موسوعة التفسير

سورةُ مُحمَّدٍ
الآيات (4-6)

ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ

غريب الكلمات:

فَضَرْبَ الرِّقَابِ: أي: اقتْلوهم؛ يُقالُ: ضَرَبَ الأميرُ رَقَبةَ فُلانٍ: إذا قتَلَه؛ وذلك أنَّ قتْلَ الإنسانِ أكثَرُ ما يكونُ بضَرْبِ رَقَبتِه، والضَّربُ: إيقاعُ شَيءٍ على شَيءٍ، كَضَرْبِ الشَّيءِ باليدِ، والعَصا، والسَّيفِ ونحْوِها [47] يُنظر: ((المفردات)) للراغب (ص: 505)، ((تفسير الزمخشري)) (4/316)، ((تفسير أبي حيان)) (9/460)، ((تفسير ابن كثير)) (6/307)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/78، 79). .
أَثْخَنْتُمُوهُمْ: أي: أكثَرتُم القَتلَ فيهم، والإثخانُ: بُلوغُ الغايةِ فِي النِّكايةِ، والاستِكثارُ مِن القتْلِ، والإثخانُ: الغَلَبةُ؛ لأنَّها تَترُكُ المغلوبَ كالشَّيءِ المُثخَنِ -وهو الثَّقيلُ الصُّلبُ- الَّذي لا يخِفُّ للحَرَكةِ، وأصلُ (ثخن): يَدُلُّ على رَزانَةِ الشَّيءِ في ثِقَلٍ؛ وذلك أنَّ القَتيلَ قدْ أُثْقِل حتَّى لا حَراكَ به [48] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 79)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/372)، ((تفسير السمعاني)) (5/168)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 355)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (5/637)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/79). .
فَشُدُّوا الْوَثَاقَ: عِبارةٌ عن الأسْرِ، والشَّدُّ: العَقدُ القويُّ، يُقالُ: شَدَدْتُ الشَّيءَ: قوَّيْتُ عقْدَه، والوَثاقُ -بفَتحِ الواوِ وكَسرِها-: اسمانِ لِما يُوثَقُ به الشَّيءُ؛ كالقَيدِ والحَبلِ ونَحوِهما، وقيل: الوَثاقُ اسمٌ مِن الإيثاقِ، وقدْ يُوضَعُ مَوضِعَ المصدرِ، وأصلُ (شدد): يَدُلُّ على قُوَّةٍ في الشَّيءِ، وأصلُ (وثق): يدُلُّ على عَقدٍ وإحكامٍ [49] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/179) و(6/85)، ((البسيط)) للواحدي (20/216)، ((المفردات)) للراغب (ص: 447، 853)، ((تفسير القرطبي)) (16/226)، ((تفسير ابن جزي)) (2/280)، ((المصباح المنير)) للفيومي (2/647)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/80). .
مَنًّا: أي: تفَضُّلًا وإنعامًا بإطلاقِهم بلا عِوَضٍ، والمِنَّةُ: النِّعمةُ الثَّقيلةُ، وأصلُ (منن) هنا: يدُلُّ على اصْطِناعِ خيرٍ، وقيل: أصلُ المنِّ القطعُ، وسُمِّيت النِّعمةُ مِنَّةً؛ لأنَّها مَقطوعةٌ عن المِحَنِ والشَّدائدِ، أو: لأنَّه إنَّما يُسْديها الإنسانُ إلى غيرِه؛ ليَقطَعَ بها حاجتَه لا غيرُ، مِن غيْرِ أنْ يَعمِدَ لطَلبِ مَثوبةٍ [50] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/183)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/267)، ((تفسير السمعاني)) (1/375)، ((المفردات)) للراغب (ص: 777- 778)، ((تفسير الزمخشري)) (4/378)، ((تفسير القرطبي)) (13/249). .
فِدَاءً: أي: عِوَضًا مُقابِلَ إطلاقِهم، والفِداءُ: حِفظُ الإنسانِ نفْسَه عن النَّائِبةِ بما يَبذُلُه، وأصلُ (فدي): أنْ يُجعَلَ شَيءٌ مَكانَ شَيءٍ حِمًى له [51] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/183)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/483)، ((المفردات)) للراغب (2/181)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 97). .
أَوْزَارَهَا: أي: آلاتِها وأثقالَها التي لا تَقومُ إلَّا بها مِن سِلاحٍ ونَحوِه، وقيل: آثامَها، وأصلُ الوِزرِ: الثِّقلُ، وما يَحتَمِلُه الإنسانُ؛ فسُمِّيَت الأسلحةُ أوزارًا لأنَّها تُحمَلُ، ولثِقَلِ حِمْلِها [52] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 409)، ((تفسير ابن جرير)) (21/187)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 57، 58)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/108)، ((تفسير البغوي)) (7/279)، ((تفسير الزمخشري)) (4/317)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/82). .
لِيَبْلُوَ: أي: لِيَختَبِرَ ويَمتَحِنَ، وأصلُ البَلاءِ: التَّكليفُ بالأمْرِ الشَّاقِّ، ويكونُ في الخَيرِ والشَّرِّ معًا [53] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 92)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 433)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/293)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 85). .
فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ: أي: ولنْ يُحبِطَها ويُبْطِلَها، وأصل (ضلل): يدُلُّ على ضَياعِ الشَّيءِ وذَهابِه في غيرِ حَقِّه [54] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 409)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/356)، ((تفسير السعدي)) (ص: 784). .

مشكل الإعراب :

قَولُه تعالَى: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً
قَولُه تعالَى: فَضَرْبَ الرِّقَابِ مَنصوبٌ على المَفعوليَّةِ المُطلَقةِ بفِعلٍ مَحذوفٍ وُجوبًا على أنَّه بدَلٌ مِن اللَّفظِ بفِعلِه، ثمَّ أُضيفَ إلى مَفعولِه، والتَّقديرُ: فاضرِبوا الرِّقابَ ضَرْبًا، فحُذِفَ الفِعلُ اختِصارًا، ثمَّ قُدِّمَ المفعولُ المُطلَقُ، فأُنيبَ مَنابَ الفِعلِ في العَملِ في ذلك المَفعولِ، وأُضِيفَ إلى المفعولِ الرِّقَابِ إضافةَ الأسماءِ إلى الأسماءِ؛ لأنَّ المصْدرَ راجِحٌ في الاسميَّةِ، مع إعطاءِ مَعنى التَّوكيدِ. وقيل: هو مَنصوبٌ على الإغراءِ. وجُملةُ فَضَرْبَ الرِّقَابِ لا مَحلَّ لها مِنَ الإعرابِ، جَوابُ (إذا).
مَنًّا وفِدَاءً مَنصوبانِ على المَفعوليَّةِ المُطلَقةِ بفِعلٍ مُقَدَّرٍ مِن لَفْظِهما واجِبِ الحَذفِ [55] وذلك لأنَّ المَصدَرَ متى سِيقَ تَفصيلًا لعاقِبةِ جُملةٍ، وَجَب نَصبُه بإضمارِ فِعلٍ لا يَجوزُ إظهارُه، والكلامُ هنا تَفصيلٌ لعاقِبةِ مَضمونِ ما قَبْلَه مِن شَدِّ الوَثاقِ. يُنظر: ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (9/685). ، والتَّقديرُ: فإمَّا تَمُنُّونَ مَنًّا، وإمَّا تُفْدُونَ فِداءً، وجُملةُ (فَإِمَّا تَمنُّونَ مَنًّا) مَعطوفةٌ على جَوابِ الشَّرطِ فَشُدُّوا، فلا محَلَّ لها مِنَ الإعرابِ، وجُملةُ (تُفدونُ فِداءً) مَعطوفةٌ على جُملةِ (تَمنُّون مَنًّا)، فلا محَلَّ لها أيضًا مِنَ الإعرابِ [56] يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/6)، ((إعراب القرآن)) للنحاس (4/118)، ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (2/671)، ((تفسير الزمخشري)) (4/316)، ((تفسير أبي حيان)) (9/461)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (9/685)، ((تفسير الألوسي)) (13/ 196)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/79). .
ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ
ذَلِكَ في مَوضِعِ رَفعٍ، خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ، أي: الأمرُ ذلك الذي ذكَرْتُ وبَيَّنْتُ.
وقيل: هو مَنصوبٌ على مَعنى: افعَلوا ذلك.
ويَجوزُ أنْ يكونَ مُبتدأً خبرُه محذوفٌ، والمعنى: ذلك حُكمُ الكُفَّارِ، وهي كَلِمةٌ يَستعمِلُها الفَصيحُ عندَ الخُروجِ مِن كَلامٍ إلى كَلامٍ، وهو كما قال تعالَى: هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآَبٍ [ص: 55] ، أي: هذا حَقٌّ، وأنا أُعَرِّفُكم أنَّ للظَّالِمينَ كذا [57] يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/6-7)، ((إعراب القرآن)) للنحاس (4/118)، ((تفسير القرطبي)) (16/229)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (9/686). .

المعنى الإجمالي:

يُبيِّنُ اللهُ تعالَى ما يَجِبُ على المؤمنينَ فِعلُه عندَ لِقائِهم أعداءَهم، وبعْدَ انتصارِهم عليهم، فيقولُ: إذا لَقِيتُم -أيُّها المُؤمِنونَ- المحارِبينَ مِن الكُفَّارِ فاضْرِبوا رِقابَهم، حتَّى إذا قَهَرْتُموهم وأكثَرتُم القَتلَ فيهم، فأحْكِموا قيْدَ مَن أسَرْتُموه منهم، فإمَّا تمُنُّونَ عليهم بعْدَ الأَسْرِ مَنًّا بأنْ تُطلِقوا سَراحَهم مجَّانًا، وإمَّا أنْ تُفدُوا فِداءً بأنْ تَأخُذوا منهم فِديةً في مُقابِلِ إطلاقِ سَراحِهم.
افعَلوا بهم ما أمَرْناكم بفِعلِه، واستَمِرُّوا على ذلك حتَّى تَنتهيَ الحَربُ التي بيْنَكم وبيْنَ أعدائِكم.
ثمَّ يُبيِّنُ اللهُ تعالَى الحِكمةَ مِن مَشروعيةِ قِتالِ الأعداءِ، فيقولُ: أمَرَكم اللهُ -أيُّها المُؤمِنونَ- بما سَبَق ذِكرُه، ولو يَشاءُ اللهُ الانتِصارَ مِن هؤلاءِ الكافِرينَ والانتِقامَ منهم لفَعَلَ، ولكِنَّه سُبحانَه أمَرَكم بمُحاربتِهم؛ لِيَختبِرَ بعضَكم ببَعضٍ، فيَتمَيَّزَ قَويُّ الإيمانِ مِن ضَعيفِه.
ثمَّ يُبيِّنُ سُبحانَه ما أعدَّه للمُجاهدينَ مِن ثَوابٍ عَظيمٍ، فيقولُ: والَّذين استُشهِدوا وهم يُقاتِلونَ مِن أجْلِ إعلاءِ كَلِمةِ اللهِ، فلنْ يُضِيعَ أعمالَهم ولنْ يُبطِلَها. سيَهْديهم اللهُ ويُصلِحُ شَأنَهم وحالَهم، ويُدخِلُهم الجنَّةَ يومَ القِيامةِ، ويَهْديهم إلى بُيوتِهم ومَساكِنِهم فيها بحيثُ لا يُخطِئونَها.

تفسير الآيات:

فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بَيَّن سبحانَه حالَ الفريقيْنِ -مَن يَتَّبعُ الباطِلَ، وهو حِزبُ الشَّيطانِ، ومَن يَتَّبعُ الحَقَّ، وهو حِزبُ الرَّحمنِ-؛ أمَر بجهادِ الكفَّارِ [58] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (5/36). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الرازي)) (28/37). ، فقال:
فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ.
أي: فإذا واجَهتُم -أيُّها المُؤمِنونَ- المحارِبينَ المُقاتِلينَ مِن الكُفَّارِ فاقْتُلوهم [59] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/183)، ((تفسير ابن جزي)) (2/280)، ((تفسير ابن كثير)) (7/307)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/201-202)، ((تفسير السعدي)) (ص: 785)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/247). قال العُليميُّ: (فَضَرْبَ الرِّقَابِ مَصدرٌ بمَعنى الفِعلِ؛ أي: فاضرِبوا الرِّقابَ ضَرْبًا، المعنى: إذا لَقيتُموهم، فاقتُلوهم، وعَيَّنَ مِن أنواعِ القَتلِ أشهَرَه وأعرَفَه، فذَكَره). ((تفسير العليمي)) (6/310). .
كما قال الله تبارك وتعالَى: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال: 12، 13].
حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ.
أي: حتَّى إذا أكثَرتُم القَتلَ فغَلبتُم الكُفَّارَ وقَهرْتُموهم، فقَيِّدوا مَن أسَرْتُموهم منهم تَقييدًا شَديدًا، وارْبِطوهم رَبطًا قَويًّا [60] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/183)، ((تفسير ابن كثير)) (7/307)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/202-203)، ((تفسير السعدي)) (ص: 785)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/79-80). قال ابنُ عاشور: (الإثْخانُ: الغَلَبةُ... فإذا فُسِّر بالغَلَبةِ كان المعنى: حتَّى إذا غَلَبتم منهم مَن وَقَعوا في قَبضتِكم أسْرى، فشُدُّوا وَثاقَهم؛ وعليه فجَوازُ المَنِّ والفِداءِ غيرُ مُقيَّدٍ. وإذا فُسِّر الإثخانُ بكَثرةِ القَتلِ فيهم، كان المعنى: حتَّى إذا لم يَبْقَ مِن الجيشِ إلَّا القليلُ، فأْسِروا حينئذٍ، أي: أَبقُوا الأسرى، وكِلا الاحتِمالَين لا يَخْلو مِن تَأويلٍ في نَظمِ الآيَةِ إلَّا أنَّ الاحتِمالَ الأوَّلَ أظهَرُ). ((تفسير ابن عاشور)) (26/79). .
فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً.
الناسخُ والمنسوخُ:
الآيةُ مُحكَمةٌ ولا نسْخَ فيها [61] ممَّن صرَّح بأنَّ الآيةَ مُحكَمةٌ أو ليْستْ بمَنسوخةٍ: ابنُ جرير، والقُرطبيُّ، وابنُ تيميَّة، والشوكانيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/187)، ((تفسير القرطبي)) (16/228)، ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (4/422)، ((تفسير الشوكاني)) (5/37). ونَسَب هذا القولَ إلى أكثَرِ أهلِ العِلمِ: الخازنُ، وابنُ كثير، وابنُ عاشور، والشنقيطيُّ. يُنظر: ((تفسير الخازن)) (4/140)، ((تفسير ابن كثير)) (7/307)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/ 80)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/248). قال علَمُ الدِّين السَّخاويُّ: (قال عامَّةُ العُلماءِ بأنْ لا نسْخَ، والنبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم مُخيَّرٌ بيْن الفِداءِ والمنِّ والقتْلِ والاسترقاقِ. وقد رُوِي مِثلُ هذا عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِي اللهُ عنهما). ((جمال القراء وكمال الإقراء)) (2/836). وقال الشوكانيُّ: (وقال كثيرٌ من العُلماء: إنَّ الآيةَ مُحكَمةٌ، والإمامُ مخيَّرٌ بيْن القتلِ والأسْرِ، وبعْدَ الأسْرِ مخيَّرٌ بيْن المَنِّ والفداءِ. وبه قال مالكٌ، والشافعيُّ، والثَّوريُّ، والأوزاعيُّ، وأبو عُبيدٍ، وغيرهُم. وهذا هو الرَّاجحُ؛ لأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم والخلفاءَ الرَّاشدين مِن بعدِه فَعَلوا ذلك). ((تفسير الشوكاني)) (5/37). .
وقيل: الآيةُ مَنسوخةٌ [62] ممَّن اختار أنها مَنسوخةٌ: ابنُ أبي زَمنين، والنَّسَفيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/235)، ((تفسير النسفي)) (3/322). قال الشوكاني: (قيل: إنَّها مَنسوخَةٌ في أهلِ الأوثانِ، وأنَّه لا يجوزُ أن يُفادَوا ولا يُمَنَّ عليهم، وَالنَّاسخُ لها قولُه: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ، وَقَوْلُهُ: فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ، وقَولُه: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً، وبهذا قال قَتادةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَالسُّدِّيُّ، وابن جُرَيجٍ، وكثيرٌ من الكوفيِّين: قالوا: والمائدةُ آخِرُ ما نزَل، فوجَب أنْ يُقتَلَ كلُّ مُشركٍ إلَّا مَن قامَت الدَّلالةُ على تَركِه مِن النِّساءِ والصِّبيانِ ومَن تُؤخَذ منه الجِزيةُ، وهذا هو المشهورُ مِن مَذهبِ أبي حَنيفةَ). ((تفسير الشوكاني)) (5/37). وقال عَلَم الدِّين السخاويُّ: (قال ابنُ جُريجٍ والسُّدِّيُّ وغيرُهما في قولِه عزَّ وجلَّ: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ ... إلى قولِه عزَّ وجلَّ: حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا: نُسِخَ جَميعُ ذلك بآيةِ السَّيفِ، فلا يجوزُ المنُّ على المشرِكِ ولا الفداءُ، إلَّا على مَن لا يَجوزُ قتْلُه كالصَّبيِّ والمرأةِ. وقال الضَّحَّاك وعَطاءٌ: هذه الآيةُ ناسخةٌ لقولِه عزَّ وجلَّ: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ، فلا يُقتَلُ مُشرِكٌ صَبْرًا، لكنْ يُمَنُّ عليه، ويُفادى به إذا أيْسَرَ. وهذا يدُلُّك على أنَّهم تَكلَّموا في النَّسخِ بالظَّنِّ والاجتهادِ. فمِن ثَمَّ قال قوْمٌ: هو مَنسوخٌ، وقال قوْمٌ: بلْ هو ناسخٌ). ((جمال القراء وكمال الإقراء)) (2/836). .
فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً.
أي: فإمَّا أنْ تَمنُّوا على أسرَى الكُفَّارِ بإطلاقِهم مِنَ الأسْرِ مجَّانًا بلا عِوَضٍ، وإمَّا أنْ تَأخُذوا منهم عِوَضًا؛ كدَفْعِهم مالًا، أو إخلائِهم أُسارَى مُسلِمينَ لَدَيهم؛ فأنتُم مُخَيَّرونَ -أيُّها المُسلِمونَ- فيهمْ بعدَ انقِضاءِ الحَربِ [63] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/183)، ((تفسير ابن كثير)) (7/307)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/203)، ((تفسير السعدي)) (ص: 785)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/80)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/248-249). .
حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا.
أي: استَمِرُّوا على فِعلِ هذا الذي أُمِرْتُم به مِن قَتلِ الكُفَّارِ المُحارِبينَ وأسْرِهم إلى أنْ تَنْتهيَ الحربُ، ويضَعَ المحاربونَ السِّلاحَ [64] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 409)، ((تفسير البغوي)) (4/210)، ((تفسير الزمخشري)) (4/317)، ((تفسير الرازي)) (28/39)، ((تفسير ابن كثير)) (7/307-308)، ((تفسير السعدي)) (ص: 785)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/251). قال الرازيُّ: (وفي الأوزارِ وَجهانِ: أحدُهما: السِّلاحُ، والثَّاني: الآثامُ). ((تفسير الرازي)) (28/39). ممَّن اختارَ في الجُملةِ أنَّ المرادَ ما لا تَقومُ الحربُ إلَّا به كالسِّلاحِ وغيرِه: ابنُ قُتيبةَ، والواحديُّ، والبغَويُّ، والزمخشريُّ، وابنُ الجوْزي، والرَّسعنيُّ، والبيضاويُّ، والعُليميُّ، والشوكانيُّ، والشنقيطيُّ. يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 409)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1000)، ((تفسير البغوي)) (4/210)، ((تفسير الزمخشري)) (4/317)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 355)، ((تفسير الرسعني)) (7/250)، ((تفسير البيضاوي)) (5/120)، ((تفسير العليمي)) (6/310)، ((تفسير الشوكاني)) (5/37)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/251). قال الشِّنقيطيُّ: (وأظهَرُ الأقوالِ في معنى وَضعِ الحَربِ أوزارَها: أنَّه وضْعُ السِّلاحِ، والعَرَبُ تُسمِّي السِّلاحَ وَزَرًا، وتُطلِقُ العَربُ الأوزارَ على آلاتِ الحَربِ وما يُساعِدُ فيها كالخَيلِ). ((أضواء البيان)) (7/251). وممَّن اختار أن المعنى: حتَّى يُؤمنوا بالله وبرسولِه، ويُسْلِموا، ويَتوبوا إلى الله مِن شركِهم: ابنُ جرير، والزجَّاجُ، ومكِّيٌّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/187)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/6)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (11/6885). قال ابنُ جُزَي: (واختُلِف في الغايَةِ المُرادَةِ هنا؛ فقيل: حتَّى يُسلِموا جميعًا، فحينئذٍ تضَعُ الحربُ أوزارَها. وقيل: حتَّى تَقتُلوهم وتَغلِبوهم. وقيل: حتَّى يَنزِلَ عِيسى ابنُ مَريمَ. قال ابنُ عَطيةَ: ظاهِرُ اللَّفظِ أنَّها استِعارةٌ يُرادُ بها الْتِزامُ الأمرِ أبدًا، كما تقولُ: أنا فاعِلٌ ذلك إلى يَومِ القِيامةِ). ((تفسير ابن جزي)) (2/281). وقال السَّمعانيُّ: (وفي الجُملةِ لا تضَعُ الحربُ أوزارَها ما بَقِيَ في العالَمِ كافِرٌ حَربيٌّ). ((تفسير السمعاني)) (5/169). وقال البيضاويُّ: (أي: تَنقضي الحربُ ولم يَبْقَ إلَّا مُسلمٌ أو مُسالِمٌ). ((تفسير البيضاوي)) (5/120). وقال البقاعيُّ: (تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا وهي أثقالُها، أي: الآلاتُ التي تُثقِلُ القائِمينَ بها؛ من النَّفَقاتِ والسِّلاحِ والكُراعِ ونحوِه، وذلك لا يكونُ وفي الأرضِ كافِرٌ، وذلك على زمَنِ عِيسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حينَ تُخرِجُ الأرضُ برَكاتِها، وتكونُ المِلَّةُ واحِدةً، وهي الإسلامُ للهِ رَبِّ العالَمينَ، فيتَّخِذُ النَّاسُ حَديدَ السِّلاحِ سِكَكًا ومَناجِلَ وفُؤوسًا ينتَفِعونَ بها في مَعاشِهم). ((نظم الدرر)) (18/204-205). وقال السعديُّ: (تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا، أي: حتَّى لا يَبقى حَربٌ، وتَبقَون في المُسالَمةِ والمُهادَنةِ؛ فإنَّ لكلِّ مَقامٍ مَقالًا، ولكلِّ حالٍ حُكمًا؛ فالحالُ المُتقدِّمةُ إنَّما هي إذا كان قِتالٌ وحرْبٌ؛ فإذا كان في بعضِ الأوقاتِ لا حَرْبَ فيه لسَببٍ مِن الأسبابِ؛ فلا قَتْلَ ولا أسْرَ). ((تفسير السعدي)) (ص: 785). .
عن عِمرانَ بنِ حُصَينٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((لا تَزالُ طائِفةٌ مِن أُمَّتي يُقاتِلونَ على الحَقِّ ظاهِرينَ على مَن ناوَأَهُم [65] ناوَأَهم: أي: عاداهم. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (13/67). ، حتى يُقاتِلَ آخِرُهم المسيحَ الدَّجَّالَ )) [66] أخرجه أبو داود (2484)، وأحمد (19920). صحَّح إسنادَه الطبريُّ في ((مسند عمر)) (2/824)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (2484)، وصحَّح الحديثَ الألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (2484). .
وعن سَلَمةَ بنِ نُفَيلٍ الكِنديِّ رَضِيَ الله عنه، قال: ((كُنتُ جالِسًا عند رَسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال رجُلٌ: يا رسولَ اللهِ، أذالَ النَّاسُ الخيلَ [67] أذالَ النَّاسُ الخَيلَ: أي: أهانوها واستخَفُّوا بها بقِلَّةِ الرَّغبةِ فيها. وقيل: أراد أنَّهم وَضَعوا أداةَ الحَربِ عنها وأرسَلوها. يُنظر: ((حاشية السندي على سنن النسائي)) (6/214). ووَضَعوا السِّلاحَ، وقالوا: لا جِهادَ؛ قدْ وضَعَت الحَربُ أوزارَها [68] وضَعَت الحَربُ أوزارَها: أي: انقضَى أمرُها، وخَفَّت أثقالُها فلمْ يَبْقَ قِتالٌ. يُنظر: ((حاشية السندي على سنن النسائي)) (6/214). ! فأقبَلَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بوَجهِه، وقال: كَذَبوا! الآنَ الآنَ جاء القِتالُ، ولا يَزالُ مِن أُمَّتي أُمَّةٌ يُقاتِلونَ على الحَقِّ، ويُزِيغُ اللهُ لهم قُلوبَ أقوامٍ ويَرزُقُهم منهم حتَّى تَقومَ السَّاعةُ، وحتَّى يَأتيَ وَعدُ اللهِ، والخَيلُ مَعقودٌ في نَواصِيها الخَيرُ [69] مَعقودٌ في نَواصيها الخيرُ: أي: مُلازمٌ لها. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (1/158). إلى يومِ القِيامةِ، وهو يُوحَى إليَّ أنِّي مَقبوضٌ غيرُ مُلَبَّثٍ [70] مُلَبَّثٍ: اسمُ مَفعولٍ مِن ألْبَثَه غَيرُه أو لَبَّثَه بالتَّشديدِ، أي: غيرُ مُؤخَّرٍ في الدُّنيا، بل أنتَقِلُ للدَّارِ الآخِرةِ. يُنظر: ((حاشية السندي على سنن النسائي)) (6/215). ، وأنتم تَتَّبِعوني أفْنادًا [71] أفنادًا: أي: جَماعاتٍ مُتفَرِّقينَ. يُنظر: ((حاشية السندي على سنن النسائي)) (6/215). يَضرِبُ بَعضُكم رِقابَ بَعضٍ، وعُقرُ [72] عُقرُ دارِ المُؤمِنينَ: أي: أصلُها ومَوضِعُها. يُنظر: ((حاشية السندي على سنن النسائي)) (6/215). دارِ المؤمِنينَ الشَّامُ)) [73] أخرجه النَّسائيُّ (3561) واللفظ له، وأحمد (16965). صحَّحه الألبانيُّ في ((صحيح سنن النسائي)) (3561)، وحسَّنه الوادعي في ((الصحيح المسند)) (451)، وحسَّن إسنادَه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (16965). .
ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ.
أي: أمَرَكم اللهُ -أيُّها المُؤمِنونَ- بما سَبَق ذِكرُه مِن جِهادِ الكُفَّارِ المحاربِينَ، والحالُ أنَّه لو شاء اللهُ سُبحانَه لانتقم من الكُفَّارِ بعقوبةٍ مِنه لهم عاجلةٍ، دونَ أنْ يُكَلِّفَكم بقِتالِهم [74] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/189)، ((تفسير القرطبي)) (16/229)، ((تفسير ابن كثير)) (7/308)، ((تفسير السعدي)) (ص: 785)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/83). قال ابنُ جَرير: (قوله: ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ، يقولُ تعالَى ذِكرُه: هذا الذي أمرْتُكم به -أيُّها المؤمِنونَ- مِن قَتلِ المُشرِكينَ إذا لَقِيتُموهم في حَربٍ، وشَدِّهم وَثاقًا بعْدَ قَهرِهم، وأسْرِهم، والمَنِّ والفِداءِ حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا -هو الحَقُّ الَّذي ألزَمَكم ربُّكم، ولو يَشاءُ رَبُّكم ويُريدُ لانتصَرَ مِن هؤلاء المُشرِكينَ الَّذين بَيَّنَ هذا الحُكمَ فيهم بعُقوبةٍ منه لهم عاجِلةٍ، وكَفاكم ذلك كُلَّه). ((تفسير ابن جرير)) (21/189). .
وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ.
أي: ولكِنْ شَرَع اللهُ الجِهادَ لِيَختبِرَكم -أيُّها المُؤمِنونَ- بالكافِرينَ؛ فيَتبيَّنَ المجاهِدونَ مِنكم والصابِرونَ، ويُثيبَهم، ويَختارَ منكم الشُّهَداءَ، ويَختَبِرَ الكافِرينَ بكم؛ فيُعاقِبَ بأيدِيكم مَن يَشاءُ مِنهم، ويُخْزيهم، ويُوفِّقَ للتَّوبةِ منهم مَن يَشاءُ، ويَتبيَّنَ أهلُ الصِّدقِ والنِّفاقِ [75] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/189)، ((الوسيط)) للواحدي (4/120)، ((تفسير السمعاني)) (5/169)، ((تفسير القرطبي)) (16/230)، ((تفسير ابن كثير)) (7/308)، ((تفسير السعدي)) (ص: 785). .
كما قال تعالَى: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران: 140 - 142].
وقال سُبحانَه: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة: 14، 15].
وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ.
مُناسبتُها لِما قبْلَها:
لَمَّا أمَرَهم بقِتالِ المُشرِكين؛ أعقَبَ الأمْرَ بوَعْدِ الجَزاءِ على فِعْلِه [76] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/83). .
وأيضًا لَمَّا كانَ مِن شأْنِ القِتالِ أنْ يُقتَلَ كثيرٌ مِن المؤمنينَ، قالَ: وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ [77] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/309). .
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قِراءةُ قُتِلُوا على مَعنى: والَّذين جاهَدوا الكُفَّارَ فاستُشْهِدوا في سَبيلِ اللهِ؛ لنْ يُحبِطَ اللهُ أعمالَهم [78] قرَأ بها أبو عَمرٍو، ويعقوبُ، وحَفصٌ عن عاصمٍ. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/374). ويُنظر لمعنى هذه القِراءةِ: ((معاني القراءات)) للأزهري (2/385)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 666). .
2- قِراءةُ قَاتَلُوا على مَعنى: والَّذين جاهَدوا الكُفَّارَ سواءٌ قُتِلوا أوْ لم يُقتَلوا؛ لن يُحبِطَ اللهُ أعمالَهم [79] قرَأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/374). ويُنظر لمعنى هذه القِراءة: ((معاني القراءات)) للأزهري (2/385)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 666-667). .
وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ.
أي: والَّذين جاهَدوا الكُفَّارَ فقُتِلوا واستُشْهِدوا في سَبيلِ اللهِ؛ لنْ يُحبِطَ اللهُ أعمالَهم، بلْ يتقَبَّلُها منهم، ويُثيبُهم عليها [80] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (5/169)، ((تفسير ابن كثير)) (7/309)، ((تفسير السعدي)) (ص: 785). .
سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5).
أي: سيَهديهم اللهُ ويُصلِحُ شَأنَهم وحالَهم [81] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/45)، ((تفسير ابن جرير)) (21/191)، ((تفسير ابن عطية)) (5/111)، ((تفسير الرازي)) (28/41)، ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 84-85)، ((تفسير ابن كثير)) (7/309-310)، ((تفسير السعدي)) (ص: 785). ممَّن اختار أنَّ المعنى: سيَهْدِيهم إلى جَنَّتِه: مكِّيٌّ، وابنُ كثير. يُنظر: ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (11/6887)، ((تفسير ابن كثير)) (7/309). وقال ابن عَطية: (سَيَهْدِيهِمْ أي: إلى طَريقِ الجنَّة). ((تفسير ابن عطية)) (5/111). ويُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/41) وقال السعدي: (سَيَهْدِيهِمْ إلى سُلوكِ الطَّريقِ الموصلةِ إلى الجنَّة). ((تفسير السعدي)) (ص: 785). وقال القُرْطبي: (قال أبو المَعَالي: وقَدْ تَرِدُ الهِدايةُ والمُرادُ بها إرْشادُ المُؤمِنينَ إلى مَسالِكِ الجِنَانِ والطُّرقِ المُفْضِيةِ إليها، ومِن ذلك قوْلُه تعالَى في صِفةِ المُجاهِدينَ: فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ، ومنْه قوْلُه تعالَى: فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ [الصافات: 23]، مَعناه: فاسْلُكوا بهمْ إليها). ((تفسير القرطبي)) (16/230). وقيل: المعنى: أنَّه تعالَى يَهديهم إلى التَّوحيدِ في قُبورِهم، يَعني عِند سُؤالِ مُنكَرٍ ونَكيرٍ. وممَّن ذهَب إليه: مقاتلُ بن سليمان. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/45). ويُنظر أيضًا: ((تفسير القرطبي)) (16/230). وقال السَّمرقندي: (يُجنِّبُهم مِن أهوالِ الآخِرةِ). ((تفسير السمرقندي)) (3/298). وممَّن اختار أنَّ المرادَ: سيَهْديهم أيَّامَ حَياتِهم في الدُّنيا إلى أرشَدِ الأمورِ، وفي الآخِرةِ إلى الدَّرجاتِ: البَغويُّ، والخازنُ، وابنُ عادل، والعُليميُّ، والشِّربينيُّ. يُنظر: ((تفسير البغوي)) (4/211)، ((تفسير الخازن)) (4/141)، ((تفسير ابن عادل)) (17/434)، ((تفسير العليمي)) (6/312)، ((تفسير الشربيني)) (4/24). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الثعلبي)) (9/31)، ((تفسير الشوكاني)) (5/38). وقال جَلالُ الدِّين المحلِّيُّ: (سَيَهْدِيهِمْ في الدُّنيا والآخِرةِ إلى ما يَنفَعُهم، وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ حالَهم فيهما، وما في الدُّنيا لمَن لم يُقتَلْ، وأُدرِجوا في قُتِلُوا تَغليبًا). ((تفسير الجلالين)) (ص: 673). وقال مكِّيٌّ: (يجوزُ أنْ يكون المعنى: سيَهْدي مَن بَقِي منهم حيًّا). ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) (11/6887). وذهَب ابنُ القيِّم إلى احتِمالِ أنْ يكونَ قَولُه تعالى: سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ إخبارًا مِن اللهِ تعالَى عمَّا يَفعَلُه بالمجاهِدينَ قبْل أن يُقتَلوا، وأتَى به بصِيغةِ المُستقبَلِ إعلامًا منه بأنَّه يُجدِّدُ لهم كلَّ وَقتٍ نَوعًا مِن أنواعِ الهدايةِ وإصلاحِ البالِ شَيئًا بعْد شَيءٍ، فجعَلَ لهم جَزاءً في الدُّنيا بالهدايةِ على الجِهادِ، وجَزاءً في الآخِرةِ بدُخولِ الجنَّةِ، فيَرُدُّ السَّامِعُ كُلَّ جُملةٍ إلى وَقتِها؛ لظُهورِ المعنى، وعدَمِ الْتباسِه. يُنظر: ((شفاء العليل)) (ص: 161). ممَّن اختار في الجُملةِ أنَّ معنى وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ أي: حالَهم، وأمْرَهم، وشأْنَهم: ابنُ أبي زَمنين، والسَّمعانيُّ، وابنُ كثير، والشوكانيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/237)، ((تفسير السمعاني)) (5/170)، ((تفسير ابن كثير)) (7/309)، ((تفسير الشوكاني)) (5/38). وقيل: معناه: يُصلِحُ حالَهم في الآخِرةِ. وممَّن ذهَب إلى هذا المعنى: مقاتلُ بن سليمان. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/45). وممَّن اختار أنَّ معنى وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ أي: يُرْضي خُصماءَهم، ويَقبَلُ أعمالَهم: الثَّعلبيُّ، والبغَويُّ، والنَّسفيُّ، وابنُ عادل، والعُليميُّ. يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (9/31)، ((تفسير البغوي)) (4/ 211)، ((تفسير النسفي)) (3/324)، ((تفسير ابن عادل)) (17/434)، ((تفسير العليمي)) (6/312). وقيل: المعنى: يُصلِحُ شأْنَهم في الجنَّةِ بالنَّعيمِ المقيمِ، وغُفرانِ الذُّنوبِ، ويُدخِلُهم إيَّاها. قاله مكِّيٌّ. يُنظر: ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (11/6887). وقال ابنُ جريرٍ بناءً على قِراءةِ قَاتَلُوا: (يقولُ تعالى ذِكرُه: سيُوفِّقُ اللهُ تعالَى ذِكرُه للعمَلِ بما يَرْضى ويُحِبُّ، هؤلاء الذين قاتَلوا في سَبيلِه، وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ ويُصلِحُ أمْرَهم وحالَهم في الدُّنيا والآخِرةِ). ((تفسير ابن جرير)) (21/191). ويُنظر: ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (11/6887). وقال الزجَّاج بِناءً على قِراءةِ قَاتَلُوا أيضًا: (وقولُه: سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ يُصلِحُ لهم أمْرَ مَعاشِهم في الدُّنيا مع ما يُجازيهم به في الآخِرةِ). ((معاني القرآن وإعرابه)) (5/7). .
كما قال تعالَى: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [يونس: 9، 10].
وقال سُبحانَه وتعالَى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ [إبراهيم: 27].
وقال تعالَى: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران: 169] .
وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان ثَوابُ مَن قُتِلَ في سَبيلِ اللهِ ثَوابًا عَظيمًا، ونَوالًا جَسيمًا؛ أتْبَعَه ثَوابًا أعظَمَ منه، فقال تعالَى [82] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/207). :
وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6).
أي: ويُدخِلُهم اللهُ الجنَّةَ، ويُبَيِّنُ يومَ القِيامةِ لكُلِّ واحدٍ مِن أهلِها طَريقَه إلى مَوضِعِه منها، فيَهتدي إليه بِلا استِدلالٍ، ويَعرِفُ مَنزلَه بلا إشكالٍ [83] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/45)، ((تفسير ابن جرير)) (21/191)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (4/121)، ((تفسير الزمخشري)) (4/318)، ((تفسير القرطبي)) (16/ 231)، ((حادي الأرواح)) لابن القيِّم (ص: 146). ويُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/310). وممَّن ذهَب إلى المعنَى المذكورِ في الجُملةِ: مقاتلُ بن سُليمان، وابنُ جَرير، والواحديُّ، والزمخشريُّ، والقرطبيُّ، ونسَبه هو وابنُ القَيِّم إلى جُمهورِ المفَسِّرين. يُنظر: المصادر السابقة. ممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاس في رِوايةٍ عنه، وقتادةُ، ومجاهدٌ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/192)، ((البسيط)) للواحدي (20/223)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/117). قال الواحديُّ: (قال مجاهدٌ: يَهتدي أهلُها إلى بُيوتِهم ومَساكِنِهم لا يُخطِئون، كأنَّهم ساكِنوها منذ خُلِقوا لا يَستدِلُّون عليها أحدًا. هذا قولُ عامَّةِ المُفسِّرين وأهلِ المعاني). ((البسيط)) (20/223). وقيل: معنى: عَرَّفَهَا لَهُمْ طيَّبَها لهم. نسَبَه ابنُ قُتيبةَ إلى أصحابِ اللُّغةِ، وممَّن اختاره منهم: الراغبُ الأصفهانيُّ، وابنُ الجوْزي. يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 410)، ((المفردات)) للراغب (ص: 561)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 355). وممَّن قال بهذا القول مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاس في روايةٍ عنه. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (4/117). وقيل: المعنى: بيَّنها لهم في كَثيرٍ مِن آياتِه تَعريفًا يُشوِّقُ كُلَّ مُؤمِنٍ أنْ يَسعى لها. وممَّن ذهَب إلى هذا القولِ في الجُملة: القاسميُّ، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير القاسمي)) (8/469)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/84). وقيل: المرادُ: طَيَّبَها بأنواعِ الملاذِّ. أو: شرَّفها لهم ورَفَعها وأعْلاها. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/121)، ((تفسير الماوردي)) (5/294)، ((تفسير ابن عطية)) (5/111-112). وممَّن ذهَب إلى العُمومِ: البقاعي، فقال: (عَرَّفَهَا لَهُمْ أي: بتَعريفِ الأعمالِ المُوصلةِ إليها، والتَّوفيقِ لهم إليها في الدُّنيا، وأيضًا بالتَّبصيرِ بالمنازِلِ في الآخرةِ، حتى إنَّ أحَدَهم يَصيرُ أعرَفَ بمَنزِلِه فيها منه بمَنزلِه في الدُّنيا؛ وطِيبِ رائحتِها، وجَعْلِ مَوضِعِها عاليًا، وجُدرانِها عاليةً، وهي ذاتُ أعرافٍ وشُرُفٍ). ((نظم الدرر)) (18/207-208). وقال السعدي: (وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ أي: عرَّفَها أوَّلًا بأنْ شَوَّقَهم إليها، ونعَتَها لهم، وذكَرَ لهم الأعمالَ المُوصلةَ إليها، التي من جُملتِها القَتلُ في سَبيلِه، ووفَّقَهم للقيامِ بما أمَرَهم به ورغَّبَهم فيه، ثمَّ إذا دخَلوا الجنَّةَ عَرَّفهم منازِلَهم وما احتَوت عليه مِن النَّعيمِ المقيمِ، والعَيشِ السَّليمِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 785). .
كما قال تعالَى: ... فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ [آل عمران: 195] .
وعن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ الله عنه، عن رَسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((إذا خَلَص المؤمِنونَ مِن النَّارِ حُبِسوا بقَنطرةٍ [84] القَنطرةُ: الجسرُ، وهي عبارةٌ عن الصِّراطِ الممدودِ بيْنَ الجنَّةِ والنارِ. قيل: إنَّها طرَفُ الصِّراطِ ممَّا يَلي الجنَّةَ، ويَحتمِلُ أن تكونَ مِن غيرِه بينَ الصِّراطِ والجنَّةِ. يُنظر: ((المفاتيح في شرح المصابيح)) للمظهري (5/527)، ((فتح الباري)) لابن حجر (5/96)، ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (8/3562). بيْنَ الجنَّةِ والنَّارِ، فيَتقاصُّونَ [85] فيَتقاصُّون: بتَشديدِ الصَّادِ المُهْمَلةِ: يَتفاعَلون؛ مِن القِصاصِ، والمرادُ به تتبُّعُ ما بيْنَهم مِن المظالمِ، وإسقاطُ بعضِها. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (5/96). مَظالمَ كانتْ بيْنَهم في الدُّنيا، حتَّى إذا نُقُّوا وهُذِّبوا أُذِنَ لهم بدُخولِ الجنَّةِ، فوالَّذي نَفْسُ مُحمَّدٍ بيَدِه، لأَحَدُهم بمَسكَنِه في الجنَّةِ أدَلُّ بمَنزِلِه كان في الدُّنيا !)) [86] رواه البخاريُّ (2440). .

الفوائد التربوية:

1- النَّفْسُ كالعَدوِّ، إنْ عرَفَتْ صَولةَ الجِدِّ منكَ اسْتَأسَرَتْ لك، وإنْ أنِسَت عنك المهانةَ أَسَرَتْك، امنَعْها مَلذوذَ مُبَاحاتِها؛ ليَقَعَ الصُّلْحُ على تَرْكِ الحَرامِ، فإذا ضَجَّت لطَلَبِ المُبَاح فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً [87] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) (3/1202). .
2- قال اللهُ تعالَى: وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ لِيَقومَ سُوقُ الجِهادِ، ويَتبيَّنَ بذلك أحوالُ العِبادِ؛ الصَّادِقِ مِنَ الكاذِبِ، ولِيُؤمِنَ مَن آمَن إيمانًا صَحيحًا عن بَصيرةٍ، لا إيمانًا مَبْنيًّا على مُتابَعةِ أهلِ الغَلَبةِ؛ فإنَّه إيمانٌ ضَعيفٌ جِدًّا لا يَكادُ يَستَمِرُّ لصاحبِه عندَ المِحَنِ والبَلايا [88] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:784). .
3- قَولُ اللهِ تعالَى: وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ  على قِراءةِ قَاتَلُوا فيه بُشرى عَظيمةٌ لِمَن جاهَدَ ساعةً ما، بأنَّ اللهَ يُميتُه على الإسلامِ المُستلزِمِ لئَلَّا يَضيعَ له عَمَلٌ [89] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/208). .

الفوائد العلمية واللطائف :

1- في قَولِه تعالَى: فَضَرْبَ الرِّقَابِ أنَّ مِن صِيَغِ الأمْرِ المصدرَ النَّائِبَ عن فِعلِ الأمْرِ [90] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (11/24). .
2- في قَولِه تعالَى: حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ أنَّ رَبْطَ الأسيرِ إنْ كان مِن الكُفَّارِ هو مِن مصالحِ الدِّينِ، وقدْ أمَرَ اللهُ تعالَى به [91] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن رجب (2/538). .
3- في قَولِه تعالَى: حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً دَليلٌ على أنَّ المُفاداةَ والمَنَّ لا يجوزُ قبْلَ النِّكايةِ والإثخانِ [92] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/149). .
4- قَولُ اللهِ تعالَى: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا فيه بيانُ كَيفيَّةِ الجِهادِ: فعندَ اللِّقاءِ بضَربِ الرِّقابِ، وعِندَ الإثخانِ وإزالةِ الامتِناعِ بشَدِّ الوَثاقِ بالأَسْرِ، ثمَّ يَتخَيَّرُ فيهم الإمامُ مَنًّا، أو فِداءً بمالٍ أو أَسرى مِنَ المُسلِمينَ [93] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص:238). .
5- قَولُ اللهِ تعالَى: حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا فيه سُؤالٌ: (إمَّا) (وإمَّا) للحَصرِ، وحالُهم بعْدَ الأَسْرِ غيرُ مُنحَصِرٍ في الأمْرَينِ، بلْ يجوزُ القَتلُ والاستِرقاقُ، والمَنُّ والفِداءُ؟
الجوابُ: هذا إرشادٌ؛ فذَكَرَ الأمرَ العامَّ الجائِزَ في سائِرِ الأجناسِ [94] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/38-39). ، ولَمَّا كان الإمامُ مُخيَّرًا في أَسْراهم بيْن أربعةِ أشياءَ: القَتلِ، والإطلاقِ مجَّانًا، والإطلاقِ بالفِديةِ -وهي شَيءٌ يأخُذُه عِوَضًا عن رِقابِهم-، والاستِرقاقِ؛ عبَّرَ عن ذلك بقَولِه مُفَصِّلًا: فَإِمَّا مَنًّا، أي: أنْ يُنعِموا عليهم إنعامًا بَعْدُ، أي: في جميعِ أزمانِ ما بعْدَ الأَسْرِ باستِبقائِهم، ثمَّ بعْدَ الإنعامِ باستِبقائِهم إمَّا أنْ يكونَ ذلك مع الاستِرقاقِ أو مع الإطلاقِ، ثمَّ الإطلاقُ إمَّا مجَّانًا وَإِمَّا فِدَاءً بمالٍ أو بأَسرى مِنَ المُسلِمين ونحوِ ذلك؛ فأفْهَمَ التَّعبيرُ بالمَنِّ -الذي مَعناه الإنعامُ- أنَّ الإبقاءَ غيرُ واجبٍ، بل جائِزٌ، ودخَلَ في الإبقاءِ ثَلاثُ صُوَرٍ: الاسترقاقُ، والإطلاقُ مجَّانًا، وبالفِداءِ، فصَرَّح سُبحانَه وتعالَى بالفِداءِ -الَّذي معناه الأخْذُ- على وجْهِ أنَّه قَسيمٌ للمَنِّ؛ فعُلِمَ أنَّ المرادَ به الإبقاءُ مع عدَمِ الأخْذِ، فدخَلَ فيه الإطلاقُ مجَّانًا، وهو واضِحٌ، والاستِرقاقُ؛ لأنَّه إنعامٌ بالنِّسبةِ إلى القَتلِ، وأفْهَمَ التَّعبيرُ بالمَنِّ -الذي معناه الإنعامُ مِن المنَّانِ الذي هو اسمُه تعالَى، ومعناه المُعطي ابتداءً- جَوازَ القَتلِ؛ لأنَّ الإنعامَ مُخَيَّرٌ فيه لا واجِبٌ؛ لأنَّه لو كان واجبًا كان حقًّا لا نِعمةً؛ فقدْ دخَلَت الصُّوَرُ الأربَعُ في التَّعبيرِ بهاتينِ الكَلِمَتَينِ. وكُلُّ هذا على ما يَراه الإمامُ أو نائِبُه مَصلحةً [95] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/203-204). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن عاشور)) (26/81). .
6- في قَولِه تعالَى: حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً دَليلٌ على جَوازِ المُفاداةِ ورَدِّ مَن قدْ أُخرِجَ إلى دارِ الإسلامِ مِن الكُفَّارِ إلى دارِ الكُفرِ، والمَنِّ عليه قبْلَ الإسلامِ؛ لأنَّه إذا أسلَمَ استغنَى عن المَنِّ عليه، وحَرُمَت المفاداةُ به [96] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/149). .
7- قَولُ اللهِ تعالَى: وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ، فيه سُؤالٌ: لا يُبتَلَى الشَّيءُ النَّفيسُ بما يُخافُ منه هَلاكُه؛ فإنَّ السَّيفَ المُهنَّدَ القاطِعَ الكبيرَ القِيمَةِ، لا يُجرَّبُ بالشَّيءِ الصُّلبِ الَّذي يُخافُ عليه منه الانكِسارُ، ولكِنَّ الآدَمِيَّ مُكرَّمٌ، كرَّمَه اللهُ وشرَّفَه وعظَّمَه، فلماذا ابتَلاهُ بالقِتالِ، وهو يُفضِي إلى القَتلِ والهَلاكِ إفضاءً غيرَ نادِرٍ، فكيف يَحسُنُ هذا الابتِلاءُ؟
الجَوابُ: القتلُ ليْس بإهلاكٍ بالنِّسبةِ إلى المُؤمِنِ؛ فإنَّه يُورِّثُ الحياةَ الأبدِيَّةَ، فإذا ابتَلاهُ بالقِتالِ فهو على تَقديرِ أنْ يُقتَلَ مُكرَّمٌ، وعلى تَقديرِ ألَّا يُقتَلَ مُكرَّمٌ؛ هذا إنْ قاتَلَ، وإنْ لم يُقاتِلْ فالموتُ لا بدَّ منه، وقدْ فوَّتَ على نفْسِهِ الأجرَ الكبيرَ [97] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/41). .

بلاغة الآيات:

قَولُه تعالَى: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ
- الفاءُ في قَولِه: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ... لِتَفْريعِ هذا الكَلامِ على ما قبْلَه؛ مِن إثارةِ نُفوسِ المُسلِمين بتَشنيعِ حالِ المُشرِكين وظُهورِ خَيبةِ أعْمالِهم، وتَنويهِ حالِ المُسلِمين وتَوفيقِ آرائِهِم، والمَقصودُ: تَهوينُ شأْنِهم في قُلوبِ المُسلِمين، وإغْراؤُهم بقَطْعِ دابِرِهم؛ لِيَكونَ الدِّينُ كلُّه للهِ؛ لأنَّ ذلك أعظَمُ مِن مَنافِعِ فِداءِ أسْراهم بالمالِ؛ لِيَعبُدَ المُسلِمون ربَّهم آمنِينَ. وذلك ناظِرٌ إلى آيةِ سُورةِ (الأنفالِ) وإلى ما يُفِيدُه التَّعليلُ مِن قَولِه: حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا [98] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/78). .
- وضَرْبُ الرِّقابِ كِنايةٌ عن القتْلِ؛ لا أنَّ الواجِبَ أنْ تُضرَبَ الرِّقابَ خاصَّةً دُونَ غَيرِها مِن الأعضاءِ؛ وذلك أنَّهم كانوا يقولونَ: ضَرَبَ الأميرُ رَقَبةَ فُلانٍ، وضرَبَ عُنقَه، وضرَب ما فيه عَيْناه: إذا قتَلَه؛ وذلك أنَّ قتْلَ الإنسانِ أكثَرُ ما يكونُ بضَرْبِ رَقَبتِه، فوقَعَ (ضَرْبَ الرِّقَابِ) كِنايةً عن القتْلِ، وإنْ ضُرِبَ بغَيرِ رَقَبتِه. على أنَّ في هذه العِبارةِ مِن الغِلْظةِ والشِّدَّةِ ما ليْس في لَفْظِ القتْلِ؛ لِمَا فيه مِن تَصويرِ القتْلِ بأشنَعِ صُورةٍ، وهو حَزُّ العُنُقِ، وإطارةُ العُضْوِ الَّذي هو رأْسُ البَدَنِ، وعُلْوُه، وأوجَهُ أعْضائِه، ولقدْ زاد في هذه الغِلْظةِ في قَولِه تعالَى: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ [99] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/316)، ((تفسير البيضاوي)) (5/120)، ((تفسير أبي حيان)) (9/460)، ((تفسير أبي السعود)) (8/92)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/78، 79). [الأنفال: 12] .
- قَولُه: حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا الوَثاقُ: الشَّيءُ الذي يُوثَقُ به. وهو هنا كِنايةٌ عن الأسْرِ؛ لأنَّ الأسْرَ يَستلزِمُ الوضْعَ في القَيدِ يُشَدُّ به الأسيرُ، والمعنى: فاقْتُلوهم، فإنْ أثْخَنْتُم منهم فأْسِروا منهم [100] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/80). .
- وتَعريفُ الرِّقابِ والوَثاقِ يَجوزُ أنْ يكونَ لِلعهْدِ الذِّهنيِّ، ويَجوزُ أنْ يكونَ عِوَضًا عن المُضافِ إليه، أي: فضَرْبَ رِقابِهم، وشُدُّوا وَثاقَهم [101] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/80). .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال هاهنا: فَضَرْبَ الرِّقَابِ فعُبِّرَ بالمصدرِ، وقال في (الأنفالِ): فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ [الأنفال: 12] فعُبِّر بالفعلِ، وفائدةُ ذلك: أنَّ المقصودَ أوَّلًا في بعضِ السُّورِ قدْ يكونُ صُدورَ الفِعلِ مِن فاعلٍ ويَتبَعُه المصدَرُ (الحدثُ) ضِمنًا؛ إذ لا يُمكِنُ أنْ يَفعَلَ فاعلٌ إلَّا ويقَعُ منه المصدرُ (الحدَثُ) في الوجودِ، وقدْ يكونُ المقصودُ أوَّلًا المصدرَ (الحدَثَ)، ولكنَّه لا يُوجَدُ إلَّا مِن فاعلٍ، فيُطلَبُ منه أنْ يَفعَلَ، إذا عُرِف هذا، فما في (الأنفالِ) حِكايةٌ عن الحربِ الكائنةِ، وهمْ كانوا فيها، والملائكةُ أُنزِلوا لنُصرةِ مَن حضَر في صَفِّ القتالِ؛ فصُدورُ الفعلِ منه مَطلوبٌ، وهاهنا الأمرُ واردٌ في غيْرِ وقْتِ القتالِ؛ بدَليلِ قولِه تعالَى: فَإِذا لَقِيتُمُ، والمقصودُ بيانُ كونِ المصدرِ (الحدثِ) مَطلوبًا؛ لتَقدُّمِ المأمورِ على الفعلِ، قال: فَضَرْبَ الرِّقَابِ. وفيما ذُكِر تَبييَّنُ فائدةٌ أُخرى؛ وهي أنَّ اللهَ تعالَى قال هناك: وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ [الأنفال: 12] ؛ وذلك لأنَّ الوقتَ وقْتُ القتالِ، فأرشَدَهم إلى المقْتلِ، وغيرِه إنْ لم يُصِيبوا المقْتَلَ، وهاهنا ليْس وقْتَ القتالِ، فبيَّن أنَّ المقصودَ القتلُ، وغرَضُ المسلِمِ ذلك [102] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/38). .
- وقُدِّمَ المَنُّ على الفِداءِ تَرْجيحًا له؛ لأنَّه أعوَنُ على امتِلاكِ ضَميرِ المَمْنونِ عليه [103] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/80). . أو: لأنَّه مِن مكارِمِ الأخلاقِ؛ ولهذا كانت العربُ تَفْتَخِرُ بِه [104] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (5/37). . وقيل: إنَّ في ذلك إشارةً إلى تَرجيحِ حُرمةِ النَّفسِ على طَلَبِ المالِ [105] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/39). .
- والغايةُ المُستفادَةُ مِن (حتَّى) في قَولِه: حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا قيل: لِلتَّعليلِ لا لِلتَّقييدِ، أي: لِأجْلِ أنْ تَضَعَ الحرْبُ أوزارَها، أي: لِيَكُفَّ المُشرِكون عنها، فتَأمَنوا مِن الحرْبِ عليكم، وليستْ غايةً لِحُكْمِ القِتالِ، والمعنى: يَستمِرُّ هذا الحُكمُ بهذا لِيَهِنَ العَدُوُّ، فيَتْرُكوا حَرْبَكم؛ فلا مَفهومَ لِهذه الغايةِ؛ فالتَّعليلُ مُتَّصِلٌ بقَولِه: فَضَرْبَ الرِّقَابِ، وما بيْنَهما اعْتِراضٌ، والتَّقديرُ: فَضَرْبَ الرِّقَابِ، أي: لا تَتْرُكوا القتْلَ لِأجْلِ أنْ تَضَعَ الحرْبُ أوزارَها؛ فيَكونُ وارِدًا مَورِدَ التَّعليمِ والمَوعظةِ، أي: فلا تَشتَغِلوا عِندَ اللِّقاءِ إلَّا بقَتْلِ الذين كَفَروا؛ لِتَضَعَ الحرْبُ أوزارَها، فإذا غَلَبْتُموهم فاشْتَغِلوا بالإبقاءِ على مَن تَغلِبونَه بالأسْرِ؛ لِيَكونَ المَنُّ بعْدَ ذلك أو الفِداءُ [106] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/82). . وذلك بناءً على تَفسيرِ الإثخانِ بالغَلَبةِ.
- والأوزارُ: الأثقالُ، ووَضْعُ الأوزارِ تَمثيلٌ لِانتهاءِ العَمَلِ؛ فشُبِّهَت حالةُ انتهاءِ القِتالِ بحالةِ وَضْعِ الحَمَّالِ أو المُسافِرِ أثْقالَه، وهذا مِن مُبتَكراتِ القُرآنِ [107] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/317)، ((تفسير البيضاوي)) (5/120)، ((تفسير أبي حيان)) (9/460)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/82). .
- قولُه: ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ الإتيانُ باسمِ الإشارةِ ذَلِكَ لِتَمْييزِ المُشارِ إليه أكمَلَ تَمْييزٍ؛ تَنْويهًا به. ويُفِيدُ اسمُ الإشارةِ تَقريرَ الحُكْمِ، ورُسوخَه في النُّفوسِ [108] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/76، 82). .
- وتَعديةُ (انتَصَرَ) بحَرْفِ (مِن) -مع أنَّ حقَّه أنْ يُعدَّى بحَرْفِ (على)-؛ لِتَضْمينِه معنى: (انتقَمَ) [109] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/83). .
- قولُه: وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ هذا مِن مَظاهِرِ بَلْوى بَعضِهم ببَعضٍ، وهو مُقابِلُ ما في قَولِه: فَضَرْبَ الرِّقَابِ إلى قَولِه: وَإِمَّا فِدَاءً؛ فإنَّ ذلك مِن مَظاهِرِ إهانةِ الَّذين كَفَروا؛ فذَكَرَ هنا ما هو مِن رِفعةِ الذين قاتَلوا في سَبيلِ اللهِ مِن المُؤمِنين بعِنايةِ اللهِ بهم [110] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/83). .
- وجُملةُ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ... إلخ عطْفٌ على جُملةِ فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ الآيةَ؛ فإنَّه لَمَّا أمَرَهم بقِتالِ المشركينَ، أعْقَبْ الأمْرَ بوَعدِ الجَزاءِ على فِعلِه [111] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/83). .
- وذِكرُ (الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) إظْهارٌ في مَقامِ الإضمارِ؛ إذ كان مُقْتضَى الظَّاهِرِ أنْ يُقالَ: فلنْ يُضِلَّ اللهُ أعْمالَكم، وهكذا بأُسلوبِ الخِطابِ؛ فعُدِلَ عن مُقْتضى الظَّاهِرِ مِن الإضمارِ إلى الإظهارِ؛ لِيَكونَ في تَقديمِ المُسنَدِ إليه على الخَبَرِ الفِعليِّ إفادةُ تَقوِّي الخَبرِ، ولِيَكونَ ذَريعةً إلى الإتيانِ بالمَوصولِ؛ للتَّنويهِ بصِلَتِه، ولِلْإيماءِ إلى وَجْهِ بِناءِ الخَبرِ على الصِّلةِ بأنَّ تلك الصِّلةَ هي عِلَّةُ ما وَرَدَ بعْدَها مِن الخبَرِ [112] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/83). .
- وجُملةُ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ خبَرٌ عن المَوصولِ، وقُرِنَتْ بالفاءِ لإفادةِ السَّببيَّةِ في تَرتُّبِ ما بعْدَ الفاءِ على صِلةِ المَوصولِ؛ لأنَّ المَوصولَ كثيرًا ما يُشْرَبُ مَعنى الشَّرْطِ، فيُقرَنُ خَبَرُه بالفاءِ، وبذلك تكونُ صِيغةُ الماضي في فِعلِ قُتِلُوا مُنْصرِفةً إلى الاستِقبالِ؛ لأنَّ ذلك مُقْتضَى الشَّرْطِ [113] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/84). .
- وقال في حَقِّ الكافِرِ: أَضَلَّ [محمد: 1] ، بصِيغةِ الماضي، ولم يَقُلْ: (يُضِلُّ)؛ إشارَةً إلى أنَّ عَمَلَه حيث وُجِدَ عَدَمٌ، وكأنَّه لم يُوجَدْ مِن أصلِه، وقال في حقِّ المؤمِنِ: فَلَنْ يُضِلَّ، ولم يَقُلْ: (ما أضلَّ)؛ إشارَةً إلى أنَّ عَمَلَه كلَّما ثبَتَ عليه أُثبِتَ له، وبيْنَهما غايةُ الخِلافِ، كما أنَّ بيْنَ الدَّاعي والصَّادِّ غايةَ التَّبايُنِ والتَّضادِّ [114] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/41). .
- وجُملةُ سَيَهْدِيهِمْ وما عُطِفَ عليها بَيانٌ لِجُملةِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ [115] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/84). .
- في قولِه تعالَى: وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ مُناسبةٌ حسنةٌ؛ فقد قال تعالَى هنا (يُصْلِحُ)، وفي أوَّلِ السُّورةِ قال: (أَصْلَحَ بَالَهُمْ) [محمد: 2] ؛ ووَجْهُ ذلك: أنَّ الماضيَ والمستقبلَ راجِعٌ إلى أنَّ هناكَ وَعَدَهم ما وَعَدَهم بسَببِ الإيمانِ والعملِ الصَّالحِ، وذلك كان واقعًا منهم، فأخْبَر عن الجزاءِ بصِيغةٍ تدُلُّ على الوقوعِ، وهاهنا وَعَدَهم بسَببِ القتالِ والقتلِ، فكان في اللَّفظِ ما يَدُلُّ على الاستقبالِ؛ لأنَّ قولَه تعالَى: فَإِذا لَقِيتُمُ [محمد: 4] يدُلُّ على الاستقبالِ، فقال: وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ [116] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/41). .