موسوعة التفسير

سورةُ غافِرٍ
الآيات (51-56)

ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ

غريب الكلمات:

الْأَلْبَابِ: أي: العقولِ الزَّكيَّةِ، مُفرَدُها لُبٌّ، وأصْلُ اللُّبِّ: الخُلُوصُ والجَوْدةُ، والشَّيءُ المُنتقَى [797] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 51)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/199)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 102). .
وَالْإِبْكَارِ: أي: أوَّلِ النَّهارِ، أو مِن مَطلعِ الفَجرِ إلى وَقتِ الضُّحى، وأصلُ (بكر): يدُلُّ على أوَّلِ الشَّيءِ وبَدْئِه [798] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/391)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/287)، ((المفردات)) للراغب (ص: 140). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى مُبيِّنًا سُنَّةً مِن سُنَنِه: إنَّا لَننصُرُ رُسُلَنا والمؤمِنينَ في الحياةِ الدُّنيا ويومَ القيامةِ؛ يومَ لا يَنفَعُ الظَّالِمينَ اعتِذارُهم عن ظُلمِهم، ولهم الطَّردُ مِن رَحمةِ الله تعالى، ولهم النَّارُ.
ثمَّ يُبيِّنُ اللهُ تعالى مثالًا لنَصرِه رُسلَه وعبادَه المؤمنينَ، فيقولُ: ولقد آتَيْنا موسى ما يُهْتدَى به، وأورَثْنا بني إسرائيلَ التَّوراةَ؛ بَيانًا للحَقِّ، وتذكيرًا مِنَّا لأهلِ العُقولِ منهم.
ثمَّ يأمُرُ اللهُ تعالى نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم بالصَّبرِ، فيقولُ: فاصبِرْ -يا محمَّدُ- على أذى الكُفَّارِ؛ إنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ، واستَغفِرِ اللهَ لِذَنْبِك، ونَزِّه رَبَّك آخِرَ النَّهارِ وأوَّلَه عن كُلِّ نَقصٍ وعَيبٍ، مع إثباتِ صِفاتِ الكمالِ له سبحانَه.
ثمَّ يُوبِّخُ اللهُ تعالى الَّذينَ يُجادِلونَ في آياتِه بغيرِ بُرهانٍ، مُبيِّنًا ما حمَلهم على ذلك، فيقولُ: إنَّ الَّذين يُخاصِمونَ بالباطِلِ في آياتِ اللهِ بغَيرِ دَليلٍ عِندَهم: ما في صُدورِهم إلَّا كِبْرٌ عن قَبولِ الحَقِّ واتِّباعِه، وما هم بِبالِغي مُقتضى ذلك الكِبْرِ؛ لأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ مُذِلُّهم، وناصرٌ دينَه.
ثمَّ يأمُرُ اللهُ تعالى نبيَّه بما يَقيه مِن شُرورِهم، فيقولُ: فاعتَصِمْ واستَجِرْ باللهِ -يا مُحمَّدُ- مِن شَرِّ أعدائِك، إنَّ اللهَ هو السَّميعُ البَصيرُ.

تفسير الآيات:

إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالى وِقايتَه موسى -عليه السَّلامُ- وذلك المؤمِنَ مِن مَكرِ فِرعَونَ؛ بيَّنَ في هذه الآيةِ أنَّه يَنصُرُ رُسُلَه والَّذين آمَنوا معه.
وأيضًا لَمَّا بَيَّنَ مِن قَبْلُ ما يقَعُ بيْنَ أهلِ النَّارِ مِن التَّخاصُمِ، وأنَّهم عندَ الفَزَعِ إلى خَزَنةِ جَهنَّمَ يقولونَ: أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ [غافر: 50] ؛ أتبعَ ذلك بذِكرِ الرُّسُلِ، وأنَّه يَنصُرُهم في الدُّنيا والآخِرةِ.
وأيضًا فإنَّ الكلامَ في أوَّلِ السُّورةِ إنَّما وَقَع مِن قَولِه: مَا يُجَادِلُ فِي آَيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ [غافر: 4] ، وامتَدَّ الكَلامُ في الرَّدِّ على أولئك المجادِلينَ، وعلى أنَّ المحِقِّينَ أبدًا كانوا مَشغولينَ بدَفعِ كَيدِ المُبطِلينَ، وكُلُّ ذلك إنَّما ذَكَره اللهُ تعالى تَسليةً للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وتَصبيرًا له على تحمُّلِ أذَى قَومِه، ولَمَّا بَلَغ الكلامُ في تقريرِ المطلوبِ إلى الغايةِ القُصوى؛ وَعَد تعالى رَسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأن يَنصُرَه على أعدائِه في الحياةِ الدُّنيا وفي الآخِرةِ، فقال [799] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/523). :
إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51).
أي: إنَّا لنَنصُرُ رُسُلَنا والمؤمِنينَ على أعدائِهم في الحياةِ الدُّنيا [800] قال الواحدي: (النَّصرُ قد يكونُ بالحُجَّةِ، ويكونُ بالغَلَبةِ والقَهرِ، ويكونُ بإهلاكِ العَدُوِّ، وكُلُّ هذا قد كان للأنبياءِ والمؤمِنينَ مِن قِبَلِ الله تعالى؛ فهم مَنصورون بالحُجَّةِ على مَن خالَفَهم، وقد نصَرَهم اللهُ بالقَهرِ على مَن ناوأهم، وقد نصَرَهم بإهلاكِ عَدُوِّهم، وأنجاهم مع مَنْ آمَنَ معهم، وقد يكونُ نَصرٌ بالانتِقامِ لهم...، فهم لا مَحالةَ منصورونَ في الدُّنيا بأحدِ هذه الوُجوهِ). ((الوسيط)) (4/17، 18). ويُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (4/41)، ((تفسير أبي حيان)) (9/264). وقال ابن تيميَّة: (اللهُ تعالى قد يُديلُ الكافرينَ [يجعلُ لهم الغَلَبةَ] على المؤمنينَ تارةً، كما يُديلُ المؤمنينَ على الكافرينَ، كما كان يكونُ لأصحابِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم مع عدوِّهم، لكنَّ العاقِبةَ للمُتَّقينَ... وإذا كان في المسلمينَ ضَعفٌ، وكان عدوُّهم مُستظهرًا عليهم، كان ذلك بسببِ ذُنوبِهم وخطاياهم؛ إمَّا لتفريطِهم في أداءِ الواجباتِ باطنًا وظاهرًا، وإمَّا لعُدوانِهم بتَعدِّي الحدودِ باطنًا وظاهرًا). ((مجموع الفتاوى)) (11/645). وقال السعدي: (النَّصرُ على قِسمَينِ: نصرُ المسلمينَ إذا طَمِعوا في عدوِّهم بأنْ يُتِمَّ اللهُ لهم ما طلَبوا وقصَدوا، ويَستولوا على عدوِّهم ويَظْهروا عليهم. والثَّاني: نصرُ المُستضعَفِ الَّذي طمِع فيه عدوُّه القادرُ، فنَصْرُ اللهِ إيَّاه أن يَرُدَّ عنه عدوَّه، ويُدافِعَ عنه، ولَعلَّ هذا النَّصرَ أنفَعُ النَّصْرَينِ، ونصرُ الله رسولَه إذ أخرَجه الَّذينَ كفروا ثانيَ اثنَينِ مِن هذا النَّوعِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 338). ، وفي يومِ القيامةِ الَّذي يَقومُ فيه الأشهادُ [801] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/344، 345)، ((تفسير البغوي)) (4/115)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (15/194)، ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (2/182، 183)، ((تفسير ابن كثير)) (7/150، 151)، ((تفسير ابن عجيبة)) (5/141)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/168). قال ابنُ عطيَّة: (والأشهادُ: جمعُ شاهدٍ، كصاحبٍ وأصحابٍ. وقالت فِرقةٌ: أشهادٌ: جمعُ شهيدٍ، كشَريفٍ وأشرافٍ). ((تفسير ابن عطية)) (4/564). وقال الماوَرْدي: (في الْأَشْهَادُ ثلاثةُ أقاويلَ: أحَدُها: أنَّهم الملائِكةُ، شَهِدوا للأنبياءِ بالإبلاغِ، وعلى الأُمَمِ بالتَّكذيبِ. قاله مُجاهِدٌ والسُّدِّيُّ. الثَّاني: أنَّهم الملائكةُ والأنبياءُ. قاله قَتادةُ. الثَّالثُ: أنَّهم أربعةٌ: الملائِكةُ، والنَّبيُّونَ، والمؤمِنونَ، والأجسادُ. قاله زيدُ بنُ أسْلَمَ). ((تفسير الماوردي)) (5/160، 161). وقيل: هم الملائكةُ والأنبياءُ والمؤمنونَ. ومِمَّن قال بهذا القولِ في الجملةِ: ابنُ جرير، والرازي، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/346)، ((تفسير الرازي)) (27/524)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/168). قال ابن عاشور: (والأشهادُ: الرُّسُلُ، والملائِكةُ الحَفَظةُ، والمؤمِنونَ مِن هذه الأمَّةِ... وشَهادةُ الرُّسُلِ على الَّذين كَفَروا بهم مِن جُملةِ نَصْرِهم عليهم، وكذلك شَهادةُ المؤمنينَ). ((تفسير ابن عاشور)) (24/168). .
كما قال تعالى: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ [الأنعام: 34].
وقال سُبحانَه: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا [التوبة: 40] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم: 47] .
وقال جَلَّ ثناؤُه: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات: 171 - 173] .
وقال الله سُبحانَه وتعالى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة: 21] .
يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ المقصودَ شَرحُ تَعظيمِ ثَوابِ أهلِ الثَّوابِ؛ وذلك لأنَّه تعالى بيَّنَ أنَّه يَنصُرُهم في يومٍ يَجتَمِعُ فيه الأوَّلونَ والآخِرونَ، فحالُهم في عُلُوِّ الدَّرَجاتِ في ذلك اليَومِ ما ذُكِرَ، وأمَّا حالُ أعدائِهم فهو أنَّه حَصَلت لهم أمورٌ ثلاثةٌ؛ أحَدُها: أنَّه لا يَنفَعُهم شَيءٌ مِن المعاذيرِ البتَّةَ. وثانيها: أنَّ لهم اللَّعنةَ. وثالِثُها: أنَّ لهم سوءَ الدَّارِ [802] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/524). .
يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ.
أي: وهو اليَومُ الَّذي لا يَنفَعُ الظَّالِمينَ فيه اعتِذارُهم عن ظُلمِهم، فقد أعذَرَ اللهُ إليهم في الدُّنيا؛ فلا عُذرَ مَقبولٌ مِنهم في الآخِرةِ [803] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/347)، ((تفسير ابن كثير)) (7/151)، ((تفسير السعدي)) (ص: 739)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/168). .
وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ.
أي: وللظَّالِمينَ البُعدُ والطَّردُ مِن رَحمةِ الله تعالى، فهم مُستَحِقُّونَ لذلك [804] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/347)، ((تفسير القرطبي)) (15/323)، ((تفسير ابن كثير)) (7/151). .
وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ.
أي: ولهم معَ ذلك النَّارُ، فبِئسَ المَنزِلُ هيَ [805] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/347)، ((تفسير القرطبي)) (15/323)، ((تفسير ابن كثير)) (7/151)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/88)، ((تفسير السعدي)) (ص: 739). قال ابنُ عطيَّةَ: (سُوءُ الدَّارِ فيه حذْفُ مُضافٍ تقديرُه: سوءُ عاقبةِ الدَّارِ). ((تفسير ابن عطية)) (4/564). وقال ابنُ عثيمين: (يحتمِلُ أن تكونَ سُوءُ الدَّارِ مِن بابِ إضافة الصِّفةِ إلى المَوصوفِ، أي: الدَّارُ السُّوءُ، ويحتمِلُ أن تكونَ على بابِها... أي: السَّيِّئُ في الدَّارِ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 371). وقال السعدي: (أي: الدَّارُ السَّيِّئةُ، الَّتي تَسوءُ نازليها). ((تفسير السعدي)) (ص: 739). .
وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بَيَّنَ اللهُ تعالى أنَّه يَنصُرُ الأنبياءَ والمؤمِنينَ في الدُّنيا والآخِرةِ؛ ذكَرَ نَوعًا مِن أنواعِ تلك النُّصرةِ في الدُّنيا [806] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/525). .
وأيضًا لَمَّا ذكَرَ ما حلَّ بآلِ فِرعونَ، واستَطْرَدَ مِن ذلك إلى ذِكرِ شَيءٍ مِن أحوالِ الكفَّارِ في الآخرةِ؛ عاد إلى ذِكرِ ما منَحَ رسولَه مُوسى عليه السَّلامُ، فقال: وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى؛ تأْنيسًا لمحمَّدٍ عليه السَّلامُ، وتَذكيرًا لِما كانت العرَبُ تَعرِفُه مِن قصَّةِ مُوسى عليه السَّلامُ [807] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/266). .
وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى.
أي: ولقد آتَيْنا موسَى ما يُهتَدَى به [808] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/347)، ((تفسير ابن كثير)) (7/151)، ((تفسير القاسمي)) (8/314)، ((تفسير السعدي)) (ص: 739). قال الرازي: (يجوزُ أنْ يكونَ المرادُ مِن الهدَى ما آتاهُ اللهُ مِن العلومِ الكثيرةِ النَّافعةِ في الدُّنيا والآخرةِ، ويجوزُ أنْ يكونَ المرادُ تلك الدَّلائلَ القاهِرةَ الَّتي أوْرَدَها على فِرعونَ وأتْباعِه وكادَهم بها، ويجوزُ أنْ يكونَ المرادُ هو النُّبُوَّةَ الَّتي هي أعظَمُ المناصِبِ الإنسانيَّةِ، ويجوزُ أنْ يكونَ المرادُ إنزالَ التَّوراةِ عليه). ((تفسير الرازي)) (27/525). ممَّن اختار أنَّ المرادَ بالهدى هنا: التَّوراةُ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ الجوزي، والشنقيطيُّ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/717)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/42)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/392). قال القرطبي: (وسُمِّيَت التَّوراةُ هُدًى بما فيها مِن الهدَى والنُّورِ، وفي التَّنْزِيلِ: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ). ((تفسير القرطبي)) (15/323). وقال الشنقيطي: (والمرادُ بالهُدَى ما تَضَمَّنَه التَّوراةُ مِن الهدَى في العقائدِ والأعمالِ). ((أضواء البيان)) (6/392). وقال ابنُ عطيَّة: (الهُدى: النُّبُوَّةُ والحِكمةُ، والتَّوراةُ تعُمُّ جميعَ ذلك). ((تفسير ابن عطية)) (4/564). ويُنظر: ((تفسير العليمي)) (6/126). وممَّن اختار أنَّ المرادَ بالهُدى: النُّبوَّةُ: السَّمْعانيُّ، والخازنُ. يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (5/26)، ((تفسير الخازن)) (4/76). وممَّن اختار أنَّ المرادَ: التَّوراةُ والنُّبوَّةُ: القرطبي، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (15/323)، ((تفسير الشوكاني)) (4/569). قال ابن عاشور: (الهُدى الَّذي أُوتيَه موسى هو ما أُوحيَ إليه مِن الأمرِ بالدَّعوةِ إلى الدِّينِ الحقِّ، أي: الرِّسالةُ وما أُنزِل إليه مِن الشَّريعةِ... وفي ذلك إيذانٌ بأنَّ الكِتابَ مِن جملةِ الهُدى الَّذي أُوتيَه موسى... فإنَّ موسى أُوتيَ مِن الهُدى ما لم يَرِثْه بنو إسرائيلَ، وهو الرِّسالةُ، وأُوتيَ مِن الهُدى ما أُورِثَه بنو إسرائيلَ، وهو الشَّريعةُ الَّتي في التَّوراةِ). ((تفسير ابن عاشور)) (24/169). وقال الرسعني: (الْهُدَى وهو جميعُ ما أُوتيَه مِن الآياتِ والمُعجِزاتِ وشرائعِ الدِّينِ). ((تفسير الرسعني)) (6/626). ويُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 740). .
وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ.
أي: وأورَثْنا بني إسرائيلَ التَّوراةَ [809] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/347)، ((تفسير القرطبي)) (15/323)، ((تفسير ابن كثير)) (7/151)، ((تفسير السعدي)) (ص: 739)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/392). قال ابن الجوزي: (وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ بعدَ موسى، وهو التَّوراةُ أيضًا في قولِ الأكثَرينَ. وقال ابنُ السَّائبِ: التَّوراةُ والإنجيلُ والزَّبورُ). ((تفسير ابن الجوزي)) (4/42). ويُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/525). قيل: المرادُ بوِراثةِ الكِتابِ: أنَّ الله تعالى جعَله باقيًا فيهم بعدَ موسى عليه السَّلامُ؛ فهم وَرِثوه عن موسى، أي: أخَذوه منه في حياتِه، وأبقاه اللهُ لهم بعدَ وفاتِه يَتوارَثونَه خَلَفًا عن سَلَفٍ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى في الجملةِ: الزمخشريُّ، والشوكاني، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/173)، ((تفسير الشوكاني)) (4/569)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/169). قال ابنُ عطيَّة: (عَبَّرَ عن ذلك بالوِراثةِ؛ إذ كانت طائِفةُ بني إسرائيلَ قَرنًا بعدَ قَرنٍ تَصيرُ فيهم التَّوراةُ إمامًا، فكان بعضُهم يَرِثُها عن بَعضٍ). ((تفسير ابن عطية)) (4/564). .
كما قال الله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ [المائدة: 44] .
هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54).
أي: بيانًا للحَقِّ وتَذكيرًا مِنَّا به لأهلِ العُقولِ منهم [810] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/347)، ((تفسير ابن كثير)) (7/151)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/392)، ((تفسير السعدي)) (ص: 739)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/169، 170). .
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55).
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ.
أي: فاصبِرْ -يا مُحمَّدُ- على أذَى الكُفَّارِ وتعَنُّتِهم، وعلى دَعوتِهم؛ فإنَّ ما وَعَد اللهُ به مِن النَّصرِ في الدُّنيا والآخِرة: آتٍ لا مَحالةَ، كما نصَرَ اللهُ تعالى موسى وبني إسرائيلَ على فِرعَونَ وقَومِه [811] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/348)، ((تفسير القرطبي)) (15/324)، ((تفسير ابن كثير)) (7/151)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/89، 90)، ((تفسير السعدي)) (ص: 740)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/170). .
وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ.
أي: واطلُبْ مِن رَبِّك -يا مُحمَّدُ- سَتْرَ ذَنْبِك، والتَّجاوُزَ عن المؤاخَذةِ به [812] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/348)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكِّي (10/6448)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (3/120)، ((تفسير القاسمي)) (8/314)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/170). .
عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ الله عنه، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم يقولُ: ((واللهِ إنِّي لَأستَغفِرُ اللهَ وأتوبُ إليه في اليَومِ أكثَرَ مِن سَبعينَ مَرَّةً )) [813] رواه البخاري (6307). .
وعن الأغَرِّ المُزَنيِّ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّه لَيُغانُ [814] أي: يُطبَقُ ويُستَرُ ويُغَطَّى. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (4/1610). على قَلبي، وإنِّي لَأستَغفِرُ اللهَ في اليَومِ مِئةَ مَرَّةٍ)) [815] رواه مسلم (2702). .
وعن أبي مُوسى الأشْعَريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه كان يدعو بهذا الدُّعاءِ: ((اللـهُمَّ اغفِرْ لي خَطيئتي وجَهْلي، وإسرافي في أمْري، وما أنت أعلَمُ به مِنِّي، اللـهُمَّ اغْفِرْ لي جِدِّي وهَزْلي، وخَطَئي وَعَمْدي، وكُلُّ ذلك عندي، اللَّهُمَّ اغفِرْ لي ما قَدَّمْتُ وما أخَّرتُ، وما أسرَرْتُ وما أعلَنْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أنت المقَدِّمُ وأنت المؤخِّرُ، وأنت على كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ )) [816] رواه البخاري (6398)، ومسلم (2719)، واللفظ له. .
وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ.
أي: ونَزِّه رَبَّك -يا مُحمَّدُ- عن كُلِّ نَقصٍ وعَيبٍ تَنزيهًا مُقتَرِنًا بوَصفِه بصِفاتِ الكَمالِ؛ محبَّةً وتَعظيمًا له سُبحانَه، وذلك في آخِرِ النَّهارِ وأوَّلِه [817] يُنظر: ((الوابل الصيب)) لابن القيم (ص: 93)، ((تفسير ابن كثير)) (7/151)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/91)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/171)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 386، 387). قال ابن القيِّم: (الإبكارُ أوَّلُ النَّهارِ، والعَشيُّ آخِرُه، وقال تعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ [ق: 39] ، وهذا تفسيرُ ما جاء في الأحاديثِ: «مَن قال كذا وكذا حينَ يُصبِحُ وحينَ يُمسي»، أنَّ المرادَ به قبْلَ طلوعِ الشَّمسِ، وقبْلَ غروبِها، وأنَّ محلَّ هذه الأذكارِ بعدَ الصُّبحِ وبعدَ العصرِ). ((الوابل الصيب)) (ص: 93). وقال ابن كثير: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ أي: في أواخِرِ النَّهارِ وأوائلِ اللَّيلِ، وَالْإِبْكَارِ وهي أوائلُ النَّهارِ وأواخِرُ اللَّيلِ). ((تفسير ابن كثير)) (7/151). ويُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 740). وقيل: المعنى: دُمْ على التَّسبيحِ والتَّحميدِ لربِّك. وممَّن اختاره: البيضاويُّ، وأبو السعود، والشوكاني، والألوسي. يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/61)، ((تفسير أبي السعود)) (7/281)، ((تفسير الشوكاني)) (4/570)، ((تفسير الألوسي)) (12/330). قال الألوسي: (أي: ودُمْ على التَّسبيحِ والتَّحميدِ لربِّك، على أنَّه عبِّر بالطَّرَفَينِ وأُريدَ جميعُ الأوقاتِ، وجُوِّز أن يُرادَ خُصوصُ الوقتَينِ). ((تفسير الألوسي)) (12/330). وقيل: معنى (سَبِّحْ): صَلِّ، وفي المرادِ بصلاةِ العَشيِّ والإبكارِ ثلاثةُ أقوالٍ؛ أحدُها: أنَّها الصَّلَواتُ الخَمْسُ، قاله ابنُ عبَّاسٍ. والثَّاني: صَلاةُ الغَداةِ وصلاةُ العصرِ، قاله قَتادةُ. والثَّالثُ: أنَّها صلاةٌ كانت قبْلَ أن تُفرَضَ الصَّلَواتُ: ركعتانِ غُدوةً، وركعتانِ عَشيَّةً، قاله الحسَنُ. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (4/42). وقال الزمخشري: (ودُمْ على عبادةِ ربِّك والثَّناءِ عليه بالعَشيِّ والإبكارِ). ((تفسير الزمخشري)) (4/173). .
كما قال تعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا [طه: 130] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ [ق: 39] .
إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه جَرَى الكلامُ مِن أوَّلِ السُّورةِ إلى هنا في مَيدانِ الرَّدِّ على مُجادَلةِ المشركينَ في آياتِ اللهِ، ودَحْضِ شُبَهِهم، وتَوعُّدِهم على كُفْرِهم، وضَرْبِ الأمثالِ لهم بأمثالِهم مِن أهلِ العِنادِ، ابتِداءً مِن قولِه: مَا يُجَادِلُ فِي آَيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا [غافر: 4] ، وقولِه: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ [غافر: 21] ، كما ذُكِرَت أمثالُ أضْدادِهم مِن أهلِ الإيمانِ مَن حضَرَ منهم ومَن غَبَر، مِن قولِه: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ [غافر: 23، 24]، ثمَّ قولِه: وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ [غافر: 28]، وخُتِمَ ذلك بوَعدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والمؤمنينَ بالنَّصرِ، كما نُصِرَ النَّبيُّونَ مِن قبْلِه والَّذين آمَنوا بهم، وأُمِرَ بالصَّبرِ على عِنادِ قَومِه، والتَّوجُّهِ إلى عِبادةِ ربِّه؛ فكان ذِكرُ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ عقِبَ ذلك مِن بابِ المثَلِ المشهورِ: «الشَّيءُ بالشَّيءِ يُذكَرُ»، وبهذه المُناسَبةِ انتُقِلَ هنا إلى كَشْفِ ما تُكِنُّه صُدورُ المجادِلينَ مِن أسبابِ جِدالِهم بغَيرِ حقٍّ؛ لِيَعلَمَ الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دَخيلتَهم، فلا يَحسَبُ أنَّهم يُكذِّبونَه تَنقُّصًا له، ولا تَجويزًا للكذِبِ عليه، ولكنَّ الَّذي يَدفَعُهم إلى التَّكذيبِ هو التَّكبُّرُ عن أنْ يَكونوا تَبعًا للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ووراءَ الَّذين سَبَقوهم بالإيمانِ ممَّن كانوا لا يَعْبَؤونَ بهم [818] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/172). .
إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ.
أي: إنَّ الَّذين يُجادِلونَ ويُخاصِمونَ بالباطِلِ في آياتِ اللهِ وحُجَجِه الَّتي جاءت بها الرُّسُلُ؛ بغيرِ دَليلٍ عِندَهم مِن اللهِ: في صُدورِهم كِبْرٌ وتَعاظُمٌ عن قَبولِ الحَقِّ واتِّباعِه، واحتِقارٌ لِمَن جاء به واتَّبَعه، ولن يَنالوا الاستِعلاءَ والرِّفعةَ والعَظَمةَ الَّتي أمَّلوها في الدُّنيا؛ فاللهُ ناصِرٌ دينَه، ومُعْلٍ كَلِمَتَه [819] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/348، 349)، ((تفسير القرطبي)) (15/324، 325)، ((تفسير ابن كثير)) (7/151، 152)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/92، 93)، ((تفسير السعدي)) (ص: 740)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/173)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 391-396، 400-401). قال مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ والسَّمَرْقَنْديُّ، والكرْمانيُّ: الكِبْرُ: العَظَمةُ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/718)، ((تفسير السمرقندي)) (3/211)، ((تفسير الكرماني)) (2/1032). وممَّن اختار في الجملةِ أنَّ المرادَ بالكِبْرِ: التَّكبُّرُ والتَّعاظُمُ: الزمخشريُّ، والنسفي، وابنُ جُزَي، وجلال الدين المحلي، والبِقاعي، والعُلَيمي. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/173)، ((تفسير النسفي)) (3/217)، ((تفسير ابن جزي)) (2/233)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 625)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/92)، ((تفسير العليمي)) (6/127). قال الزمخشري عن الكِبْرِ: (وهو إرادةُ التَّقدُّمِ والرِّياسةِ، وألَّا يكونَ أحدٌ فوقَهم؛ ولذلك عادَوْكَ ودفَعوا آياتِك خِيفةَ أن تَتقَدَّمَهم ويَكونوا تحتَ يدِك وأمْرِك ونَهيِك؛ لأنَّ النُّبوَّةَ تحتَها كلُّ مُلكٍ ورياسةٍ. أو إرادةُ أن تكونَ لهم النُّبوَّةُ دُونَك حسَدًا وبَغْيًا، ويدُلُّ عليه قولُه تعالى: لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ [الأحقاف: 11] . أو إرادةُ دفْعِ الآياتِ بالجِدالِ). ((تفسير الزمخشري)) (4/173). وقال ابن جرير: (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ يقولُ: ما في صُدورِهم إلَّا كِبْرٌ يَتكبَّرون مِن أجْلِه عن اتِّباعِك، وقَبولِ الحقِّ الَّذي أتَيْتَهم به؛ حسَدًا منهم على الفضلِ الَّذي آتاك اللهُ، والكرامةِ الَّتي أكرمَك بها مِن النُّبُوَّةِ). ((تفسير ابن جرير)) (20/349). ويُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/152). وقال الزمخشري: (مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ أي: ببالِغي موجبِ الكِبْرِ ومُقتضيه، وهو مُتعلَّقُ إرادتِهم مِن الرِّياسةِ أو النُّبُوَّةِ أو دفْعِ الآياتِ). ((تفسير الزمخشري)) (4/173). قيل: قولُه: مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ: هو على حذفِ مُضافٍ تقديرُه: ببالِغي إرادتِهم فيه. وممَّن اختاره: الزَّجَّاجُ، والسمعاني، وابنُ عطية. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/377)، ((تفسير السمعاني)) (5/27)، ((تفسير ابن عطية)) (4/565). قال الزَّجَّاجُ : (إرادتُهم دفْعَ آياتِ اللهِ عزَّ وجلَّ). ((معاني القرآن وإعرابه)) (4/377). وقال السمعاني: (وكان مُرادُهم أن يَهلِكَ محمَّدٌ ويَهلِكَ أصحابُه، ويَندرِسَ أثَرُه، ويَصيروا حكايةً). ((تفسير السمعاني)) (5/27). وقال ابن جرير: (مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ يقولُ: الَّذي حسَدوك عليه أمرٌ ليسوا بمُدْرِكِيه ولا نائِلِيه؛ لأنَّ ذلك فضْلُ الله يؤتيه مَن يَشاءُ، وليس بالأمرِ الَّذي يُدرَكُ بالأمانيِّ). ((تفسير ابن جرير)) (20/349). وقال الكرماني: (ما هم ببالِغي تلك العَظَمةِ؛ فإنَّ اللهَ يَخذُلُهم). ((تفسير الكرماني)) (2/1032). .
فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ.
أي: فاعتَصِمْ واستَجِرْ باللهِ -يا مُحمَّدُ- مِن شَرِّ أعدائِك الَّذين يُجادِلونَ في آياتِ اللهِ [820] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/349)، ((تفسير ابن كثير)) (7/152)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/93). قال السعدي: (أي: استعِذْ بالله مِن الكِبْرِ الَّذي يوجِبُ التَّكبُّرَ على الحقِّ، واستعِذْ بالله مِن شَياطينِ الإنسِ والجنِّ، واستعِذْ بالله مِن جميعِ الشُّرورِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 740). .
إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.
أي: إنَّ اللهَ هو السَّميعُ لِقَولِ المُجادِلينَ في آياتِ اللهِ، وغَيرِهم مِنَ الخَلقِ؛ البَصيرُ بما يَعمَلونَه وبكُلِّ شَيءٍ سِواه؛ فلا يَخفَى عليه سُبحانَه شَيءٌ مِن أصواتِ الخَلقِ وذواتِهم وأعمالِهم [821] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/349)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/238، 239)، ((تفسير السعدي)) (ص: 740)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/175). .

الفوائد التربوية:

1- أنَّ النَّصرَ والتَّأييدَ الكاملَ إنَّما هو لأهلِ الإيمانِ الكامِلِ؛ قال تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ، وقال سُبحانَه: فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ [الصف: 14] ، فمَن نَقَصَ إيمانُه نَقَصَ نصيبُه مِن النَّصرِ والتَّأييدِ؛ ولهذا إذا أُصيبَ العبدُ بمُصيبةٍ في نَفْسِه أو مالِه، أو بإدالةِ عَدُوِّه عليه: فإنَّما هي بذُنوبِه: إمَّا بتركِ واجبٍ، أو فِعلِ مُحَرَّمٍ، وهو مِن نَقصِ إيمانِه، وبهذا يَزولُ الإشكالُ الَّذي يُورِدُه كثيرٌ مِن النَّاسِ على قَولِه تعالى: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء: 141] ، ويُجيبُ عنه كثيرٌ منهم بأنَّه لن يَجعَلَ لهم عليهم سَبيلًا في الآخِرةِ، ويُجيبُ آخَرونَ بأنَّه لن يَجعَلَ لهم عليهم سَبيلًا في الحُجَّةِ. والتَّحقيقُ: أنَّها مِثلُ هذه الآياتِ، وأنَّ انتفاءَ السَّبيلِ هو عن أهلِ الإيمانِ الكامِلِ، فإذا ضَعُفَ الإيمانُ صار لِعَدُوِّهم عليهم مِن السَّبيلِ بحَسَبِ ما نَقَصَ مِن إيمانِهم؛ فهم جَعَلوا لهم عليهمُ السَّبيلَ بما تَركوا مِن طاعةِ اللهِ تعالى؛ فالمؤمِنُ عزيزٌ غالِبٌ، مُؤَيَّدٌ منصورٌ، مَكْفِيٌّ مدفوعٌ عنه بالذَّاتِ أين كان، ولو اجتمَعَ عليه مَن بأقطارِها، إذا قام بحَقيقةِ الإيمانِ وواجباتِه ظاهِرًا وباطِنًا، وقد قال تعالى للمُؤمنِينَ: وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران: 139] ، وقال تعالى: فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ [محمد: 35] . فهذا الضَّمانُ إنَّما هو بإيمانِهم وأعمالِهم الَّتي هي جُندٌ مِن جُنودِ الله، يحفَظُهم بها، ولا يُفرِدُها عنهم ويَقتَطِعُها عنهم؛ فيُبطِلَها عليهم، كما يَتِرُ الكافِرينَ والمنافِقينَ أعمالَهم؛ إذ كانت لِغَيرِه، ولم تكُنْ مُوافِقةً لأمْرِه [822] يُنظر: ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (2/182). .
2- كثيرٌ مِن النَّاسِ يَظُنُّ أنَّ أهلَ الدِّينِ الحَقِّ يَكونونَ في الدُّنيا أذِلَّاءَ مَقهورينَ مَغلوبينَ دائِمًا، بخِلافِ مَن فارَقَهم إلى سَبيلٍ أُخرى وطاعةٍ أُخرى؛ فلا يَثِقُ بوَعدِ اللهِ بنَصرِ دِينِه وعِبادِه، بل إمَّا أن يجعَلَ ذلك خاصًّا بطائفةٍ دونَ طائِفةٍ، أو بزَمانٍ دُونَ زَمانٍ، أو يَجعَلَه مُعَلَّقًا بالمَشيئةِ، وإنْ لم يُصَرِّحْ بها، وهذا مِن عَدَمِ الوُثوقِ بوَعدِ الله تعالى، ومِن سُوءِ الفَهمِ في كِتابِه، واللهُ سُبحانَه قد بَيَّنَ في كتابِه أنَّه ناصِرٌ المؤمِنينَ في الدُّنيا والآخرةِ؛ قال تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ، وقال تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ [المائدة: 56] ، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ * كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة: 20، 21]، وهذا كثيرٌ في القُرآنِ، وقد بَيَّنَ سُبحانَه فيه أنَّ ما أصاب العَبدَ مِن مُصيبةٍ، أو إدالةِ عَدُوٍّ، أو كَسرٍ وغيرِ ذلك: فبِذُنوبِه [823] يُنظر: ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (2/183). .
3- قَولُ الله تعالى: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ أمَرَه بالصَّبرِ الَّذي به يَحصُلُ المحبوبُ، وبالاستِغفارِ الَّذي فيه دَفْعُ المَحذورِ، وبالتَّسبيحِ بحَمدِ اللهِ تعالى، خُصوصًا بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ اللَّذينِ هما أفضَلُ الأوقاتِ، وفيهما مِنَ الأورادِ والوظائِفِ الواجِبةِ والمُستَحَبَّةِ ما فيهما؛ لأنَّ في ذلك عَونًا على جميعِ الأمورِ [824] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 739). .
4- العَبدُ مأمورٌ أنْ يَرجِعَ إلى القَدَرِ عندَ المصائِبِ، ويَستغفِرَ اللهَ عندَ الذُّنوبِ والمعايبِ، كما قال تعالى: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [825] يُنظر: ((اقتضاء الصراط المستقيم)) لابن تيمية (2/389). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ دقيقةٌ مُعتبَرةٌ، وهي أنَّ السُّلطانَ العَظيمَ إذا خَصَّ بَعضَ خواصِّه بالإكرامِ العَظيمِ، والتَّشريفِ الكامِلِ عندَ حُضورِ الجَمعِ العَظيمِ مِن أهلِ المَشرِقِ والمَغرِبِ؛ كان ذلك ألَذَّ وأبهَجَ، فقَولُه: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا إلى قَولِه: وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ المقصودُ منه هذه الدَّقيقةُ [826] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/524). .
2- قَولُ الله تعالى: يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ فيه سُؤالٌ: هذا الكَلامُ يدُلُّ على أنَّهم يَذْكُرونَ الأعذارَ إلَّا أنَّ تلك الأعذارَ لا تَنفَعُهم، فكيف الجَمعُ بيْن هذا وبيْن قَولِه تعالى: وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [المرسلات: 36] ؟
الجوابُ مِن وُجوهٍ:
الوَجهُ الأوَّلُ: قَولُه: لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ لا يدُلُّ على أنَّهم ذَكَروا الأعذارَ، بل ليس فيه إلَّا أنَّه ليس عندَهم عُذرٌ مَقبولٌ نافِعٌ، وهذا القَدْرُ لا يدُلُّ على أنَّهم ذكَروه أم لا.
الوَجهُ الثَّاني: أنَّ يومَ القيامةِ يومٌ طَويلٌ، فيَعتَذِرونَ في وَقتٍ، ولا يَعتَذِرونَ في وَقتٍ آخَرَ [827] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/524، 525). ، فليس بيْنَهما تعارُضٌ؛ لأنَّ اليومَ طويلٌ، مِقدارُ اليومِ خمسونَ ألْفَ سَنةٍ، فيُمكِنُ أنْ تتغيَّرَ فيه الأحوالُ؛ يكونُ في أوَّلِه للنَّاسِ حالٌ، وفي آخِرِه للنَّاسِ حالٌ، وما أشْبَهَ ذلك، فمَثلًا قولُه تعالى: هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ * وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [المرسلات: 35، 36] هذا يدُلُّ على أنَّهم في ذلك اليومِ سُكوتٌ لا يُؤذَنُ لهم بأيِّ كَلامٍ؛ فيَنتَهِزوا الفُرصةَ بالاعتِذارِ. لكنْ في موقفٍ آخَرَ يَعتَذِرونَ، ولكِنْ لا يَنفعُهم الاعتِذارُ [828] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 373). .
الوَجهُ الثَّالثُ: أنَّ قولَه تعالى: لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ لا يُنافي قَولَه تعالى: وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [المرسلات:36] الَّذي هو في انتِفاءِ الاعتذارِ مِن أصلِه؛ لأنَّ ذلك الاعتِذارَ هو الاعتِذارُ المأذونُ فيه، أي: المقبولُ؛ لأنَّ الله لو أذِنَ لهم في الاعتِذارِ لَكان ذلك تَوطِئةً لِقَبولِه اعتِذارَهم، نَظيرُ قَولِه تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة: 255] ، والمُثبَتُ هنا مَعذِرةٌ مِن تِلْقاءِ أنفُسِهم لم يُؤذَنْ لهم بها، فهي غيرُ نافِعةٍ لهم، كما قال تعالى: قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون: 106 - 108] ، وقَولِه: لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ [829] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/132، 133) و (24/168). [المؤمنون: 65] .
3- في قَولِه تعالى: وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ أنَّ الكافِرينَ مُستَحِقُّون لِلَعنةِ اللهِ، وفيه جَوازُ أنْ نَلعنَ الكافرينَ على سبيلِ العُمومِ؛ فلَنا أنْ نقولَ: (لعنةُ اللهِ على كلِّ كافرٍ)، وكان أبو هُرَيرةَ رَضِيَ الله عنه يَلعَنُ الكَفَرةَ في قُنوتِه [830] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 373). والأثر المُشار إليه أخرجه البخاري (797)، ومسلم (676). .
4- قال الله تعالى: وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ * هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ هذا مِن أوضَحِ مُثُلِ نَصرِ اللهِ رُسُلَه والَّذين آمَنوا بهم، وهو أشْبَهُ الأمثالِ بالنَّصرِ الَّذي قَدَّره اللهُ تعالى للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والمؤمِنينَ؛ فإنَّ نَصْرَ موسى على قَومِ فِرعَونَ كَوَّنَ اللهُ به أُمَّةً عَظيمةً لم تكُنْ يُؤبَهُ بها، وأُوتِيَت شَريعةً عَظيمةً، ومُلكًا عَظيمًا، وكذلك كان نَصرُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والمؤمِنينَ، وكان أعظَمَ مِن ذلك وأكمَلَ وأشرَفَ، وأيُّ نَصرٍ أعظَمُ مِن الخَلاصِ مِن العُبوديَّةِ والقِلَّةِ والتَّبَعِ لأُمَّةٍ أُخرَى في أحكامٍ تُلائِمُ أحوالَ الأُمَّةِ التَّابِعةِ، إلى مَصيرِ الأُمَّةِ مالِكةِ أمْرِ نَفْسِها، ذاتِ شَريعةٍ مُلائِمةٍ لأحوالِها ومصالحِها، وسيادةٍ على أُمَمٍ أخرى، وذلك مَثَلُ المُسلِمينَ مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وبَعْدَه، وهو إيماءٌ إلى الوَعدِ بأنَّ القُرآنَ الَّذي كذَّب به المُشرِكونَ باقٍ مَوروثٌ في الأمَّةِ الإسلاميَّةِ [831] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/169). .
5- في قَولِه تعالى: وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ الثَّناءُ على العقلِ؛ لأنَّ أهْلَه هم أهلُ التَّذكُّرِ؛ الَّذين يَنتفِعونَ بما سمِعوا، والمرادُ بالعقلِ هنا هو عقلُ الرُّشْدِ، أمَّا عقلُ الإدراكِ فهو الَّذي يُناطُ به التَّكليفُ، ويُذكَرُ في كُتُبِ الفقهاءِ [832] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 380). .
6- في قَولِه تعالى: وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ أنَّ كلَّ مَن لم يَتذكَّرْ بآياتِ اللهِ فإنَّه ليس ذا عقلٍ، فإنْ قال قائلٌ: يَرِدُ عليكم أنَّا نَجِدُ في أئمَّةِ الكفرِ مَن هو على جانبٍ كبيرٍ مِن الدَّهاءِ والذَّكاءِ!
 فالجوابُ: أنَّ هناك فَرْقًا بيْنَ العقلِ والذَّكاءِ؛ لأنَّ العقلَ يَعْقِلُ صاحِبَه عمَّا يَضُرُّه؛ ولهذا سُمِّيَ عقلًا بمنزلةِ العِقَالِ للبعيرِ، لكنَّ الذَّكاءَ ليس كذلك؛ فالذَّكاءُ غريزةٌ أو كَسْبٌ يَجعَلُه اللهُ تعالى في الإنسانِ، ورُبَّما يكونُ بعضُ الحيواناتِ أذكَى مِن الإنسانِ [833] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 380، 381). .
7- قَولُ الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ هذا نَصٌّ صَريحٌ وبِشارةٌ بأنَّ كُلَّ مَن جادَلَ الحَقَّ فهو مَغلوبٌ، وكُلَّ مَن تكبَّرَ عليه فهو في نهايتِه ذَليلٌ [834] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 740). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ كلامٌ مُستأنَفٌ، وهو استِخلاصٌ للعِبرةِ مِن القَصصِ الماضيةِ، ولِبَيانِ أنَّ ما أصابَ الكفَرةَ مِن العذابِ المحكِيِّ مِن فُروعِ حُكْمٍ كُلِّيٍّ تَقْتضيهِ الحِكمةُ؛ وهو أنَّ شأْنَنا المُستمِرَّ أنَّا نَنصُرُ رُسلَنا وأتْباعَهم، وهذا الكلامُ مَسوقٌ لِتَسليةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وتَبْشيرِه ووَعْدِه بحُسنِ العاقِبةِ، وتَسليةِ المؤمنينَ ووَعْدِهم بالنَّصرِ وحُسنِ العاقِبةِ في الدُّنيا والآخرةِ؛ وذلك أنَّ الكلامَ مِن ابتِداءِ السُّورةِ كان بذِكرِ مُجادَلةِ المشركينَ في القرآنِ بقولِه تعالى: مَا يُجَادِلُ فِي آَيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا [غافر: 4] ، وأومَأَ إلى الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأنَّ شِيَعَهم يَؤولُ أمْرُهم إلى خَسارٍ بقولِه: فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ [غافر: 4] ، وامتدَّ الكلامُ في الرَّدِّ على المجادِلين، وتَمثيلِ حالِهم بحالِ أمْثالِهم مِن الأُمَمِ الَّتي آلَ أمْرُها إلى خَيبةٍ واضمِحلالٍ في الدُّنيا، وإلى عَذابٍ دائمٍ في الآخِرةِ. ولَمَّا استوفى الغرَضُ مُقتضاهُ مِن إطنابِ البيانِ، بيَّن اللهُ لِرَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عَقِبَه أنَّه يَنصُرُ رُسلَه والَّذين آمَنوا في الدُّنيا، كما دلَّ عليه قولُه في آخِرِ الكلامِ: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [835] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/264)، ((تفسير أبي السعود)) (7/280)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/167). [غافر: 77] .
- وقيل: قولُه: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا تَعليلٌ لِضَياعِ دُعاءِ الكافرينَ في قولِه: وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ [غافر: 50] ؛ لأنَّه مَسلوبُ الحُجَّةِ، و(إنَّ) واسمُها واللَّامُ المُزَحْلَقةُ للتَّوكيدِ، ولا يَقدَحُ في هذا التَّأكيدِ ما يَبْدو أنَّ المؤمنينَ يُغلَبون في بعضِ الأحيانِ ابتلاءً وامتحانًا؛ فإنَّ العِبرةَ بالعواقبِ، والأمورَ بخَواتيمِها [836] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/498). ويُنظر ما تقدَّم في الفوائد التربوية (ص: 227). .
- وعُبِّرَ بالمضارِعِ في قولِه: لَنَنْصُرُ؛ لِما فيه مِن استِحضارِ حالاتِ النَّصرِ العجيبةِ الَّتي وُصِفَ بعضُها في هذه السُّورةِ، ووُصِفَ بعضٌ آخَرُ في سُوَرٍ أُخرى تقدَّمَ نُزولُها؛ وإلَّا فإنَّ نَصْرَ الرُّسلِ الَّذين سَبَقوا محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد مَضى، ونصْرُ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُترقَّبٌ غيرُ حاصلٍ حِينَ نُزولِ الآيةِ [837] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/167). .
- وتأْكيدُ الخَبرِ بـ (إنَّ)، وبجَعْلِ المسنَدِ فِعليًّا في قولِه: لَنَنْصُرُ، مُراعًى فيه حالُ المعرَّضِ بهم بأنَّ اللهَ يَنصُرُ رُسلَه عليهم، وهمُ المشرِكون؛ لأنَّهم كانوا يُكذِّبون بذلك، وهذا وَعدٌ للمؤمنينَ بأنَّ اللهَ ناصِرُهم على مَن ظَلَمَهم في الحياةِ الدُّنيا بأنْ يُوقِعَ الظَّالِمَ في سُوءِ عاقبةٍ، أو بأنْ يُسلِّطَ عليه مَن يَنتقِمُ منه بنَحوٍ أو أشدَّ ممَّا ظلَمَ به مُؤمنًا [838] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/168). .
- قولُه: وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ أي: يومَ القِيامةِ، عُبِّرَ عنه بذلك؛ للإشعارِ بكَيفيَّةِ النُّصرةِ، وأنَّها تكونُ عندَ جميعِ الأوَّلينَ والآخِرينَ بشَهادةِ الأشهادِ للرُّسلِ بالتَّبليغِ، وعلى الكَفَرةِ بالتَّكذيبِ [839] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/280). .
2- قولُه تعالَى: يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ
- قولُه: يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ مِن بابِ نفْيِ الشَّيءِ بنَفْيِ لازِمِه؛ فأصلُ الكلامِ: ليس لهم مَعذرةٌ نافِعةٌ، فعُدِلَ إلى لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ؛ للمُبالَغةِ، وجُعِلَ انتِفاءُ النَّفعِ دليلًا على انتفاءِ العُذْرِ [840] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/172)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/527). .
- وتَقديمُ (لهم) في هاتَينِ الجُملتَين وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ؛ للاهتِمامِ بالانتقامِ منهم [841] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/169). .
3- قولُه تعالَى: وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ * هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ
- جُملةُ وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى ... مُعترِضةٌ بيْن لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا [غافر: 51] وبيْن التَّفريعِ عليه في قولِه: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [842] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/169). [غافر: 55] .
- قولُه: وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ أي: التَّوراةَ، وهو الَّذي أورَثَه اللهُ بني إسرائيلَ، وفي ذلك إيذانٌ بأنَّ الكتابَ مِن جُملةِ الهُدى الَّذي أُوتِيَه مُوسى، قال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ [المائدة: 44] ؛ ففي الكلامِ إيجازُ حَذْفٍ [843] الإيجازُ: هو الاختصارُ والجمعُ للمعاني الكثيرةِ بالألفاظِ القليلةِ، وأداءُ المقصودِ مِن الكلامِ بأقلَّ مِن عباراتِ مُتعارَفِ الأوساطِ. ويكونُ الإيجازُ محمودًا إذا لم يُخِلَّ بالمقصودِ. وقيل: الإيجازُ حذْفُ الفُضولِ، وتقريبُ البعيدِ. وقيل عن البلاغةِ كُلِّها: هي إصابةُ المعنى، وحُسنُ الإيجازِ. والإيجازُ نوعان؛ الأوَّلُ: إيجازُ القِصَرِ (ويُسمَّى إيجازَ البَلاغةِ)، وهو ما ليس بحَذْفٍ؛ كقولِه تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [البقرة: 179]؛ فإنَّه لا حذْفَ فيه مع أنَّ معناه كثيرٌ يَزيدُ على لفْظِه؛ لأنَّ المرادَ به أنَّ الإنسانَ إذا علِم أنَّه متَى قَتَل قُتِل، كان ذلك داعيًا له قويًّا إلى ألَّا يُقدِمَ على القِتال؛ فارتفع بالقتْلِ -الَّذي هو قِصاصٌ- كثيرٌ مِن قتْلِ النَّاسِ بعضِهم لبعضٍ؛ فكان ارتفاعُ القتلِ حياةً لهم. الثَّاني: إيجازُ الحَذْفِ. والإيجازُ بالحذفِ: هو حذْفُ ما يُعلَمُ ويُفهَمُ مِن سِياقِ الكلامِ بشرطِ وُجودِ مُقدَّرٍ يدُلُّ عليه؛ فقد يكونُ الإيجازُ بالحذفِ وغيرِه. والفرقُ بينَ الحذفِ والإيجازِ أن يكونَ في الحذفِ مقدَّرٌ، بخِلافِ الإيجازِ؛ فإنَّه عِبارةٌ عن اللَّفظِ القليلِ الجامعِ للمعاني الجمَّةِ بنفْسِه. يُنظر: ((البيان والتبيُّن)) للجاحظ (1/99)، ((العمدة في محاسن الشعر وآدابه)) لابن رَشِيق (1/242)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (3/181 وما بعدها)، ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 277)، ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (3/102)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 198). ، تَقديرُه: ولقدْ آتَيْنا مُوسى الهُدى والكتابَ، وأوْرَثْنا بني إسرائيلَ الكتابَ؛ فإنَّ مُوسى أُوتِيَ مِن الهُدى ما لم يَرِثْه بنو إسرائيلَ، وهو الرِّسالةُ، وأُوتِيَ مِن الهُدَى ما وَرِثه بنو إسرائيلَ، وهو الشَّريعةُ الَّتي في التَّوراةِ [844] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/169). .
4- قولُه تعالَى: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ
- قولُه: فَاصْبِرْ تَفريعٌ على قولِه: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا [غافر: 51] ، أي: فاعْلَمْ أنَّا ناصِروك والَّذين آمَنوا، واصبِرْ على ما تُلاقِيه مِن قَومِك ولا تَهِنْ [845] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/170). .
- وجُملةُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ تَعليلٌ للأمْرِ بالصَّبرِ؛ لأنَّ نُصرةَ الرُّسلِ في ضَمانِ اللهِ، وضَمانُ اللهِ لا يُخلَفُ. و(إنَّ) للاهتمامِ بالخبَرِ، وهي تُغْني غَناءَ فاءِ التَّعليلِ، فكأنَّه قِيل: فوَعْدُ اللهِ حقٌّ، ويُفادُ بـ (إنَّ) التَّأكيدُ الَّذي هو للاهتمامِ والتَّحقيقِ، والمعنى: لا تَستبطِئِ النَّصرَ؛ فإنَّه واقعٌ [846] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/170). .
- وعُطِفَ على الأمْرِ بالصَّبرِ الأمْرُ بالاستِغفارِ والتَّسبيحِ، فكانا داخلَينِ في سِياقِ التَّفريعِ على الوعْدِ بالنَّصرِ؛ رَمْزًا إلى تَحقيقِ الوعدِ؛ لأنَّه أمَرَ عَقِبَه بما هو مِن آثارِ الشُّكرِ؛ كِنايةً عن كَونِ نِعمةِ النَّصرِ حاصلةً لا مَحالةَ، وهذه كِنايةٌ رمْزيَّةٌ [847] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/170). .
- والأمْرُ بالاستغفارِ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ هذا مَقامُ التَّخليةِ عن الأكدارِ النَّفْسيَّةِ. وفيه تَعريضٌ بأنَّ أُمَّتَه صلَّى الله عليه وسلَّم مَطلوبون بذلك بالأحْرى. وأُمِرَ بتَسبيحِ اللهِ تعالى وتَنزيهِه بالعَشِيِّ والإبكارِ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ، أي: الأوقاتِ كلِّها -وذلك على قولٍ-؛ فاقتُصِرَ على طَرَفَيْ أوقاتِ العملِ، وهذا مَقامُ التَّحلِّي بالكَمالاتِ النَّفْسيَّةِ، وبذلك يَتِمُّ الشُّكرُ ظاهرًا وباطنًا [848] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/170، 171). .
- وجُعِلَ الأمْرانِ بالاستِغفارِ والتَّسبيحِ مَعطوفَينِ على الأمْرِ بالصَّبرِ؛ لأنَّ الصَّبرَ هنا لانتِظارِ النَّصرِ الموعودِ؛ ولذلك لم يُؤمَرْ بالصَّبرِ لَمَّا حصَلَ النَّصرُ في قولِه: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر: 1- 3] ؛ فإنَّ ذلك مَقامُ مَحضِ الشُّكرِ دونَ الصَّبرِ [849] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/171). .
5- قولُه تعالَى: إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ
- قولُه: إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ ... الآيةَ، استِئنافٌ ابتدائيٌّ، وهو كالتَّكريرِ لِجُملةِ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ [غافر: 35] تَكريرَ تَعدادٍ للتَّوبيخِ عِندَ تَنْهيةِ غَرَضِ الاستِدلالِ، كما يُوقَفُ الموبَّخُ المرَّةَ بعْدَ المرَّةِ [850] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/172). .
- وفائدةُ تَقييدِ مُجادَلةِ المشركينَ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنَّها بِغَيْرِ سُلْطَانٍ تَشنيعُ مُجادَلتِهم؛ وإلَّا فإنَّ المُجادَلةَ في آياتِ اللهِ لا تَكونُ إلَّا بغَيرِ سُلطانٍ؛ لأنَّ آياتِ اللهِ لا تكونُ مُخالِفةً للواقعِ، وكذلك وَصْفُ سُلْطَانٍ بجُملةِ أَتَاهُمْ؛ لِزِيادةِ تَفظيعِ مُجادَلتِهم بأنَّها عَرِيَّةٌ عن حُجَّةٍ لَديهم؛ فهم يُجادِلون بما ليس لهمْ به عِلمٌ [851] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/173). . وأيضًا تَقييدُ المجادَلةِ بذلكَ مع استِحالةِ إتيانِه؛ للإيذانِ بأنَّ التَّكلُّمَ في أمْرِ الدِّينِ لا بُدَّ مِن استِنادِه إلى سُلطانٍ مُبينٍ البتَّةَ، وهذا عامٌّ لكلِّ مُجادِلٍ مُبطِلٍ [852] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/281). .
- ومعنَى قولِه: إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ: ما يَحمِلُهم على المُجادَلةِ في آياتِ اللهِ إلَّا الكِبْرُ على الَّذي جاءهم بها، وليستْ مُجادَلتُهم لِدَليلٍ لاحَ لهم، وقد أُثبِتَ لهم الكِبرُ الباعثُ على المجادَلةِ بطَريقِ القصْرِ (إنْ - إلَّا)؛ ليُنْفَى أنْ يكونَ داعيَهم إلى المجادَلةِ شَيءٌ آخَرُ غيرُ الكِبرِ على وَجهٍ مُؤكَّدٍ؛ فإنَّ القصْرَ تأْكيدٌ على تأْكيدٍ؛ لِمَا يَتضَمَّنُه مِن إثباتِ الشَّيءٍ بوَجْهٍ مَخصوصٍ مُؤكَّدٍ، ومِن نفْيِ ما عَداه، فتَضمَّنَ جُملتَين [853] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/173). .
- وذِكرُ الصُّدورِ دونَ القُلوبِ؛ لِعِظَمِ الكِبْرِ جِدًّا، بأنَّه قد ملأ القُلوبَ وفاض منها حتَّى شَغَل الصُّدورَ الَّتي هي مَساكِنُها [854] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/92). ! وفيه وَجهٌ آخَرُ: أنَّه أطلَقَ الصُّدورَ على القُلوبِ؛ لأنَّها محلُّ القلوبِ [855] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/173). .
- وجُملةُ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ يَجوزُ أنْ تكونَ مُعترِضةً. ويجوزُ أنْ تكونَ في مَوضعِ الصِّفةِ لـ كِبْرٌ، وإذ قد كان الكِبرُ مُثبَتًا حُصولُه في نُفوسِهم إثباتًا مُؤكَّدًا بقولِه: إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ؛ تَعيَّنَ أنَّ نفْيَ بُلوغِهم الكِبْرَ مُنصرِفٌ إلى حالاتِ الكِبْرِ: فإمَّا أنْ يُرادَ نفْيُ أهْليَّتِهم للكِبرِ؛ إذ هم أقلُّ مِن أنْ يكونَ لهم الكِبرُ، فالمعنى هنا: كِبْرٌ زَيفٌ. وإمَّا أنْ يُرادَ نفْيُ نَوالِهم شيئًا مِن آثارِ كِبْرِهم، فالمعنى: ما همْ ببالِغينَ مُرادَهم الَّذي يأْمُلُونه منك في نُفوسِهم الدَّالَّةِ عليه أقوالُهم، مِثلُ قولِهم: نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطور: 30]، ونَحوِ ذلك مِن أقوالِهم الكاشفةِ لِآمالِهم.
وتَنكيرُ كِبْرٌ للتَّعظيمِ، أي: كِبرٌ شَديدٌ بتَعدُّدِ أنواعِه، وتَمكُّنِه مِن نُفوسِهم [856] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/267)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/174). .
- وقد نُفِيَ أنْ يَبلُغوا مُرادَهم بصَوغِه في قالبِ الجُملةِ الاسميَّةِ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ؛ لِإفادتِها ثَباتَ مَدلولِها ودَوامَه؛ فالمعنى: أنَّهم مَحرومون مِن بُلوغِه حِرمانًا مُستمِرًّا، فاشتمَلَ تَشويهُ حالِهم إثباتًا ونفْيًا على خُصوصيَّاتٍ بلاغيَّةٍ كثيرةٍ [857] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/174). .
- قولُه: فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ لَمَّا ضمِنَ اللهُ لِرسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ الَّذين يُجادِلونه فيما جاءَهمْ به يَحْدُوهم إلى الجِدالِ كِبْرُهم المُنْطوي على كَيدِهم، وأنَّهم لا يَبلُغون ما أضْمَروه وما يُضْمِرونه؛ فَرَّعَ على ذلك أنْ أمَرَه بأنْ يَجعَلَ اللهَ مَعاذَه منهم، أي: لا يَعبَأُ بما يُبيِّتونَه، أي: فَدُمْ على طلَبِ العَوذِ باللهِ. وحُذِفَ مُتعلَّقُ (استَعِذْ)؛ لِقَصْدِ تَعميمِ الاستِعاذةِ مِن كلِّ ما يُخافُ منه [858] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/175). .
- وجُملةُ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ تَعليلٌ للأمْرِ بالدَّوامِ على الاستِعاذةِ، أي: لأنَّه المطَّلِعُ على أقوالِهم وأعمالِهم، وأنت لا تُحِيطُ عِلمًا بتَصاريفِ مَكْرِهم وكَيدِهم [859] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/175). . فخَتَم الآيةَ بالسَّمعِ والبَصَرِ؛ لأنَّ ما يُؤذُونَ به النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إمَّا قَولٌ فيُدرَكُ بالسَّمْعِ، أو فِعلٌ فيُدرَكُ بالبَصَرِ، يعني: إنْ آذَوك بالقَولِ فنحن نَسمَعُ، أو بالفِعلِ فنحن نُبصِرُ، وهذا فيه تطمينٌ للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [860] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 396). .
- والتَّوكيدُ بحَرْفِ (إنَّ)، والحصْرُ بضَميرِ الفصْلِ هُوَ مُراعًى فيه التَّعريضُ بالمُتحدَّثِ عنهم، وهمُ الَّذين يُجادِلون في آياتِ اللهِ بغَيرِ سُلطانٍ، والمعنى: أنَّه هو القادرُ على إبطالِ ما يَصنعونه لا أنتَ، فكيف يَتِمُّ لهم ما أضْمَروه لك [861] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/175). ؟!
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، فإنَّه لَمَّا كان السِّياقُ للعياذِ مِن شَياطينِ الإنسِ الَّذين لهم المكْرُ الظَّاهرُ والباطنُ، ختَمَ بقولِه: فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ الصَّالحِ للبصَرِ والبصيرةِ، فيَعُمُّ المحسوسَ والمعلومَ، وختَمَ آيتَيِ (الأعراف) و(فُصِّلَت) بالسَّمعِ والعِلمِ، فقال: مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأعراف: 200] ، وقال: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [فصلت: 36] المسبوقَتَينِ بنَزْغِ الشَّيطانِ -الَّذي هو وَساوسُ وخَطراتٌ باطنةٌ- بالعليمِ [862] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/93). . فتأمَّلْ حكمةَ القرآنِ الكريمِ كيف جاء في الاستعاذةِ مِن الشيطانِ -الَّذي نَعْلَمُ وُجودَه ولا نَراه- بلفظِ «السَّميعِ العليمِ» في (الأعرافِ) و(فُصِّلَت)؛ وجاءتِ الاستِعاذةُ مِن شرِّ الإنسِ -الَّذين يُؤْنَسون ويُرَون بالإبصارِ- بلفظِ «السَّميعِ البصيرِ» في سورةِ (غافر)؛ لأنَّ أفعالَ هؤلاء أفعالٌ مُعايَنةٌ تُرى بالبصرِ، وأمَّا نَزْغُ الشَّيطانِ فوساوسُ وخَطَراتٌ يُلقيها في القلبِ يَتعلَّقُ بها العلمُ، فأَمَر بالاستِعاذةِ بـ «السَّميعِ العليمِ» فيها، وأمَر بالاستِعاذةِ بـ «السَّميعِ البصيرِ» في بابِ ما يُرى بالبصرِ ويُدْرَكُ بالرُّؤيةِ [863] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/238). .