موسوعة التفسير

سورةُ مُحمَّدٍ
الآيات (32-35)

ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ

غريب الكلمات:

وَشَاقُّوا: أي: عادَوْا، وخالَفوا، وجانَبوا، والمُشاقَّةُ عِبارةٌ عن كَونِ كلِّ واحدٍ مِن الخَصمينِ في شقٍّ غيرِ شقِّ صاحبِه، وأصلُ (شقق): يدُلُّ على انصِداعٍ في شَيءٍ [528]  يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 286)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/170)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 126)، ((تفسير القرطبي)) (16/254)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 217)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 542). .
تَهِنُوا: أي: تَضعُفوا، وأصلُ (وهن): يدُلُّ على ضَعْفٍ [529] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 112، 135)، ((تفسير ابن جرير)) (6/76)، ((المفردات)) للراغب (ص: 887)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 129). .
السَّلْمِ: أي: الصُّلْحِ والمُهادَنةِ والمُسالَمةِ، وأصلُ (سلم): يدُلُّ على صِحَّةٍ وعافيةٍ [530] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 81، 243)، ((تفسير ابن جرير)) (3/595)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/90)، ((المفردات)) للراغب (ص: 421، 423)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 31)، ((تفسير القرطبي)) (16/256)، ((تفسير ابن كثير)) (7/323). .
يَتِرَكُمْ: أي: يَنقُصَكم أو يَظلِمَكم، يُقالُ: وَتَرَه يَتِرُه وَتْرًا وتِرَةً: إذا نَقَصَه، وأصلُه مِنَ الوَتْرِ: وهو الفَردُ؛ فلن يُفرِدَهم ويُجَرِّدَهم مِن أعمالِهم، بل يُوَفِّيهم إيَّاها [531] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 411)، ((تفسير ابن جرير)) (21/229)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 524)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 357)، ((تفسير القرطبي)) (16/256)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 383)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 989). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى مُهدِّدًا الكافرينَ: إنَّ الَّذين كَفَروا وصَدُّوا النَّاسَ عن دينِ اللهِ، وخالَفوا رَسولَه مِن بَعدِ ما تَبَيَّنَ لهم الحَقُّ: لن يَضُرُّوا اللهَ شَيئًا بذلك، وسيُبطِلُ اللهُ أعمالَهم.
ثمَّ يأمُرُ اللهُ تعالى المؤمنينَ بالمُداوَمةِ على طاعتِه وطاعةِ رسولِه، ويَنهَى عن إبطالِ العمل، فيقولُ: يا أيُّها الَّذين آمَنوا أطيعوا اللهَ وأطيعوا رَسولَه، ولا تُبطِلوا أعمالَكم الصَّالِحةَ، وتُذهِبوها بالشِّركِ أو بغَيرِه مِمَّا يُحبِطُ الأعمالَ.
ثمَّ يُبيِّنُ الله سبحانَه سوءَ مصيرِ مَنِ استمَرَّ على كفرِه حتَّى مات عليه، فيقولُ: إنَّ الَّذين كَفَروا وصَدُّوا النَّاسَ عن دينِ اللهِ، ثمَّ ماتوا على كُفرِهم مِن غيرِ تَوبةٍ: فلن يَغفِرَ اللهُ لهم. ثمَّ يقولُ الله تعالى للمُؤمنينَ: فلا تَضعُفوا عن قِتالِ الكافِرينَ، وتَبدَؤوهم بالصُّلحِ والمُسالَمةِ، والحالُ أنَّكم الأعلَونَ الغالِبونَ لهم، واللهُ معكم، فيَحفَظُكم ويَنصُرُكم عليهم، ولن يَنقُصَكم اللهُ شيئًا مِن ثوابِ أعمالِكم.

تفسير الآيات:

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32).
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا.
أي: إنَّ الَّذين كَفَروا وصَدُّوا النَّاسَ عن دينِ اللهِ، وخالَفوا رَسولَه مُحمَّدًا؛ عِنادًا منهم مِن بَعدِ ما تَبَيَّنَ لهم أنَّه رَسولُ اللهِ حَقًّا، وأنَّ الإسلامَ هو دِينُه صِدقًا: لن يَضُرُّوا اللهَ شَيئًا بذلك؛ فهو غَنيٌّ عنهم، وإنَّما يَضُرُّونَ أنفُسَهم، وسيَنصُرُ اللهُ رَسولَه، ويُظهِرُ دِينَه، ويُعلِي كَلِمتَه [532] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/225)، ((تفسير القرطبي)) (16/254)، ((تفسير السعدي)) (ص: 789)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/386، 387). قال الرازي: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ ... وفيه وجْهانِ؛ أحدُهما: هم أهلُ الكِتابِ؛ قُرَيْظةُ والنَّضيرُ. والثَّاني: كفَّارُ قُرَيشٍ). ((تفسير الرازي)) (28/60). وقال القرطبي: (يَرجِعُ إلى المنافقينَ أو إلى اليهودِ. وقال ابنُ عبَّاسٍ: هم المطعمونَ يومَ بَدْرٍ). ((تفسير القرطبي)) (16/254). وذهب ابنُ كثيرٍ إلى أنَّ هذه الآيةَ في المُرتدِّينَ عن الإيمانِ، وأنَّهم لن يَضُرُّوا إلَّا أنفُسَهم، ولا يُثيبُهم اللهُ على ما عَمِلوه مِنَ الصَّالحاتِ قبْلَ رِدَّتِهم. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/322). ممَّن اختار المعنى المذكورَ لقولِه: وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، ومكِّي، والسمعاني، والشوكاني، والسعدي، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/50)، ((تفسير ابن جرير)) (21/225)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (11/6918)، ((تفسير السمعاني)) (5/184)، ((تفسير الشوكاني)) (5/49)، ((تفسير السعدي)) (ص: 789)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/386). قال الشنقيطي: (وَصَدُّوا هنا إن قُدِّرَتْ لازِمةً فمعنَى الصُّدودِ: الكفرُ، فتكونُ كالتَّوكيدِ لقولِه: كَفَرُوا. وإن قُدِّرَتْ مُتعَدِّيةً كان ذلك تأسيسًا؛ لأنَّ قولَه: كَفَرُوا يدُلُّ على كفرِهم في أنفُسِهم، وقوله: وَصَدُّوا على أنَّه مُتعَدٍّ يدُلُّ على أنَّهم حمَلوا غيرَهم على الكفرِ، وصَدُّوه عن الحقِّ، وهذا أرجَحُ ممَّا قبْلَه). ((أضواء البيان)) (7/386). وقال ابن عثيمين في فعلِ «صَدَّ»: (الأَولى أن نقولَ: إنَّه مُتعَدٍّ؛ لأنَّ مَن صدَّ غيرَه فهو عن الحقِّ أصَدُّ، لكنْ مَن صدَّ بنفْسِه فقد لا يَصُدُّ غيرَه. فالأَولى أن نحمِلَ ما جاء في القرآنِ مِن ذِكرِ الصَّدِّ على الشَّيءِ المُتعدِّي، لا على اللَّازِمِ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 398). .
كما قال تعالى: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء: 115] .
وقال سُبحانَه: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران: 97] .
وقال الله تبارك وتعالى: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [الصف: 8، 9].
وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ.
أي: وسيُبطِلُ اللهُ أعمالَهم؛ فلا يَنالونَ منها نَفعًا، ولا يَحصُلونَ منها على طائِلٍ [533] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/225)، ((تفسير القرطبي)) (16/254)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/259)، ((تفسير السعدي)) (ص: 789)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/126). .
كما قال الله تبارك وتعالى: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ [إبراهيم: 18].
وقال سُبحانَه وتعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [النور: 39] .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33).
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ.
أي: يا أيُّها الَّذين آمَنوا أطيعوا اللهَ وأطيعوا رَسولَه، بامتثالِ الأوامرِ، واجتنابِ النَّواهي، بإخلاصٍ للهِ تعالى، ومُتابَعةٍ لِشَرعِه [534] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/225)، ((تفسير القرطبي)) (16/254)، ((تفسير الشوكاني)) (5/49)، ((تفسير السعدي)) (ص: 789). .
وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ.
أي: ولا تُبطِلوا -أيُّها المُؤمِنونَ- أعمالَكم الصَّالِحةَ، وتُذهِبوها بالشِّركِ، أو الرِّدَّةِ عن الإسلامِ، أو بغَيرِ ذلك مِمَّا يُحبِطُ الأعمالَ، ويُذهِبُ نَفْعَها وثَوابَها [535] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/225)، ((تفسير القرطبي)) (16/254)، ((تفسير ابن كثير)) (7/323). قال ابن تيميَّة: (وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ أي: لا تَجعَلوها باطِلةً؛ لا مَنفعةَ فيها ولا ثوابَ ولا فائِدةَ). ((مجموع الفتاوى)) (2/417). وقال ابن القيِّم: (إبطالُها: تَركُ الصَّبرِ على إتمامِها). ((مدارج السالكين)) (2/151). وقال ابنُ عاشور: (معنى النَّهيِ عن إبطالِهم الأعمالَ: النَّهيُ عن أسبابِ إبطالِها... وتَسمَحُ محامِلُه بأن يَشملَ النَّهيَ والتَّحذيرَ عن كُلِّ ما بيَّنَ الدِّينُ أنَّه مُبطِلٌ للعَمَلِ كُلًّا أو بَعضًا، مِثلُ: الرِّدَّةِ، ومِثلُ الرِّياءِ في العَمَلِ الصَّالحِ؛ فإنَّه يُبطِلُ ثَوابَه). ((تفسير ابن عاشور)) (26/127). وقال ابن جُزَي: (وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ يَحتملُ أربعةَ مَعانٍ؛ أحدُها: لا تُبطِلوا أعمالَكم بالكُفرِ بعدَ الإيمانِ. والثَّاني: لا تُبطِلوا حَسَناتِكم بفِعلِ السَّيِّئاتِ. ذَكَره الزَّمخشريُّ، وهذا على مذهبِ المعتزِلةِ، خِلافًا للأشعريَّةِ؛ فإنَّ مَذهَبهم أنَّ السَّيِّئاتِ لا تُبطِلُ الحسَناتِ. والثَّالثُ: لا تُبطِلوا أعمالَكم بالرِّياءِ والعُجبِ. والرَّابعُ: لا تُبطِلوا أعمالَكم بأن تَقتَطِعوها قبْلَ تَمامِها). ((تفسير ابن جزي)) (2/284). وقد دلَّت النُّصوصُ على أنَّ حُبوطَ الحَسناتِ كلِّها لا يكونُ إلَّا بالرِّدَّةِ، وهو حبوطٌ عامٌّ، ودلَّت النُّصوصُ أيضًا على أنَّ بعضَ الحَسناتِ يحبطُ ببَعضِ السَّيِّئاتِ، وهو حُبوطٌ جُزئيٌّ. يُنظر: ((الصلاة وأحكام تاركها)) لابن القيم (ص: 66). ويُنظر أيضًا: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (10/637-640). وقال السعدي: (قوله: وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ يَشملُ النَّهيَ عن إبطالِها بعدَ عَمَلِها، بما يُفسِدُها؛ مِنْ مَنٍّ بها وإعجابٍ، وفَخرٍ وسُمعةٍ، ومِن عَمَلٍ بالمعاصي الَّتي تَضمَحِلُّ معها الأعمالُ، ويُحبَطُ أجرُها، ويَشملُ النَّهيَ عن إفسادِها حالَ وُقوعِها؛ بقَطْعِها، أو الإتيانَ بمُفسِدٍ مِن مُفسِداتِها، فمُبطِلاتُ الصَّلاةِ والصِّيامِ والحَجِّ ونَحوِها كُلُّها داخِلةٌ في هذا، ومَنهيٌّ عنها). ((تفسير السعدي)) (ص: 789). .
كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا [البقرة: 264] .
وقال سُبحانَه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ [الحجرات: 2] .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((أَتَدرُونَ ما المُفلِسُ؟ قالوا: المُفلِسُ فينا مَن لا دِرهمَ له ولا مَتاعَ، فقال: إنَّ المُفلِسَ مِن أُمَّتي يأتي يومَ القيامةِ بصَلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ، ويأتي قد شَتَم هذا، وقَذَف هذا، وأكَلَ مالَ هذا، وسَفَكَ دَمَ هذا، وضَرَب هذا؛ فيُعطَى هذا مِن حَسَناتِه، وهذا مِن حَسَناتِه، فإنْ فَنِيَت حَسَناتُه قبْلَ أن يَقضِيَ ما عليه أُخِذَ مِن خطاياهم، فطُرِحَت عليه، ثمَّ طُرِحَ في النَّارِ! )) [536] رواه مسلم (2581). .
ثمَّ بيَّن سبحانَه أنَّه لا يغفِرُ للمُصِرِّينَ على الكُفرِ، والصدِّ عن سبيلِ الله [537] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (5/49). ، فقال:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34).
أي: إنَّ الَّذين كَفَروا وصَدُّوا النَّاسَ عن دينِ اللهِ، ثمَّ ماتوا على كُفرِهم مِن غيرِ تَوبةٍ: فلن يَغفِرَ اللهُ ذُنوبَهم؛ فلا يَستُرُها عليهم، ولا يَتجاوَزُ عن مُؤاخَذَتِهم بها [538] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/51)، ((تفسير ابن جرير)) (21/226)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/261، 262)، ((تفسير السعدي)) (ص: 790). قال الألوسي في قولِه تعالى: وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ: (امتنعَوا عن الدُّخولِ في الإسلامِ وسلوكِ طريقِه، أو صَدُّوا النَّاسَ عنه ثُمَّ ماتُوا). ((تفسير الألوسي)) (13/234). ويُنظر ما تقدَّم (ص: 562). وقال الشوكاني: (قيَّد سبحانه عدَمَ المغفرةِ بالموتِ على الكُفرِ؛ لأنَّ بابَ التَّوبةِ وطريقَ المغفرةِ لا يُغلَقانِ على مَن كان حيًّا). ((تفسير الشوكاني)) (5/49). وقال ابن عطية: (وظاهرُ الآيةِ العمومُ في كلِّ ما تناولَتْه الصِّفةُ). ((تفسير ابن عطية)) (5/122). .
كما قال الله تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ [البقرة: 161، 162].
فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا بيَّن أنَّ عَمَلَ الكافِرِ الَّذي له صورةُ الحَسناتِ مُحبَطٌ، وذَنْبَه الَّذي هو أقبَحُ السَّيِّئاتِ غيرُ مَغفورٍ؛ بيَّنَ أنْ لا حُرمةَ له في الدُّنيا ولا في الآخِرةِ، وقد أمَرَ اللهُ تعالى بطاعةِ الرَّسولِ بقَولِه: وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [محمد: 33]، وأمَرَ بالقِتالِ بقَولِه: فَلَا تَهِنُوا، أي: لا تَضعُفوا بعدَما وُجِدَ السَّببُ في الجِدِّ في الأمرِ، والاجتِهادِ في الجِهادِ [539] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/61). .
وأيضًا لَمَّا قدَّمَ اللهُ سُبحانَه ذمَّ الكَفَرةِ، وأنَّه يُبطِلُ أعمالَهم في الدُّنيا في الحَربِ وغيرِها، وختَمَ بأنَّ عَداوَتَه لهم مُتحتِّمةٌ، لا انفِكاكَ لها، وكان ذلك موجِبًا للاجتِراءِ عليهم- سبَّبَ عنه قَولَه مُرغِّبًا لهم في لُزومِ الجِهادِ، مُحذِّرًا مِن تَركِه [540] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/263، 264). :
فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ.
أي: فلا تَضعُفوا -أيُّها المُؤمِنونَ- عن قِتالِ الكافِرينَ، وتَبدَؤوا بدَعوتِهم إلى الصُّلحِ والمُسالَمةِ، والحالُ أنَّكم العالُون عليهم، القاهِرونَ الغالِبونَ لهم [541] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/226-228)، ((تفسير السعدي)) (ص: 790)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/130-132)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/389، 390). قال القرطبي: (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ أي: وأنتم أعلَمُ بالله منهم. وقيل: وأنتمُ الأعلَوْن في الحُجَّةِ. وقيل: المعنى: وأنتمُ الغالِبون؛ لأنَّكم مؤمنونَ، وإنْ غَلَبوكم في الظَّاهِرِ في بعضِ الأحوالِ). ((تفسير القرطبي)) (16/256). وقال الشنقيطي: (الْأَعْلَوْنَ أي: الأقهَرُون والأغلَبُون لأعدائِكم، ولأنَّكم تَرجُون مِن الله مِن النَّصرِ والثَّوابِ ما لا يَرجُون. وهذا التَّفسيرُ في قَولِه: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ هو الصَّوابُ. وتدُلُّ عليه آياتٌ مِن كتابِ الله). ((أضواء البيان)) (7/389). .
كما قال تعالى: وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ *إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران: 139، 140].
وقال سُبحانَه: وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ [النساء: 104].
وَاللَّهُ مَعَكُمْ.
أي: واللهُ معكم، فيَحفَظُكم ويُعينُكم، ويَنصُرُكم على الكافِرينَ [542] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/227)، ((تفسير القرطبي)) (16/256)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/262، 263)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/132)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/390). .
كما قال سُبحانَه: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت: 69] .
وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ.
أي: ولن يَنقُصَكم اللهُ شيئًا مِن ثوابِ أعمالِكم، أو يُحبِطَها ويُبطِلَها [543] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/229)، ((تفسير القرطبي)) (16/256)، ((تفسير ابن كثير)) (7/323)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/263)، ((تفسير السعدي)) (ص: 790)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/132)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/390، 391). .
كما قال تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة: 143] .
وقال سُبحانَه: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء: 47] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ [محمد: 4] .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ يأمُرُ تعالى المُؤمِنينَ بأمرٍ به تَتِمُّ أمورُهم، وتَحصُلُ سَعادتُهم الدِّينيَّةُ والدُّنيويَّةُ، وهو: طاعتُه وطاعةُ رَسولِه في أُصولِ الدِّينِ وفُروعِه، والطَّاعةُ هي امتِثالُ الأمرِ، واجتِنابُ النَّهيِ على الوَجهِ المأمورِ به، بالإخلاصِ وتمامِ المُتابَعةِ [544] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 789). .
2- قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ قَولُ الله تعالى: وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ أي: بمعصيةِ الله ورسولِه؛ فإنَّ الأعمالَ الصَّالِحةَ إذا نُويَ بها ما لا يُرضي اللهَ ورسولَه بَطَلَت، وإن كانت في الذِّروةِ مِن حُسنِ الصُّورةِ؛ فكانت صورةً بلا مَعنًى، فهي ممَّا يكونُ هَباءً مَنثورًا، مِثلُ ما فعل أولئك المُظهِرونَ للإيمانِ، المُبطِنونَ للمُشاقَقةِ، بالنِّفاقِ والرِّياءِ، والعُجبِ، والأذى ونحوِ ذلك مِنَ المعاصي، ولكِنَّ السِّياقَ بسِياقِه ولَحاقِه يدُلُّ على أنَّ الكُفرَ هو المرادُ الأعظَمُ بذلك [545] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/260). .
3- قال اللهُ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ تفسيرُ الإبطالِ هاهنا بالرِّدَّةِ لأنَّها أعظَمُ المُبطِلاتِ، لا لأنَّ المُبطِلَ يَنحصِرُ فيها، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى [البقرة: 264] ، فهذانِ سَببانِ عَرَضَا بعدُ للصَّدقةِ فأبْطَلاها، شبَّهَ سُبحانَه بُطلانَها بالمَنِّ والأذَى بحالِ المُتصدِّقِ رِياءً في بُطلانِ صَدقةِ كلِّ واحِدٍ منهما، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ [الحجرات: 2] ، وفي الصَّحيحِ [546] أخرجه البخاري (553) من حديث بُرَيْدةَ رضيَ الله عنه. عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((مَن تَرَك صَلاةَ العَصرِ فقد حَبِطَ عَمَلُه)) [547] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/289). ، والحُبوطُ نَوعانِ: عامٌّ وخاصٌّ، فالعامُّ: حُبوطُ الحَسناتِ كلِّها بالرِّدَّةِ والسَّيِّئاتِ كلِّها بالتَّوبةِ، والخاصُّ: حُبوطُ السَّيِّئاتِ والحَسناتِ بَعضِها ببَعضٍ، وهذا حُبوطٌ مُقيَّدٌ جُزئيٌّ [548] يُنظر: ((الصلاة وأحكام تاركها)) لابن القيم (ص: 66). .
4- قَولُ اللهِ تعالى: فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ هذه الأمورُ الثَّلاثةُ كُلٌّ منها مُقتَضٍ للصَّبرِ وعَدَمِ الوَهْنِ؛ الأوَّلُ: كَونُهم الأعلَيْنَ. الثَّاني: أنَّ اللهَ معهم. الثَّالِثُ: أنَّ اللهَ لا يَنقُصُهم مِن أعمالِهم شَيئًا، بل سيُوَفِّيهم أُجورَهم، ويَزيدُهم مِن فَضْلِه، خُصوصًا عِبادةَ الِجهادِ، فإذا عَرَف الإنسانُ أنَّ اللهَ تعالى لا يُضِيعُ عَمَلَه وجِهادَه، أوجَبَ له ذلك النَّشاطَ وبَذْلَ الجُهدِ فيما يَترتَّبُ عليه الأجرُ والثَّوابُ، فكيف إذا اجتمَعَت هذه الأمورُ الثَّلاثةُ؟ فإنَّ ذلك يُوجِبُ النَّشاطَ التَّامَّ؛ فهذا مِن تَرغيبِ اللهِ لعِبادِه وتَنشيطِهم، وتَقويةِ أنفُسِهم على ما فيه صَلاحُهم وفَلاحُهم [549] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 790). .
5- قَولُ اللهِ تعالى: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ فيه إرشادٌ بمَنْعِ المُكَلَّفِ مِن الإعجابِ بنَفْسِه؛ وذلك لأنَّه تعالى لَمَّا قال: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ كان ذلك سبَبَ الافتِخارِ، فقال: وَاللَّهُ مَعَكُمْ، يعني: ليس ذلك مِن أنفُسِكم، بل مِنَ اللهِ [550] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/61). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ فيه سُؤالٌ: قد تقَدَّمَ في أوَّلِ السُّورةِ أنَّ اللهَ تعالى أحبَطَ أعمالَهم، فكيف يُحبِطُ في المُستَقبَلِ؟
الجوابُ مِن وَجهَينِ:
الوَجهُ الأوَّلُ: أنَّ المرادَ مِن قَولِه: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [محمد: 1] في أوَّلِ السُّورةِ: المُشرِكونَ، ومِن أوَّلِ الأمرِ كانوا مُبطِلينَ، وأعمالُهم كانت على غَيرِ شَريعةٍ، والمرادُ مِن الَّذين كَفَروا هاهنا: أهلُ الكِتابِ، وكانت لهم أعمالٌ قبْلَ الرَّسولِ، فأحبَطَها اللهُ تعالى؛ بسَبَبِ تَكذيبِهم الرَّسولَ، ولا يَنفَعُهم إيمانُهم بالحَشرِ والرُّسُلِ والتَّوحيدِ، والكافِرُ المُشرِكُ أحبطَ عمَلَه؛ حيثُ لم يكُنْ على شَرعٍ أصلًا، ولا كان مُعتَرِفًا بالحَشرِ.
الوَجهُ الثَّاني: أنَّ المرادَ بالأعمالِ هاهنا مَكايِدُهم في القِتالِ، واللهُ سيُبطِلُه؛ حيث يكونُ النَّصرُ للمُؤمِنينَ، والمرادُ بالأعمالِ في أوَّلِ السُّورةِ هو ما ظَنُّوه حَسَنةً [551] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/60). .
الوجه الثَّالثُ: أنَّ حصولَ الإحباطِ في المستقبَلِ يدُلُّ على أنَّ اللهَ مُحبِطٌ أعْمالَهم مِنَ الآنَ؛ إذ لا يُعجِزُه ذلك حتَّى يَترصَّدَ به المُستقبَلَ [552] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/126). .
2- قَولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ * فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ، في الآياتِ تَرتيبٌ في غايَةِ الحُسنِ؛ وذلك لأنَّ قَولَه: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ يَقْتَضي السَّعيَ في القِتالِ؛ لأنَّ أمْرَ اللهِ وأمْرَ الرَّسولِ ورَدَ بالجهادِ، وقد أُمِروا بالطَّاعةِ؛ فذلك يَقْتَضي ألَّا يَضعُفَ المُكلَّفُ ولا يَكسَلَ ولا يَهِنَ ولا يَتهاوَنَ، ثم إنَّ بعدَ المُقتَضى قد يتحقَّقُ مانعٌ، ولا يتحقَّقُ المُسبَّبُ، والمانِعُ مِن القتالِ إمَّا أُخرَويٌّ وإمَّا دُنيويٌّ، فذَكرَ الأُخروِيَّ، وهو: أنَّ الكافِرَ لا حُرمةَ له في الدُّنيا والآخِرةِ؛ لأنَّه لا عَمَلَ له في الدُّنيا، ولا مَغفِرةَ له في الآخِرةِ؛ فإذا وُجِد السَّببُ ولم يوجَدِ المانِعُ يَنبَغي أن يتحقَّقَ المُسبَّبُ، ولم يُقَدِّمِ المانِعَ الدُّنيَوِيَّ على قَولهِ: فَلَا تَهِنُوا؛ إشارةً إلى أنَّ الأُمورَ الدُّنيَوِيَّةَ لا يَنبَغي أن تكونَ مانِعةً مِنَ القِتالِ، فلا تَهِنوا فإنَّ لكمُ النَّصرَ، ثمَّ قال تعالى بعدَ ذلك: المانِعُ الدُّنيوِيُّ مع أنَّه لا يَنبَغي أن يكونَ مانعًا ليس بموجودٍ أيضًا؛ حيث أنتمُ الأعلَوْنَ [553] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/61). .
3- في قَولِه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ أنَّ ما جاءَت به السُّنَّةُ جاء في القُرآنِ؛ لأنَّ اللهَ أَمَرَنا أنْ نُطيعَ اللهَ ورَسولَه [554] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) لابن عثيمين (2/629). .
4- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ هذه الآيةُ والَّتي في (البَقَرةِ) في قَولِه تعالى: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ [البقرة: 217] مُقَيِّدَتانِ لِكُلِّ نَصٍّ مُطلَقٍ فيه إحباطُ العَمَلِ بالكُفرِ؛ فإنَّه مُقَيَّدٌ بالموتِ عليه [555] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 790). .
5- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ يُبَيِّنُ أنَّ اللهَ لا يَغفِرُ الشِّركَ، وما دونَ ذلك يَغفِرُه إن شاءَ [556] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/61). .
6- قال الله تعالى: وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ يَستَدِلُّ الفُقَهاءُ بهذه الآيةِ على تحريمِ قَطْعِ الفَرْضِ، وكراهةِ قَطْعِ النَّفلِ، مِن غيرِ مُوجِبٍ لذلك، وإذا كان اللهُ قد نهى عن إبطالِ الأعمالِ فهو أمرٌ بإصلاحِها وإكمالِها وإتمامِها، والإتيانِ بها على الوَجهِ الَّذي تَصلُحُ به عِلمًا وعَمَلًا [557] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 789). ويُنظر أيضًا: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 239). .
7- قَولُه تعالى: فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ استُدِلَّ به على أنَّ الهُدْنةَ لا تَجوزُ مع قُوَّةِ الإسلامِ وكَثرةِ أهلِه، واستِعلائِهم على أعدائِهم، ولا يُضرَبُ لها مُدَّةٌ صَغيرةٌ ولا كَبيرةٌ [558] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/153). ويُنظر أيضًا: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/263). .
8- قَولُ اللهِ تعالى: فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ لا يُنافي السَّلْمَ المأذونَ فيه بقَولِه تعالى: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا [الأنفال:61] ؛ فإنَّه سَلْمٌ طَلَبَه العَدُوُّ، فليست هذه الآيةُ ناسِخةً لآيةِ الأنفالِ، ولا العَكسُ، ولِكُلٍّ حالةٌ خاصَّةٌ؛ ومُقَيَّدٌ بكَونِ المُسلِمينَ في حالةِ قُوَّةٍ ومَنَعةٍ وعِدَّةٍ وعُدَّةٍ، بحيثُ يَدْعونَ إلى السَّلمِ رَغبةً في الدَّعَةِ، فإذا كان للمُسلِمينَ مَصلحةٌ في السَّلْمِ، أو كان أخَفَّ ضُرًّا عليهم؛ فلَهم أن يَبتَدِئوا إذا احتاجوا إليه، وأن يُجيبوا إليه إذا دُعُوا إليه، وقد صالَحَ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم المُشرِكينَ يومَ الحُدَيبيَةِ؛ لِمَصلحةٍ ظَهَرت فيما بَعدُ، وصالَحَ المُسلِمونَ في غَزْوِهم إفريقيَّةَ أهلَها، وانكفَؤوا راجِعينَ إلى مِصرَ [559] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/131). ويُنظر أيضًا: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/390). .
9- المؤمِنُ عزيزٌ غالِبٌ، مُؤَيَّدٌ مَنصورٌ، مَكفِيٌّ مَدفوعٌ عنه بالذَّاتِ أين كانَ، ولو اجتَمعَ عليه مَن بأقطارِها؛ إذا قام بحقيقةِ الإيمانِ وواجباتِه ظاهِرًا وباطِنًا، وقد قال اللهُ تعالى للمُؤمِنينَ: فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ، فهذا الضَّمانُ إنَّما هو بإيمانِهم وأعمالِهم الَّتي هي جُندٌ مِن جُنودِ اللهِ يَحفظُهم بها، ولا يُفرِدُها عنهم ويَقتَطِعُها عنهم فيُبطِلَها عليهم، كما يَتِرُ الكافِرينَ والمُنافِقينَ أعمالَهم؛ إذْ كانت لِغَيرِه، ولم تكُنْ مُوافِقةً لأمْرِه [560] يُنظر: ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (2/182). .

بلاغة الآيات:

1- قَولُه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ على أنَّ المَعنِيَّ بالَّذين كَفَروا هنا الَّذين كَفَروا المَذْكورون في أوَّلِ هذه السُّورةِ وفيما بعْدُ مِن الآياتِ الَّتي جَرى فيها ذِكرُ الكافِرينَ، أي: الكُفَّارِ الصُّرحاءِ؛ عاد الكلامُ إليهم بعْدَ الفَراغِ مِن ذِكرِ المُنافِقينَ الَّذين يُخْفُون الكُفْرَ عَوْدًا على بَدْءٍ؛ لِتَهوينِ حالِهم في نُفوسِ المُسلِمينَ؛ فبَعْدَ أنْ أخبَرَ اللهُ أنَّه أضَلَّ أعْمالَهم، وأنَّهم اتَّبَعوا الباطلَ، وأمَرَ بضَرْبِ رِقابِهم، وأنَّ التَّعْسَ لهم، وحقَّرَهم بأنَّهم يَتمتَّعون ويأْكُلون كما تَأكُلُ الأنعامُ، وأنَّ اللهَ أهلَكَ قُرًى هي أشدُّ منهم قُوَّةً، ثمَّ جَرى ذِكرُ المُنافِقين بعْدَ ذلك؛ ثُنِيَ عِنانُ الكلامِ إلى الَّذين كَفَروا أيضًا؛ لِيُعرِّفَ اللهُ المُسلِمينَ بأنَّهم في هذه المآزِقِ الَّتي بيْنَهم وبيْنَ المُشرِكين لا يَلحَقُهم منْهم أدْنى ضُرٍّ، ولِيَزيدَ وَصْفَ الَّذين كَفَروا بأنَّهم شاقُّوا الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ فالجُملةُ استِئنافٌ ابتِدائيٌّ، وهي تَوطئةٌ لِقَولِه: فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ [561] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/125). [محمد: 35] .
- قولُه: وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى المُشاقَّةُ: المُخالَفةُ، كُنِّيَ بالمُشاقَّةِ عن المُخالَفةِ؛ لأنَّ المُستقِرَّ بشِقٍّ مُخالِفٌ لِلْمستقِرِّ بشِقٍّ آخَرَ، فكِلاهما مُخالِفٌ؛ فلذلك صِيغَتْ منه صِيغةُ المُفاعَلةِ [562] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/125). .
- قولُه: لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا انتصَبَ شَيْئًا على المَفعولِ المُطلَقِ لـ يَضُرُّوا، والتَّنوينُ لِلتَّقْليلِ، أي: لا يَضُرُّون في المُستقبَلِ اللهَ أقلَّ ضُرٍّ [563] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/126). .
2- قَولُه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ اعتِراضٌ بيْن جُملةِ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ [محمد: 32] ، وبيْن جُملةِ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ [محمد: 34] ، وُجِّهَ به الخِطابُ إلى المُؤمِنينَ بالأمْرِ بِطاعةِ اللهِ ورَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وتَجنُّبِ ما يُبطِلُ الأعمالَ الصَّالحةَ؛ اعتِبارًا بما حُكِيَ مِن حالِ المُشرِكين في الصَّدِّ عن سَبيلِ اللهِ، ومُشاقَّةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ [564] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/126، 127). .
- والآيةُ مِن الاحتِباكِ [565]  الاحتِباكُ: هو الحذفُ مِن الأوائلِ لدَلالةِ الأواخِرِ، والحذفُ مِن الأواخرِ لدَلالةِ الأوائلِ، إذا اجتمَع الحَذفانِ معًا، وله في القرآنِ نظائرُ، وهو مِن إبداعاتِ القرآنِ وعناصرِ إعجازِه، وهو مِن ألطفِ الأنواعِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/204)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/347). : ذَكرَ الطَّاعةَ أوَّلًا دليلًا على المَعصيةِ ثانيًا، والإبطالَ ثانيًا دليلًا على الصِّحَّةِ أوَّلًا، وسِرُّه أنَّه أمَرَ بمَبدأِ السَّعادةِ، ونَهى عن نِهايةِ الفَسادِ ثانيًا؛ لأنَّه أعظَمُ في النَّهيِ عن الفسادِ؛ لِمَا فيه من تَقبيحِ صورتِه، وهَتكِ سَريرتِه [566] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/260، 261). .
3- قَولُه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ هذه الآيةُ تَكمِلةٌ لِآيةِ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ إلخ [محمد: 32] ؛ لأنَّ تلك مَسوقةٌ لِعَدَمِ الاكتِراثِ بمَشاقِّهم، ولِبَيانِ أنَّ اللهَ مُبطِلٌ صَنائعَهم، وهذه مَسوقةٌ لِبَيانِ عَدَمِ انتِفاعِهم بمَغفرةِ اللهِ إذا ماتوا على ما همْ عليه مِن الكُفْرِ؛ فهي مُستأنَفةٌ استِئنافًا ابتِدائيًّا [567] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/129). .
- واقتِرانُ خَبرِ المَوصولِ بالفاءِ في قَولِه: فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إيماءٌ إلى أنَّه أُشرِبَ مَعنى الشَّرطِ؛ فلا يُرادُ به ذو صِلةٍ مُعيَّنٌ، بلِ المُرادُ كلُّ مَن تَحقَّقتْ فيه ماهيَّةُ الصِّلةِ، وهي الكُفْرُ والمَوتُ على الكُفْرِ [568] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/129). .
4- قَولُه تعالى: فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ الفاءُ في فَلَا تَهِنُوا لِلتَّفريعِ على ما تَقرَّرَ في نُفوسِ المُؤمِنينَ مِن خَذْلِ اللهِ تعالَى المُشرِكين بما أخبَرَ به مِن أنَّه أضَلَّ أعْمالَهم، وقدَّرَ لهم التَّعْسَ، وبما ضَرَب لهم مِن مَصائرِ أمْثالِهم مِن الَّذين مِن قبْلِهم؛ دَمَّرَهم اللهُ وأهْلَكَهم ولم يَجِدوا ناصِرًا، وما وَعَدَ به المُؤمِنينَ مِن النَّصْرِ عليهم، وما أمَرَهم به مِن قِتالِهم، وبتَكلُّفِه للمؤمنينَ بالولايةِ، وما وَعَدَهم مِن الجَزاءِ في دارِ الخُلْدِ، وبما أتْبَعَ ذلك مِن وَصْفِ كَيدِ فَريقِ المُنافِقين للمؤمنينَ وتَعهُّدِهم بإعانةِ المُشرِكين، وذلك ممَّا يُوجِسُ منه المؤمِنون خِيفةً؛ إذ يَعلَمون أنَّ أعْداءً لهم مُنْبَثُّونَ بيْنَ ظَهْرانَيْهم؛ فعلَى ذلك كلِّه فُرِّعَ نَهْيُهم عن الوَهنِ وعن المَيلِ إلى الدَّعةِ، ووعَدَهم بأنَّهم المُنتصِرونَ، وأنَّ اللهَ مُؤيِّدُهم. ويَجوزُ أنْ يُجعَلَ التَّفريعُ على أقرَبِ الأخبارِ المُتقدِّمةِ، وهو قَولُه: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ [569] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/129، 130). [محمد: 31] .
- وعُطِفَ وَتَدْعُوا على تَهِنُوا؛ فهو مَعمولٌ لِحَرْفِ النَّهيِ، والمعنى: ولا تَدْعوا إلى السَّلْمِ، وهو عطْفُ خاصٍّ على عامٍّ مِن وَجْهٍ؛ لأنَّ الدُّعاءَ إلى السَّلْمِ مع المَقْدِرةِ مِن طَلَبِ الدَّعةِ لِغَيرِ مَصلحةٍ. وإنَّما خُصَّ بالذِّكْرِ؛ لِئلَّا يُظَنَّ أنَّ فيه مَصلحةَ استِبْقاءِ النُّفوسِ؛ فإنَّ المُشرِكين يَومَئذٍ كانوا مُتكالِبينَ على المُسلِمينَ، فرُبَّما ظَنَّ المُسلِمون أنَّهم إنْ تَداعَوا معهم لِلسَّلْمِ أَمِنوا منهم، فعَرَّفَهم اللهُ أنَّ ذلك يَعودُ عليهم بالمَضرَّةِ؛ لأنَّه يَحُطُّ مِن شَوكَتِهم في نَظَرِ المُشرِكين، فيَحسَبونهم طَلَبوا السَّلْمَ عن ضَعفٍ، فيَزِيدُهم ذلك ضَراوةً عليهم، وتَستخِفُّ بهمْ قَبائلُ العَرَبِ بعْدَ أنْ أخَذوا مِن قُلوبِهم مَكانَ الحُرْمةِ، وتَوقُّعِ البأْسِ، ولهذا المَقصدِ الدَّقيقِ جمَعَ بيْن النَّهْيِ عن الوَهنِ، والدُّعاءِ إلى السَّلْمِ، وأتْبَعَ بقَولِه: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ، وهي حالٌ مُقرِّرةٌ لِمَعنى النَّهيِ، مَرْدوفةٌ بما يَزِيدُها تَقْريرًا وتَبْيينًا، أي: لا يَنْبغي أنْ تَتضرَّعوا إلى الصُّلْحِ، والحالُ أنتمْ قاهِرون عليهم، وأنَّ اللهَ ناصِرُكم عليهم في الدُّنيا، وخاذِلُهم، وهو مُوفِّي أُجورِكم في العُقْبى. والخبَرُ مُستعمَلٌ في الوعْدِ [570] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/361)، ((تفسير أبي السعود)) (8/102)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/131، 132). .
- والْأَعْلَوْنَ مُبالَغةٌ في العُلُوِّ، وهو هنا بمَعْنى الغَلَبةِ والنَّصرِ [571] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/132). .
- وصِيغَ كلٌّ مِن جُملتَيْ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ جُملةً اسميَّةً؛ لِلدَّلالةِ على ثَباتِ الغَلَبِ لهم، وثَباتِ عِنايةِ اللهِ بهم [572] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/132). .
- وقَولُه: وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَعْدٌ بتَسديدِ الأعمالِ ونَجاحِها، وهو عكْسُ قَولِه في أوَّلِ السُّورةِ: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ [محمد: 1] ، فكُنِّيَ عن تَوفيقِ الأعمالِ ونَجاحِها بعَدَمِ وَتْرِها، أي: نَقْصِها؛ للعِلْمِ بأنَّه إذا كان لا يَنقُصُها فبِالحَرِيِّ ألَّا يُبطِلَها، أي: ألَّا يُخيِّبَها. ويَجوزُ أيضًا أنْ يُرادَ منه صَريحُه، أي: لن يَنقُصَكم ثَوابَكم على أعْمالِكم، أي: الجِهادِ المُستفادِ مِن قَولِه: فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ، فيُفِيدَ التَّحريضَ على الجِهادِ بالوعْدِ بأجْرِه كامِلًا [573] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/132). .