موسوعة التفسير

سورةُ غافِرٍ
الآيات (57-59)

ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى مُبيِّنًا عظيمَ قُدرتِه، ومُنبِّهًا على إعادةِ الخلائِقِ يومَ القيامةِ: لَخَلْقُ اللهِ السَّمَواتِ والأرضَ أعظَمُ مِن خَلْقِه النَّاسَ، ولكِنَّ أكثَرَ النَّاسِ لا يَعلَمونَ؛ فمِنهم مَن يُنكِرُ البَعثَ بعدَ الموتِ!
ثمَّ يقولُ سبحانَه: ولا يَستوي الأعمَى والمُبصِرُ، كذلك لا يَسْتوي الكافرُ والمؤمنُ، ولا يَستوي المؤمِنونَ الَّذين يَعمَلونَ الصَّالِحاتِ معَ المُسيئينَ، قليلًا ما تَتذَكَّرونَ.
ثمَّ يُؤكِّدُ على مَجيءِ السَّاعةِ، فيقولُ: إنَّ القيامةَ لَآتِيةٌ لا شَكَّ في وُقوعِها، ولكِنَّ أكثَرَ النَّاسِ لا يُؤمِنونَ بذلك.

تفسير الآيات:

لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ مُجادَلتَهم في آياتِ اللهِ كانت مُشتَمِلةً على إنكارِ البَعثِ، وهو أصلُ المُجادَلةِ ومَدارُها، فحُجُّوا بخَلقِ السَّمَواتِ والأرضِ؛ لأنَّهم كانوا مُقِرِّينَ بأنَّ اللهَ خالِقُها، وبأنَّها خَلقٌ عَظيمٌ لا يُقادَرُ قَدْرُه، وخَلقُ النَّاسِ بالقياسِ إليه شَيءٌ قَليلٌ مَهينٌ، فمَن قدَرَ على خَلْقِها معَ عِظَمِها، كان على خَلْقِ الإنسانِ معَ مَهانتِه أقْدَرَ [864] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/174). .
لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ.
أي: لَخَلْقُ اللهِ السَّمَواتِ والأرضَ أعظَمُ مِن خَلْقِه النَّاسَ، فكَيفَ يَعجِزُ عن خَلقِهم خَلقًا جديدًا بعدَما أماتَهم؟! فمَنْ قَدَر على خَلقِ الأجرامِ العَظيمةِ وأتْقَنَها: قادِرٌ على إعادةِ النَّاسِ بعدَ مَوتِهم بطَريقِ الأَولى [865] يُنظر: ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (2/198)، ((تفسير ابن كثير)) (7/152)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/94)، ((تفسير السعدي)) (ص: 740)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/176). ممَّن اختار المعنى المذكورَ: ابنُ القيِّم، وابن كثير، والبِقاعي، والسعدي، وابن عاشور. يُنظر: المصادر السابقة. وممَّن اختاره أيضًا: ابنُ جُزَي، وابنُ تيميَّة، والشنقيطي، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/234)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (3/299)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (1/17 فما بعدها) و(6/392 فما بعدها) و(7/183)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 403، 404). ورجَّح ابنُ جُزَي هذا المعنى، وهو أنَّ المرادَ بالآيةِ الاستِدلالُ على البعثِ؛ وذلك لوُرودِه في مواضِعَ مِن القرآنِ، ولأنَّه قال بعدَه: إِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا؛ فقدَّم الدَّليلَ، ثمَّ ذكَر المدلولَ. يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/234). وذكر ابنُ عثيمين أنَّ الآيةَ نزلَتْ في مُنكري البعثِ، وفي بيانِ قدرةِ الله عزَّ وجلَّ. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 403، 404). وقيل: هذا توبيخٌ لهؤلاء الكفَرةِ المتكبِّرينَ، كأنَّه قال: مَخلوقاتُ الله أكبَرُ وأجَلُّ قدرًا مِن خَلْقِ البشَرِ، فما لأحدٍ منهم أن يَتكبَّرَ على خالِقِه سبحانَه. ومِمَّن ذهب إلى هذا المعنى: ابنُ عطيَّة، وأبو حيَّان. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/565)، ((تفسير أبي حيان)) (9/267). .
كما قال تعالى: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ [يس: 81] .
وقال سُبحانَه: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأحقاف: 33] .
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ.
أي: ولكِنَّ أكثَرَ النَّاسِ لا يَعلَمونَ، فلا يَتدَبَّرونَ ولا يَتأمَّلونَ لِيَعلَموا أنَّ خَلْقَ كُلِّ شَيءٍ يَسيرٌ على الله؛ فلذا يُنكِرونَ البَعثَ بعدَ الموتِ [866] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/350)، ((تفسير ابن كثير)) (7/152)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/94)، ((تفسير السعدي)) (ص: 740). !
وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى أنَّ الجِدالَ المَقْرونَ بالكِبْرِ والحَسَدِ والجَهلِ كيف يكونُ، وأنَّ الجِدالَ المقْرونَ بالحُجَّةِ والبُرهانِ كيف يكونُ؛ نبَّه تعالى على الفَرقِ بيْنَ البابَينِ بذِكرِ المِثالِ [867] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/526). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الشوكاني)) (4/570). .
وأيضًا لَمَّا نزَّل المُشرِكينَ مَنزِلةَ مَن لا يَعلَمُ، ضرَبَ مثَلًا لهم وللمُؤمِنينَ؛ فمَثَلُ الَّذين يُجادِلونَ في أمْرِ البَعثِ مع وُضوحِ إمكانِه مَثَلُ الأعمَى، ومَثَلُ المؤمِنينَ الَّذين آمَنوا به مَثَلُ حالِ البَصيرِ [868] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/177). .
وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ.
أي: ولا يَستوي الأعمَى الَّذي لا يُبصِرُ، والمُبصِرُ الَّذي يرَى؛ فبَيْنَهما فَرقٌ عَظيمٌ، كذلك لا يَسْتوي الكفَرةُ الفُجَّارُ، والمؤمِنونَ الأبرارُ [869] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/350)، ((تفسير القرطبي)) (15/325)، ((تفسير ابن كثير)) (7/152)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/95)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/176)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 406). ومِمَّن قال بأنَّ المرادَ بالأعمى والبصيرِ: المؤمِنُ والكافِرُ: ابنُ جرير، والقرطبي، وابن كثير، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/350)، ((تفسير القرطبي)) (15/325)، ((تفسير ابن كثير)) (7/152)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/177) و (6/127). قال ابن جرير: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى الَّذي لا يُبصِرُ شيئًا، وهو مثَلُ الكافرِ الَّذي لا يَتأمَّلُ حُجَجَ اللهِ بعينَيْهِ، فيَتَدَبَّرَها ويَعتبِرَ بها، فيَعلَمَ وحدانِيَّتَه وقدرَتَه على خَلقِ ما شاءَ مِن شَيءٍ، ويُؤمِنَ به ويُصَدِّقَ. والبصيرُ الَّذي يرَى بعينَيْهِ ما شَخَص لهما ويُبصِرُه، وذلك مَثَلٌ للمؤمنِ الَّذي يرَى بعينَيْهِ حُجَجَ اللهِ، فيُفَكِّرُ فيها، ويَتَّعِظُ بها، ويَعلَمُ ما دَلَّتْ عليه مِن توحيدِ صانِعِه، وعظيمِ سُلطانِه، وقُدرَتِه على خَلقِ ما يَشاءُ). ((تفسير ابن جرير)) (20/350). وقال ابن عاشور: (المقصودُ: أنَّ الكافِرَ وإن كان ذا عَقلٍ يُدرِكُ به الأمورَ، فإنَّ عَقْلَه تَمحَّضَ لإدراكِ أحوالِ الحياةِ الدُّنيا، وكان كالعَدَمِ في أحوالِ الآخرةِ... يُشبِهُ حالَ الأعمى في إدراكِه أشياءَ وعدَمِ إدراكِه). ((تفسير ابن عاشور)) (22/292). وقيل: المرادُ بالأعمَى والبصيرِ: الجاهلُ والعالِمُ. وممَّن اختاره: ابنُ عطيَّة، والخازنُ، والعُلَيمي. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/565)، ((تفسير الخازن)) (4/78)، ((تفسير العليمي)) (6/128). وقيل: المرادُ بالأعمَى والبصيرِ: الَّذي يُجادِلُ بالباطِلِ، والَّذي يُجادِلُ بالحقِّ. وممَّن اختاره: الشوكاني. يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (4/570). .
كما قال الله سبحانه وتعالى: قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ [المائدة: 100] .
وقال سُبحانَه: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ [الأنعام: 50] .
وقال عزَّ وجلَّ: مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [هود: 24] .
وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ.
أي: ولا يَستوي المؤمِنونَ المُطيعونَ لله، معَ الَّذين يَعمَلونَ السَّيِّئاتِ [870] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/350، 351)، ((تفسير القرطبي)) (15/325)، ((تفسير ابن كثير)) (7/152)، ((تفسير السعدي)) (ص: 740)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/177، 178). .
كما قال تعالى: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص: 28] .
وقال سُبحانَه: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الجاثية: 21] .
قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ.
أي: ما أقَلَّ ما تَتذَكَّرونَ [871] قيل: الخِطابُ للنَّاسِ. ومِمَّن قال بهذا: ابنُ جرير، وابنُ كثير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/351)، ((تفسير ابن كثير)) (7/152). وقيل: الخِطابُ للكُفَّارِ، فقَلَّ نَظَرُهم فيما يَنبغي أن يَنظُروا فيه. ومِمَّن قال بهذا: الواحديُّ. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/19). وقيل: الخِطابُ للَّذين يُجادِلون في آياتِ الله. ومِمَّن قال بهذا: ابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/179). ويُنظر أيضًا: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/97). وممَّن اختار أنَّ معنى قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ أي: تذَكُّرُكم قليلٌ: ابنُ جرير، ومكِّي، والبيضاوي، والنسفي، وأبو السعود، والشوكاني، والألوسي، والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/351)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (10/6451)، ((تفسير البيضاوي)) (5/61)، ((تفسير النسفي)) (3/217)، ((تفسير أبي السعود)) (7/282)، ((تفسير الشوكاني)) (4/570)، ((تفسير الألوسي)) (12/333)، ((تفسير السعدي)) (ص: 740). وقيل: المعنى: لا تَتذكَّرون أصلًا؛ فإنَّه قد يُعبَّرُ بقِلَّةِ الشَّيءِ عن عدَمِه. يُنظر: ((روح البيان)) للخلوتي (8/199). حُجَجَ الله، فتَتَّعِظونَ وتَعتبِرون! فلو تذكَّرْتُم واعتبَرْتُم لَآثرْتُم الهدَى على الضَّلالِ [872] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/351)، ((تفسير ابن كثير)) (7/152)، ((تفسير السعدي)) (ص: 740). .
إِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا قرَّر الدَّليلَ الدَّالَّ على إمكانِ وُجودِ يومِ القيامةِ؛ أردَفه بأنْ أخبَر عن وُقوعِها ودُخولِها في الوجودِ [873] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/527). .
إِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا.
أي: إنَّ القيامةَ لَآتِيةٌ لا شَكَّ في وُقوعِها [874] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/351)، ((تفسير ابن عطية)) (4/566)، ((تفسير القرطبي)) (15/326)، ((تفسير ابن كثير)) (7/152)، ((تفسير السعدي)) (ص: 740)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/180). .
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ.
أي: ولكِنَّ أكثَرَ النَّاسِ لا يُؤمِنونَ بمَجيءِ يومِ القيامةِ؛ فهم يُكذِّبونَ به [875] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/351)، ((تفسير القرطبي)) (15/326)، ((تفسير ابن كثير)) (7/152). .

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ أنَّه يَنبغي لمعَلِّمِ النَّاسِ أن يَربِطَ المَعقولاتِ بالمَحسوساتِ؛ لأنَّ ذلك أقرَبُ إلى الفَهمِ، وأدعَى إلى التَّصديقِ؛ إذْ إنَّ المحسوسَ لا يُنكَرُ، لكِنَّ المَعقولَ قد يُكابِرُ فيه مَن يُكابِرُ ويُنكِرُه [876] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 408). !
2- قَولُ الله تعالى: قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ أي: تذكُّرُكم قَليلٌ، وإلَّا فلو تذكَّرتُم مراتِبَ الأُمورِ، ومَنازِلَ الخَيرِ والشَّرِّ، والفَرقَ بيْنَ الأبرارِ والفُجَّارِ، وكانت لكم همَّةٌ عَلِيَّةٌ؛ لَآثَرتُم النَّافِعَ على الضَّارِّ، والهُدَى على الضَّلالِ، والسَّعادةَ الدَّائِمةَ على الدُّنيا الفانيةِ [877] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 740). .
3- في قولِه تعالى: إِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وُجوبُ الإيمانِ بالبعثِ؛ لأنَّه خبَرٌ مِن الله مؤكَّدٌ، وكلُّ أخبارِ الله تعالى صِدقٌ، وكلُّ وعدِ الله حقٌّ [878] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 408، 412). . والإيمانُ بالسَّاعةِ له أثرٌ عظيمٌ في تحقيقِ الإيمانِ؛ فإنَّ مَن لا يؤمنُ بالسَّاعةِ لا يَعمَلٌ، فلأيِّ شَيءٍ يَعملُ وهو لا يؤمنُ بيومِ الحسابِ؟! ومَنْ آمَنَ بيومِ الحسابِ كان حريصًا على أن يَنجوَ مِن وَبالِ هذا اليومِ [879] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 411). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ دَلالةٌ على المَعادِ؛ فإنَّه مِن المعلومِ ببَداهةِ العُقولِ أنَّ خَلْقَ السَّمَواتِ والأرضِ أعظَمُ مِن خَلْقِ أمثالِ بني آدمَ، والقُدرةَ عليه أبلَغُ؛ وأنَّ هذا الأيسَرَ أَولى بالإمكانِ والقُدرةِ مِن ذلك [880] يُنظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيميَّة (1/32). .
2- نَفْيُ العِلمِ عن الأكثرِ وتَخصيصُه به في قولِه: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ يدُلُّ على أنَّ القليلَ يَعلَمُ [881] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/268). .
3- في قولِه تعالى: وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ نفْيُ المُساواةِ بيْنَ الأمورِ المُختلِفةِ، وهذا مِن قواعدِ الشَّريعةِ؛ أنَّها لا تُساوي بيْن مُختلِفَينِ، ولا تَجمَعُ بيْن مُفترقَينِ [882] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 408). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ
- قولُه: لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ فيه ما يُعرَفُ في البَلاغةِ بالإلجاءِ؛ وهو أنْ يُبادِرَ المُتكلِّمُ خَصْمَه بما يُلْجِئُه إلى الاعتِرافِ بصِحَّتِه، وبهذا صَحَّ الْتِحامُه معَ ما قبْلَه مِن الكلامِ؛ فإنَّ مُجادَلتَهم في آياتِ اللهِ كانت مُشتمِلةً على أُمورٍ كَثيرةٍ مِن الجِدالِ والمُغالَطةِ، واللَّجاجِ والسَّفْسَطةِ، وفي مُقدِّمتِها إنكارُ البعثِ، وهو في الواقعِ أصْلُ المُجادَلةِ ومِحْورُها الَّذي عليه تَدورُ، فبادَرَ سُبحانه إلى مُبادَهتِهم بما يُسْقَطُ في أيْدِيهم، ويَقطَعُ عليهم طُرقَ المكابَرةِ والمعانَدةِ، وهو خلْقُ السَّمواتِ والأرضِ، وقد كانوا مُقِرِّين بأنَّ اللهَ خالِقُها، وبأنَّها خلْقٌ عظيمٌ، فخلْقُ النَّاسِ بالقياسِ شَيءٌ هيِّنٌ، ومَن قدَرَ على خلْقِها مع عِظَمِها، كان -ولا شكَّ- على خلْقِ الإنسانِ الضَّعيفِ أقدَرَ، وبه أقمَنَ. هذا والأولويَّةُ في هذا الاستِشهادِ على دَرَجتينِ؛ إحْداهما: أنَّ القادرَ على العظيمِ هو على الحقيرِ أقدَرُ، وثانيهما: أنَّ مُجادَلتَهم كانت في البعثِ، وهو الإعادةُ، وما مِن رَيبٍ في أنَّ الابتِداءَ أعظَمُ وأبهَرُ مِن الإعادةِ [883] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/174)، ((تفسير البيضاوي)) (5/61)، ((تفسير أبي السعود)) (7/281)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/175، 176)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/502). .
- والكلامُ مُؤذِنٌ بقَسَمٍ مُقدَّرٍ؛ لأنَّ اللَّامَ في لَخَلْقُ لامُ جَوابِ القسَمِ، والمقصودُ تأْكيدُ الخبرِ، ومعنى أَكْبَرُ أنَّه أعظَمُ وأهمُّ، وأكثرُ مُتعلَّقاتِ قُدرةٍ بالقادرِ عليه، لا يَعجِزُ عن خلْقِ ناسٍ يَبعَثُهم للحسابِ، وهذا الخبَرُ مُستعمَلٌ في غيرِ معناهُ؛ لأنَّ كَوْنَ خَلْقِها أكبَرَ هو أمْرٌ مَعلومٌ، وإنَّما أُرِيدَ التَّذكيرُ والتَّنبيهُ عليه؛ لِعَدَمِ جَرْيِهم على مُوجَبِ عِلْمِهم به [884] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/176). .
- ومَوقِعُ الاستِدراكِ بقولِه: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ما اقتَضاهُ التَّوكيدُ بالقسَمِ المقدَّرِ مِن اتِّضاحِ أنَّ خلْقَ السَّمواتِ والأرضِ أكبَرُ مِن خلْقِ النَّاسِ، فالمعنى: أنَّ حُجَّةَ إمكانِ البعثِ واضحةٌ، ولكنَّ الَّذين يُنكِرونها لا يَعلَمون الدَّليلَ؛ لأنَّهم مُتلاهُون عن النَّظرِ في الأدلَّةِ، مُقتنِعون بِبادئِ الخواطرِ الَّتي تَبْدو لهم، فيَتَّخِذونها عقيدةً، فلمَّا جَرَوا على حالةِ انتفاءِ العِلمِ نُزِّلوا مَنزِلةَ مَن لا عِلمَ لهم؛ فلذلك نُزِّل فِعلُ يَعْلَمُونَ مَنزِلةَ اللَّازمِ، ولم يُذكَرْ له مَفعولٌ [885] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/176). .
- والمرادُ بـ أَكْثَرَ النَّاسِ قيل: همُ الَّذين يُجادِلون في آياتِ البعثِ، وهم المشرِكون، وإظهارُ لَفظِ النَّاسِ في قولِه: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ، مع أنَّ مُقْتضى الظَّاهرِ الإضمارُ؛ لِتَكونَ الجُملةُ مُستقِلَّةً بالدَّلالةِ، فتَصلُحَ لأنْ تَسيرَ مَسيرَ الأمثالِ، فالمعنى: أنَّهم أنْكَروا البعثَ لاستِبعادِهم خلْقَ الأجسامِ، مع أنَّ في خلْقِ السَّمواتِ والأرضِ ما لا يَبْقى معه استبعادُ مِثلِ ذلك [886] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/176، 177). .
2- قولُه تعالَى: وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ قد عُلِمَ حالُ المؤمنينَ مِن مَفهومِ صِفةِ أَكْثَرَ النَّاسِ؛ لأنَّ الأكثرينَ مِن الَّذين لا يَعلَمون يُقابِلُهم أقَلُّون يَعلَمون [887] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/177). .
- قولُه: وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ نَفْيُ الاستِواءِ بيْن الفَريقَينِ يَقْتضي تَفضيلَ أحدِهما على الآخَرِ، ومِن المتبادَرِ أنَّ الأفضلَ هو صاحبُ الحالِ الأفضلِ، وهو البصيرُ؛ إذ لا يَختلِفُ النَّاسُ في أنَّ البصرَ أشرَفُ مِن العمَى في شَخْصٍ واحدٍ. ونفْيُ الاستواءِ بدُونِ مُتعلَّقٍ يَقْتضي العُمومَ في مُتعلَّقاتِه، لكنَّه يُخَصُّ بالمُتعلَّقاتِ الَّتي يَدلُّ عليها سِياقُ الكلامِ، وهي آياتُ اللهِ ودلائلُ صِفاتِه، ويُسمَّى مِثلُ هذا العمومِ: العُمومَ العُرفيَّ [888] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/177). ويُنظر أيضًا: ((قواعد التفسير)) لخالد السبت (ص: 569، 597). .
- وقولُه: وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ زِيادةُ بَيانٍ لِفَضيلةِ أهْلِ الإيمانِ بذِكرِ فَضيلتِهم في أعمالِهم، بعْدَ ذِكرِ فَضْلِهم في إدراكِ أدلَّةِ إمكانِ البعثِ ونحْوِه مِن أدلَّةِ الإيمانِ، والمعنى: وما يَسْتوي الَّذين آمَنوا وعَمِلوا الصَّالحاتِ والمُسِيئون، أي: في أعمالِهم؛ كما يُؤذِنُ بذلك قولُه: وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ، وفيه إيماءٌ إلى اختِلافِ جَزاءِ الفريقَينِ، وهذا الإيماءُ إدماجٌ [889] الإدماجُ: أنْ يُدمِجَ المُتكلِّمُ غرَضًا في غرَضٍ، أو بديعًا في بديعٍ، بحَيثُ لا يَظهرُ في الكلامِ إلَّا أحدُ الغرَضينِ أو أحدُ البَديعَينِ، بمعنى: أن يَجعلَ المتكلِّمُ الكلامَ الَّذي سِيق لمعنًى -مِن مَدحٍ أو غيرِه- مُتضمنًا معنًى آخَرَ، كقولِه تعالى: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ [القصص: 70] ؛ فهذا مِن إدماجِ غرَضٍ في غَرَضٍ؛ فإنَّ الغرَضَ منها تَفرُّدُه تعالى بوصْفِ الحَمدِ، وأُدمِجَ فيه الإشارةُ إلى البعثِ والجزاءِ. وقيل: أُدمِجتِ المُبالَغةُ في المُطابَقةِ؛ لأنَّ انفِرادَه بالحمدِ في الآخِرةِ -وهي الوقتُ الَّذي لا يُحمَدُ فيه سِواهُ- مُبالَغةٌ في الوَصفِ بالانفِرادِ بالحمدِ. يُنظر: ((التبيان في البيان)) للطِّيبي (ص: 225)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/298)، ((علوم البلاغة البيان المعاني البديع)) للمراغي (ص: 344)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/427). للتَّنبيهِ على الثَّوابِ والعِقابِ [890] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/177، 178). .
- وقدَّمَ ذِكرَ الأعمَى على ذِكرِ البصيرِ، معَ أنَّ البصَرَ أشرَفُ مِن العَمى بالنِّسبةِ لِذاتٍ واحدةٍ، والمُشبَّهَ بالبصيرِ أشرَفُ مِن المُشبَّهِ بالأعمَى؛ إذ المُشبَّهُ بالبصيرِ المؤمنونَ، فقُدِّمَ ذِكرُ تَشبيهِ الكافرينَ مُراعاةً لِكَونِ الأهمِّ في المقامِ بَيانَ حالِ الَّذين يُجادِلون في الآياتِ؛ إذ همُ المقصودُ بالموعظةِ، وأمَّا قولُه: وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ فإنَّما رُتِّبَ فيه ذِكرُ الفَريقَينِ على عَكسِ تَرتيبِه في التَّشبيهِ بالأعمى والبصيرِ؛ اهتِمامًا بشَرَفِ المؤمنينَ [891] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/178). .
وقيل: قدَّم الأعمَى في نفْيِ التَّساوي؛ لمجيئِه بعدَ صِفةِ الذَّمِّ في قولِه: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ، وقدَّم وَالَّذِينَ آَمَنُوا لمُجاوَرتِه للبصيرِ [892] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/268)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (8/503). قال درويش: (وفي قَولِه تعالى: وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ الآيةَ: فنُّ حُسْنِ النَّسَقِ، وفي ترتيبِ النَّسَقِ ثلاثُ طُرُقٍ؛ إحداها: أن يُجاوِرَ المناسِبُ ما يُناسِبُه، كهذه الآيةِ؛ فالأعمى يُجاوِرُ البصيرَ... وثاني الطَّريقتَينِ: أن يَتأخَّرَ المُتقابِلانِ، كقَولِه تعالى: مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ [هود: 24] ، وثالثتُهما: أن يُقدَّمَ مُقابِلُ الأوَّلِ ويُؤخَّرَ مُقابِلُ الآخَرِ، كقَولِه تعالى: وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ [فاطر: 19، 20]. وهذه الطُّرُقُ الثَّلاثُ يَتخيَّرُ المتكَلِّمُ في إيرادِها حَسَبَ مُقتضى الحالِ، ووَفْقَ نواميسِ البلاغةِ وطَرائقِها). ((إعراب القرآن وبيانه)) (8/503)، ويُنظر: (4/364). ويُنظر أيضًا: ((تحرير التحبير)) لابن أبي الإصبع (ص: 425)، ((خزانة الأدب)) لابن حجة الحموي (2/388)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/462). .
- وأُعِيدَت (لا) النَّافيةُ بعْدَ واوِ العطْفِ على النَّفيِ في قولِه: وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ، وكان العطْفُ مُغْنيًا عنها؛ فإعادتُها لإفادةِ تأْكيدِ نفْيِ مُساواتِه للمُحسِنِ فيما له مِن الفضْلِ والكرامةِ، ومَقامُ التَّوبيخِ يَقْتضي الإطنابَ، وكان الظَّاهرُ أنْ تقَعَ (لا) قبْلَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا، فعُدِلَ عن ذلك؛ للتَّنبيهِ على أنَّ المقصودَ عدَمُ مُساواةِ المُسِيءِ لِمَن عمِلَ الصَّالحاتِ، وأنَّ ذِكرَ الَّذين آمَنوا قبْلَ المُسِيءِ؛ للاهتِمامِ بالَّذين آمنوا، ولا مُقْتضي للعُدولِ عنه بعْدَ أنْ قُضِيَ حقُّ الاهتِمامِ بالَّذين سِيقَ الكلامُ لأجْلِ تَمثيلِهم، فحصَلَ في الكلامِ اهتمامانِ [893] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/268)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/178)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/503). .
- وفيه احتِباكٌ [894] الاحتِباكُ: هو الحذفُ مِن الأوائلِ لدَلالةِ الأواخِرِ، والحذفُ مِن الأواخرِ لدَلالةِ الأوائلِ، إذا اجتمَع الحَذفانِ معًا، وله في القرآنِ نظائرُ، وهو مِن إبداعاتِ القرآنِ وعناصرِ إعجازِه، وهو مِن ألطَفِ الأنواعِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/204)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/347). : فذُكِرَ عَمَلُ الصَّالحاتِ أوَّلًا؛ دَليلًا على ضِدِّها ثانيًا، والمُسيءُ ثانًيا؛ دليلًا على المُحسِنينَ أوَّلًا، وسِرُّه أنَّه ذُكِرَ الصَّلاحُ تَرغيبًا، والإساءةُ تَرهيبًا [895] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/97). .
- قولُه: قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ قيل: القِلَّةُ هنا كِنايةٌ عن العَدَمِ، وهو استِعمالٌ كثيرٌ، ويجوزُ أنْ تكونَ على صَريحِ مَعناها، ويكونَ المرادُ بالقِلَّةِ عَدَمَ التَّمامِ، أي: إذا تَذكَّروا تَذكُّرًا لا يُتمِّمونَه، فيَنقطِعون في أثنائِه عن التَّعمُّقِ إلى استِنباطِ الدَّلالةِ منه؛ فهو كالعَدَمِ في عَدَمِ تَرتُّبِ أثَرِه عليه [896] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/178، 179). .
- قولُه: تَتَذَكَّرُونَ بتاءِ الخِطابِ على الالتِفاتِ، والخِطابُ للَّذين يُجادِلون في آياتِ الله، وذلك على قولٍ. والعُدولُ مِن الغَيبةِ إلى الخِطابِ في مَقامِ التَّوبيخِ يدُلُّ على العُنْفِ الشَّديدِ، والإنكارِ البليغِ [897] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/61)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/532)، ((تفسير أبي السعود)) (7/281، 282)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/179). .
3- قولُه تعالَى: إِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ
- قولُه: إِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا لَمَّا أُعطِيَ إثباتُ البعثِ ما يَحِقُّ مِن الحِجاجِ والاستِدلالِ، تَهيَّأَ المقامُ لاستِخلاصِ تَحقيقِه كما تُستخلَصُ النَّتيجةُ مِن القياسِ، فأُعلِنَ بتَحقيقِ مَجيءِ السَّاعةِ، وهي ساعةُ البعثِ؛ إذ السَّاعةُ في اصطلاحِ الإسلامِ عَلَمٌ بالغَلَبةِ على ساعةِ البعثِ؛ فالسَّاعةُ والبَعثُ مُترادِفانِ في المآلِ، فكأنَّه قِيل: إنَّ الَّذي جادَلَ فيه المجادِلون سيَقَعُ لا مَحالةَ؛ إذ انكشَفَتْ عنه شُبَهُ الضَّالِّينَ وتَمويهاتُهم، فصار بَيِّنًا لا رَيبَ فيه [898] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/179). .
- وتأْكيدُ الخبَرِ بـ (إنَّ) ولامِ الابتِداءِ؛ لِزِيادةِ التَّحقيقِ، وللإشارةِ إلى أنَّ الخبَرَ تَحقَّقَ بالأدِلَّةِ السَّابقةِ؛ وذلك أنَّ الكلامَ مُوجَّهٌ للَّذين أنْكَروا البعثَ [899] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/179، 180). . وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيث قال: إِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ هنا وفي (الحِجرِ):  [الآية: 85]، فدخَلَت اللَّامُ على (آتِية) فيهما، وخَلَت منها في سُورةِ (طه)، قال تعالى: إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى [طه: 15] ، وهذه اللَّامُ تُؤكِّدُ الكلامَ، والعرَبُ تُحرِّضُ على التَّوكيدِ في مَوضعِه، وتَرْكِه في غَيرِ مَوضعِه، وهذانِ الموضعان في (الحجر) و(غافر) مِن مَواضعِ التَّوكيدِ، وتَحقيقِ الخبَرِ أنَّ السَّاعةَ حقٌّ، وأنَّها آتيةٌ لا رَيبَ فيها، والخِطابُ لِقَومٍ كُفَّارٍ يُنكِرونها. والَّتي في سُورةِ (طه) خِطابٌ لِمُوسى عليه السَّلامُ، ولم يكُنْ مُوسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ممَّن يُنكِرُ ذلك؛ فيُؤكَّدَ الكلامُ عليه تَوكيدَه على مُنكِريه والجاحِدينَ له، على أنَّه تَحميلٌ له لِيُعلِمَ قَومَه، وهو فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى [طه: 16] ، فبذلك وضَحَ الفرْقُ بيْن الموضِعَينِ [900] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (ص: 1125-1127)، ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 220)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (1/411). .
- وجِيءَ باسمِ الفاعلِ في (آتِيَةٌ) الَّذي هو حَقيقةٌ في الحالِ؛ للإيماءِ إلى أنَّها لَمَّا تَحقَّقت فقد صارتْ كالشَّيءِ الحاضرِ المُشاهَدِ، والمرادُ تَحقيقُ وُقوعِها، لا الإخبارُ عن وُقوعِها [901] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/179، 180). .
- وجُملةُ لَا رَيْبَ فِيهَا مُؤكِّدةٌ لِجُملةِ إِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ، ونُفِيَ الرَّيبُ عن نفْسِ السَّاعةِ، والمُرادُ نفْيُه عن إتيانِها؛ لِدَلالةِ قولِه: (آتِيَةٌ) على ذلك [902] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/180). .
- وهذا الاستِدراكُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ استِئنافٌ بَيانيٌّ، ومَوقعُ الاستِدراكِ هو ما يُثِيرُه نفْيُ الرَّيبِ عن وُقوعِها مِن أنْ يَتساءلَ مُتسائِلٌ: كيف يُنْفَى الرَّيبُ عنها، والرَّيبُ حاصلٌ لكثيرٍ مِن النَّاسِ؟ فكان الاستدراكُ بقولِه: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ جَوابًا لذلك السُّؤالِ، والمعنى: ولكنَّ أكثَرَ الناسِ يَمُرُّون بالأدلَّةِ والآياتِ وهم مُعرِضون عن دَلالتِها، فيَبْقَون غيرَ مؤمنينَ بمَدلولاتِها، ولو تأمَّلوا واستَنْبَطوا بعُقولِهم، لَظهَرَ لهم مِن الأدِلَّةِ ما يُؤمِنونَ بعْدَه؛ فلذلك نُفِيَ عنهم هنا وصْفُ الإيمانِ [903] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/180). .