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (2/59-60). .

الفوائد التربوية :

العابدُ ينبغي أن يتفرَّغَ لعبادَةِ الله تعالى، ويقطَعَ أمورَه عن غيرِ وكالَتِه سبحانه؛ فإنَّه يكفيهِ بفَضْلِه عمَّن سواه؛ يُرشِدُ إلى ذلك قولُه تعالى: فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [1616] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (7/219). .

الفوائد العلمية واللطائف :

1- قولُ الله تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ يعني: وما كان ينبغي أن يكونَ له شريكٌ مطلقًا؛ لأنَّ الصِّفَة إذا ذُكِرَت مجرَّدةً غيرَ مُجراةٍ على شيءٍ؛ كان ما يتعلَّقُ بها من النفي عامًّا في كلِّ ما يجوز أن يكونَ له الصِّفَةُ، وحُكْمُ الإنكارِ حُكْمُ النَّفْيِ [1617] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (7/215). .
2- قول الله تعالى: بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ هذه الآيةُ يُفهَم منها أنَّ المِلْكَ والوَلَدِيَّةَ لا يُمكِنُ أن يجتمعا؛ لأنهم لَمَّا ذكروا له الولَدَ كان مِنْ رَدِّهِ عليهم: أنَّه مُختَرِعُ الأرضِ والسَّماءِ؛ أي: ومَنْ فيهما، وصانِعُ الشَّيءِ هو مالِكُه، والوَلَدُ لا يكون مملوكًا أبدًا، وجرت العادةُ في القرآنِ بأنَّ اللهَ يَرُدُّ على الكَفَرة في ادِّعاءِ الوَلَدِ؛ بأنَّه مالِكُ كلِّ شيءٍ، وأنَّ الخَلْقَ عبيدُه، كما قال: بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لأنَّ العبد لا يُمكِنُ أن يكونَ ولدًا. ومن هذه الآياتِ القرآنيةِ أخَذَ العُلماءُ أنَّ الإنسانَ إذا مَلَكَ وَلَدَه- بأن تزوَّجَ أمَةً لغَيرِه، وكان ولدُه رقيقًا واشتراه- أنَّه يُعتَق عليه بنفْسِ المِلْك، ولا يُمكنُ أن يَمْلِكه؛ لأنَّ المِلْكيَّة والوَلَدِيَّة متنافيانِ؛ ولذا قال هنا: بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ [1618] يُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (2/36). .
3- فائدةُ ذِكْرِ قَوْلِه: خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعبدُوهُ فيها بعدَ قولِه: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ جعلُه توطئةً لقولِه تعالى: فَاعْبُدُوهُ وأمَّا قولُه: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فإنما ذُكِرَ استدلالًا على نَفْيِ الوَلَدِ، فقد قال تعالى: بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [1619] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 173). .
4- قال تعالى: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ في ذِكْرِ العِلْم بعد الخَلْقِ إشارةٌ إلى الدَّليلِ العقليِّ إلى ثبوتِ عِلْمِه، وهو هذه المخلوقاتُ، وما اشتمَلَتْ عليه من النِّظامِ التامِّ، والخَلْقِ الباهِرِ؛ فإنَّ في ذلك دلالةً على سَعَةِ عِلْمِ الخالِقِ، وكمالِ حِكْمَتِه؛ كما قال تعالى: أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ وكما قال تعالى: وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ذلِكُم الذي خَلَقَ ما خَلَقَ، وقَدَّر ما قَدَّرَ [1620] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 267). .
5- قوله تعالى: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ قد يستشْكِلُ مُستَشْكِلٌ، فيقولُ: إنَّ الإلهَ هو الذي يَستحِقُّ أن يكون معبودًا، فقوله: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ معناه: لا يَستحِقُّ العبادةَ إلَّا هو، فلِمَ قال بعدَ ذلك فَاعْبُدُوهُ؛ فإنَّ هذا يُوهِمُ التَّكريرَ؟
والجوابُ: أنَّ قولَه: فَاعْبُدُوهُ مُسبَّبٌ عن مَضْمونِ جُملةِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، على معنى: أنَّ مَنْ استجمَعَتْ له هذه الصِّفاتُ كان هو الحَقيقَ بالعبادَةِ؛ فاعبدُوه ولا تَعبُدوا مِن دونِه بَعْض خَلْقِه [1621] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/54)، ((تفسير الرازي)) (13/97). .
6- استُدِلَّ بقوله: خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ على أنَّه تعالى هو الخالِقُ لأعمالِ العبادِ؛ فأعمالُ العبادِ أشياءُ، واللهُ تعالى خالِقُ كلِّ شيءٍ بحكم هذه الآيَةِ؛ فوجب كونُه تعالى خالقًا لها [1622] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (13/95). .
7- قولُ اللهِ تعالى: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ يدلُّ على جوازِ الرؤيةِ؛ لأنَّ نَفْيَ الإدراكِ الذي هو الإحاطةُ يدلُّ على أنَّه إذا رُئِيَ لا تُدْرِكُه الأبصارُ، وهو يَقتضي إمكانَ رُؤيتِه، فنفيُ إدراكِ الأبصارِ إيَّاه ليس نفيًا لرؤيَتِه؛ فهو دليلٌ على إثباتِ الرؤيَةِ، ونفيِ إحاطَةِ الأبصارِ به، فالآيةُ تدلُّ على جوازِ الرؤيَةِ أدلَّ منها على امتناعِها؛ لأنَّ اللهَ سبحانه إنَّما ذَكَرَها في سياقِ التمدُّحِ، ومعلومٌ أنَّ المدحَ إنَّما يكونُ بالأوصافِ الثبوتيَّة، وأمَّا العَدَمُ المحضُ فليس بكمالٍ، ولا يُمدَحُ به [1623] يُنظر: ((الصفدية)) لابن تيمية (2/65)، ((حادي الأرواح)) لابن القيم (ص: 293). .

بلاغة الآيات :

1- قوله: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ
- قوله: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ على القَولِ بأنَّ شُرَكَاءَ الْجِنَّ هما مفعولَا (جَعَلَ) في قوله تعالى: وَجَعَلُوا؛ فالمفعولُ الأوَّل الْجِنَّ؛ لأنَّ الجِنَّ هم المقصودُ من السِّياقِ لا مُطلَقُ الشُّرَكاء؛ لأنَّ جَعْلَ الشُّرَكاءِ للهِ قد تَقرَّر مِن قبلُ، والمفعول الثاني وهو شُرَكَاءَ، وقُدِّمَ هذا المفعولُ الثاني، وفائدةُ هذا التقديمِ: استعظامُ أنْ يُتَّخَذَ مَن كان مَلَكًا أو جنيًّا أو إنسيًّا أو غيرَ ذلك، شريكًا للهِ تعالى؛ ولذلك قُدِّمَ اسمُ (الله) على الشُّركاء، وأيضًا قُدِّمَ المفعولُ الثاني؛ لأنَّه محَلُّ تعجُّبٍ وإنكارٍ، فصار لذلك أهمَّ، وذكْرُه أسبَقَ، والعَرَبُ يُقَدِّمونَ الأهَمَّ الذي هم بشأنِه أَعْنَى [1624] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/52)، ((تفسير الرازي)) (13/90)، ((تفسير ابن عاشور)) (7/406). .
وعلى القَوْلِ بأنَّ شُرَكَاءَ المفعولُ الأوَّل، ولِلَّهِ المفعولُ الثَّاني، والجنَّ فُسِّرَ به هؤلاءِ الشُّركاءُ على طَريقِ البَدلِ النَّحويِّ- حيثُ لم يَقُلْ: (وجعلوا الجنَّ شركاءَ لله)- فيكونُ قَدَّم وأخَّر في النَّظمِ؛ لإفادةِ أنَّ محلَّ الغَرابةِ والنَّكارةِ أنْ يكونَ للهِ شُركاءُ، لا مُطلقُ وجودِ الشُّركاءِ، ثم كونُ الشركاءِ من الجنِّ؛ فقدَّمَ الأهمَّ فالمهمَّ؛ ولو قال: (وجعلوا الجنَّ شركاء لله) لأفادَ أنَّ موضعَ الإنكارِ أنْ يكون الجنُّ شركاءَ للهِ؛ لكونِهم جِنًّا، وليس الأمرُ كذلك، بل المنكَرُ أنْ يكونَ للهِ شريكٌ مِن أيِّ جِنسٍ كانَ [1625] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (7/538). .
- وتقديمُ المجرورِ على المفعولِ في قوله: لِلَّهِ شُرَكَاءَ؛ للاهتمامِ والتعجُّبِ مِن خَطَلِ عُقولِهم؛ إذ يجعلونَ لله شُرَكاءَ مِن مخلوقاته؛ لأنَّ المُشركينَ يعترفونَ بأنَّ اللهَ هو خالِقُ الجِنِّ، فهذا التقديمُ جرى على خِلافِ مقتضى الظَّاهِرِ؛ لأجْل ما اقتضى خلافَه [1626] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/406). .
- قولُه تعالى: وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ خَرَقوا، أي: اختلَقَوا، وفي لفْظِها جَرْسٌ خاصٌّ وظِلٌّ خاصٌّ يرسُمُ مَشهَدَ الطُّلوعِ بالفِرْيَةِ التي تَخْرِق وتَشُقُّ، وهذا التعبيرُ من أدَقِّ بلاغَةِ التنزيلِ، وهو من بيانِ معنى الشَّيءِ بما يدلُّ على تزييفِه [1627] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (7/539).
- وتنكيرُ العِلم هنا في حيِّزِ النِّفيِ (بغير) في قوله تعالى: بِغَيْرِ عِلْمٍ؛ للدَّلالةِ على انسلاخِ هؤلاءِ المشركينَ في خَرْقِهم هذا عن كلِّ ما يُسمَّى عِلْمًا، فلا هُمْ على علمٍ بمعنى ما يقولون، ولا على دليلٍ يُثْبِتُه، ولا على علمٍ بمكانِه منَ الفسادِ والبُعدِ من العَقْلِ، ولا بمكانِه من الشَّناعَةِ والإزراءِ بمقامِ الألوهيَّة والربوبيَّةِ [1628] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (7/217)، ((تفسيرالمنار)) لمحمد رشيد رضا (7/539). .
- قوله: سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ استئنافٌ مَسوقٌ لتنزيهِه عَزَّ وجَلَّ عما نَسَبوه إليه [1629] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/168)، ((تفسير ابن عاشور)) (7/409). .
- وقوله: تَعَالَى جاءَ على صِيغة التفاعُل؛ للمبالغةِ في الاتِّصافِ بالعلوِّ [1630] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/409). .
2- قوله: بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
- قوله: بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ جملةٌ مستأنفةٌ؛ إذ إنَّ هذا شروعٌ في الإخبارِ بِعَظيمِ قدرَةِ الله تعالى، وهي تُفيدُ مع ذلك تقويةَ التنزيهِ في قوله: سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ، فتتنزَّلُ منزلَةَ التَّعليلِ لِمَضمونِ ذلك التَّنزيه بمضمونِها أيضًا [1631] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/169)، ((تفسير ابن عاشور)) (7/410). .
- وعلى القَوْلِ بأنَّ بَدِيعُ فاعلٌ للفعل وتَعَالَى؛ فيكونُ من الإظهارِ في موضعِ الإضمارِ؛ لتعليلِ الحُكمِ، وتوسيطُ الظرفِ عَمَّا يَصِفُونَ بينه وبين الفِعل للاهتمامِ ببيانِه [1632] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/169). .
- قوله: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
- جملة وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ تذييلٌ لإتمامِ تعليمِ المُخاطَبينَ بعضَ صفاتِ الكمالِ الثابتَةِ لله تعالى؛ فهي جملةٌ معطوفةٌ على جملةِ: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ باعتبارِ ما فيها من التَّوصيفِ، لا باعتبارِ الرَّدِّ [1633] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/412). .
- وفي التَّعبيرِ بالجُملةِ الاسميَّةِ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ؛ دلالةٌ على أنَّه سبحانَه متَّصِفٌ بالعِلْمِ أزَلًا وأبدًا؛ فلا يَخفَى عليه سبحانه خافيةٌ مِمَّا كان وما سيكونُ؛ من الذَّواتِ والصِّفاتِ والأحوالِ [1634] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/169). .
- وقوله: بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فيه إظهارٌ في موضِعِ الإضمارِ؛ حيث لم يَقُلْ: (به عليمٌ)؛ لبيانِ أنَّه يَعْلَمُ كلَّ شيءٍ كائنًا ما كان؛ مخلوقًا أو غيرَ مخلوقٍ، وهو أيضًا بمنزلَةِ التَّذييلِ؛ لأنَّ التَّذييلاتِ يُقْصَدُ فيها أن تكونَ مُستقِلَّةَ الدَّلالةِ بِنَفْسِها؛ لأنَّها تُشْبِهُ الأمثالَ في كونِها كلامًا جامعًا لمعانٍ كثيرةٍ [1635] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/169)، ((تفسير ابن عاشور)) (7/412). .
3- قوله: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ذَلِكُم إشارةٌ إلى المنعوتِ بما ذُكِرَ من جلائِلِ النُّعوتِ، وما فيه من معنى البُعْدِ؛ للإيذانِ بِعُلُوِّ شأنِ المُشَارِ إليهِ، وبُعْدِ منزلَتِه في العَظَمة. والخطابُ للمشركينَ المعهودينَ بطريقِ الالتفاتِ [1636] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/169). ، وأيضًا فإنَّ وقوعَ اسمِ الإشارَةِ ذَلِكُمْ بعدَ إجراءِ الصِّفاتِ، والأخبارِ المتقدِّمةِ؛ للتنبيه على أنَّ المُشارَ إليه حقيقٌ بالأخبارِ والأوصافِ التي تَرِدُ بعد اسْمِ الإشارةِ، والمشارُ إليه هو الموصوفُ بالصِّفاتِ المضَمَّنةِ بالأخبارِ المتقدِّمَة؛ ولذلك استُغنِيَ عن إتباعِ اسمِ الإشارَةِ ببيانٍ أو بدلٍ، والمعنى: ذلكم المُبدِعُ للسَّمواتِ والأرضِ، والخالِقُ كلَّ شيءٍ، والعليمُ بكلِّ شيءٍ؛ هو اللهُ، أي: هو الذي تَعْلَمونَه [1637] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/412). .
- قول الله تعالى: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ
فيه مُناسَبةٌ حسنةٌ، حيثُ عبَّر هنا بقولِه: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وفي سورة غافر قال: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [غافر: 62] ، فقدَّمَ في سورة الأنعام قولَه: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ على قولِه: خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وقدَّم في سُورةِ غافر قوله: خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [غافر: 62] ، على قولِه: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [غافر: 62] ؛ وذلك لأنَّ ما في سُورةِ الأنعامِ جاءَ بعدَ قوله تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام: 100] ، وقولِه تعالى: أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ [الأنعام: 101] ؛ فكان مِن الملائِمِ نفْيُ ما جَعَلوه وادَّعَوه مِن الشُّرُكاءِ والصَّاحبةِ والوَلَدِ، فأتَى بعدَه بما يَدفَعُ قولَهم، فقال: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، ثم قال: خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ؛ فالملائمُ هنا هو نَفْيُ ما جَعَلوه وادَّعَوه مِن الشُّركاءِ والصَّاحبةِ والوَلَدِ؛ فقدَّم ما الأمرُ عليه مِن وَحدانيتِه سُبحانَه، وتَعالِيه عن الشُّركاءِ والولدِ، وعرَّف العبادَ بعدُ بأنَّ كلَّ ما سواه سبحانه خَلْقُه ومُلْكُه، فقدَّمَ الأهمَّ في الموضِعِ. وأمَّا في سُورةِ غافر فجاءَ هذا بعدَ قولِه تعالى: لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [غافر: 57] ؛ فكان الكلامُ على تَثبيتِ خَلْقِ الإنسانِ، لا على نفْي الشَّريكِ عنه، كما كان في الآيةِ الأولى؛ فكان تقديمُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ هاهُنا أَوْلى؛ فلم يَتقدَّم هنا ما تَقدَّم في آية الأنعامِ؛ فكان تقديمُ هذا التعريفِ هنا أَنسبَ وأهمَّ، ثم أَعْقَبَ بالتعريفِ بوحدانيتِه تعالى؛ فجاءَ كلٌّ على ما يَجِبُ ويُناسِبُ، ولم تكن واحدةٌ مِن الآيتَينِ لِتُناسِبَ ما تَقدَّم الأُخرى [1638] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي  (2/535-536)، ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 112-113)، ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (1/167- 168). .
4- قوله: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ فيه تعريضٌ بانتفاءِ الإلهيَّةِ عن الأصنامِ؛ فكَوْنُها مُدرَكَةٌ بالأبصارِ من سِماتِ المُحْدثاتِ، لا يليقُ بالإلهيَّة [1639] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/413). .
- وتخصيصُ الأَبصارِ في قوله: وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ بالذِّكْرِ، مع أنَّه يُدرِكُ كلَّ شيءٍ؛ ليجانسَ ما قبلَه، ويَزيدَ في الكَلامِ ضَربًا من المحاسِنِ يُسمَّى (فَنَّ التعطُّفِ) [1640] التعطُّف في الاصطلاح: الإتيانُ بلفظةٍ في أوَّل الكلامِ وإعادتُها بعينِها أو بما يتصرَّف منها. يُنظَر: ((أنوار الربيع في أنواع البديع)) لصدر الدين المدني (1/469) وينظر أيضًا: ((تفسير الشوكاني)) (2/169). .
- ولَمَّا كان قولُه تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ذُكِر للتخويفِ، ناسب حينئذٍ أن يشفعَ ببيانِ رأفتِه ورحمتِه، جريًا على سننِ الترغيبِ والترهيبِ، فقال: وَهُوَ اللَّطِيفُ [1641] ينظر: ((تفسير القاسمي)) (4/458). . وعَطَفَ عليه قولَه: الْخَبِيرُ مُخصِّصًا لِذاتِه سُبحانه بصِفَةِ الكَمالِ؛ لأنَّه ليس كلُّ مَن أدرَكَ شيئًا كان خَبيرًا بذلك الشَّيءِ؛ لأنَّ المُدرِكَ للشَّيءِ قد يُدْرِكُه لِيَخْبُرَه، ولَمَّا كان الأمرُ كذلك أخبَرَ سبحانه وتعالى أنَّه يُدرِكُ كلَّ شَيءٍ مع الخِبْرَةِ به [1642] يُنظر: ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (1/81)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 173). .
- وقوله: وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِير تذييلٌ للاحْتراسِ دفعًا لتوهُّمِ أنَّ من لا تُدرِكُه الأبصار لا يعلم أحوالَ من لا يُدركونَه [1643] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/416). .