موسوعة التفسير

سورةُ العَنكَبوتِ
الآيات (65-69)

ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ

غَريبُ الكَلِماتِ:

الْفُلْكِ: السُّفنِ، وواحِدُه وجَمْعُه بلَفظٍ واحدٍ، وأصلُ الفلك: الاستِدارةُ في الشَّيءِ، ولعلَّ السُّفنَ سُمِّيت فُلْكًا؛ لأنَّها تُدارُ في الماءِ [854] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 67)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/453)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 162)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 99). .
وَيُتَخَطَّفُ: أي: يُقتَلُ، ويُسلَبُ، ويُنهَبُ، ويُسْبَى، والخطفُ: الأخذُ بسُرعةٍ، وأصلُه: استِلابٌ في خِفَّةٍ [855] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/443)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/196)، ((المفردات)) للراغب (ص: 286)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 289)، ((تفسير القرطبي)) (13/363). .
مَثْوًى: أي: مَنزِلٌ، وأصْلُ الثَّوَاءِ: الإقامةُ مع الاستِقرارِ؛ يُقالُ: ثَوَى يَثْوي ثَواءً [856] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 410)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 424)، ((المفردات)) للراغب (ص: 181)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/393)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 295). .

المعنى الإجماليُّ:

يُبيِّنُ اللهُ تعالى حالَ المشركينَ عندَما يَنزِلُ بهم البلاءُ، ويُحيطُ بهم، فيقولُ: فإذا رَكِبَ المُشرِكون في السَّفينةِ وخافوا الغَرَقَ، أخلَصوا الدُّعاءَ لله وأفرَدوه بالطَّاعةِ؛ ليُخَلِّصَهم مِنَ الهلاكِ، فلمَّا نجَّاهم اللهُ مِن الهلاكِ وأَمِنوا إلى البَرِّ، أشرَكوا باللهِ غيرَه! لِيَجحَدوا نِعمةَ الله عليهم، ولِيَتمتَّعوا حتَّى حينٍ، فسوف يَعلَمونَ عاقِبةَ كُفرِهم!
 ثمَّ يُذَكِّرُهم الله تعالى بنِعمةِ الحرَمِ الآمِنِ الَّذي يَعيشونَ في جِوارِه، فيقولُ: أوَلم يَرَ هؤلاء المُشرِكونَ مِن قُرَيشٍ أنَّا جعَلْنا مكَّةَ حَرَمًا آمِنًا سالِمًا أهلُه مِن كُلِّ سوءٍ، وغَيرُهم مِنَ العَرَبِ حوْلَهم خائِفونَ في بلادِهم مِنَ القَتلِ والنَّهبِ والسَّبْيِ؟! أفبِالباطِلِ يُؤمِنونَ، وبنِعمةِ الله الَّتي أنعَمَ بها عليهم يَجحَدونَ، فيُشرِكونَ بعِبادةِ اللهِ غَيرَه؟!
ثمَّ يُخبِرُ أنَّه لا أحدَ أظلَمُ ممَّن اختلَقَ على اللهِ كَذِبًا، أو كذَّب بالنَّبيِّ وبالقُرآنِ حينَ جاءَه، أليس في جهنَّمَ مأْوًى للكافرينَ؟!
ثمَّ يَختمُ الله تعالى السُّورةَ ببيانِ عاقبةِ المُجاهِدينَ، فيقولُ: والَّذين جاهَدوا في اللهِ بعَمَلِ مَراضِيه وترْكِ مَساخِطِه لَنُوفِّقنَّهم إلى الطُّرُقِ الموصِلةِ إلى الرِّضوانِ، وإنَّ الله لَمَعَ المُحسِنينَ بالنَّصرِ والهِدايةِ.

تَفسيرُ الآياتِ:

فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا خَتَم الآيةَ السَّابِقةَ بما أفهَمَ أنَّ المُشرِكينَ لا يَعلَمونَ، والَّتي قَبْلَها بأنَّ أكثَرَهم لا يَعقِلونَ؛ سَبَّب عن ذلك قَولَه: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت: 65] ، فصَحَّ أنَّهم لا يَعلَمونَ؛ لأنَّهم لا يَعقِلونَ؛ حيثُ يُقِرُّونَ بعَجزِ آلهتِهم ويُشرِكونَها معه! ففي ذلك أعظَمُ التهَكُّمِ بهم [857] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/476). .
وأيضًا لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى أنَّ المُشرِكينَ مُقِرُّونَ باللهِ إذا سُئِلوا: مَن خَلَق العالَمَ، ومَن نزَّل مِنَ السَّماءِ ماءً؛ ذكَرَ أيضًا حالةً أخرى يَرجِعونَ فيها إلى اللهِ، ويُقِرُّونَ بأنَّه هو الفاعِلُ لِما يُريدُ، وذلك حينَ رُكوبِ البَحرِ، واضْطِرابِ أمواجِه، واختلافِ رياحِه [858] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/366). .
فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ.
أي: فإذا رَكِبَ المُشِركونَ في السَّفينةِ، وخافوا الغَرَقَ والهلاكَ، أخلَصوا لله الدُّعاءَ، وأفرَدوا له الطاعةَ؛ لِيُخَلِّصَهم مِن تلك الشِّدَّةِ، وتَرَكوا اللُّجوءَ إلى آلهتِهم وقد عَلِموا أنَّها لا تَنفَعُهم [859] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/441)، ((تفسير القرطبي)) (13/363)، ((تفسير السعدي)) (ص: 635). ممَّن قال: إنَّ المرادَ بالدِّينِ هنا: الدُّعاءُ: الثَّعلبيُّ، وجلال الدين المحلي، والعليمي، وابن عاشور: يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (14/192)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 530)، ((تفسير العليمي)) (5/264)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/32). قال أبو السعودِ في نظيرِ هذه الآيةِ مِن سورةِ يونسَ الآية (22): (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ مِن غيرِ أنْ يُشرِكوا به شيئًا مِن آلهتِهم، لا مخصِّصينَ للدُّعاءِ به تعالى فقط، بل للعبادةِ أيضًا؛ فإنَّهم بمُجَرَّدِ تخصيصِ الدُّعاءِ به تعالى لا يَكونون مُخلِصينَ له الدِّينَ). ((تفسير أبي السعود)) (4/134). وقال ابن جرير: (دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ يقولُ: أخلَصوا لله عندَ الشِّدَّةِ الَّتي نزلَتْ بهم التَّوحيدَ، وأفرَدوا له الطَّاعةَ، وأذعَنوا له بالعُبودةِ، ولم يَستغيثوا بآلهتِهم وأنْدادِهم، ولكنْ بالله الَّذي خلَقَهم). ((تفسير ابن جرير)) (18/441). !
فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ.
أي: فلمَّا نجَّى اللهُ المُشرِكينَ مِنَ الهلاكِ في البَحرِ، وأوصَلَهم إلى البَرِّ آمِنينَ؛ انقَلَبوا مُشرِكينَ باللهِ غَيرَه، وترَكوا دُعاءَه وعبادتَه وَحْدَه [860] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/441)، ((الوسيط)) للواحدي (3/426)، ((تفسير القرطبي)) (13/363)، ((تفسير السعدي)) (ص: 635). !
كما قال تعالى: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا [الإسراء: 67] .
لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66).
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
في قَولِه تعالى: وَلِيَتَمَتَّعُوا قِراءتانِ:
1- قِراءةُ وَلْيَتَمَتَّعُوا بإسكانِ اللامِ، وهي لامُ وعيدٍ وتهديدٍ فِي لفظِ الأمرِ، كقَولِه تعالى: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ [861] قرأ بها ابنُ كثيرٍ، وحمزةُ، والكِسائيُّ، وخلَفٌ. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/344). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((الحجة)) لابن خالويه (ص: 282)، ((معاني القراءات)) للأزهري (2/261)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 555). [فصلت: 40] .
2- قِراءةُ وَلِيَتَمَتَّعُوا بكَسرِ اللَّامِ. قيل: اللامُ هنا للتَّعليلِ، وقيل: هي للأمرِ في معنى الوعيدِ والتَّهديدِ، فتكونُ بمعنى القراءةِ الأولى [862] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/344). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((الحجة)) لابن خالويه (ص: 282)، ((معاني القراءات)) للأزهري (2/261)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 555). .
لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا .
أي: يُشرِكُ أولئك الكُفَّارُ بعدَ إنجائِهم؛ لِيَجحَدوا نِعمةَ اللهِ عليهم، ولِيَتَمتَّعوا بدُنياهم القَصيرةِ الفانيةِ بَقيَّةَ أعمارِهم، ثمَّ لا يكونُ لهم نصيبٌ في الآخِرةِ الدَّائِمةِ الباقيةِ [863] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/441، 442)، ((الوسيط)) للواحدي (3/426)، ((تفسير القرطبي)) (13/363)، ((تفسير ابن كثير)) (6/295)، ((تفسير السعدي)) (ص: 636)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/33). ممَّن اختار أنَّ اللَّامَ في قولِه: لِيَكْفُرُوا وقولِه: وَلِيَتَمَتَّعُوا للتَّعليلِ، أي: (لام كَيْ): الزَّجَّاجُ، والسمرقندي، والشوكاني، والألوسي. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/174)، ((تفسير السمرقندي)) (2/640)، ((تفسير الشوكاني)) (4/244)، ((تفسير الألوسي)) (11/14). وقيل: اللَّامُ في لِيَكْفُرُوا وَلِيَتَمَتَّعُوا للأمرِ على معنى الوعيدِ. والمعنى: لِيَجحَدوا نعمةَ الله، ولِيَتمتَّعوا بباقي عُمُرِهم؛ فسوف يَعلَمونَ عاقبةَ كُفرِهم. وممَّن قال بهذا المعنى: الواحديُّ. يُنظر: ((الوسيط)) (3/426). وقال ابنُ جرير: (لام قولِه لِيَكْفُرُوا صلَحَتْ أن تَكونَ بمعنَى كَيْ؛ لأنَّها شرطٌ لقَولِه: إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ باللهِ، كيْ يَكْفُروا بما آتَيْناهم مِن النِّعَمِ، وليس ذلك كذلك في قولِه: وَلِيَتَمَتَّعُوا؛ لأنَّ إشراكَهم باللهِ كان كفرًا بنعمتِه، وليس إشراكُهم به تَمَتُّعًا بالدُّنيا، وإنْ كان الإشراكُ به يُسَهِّلُ لهم سبيلَ التَّمَتُّعِ بها، فإذْ كان ذلك كذلك، فتوجيهُه إلى معنَى الوعيدِ أَوْلَى وأحَقُّ مِن توجيهِه إلى معنَى: وكَيْ يتَمَتَّعوا). ((تفسير ابن جرير)) (18/442). وممَّن اختار أنَّ اللَّامَ في قولِه: لِيَكْفُرُوا لامُ الأمر: البَغَويُّ، وابن الجوزي، وابن جُزَي، والعُلَيمي. يُنظر: ((تفسير البغوي)) (3/567)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/413)، ((تفسير ابن جزي)) (2/129)، ((تفسير العليمي)) (5/264). وقيل: اللَّامُ في كِلا الفِعلَينِ: لامُ العاقبةِ. والمعنى: ولكِنْ شِرْكُهم هذا بعْدَ نِعمتِنا عليهم بالنَّجاةِ مِن البَحرِ؛ لِيَكونَ عاقبتُه كُفرَ ما آتَيْناهم، ومُقابَلةَ النِّعمةِ بالإساءةِ، ولِيُكمِلوا تمتُّعَهم في الدُّنيا الَّذي هو كتمَتُّعِ الأنعامِ، ليس لهم همٌّ إلَّا بُطونُهم وفُروجُهم. وممَّن قال بهذا: السعديُّ. يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 636). وقيل: اللَّامُ هنا للعاقبةِ في حَقِّ هؤلاء المشركين، وأمَّا بالنِّسبةِ إلى تقديرِ الله عليهم ذلك فهي لامُ التَّعليلِ. وممَّن قال بهذا: ابنُ كثير. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/295). قال ابن كثير: (هذه اللَّامُ يُسَمِّيها كثيرٌ مِن أهلِ العربيَّةِ والتَّفسيرِ وعُلماءِ الأصولِ: لامَ العاقبةِ؛ لأنَّهم لا يَقصِدون ذلك، ولا شَكَّ أنَّها كذلك بالنِّسبةِ إليهم، وأمَّا بالنِّسبةِ إلى تقديرِ الله عليهم ذلك وتقييضِه إيَّاهم لذلك فهي لامُ التَّعليلِ). ((تفسير ابن كثير)) (6/295). قال ابنُ عاشور: (الكفرُ هنا ليس هو الشِّركَ، ولكِنَّه كُفْرانُ النِّعمةِ؛ بقرينةِ قَولِه: بِمَا آَتَيْنَاهُمْ؛ فإنَّ الإيتاءَ بمعنى الإنعامِ، وبقرينةِ تفريعِه على يُشْرِكُونَ؛ فالعِلَّةُ مُغايِرةٌ للمَعلولِ، وكُفرانُ النِّعمةِ مُسَبَّبٌ عن الإشراكِ؛ لأنَّهم لَمَّا بادَروا إلى شؤونِ الإشراكِ فقد أخَذوا يَكفُرونَ النِّعمةَ). ((تفسير ابن عاشور)) (21/33). .
فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ.
أي: فسوف يَعلَمُ الكُفَّارُ عاقِبةَ كُفرِهم حين يَرَونَ ما يَلقَونَ مِن عذابِ اللهِ [864] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/442)، ((الوسيط)) للواحدي (3/426)، ((تفسير أبي السعود)) (7/47)، ((تفسير السعدي)) (ص: 636). !
ثمَّ ذكَّرهم الله تعالَى بنِعَمِه [865] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/367). ، فقال:
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَّرَ اللهُ تعالى المُشرِكينَ حالَهم عندَ الخَوفِ الشَّديدِ، ورأَوا أنفُسَهم في تلك الحالةِ راجِعةً إلى اللهِ تعالى؛ ذكَّرَهم حالَهم عندَ الأمنِ العَظيمِ؛ فإنَّهم في أخوَفِ ما كانوا دَعَوُا اللهَ مُخلِصينَ ومُعتَرِفينَ بأنَّ هذه النِّعمةَ لا تكونُ إلَّا مِنَ اللهِ، وفي آمَنِ ما حَصَلوا عليه كَفَروا بالله، وهذا مُتناقِضٌ [866] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/76، 77). !
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ.
أي: أوَلمْ يَرَ هؤلاء المُشرِكونَ مِن قُرَيشٍ أنَّا جعَلْنا بلَدَهم مكَّةَ حَرَمًا مَصونًا مِنَ النَّهبِ والتَّعدِّي، سالِمًا أهلُه مِن كُلِّ سوءٍ، والحالُ أنَّ غَيرَهم مِنَ العَرَبِ حوْلَهم يَنْهَبُ بعضُهم بعضًا، ويَقتُلُ بعضُهم بعضًا، ويَسْبي بعضُهم بعضًا [867] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/442)، ((الوسيط)) للواحدي (3/426)، ((تفسير ابن كثير)) (6/295)، ((تفسير أبي السعود)) (7/47)، ((تفسير السعدي)) (ص: 636)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/163). قال القرطبي: (فأذكَرَهم اللهُ عزَّ وجلَّ هذه النِّعمةَ؛ لِيُذْعِنوا له بالطَّاعةِ، أي: جعلْتُ لهم حرَمًا آمِنًا أَمِنوا فيه مِنَ السَّبْيِ والغارةِ والقَتلِ، وخلَّصْتُهم في البَرِّ كما خلَّصْتُهم في البحرِ، فصاروا يُشرِكون في البَرِّ، ولا يُشرِكونَ في البحرِ! فهذا تعجُّبٌ مِن تناقُضِ أحوالِهم). ((تفسير القرطبي)) (13/364). ؟!
كما قال تعالى: وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا [القصص: 57] .
وقال سُبحانَه: لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش: 1 - 4] .
أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا تبيَّنَ أنَّه لا وجْهَ لِشِرْكِهم ولا لِكُفرِهم هذه النِّعمةَ الظَّاهِرةَ المكشوفةَ، تسَبَّب الإنكارُ في قَولِه [868] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/479). :
أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ.
أي: أفبِالشِّركِ يُؤمِنُ أولئك القَومُ، وبالنِّعمةِ الَّتي أنعَمَ بها عليهم [869] قيل: المرادُ بهذه النِّعمةِ: خُصوصُ نعمةِ الأمنِ في مكَّةَ الَّتي اختَصَّهم اللهُ تعالى بها. وممَّن قال بذلك: ابنُ جرير، وابن كثير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/443)، ((تفسير ابن كثير)) (6/295). وقيل: المرادُ: جِنسُ النِّعَمِ الَّتي أُوتوها؛ كإنجائِهم مِن الغرَقِ وغيرِ ذلك. وممَّن قال بذلك: البِقاعي، وابنُ عاشور، وابن عثيمين. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/479)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/34)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 407، 408). يَجحَدونَ، فيَجعَلونَ مَوضِعَ شُكرِهم له شِرْكَهم بعبادةِ غَيرِه [870] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/443)، ((تفسير القرطبي)) (13/364)، ((تفسير ابن كثير)) (6/295)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/479، 480)، ((تفسير السعدي)) (ص: 636)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/34). !
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أوفَى الله تعالى المشركينَ ما يَستأهِلونَه مِن تَشنيعِ أحوالِهم، وسُوءِ انتظامِ شُؤونِهم، جاء في عَقِبِه بتَذييلٍ يَجمَعُها في أنَّها افتِراءٌ على اللهِ، وتكذيبٌ بالحقِّ، ثمَّ جَزاهم الجزاءَ الأَوفَى اللَّائقَ بحالِهم؛ وهو أنَّ النَّارَ مَثواهُم [871] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/34). .
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ
أي: ولا أحدَ أظلَمُ مِمَّن اختلَقَ على اللهِ كَذِبًا، فادَّعى عليه ما لم يَقُلْه وما لا يَرضاه؛ كمَن زعَم أنَّ له شريكًا، أو كذَّب بمُحَمَّدٍ وبالقرآنِ حينَ جاءَه، مِن غيرِ أن يُمهِلَ نَفْسَه للنَّظَرِ والتَّأمُّلِ [872] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/444)، ((الوسيط)) للواحدي (3/426)، ((تفسير القرطبي)) (13/364)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/480)، ((تفسير السعدي)) (ص: 636). .
أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ.
أي: أليس في جهنَّمَ مأوًى ومقامٌ دائِمٌ للكافِرينَ [873] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/444)، ((تفسير القرطبي)) (13/364)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/481)، ((تفسير السعدي)) (ص: 636)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 411، 412). ؟!
وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر حالَ المشركينَ الجاحِدينَ للتَّوحيدِ، الكافِرينَ بنِعَمِ الله؛ أرْدَفه بحالِ عبادِه الصَّالحينَ، فقالَ [874] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (4/245). :
وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا.
أي: والَّذين بَذَلوا جُهْدَهم للعَمَلِ بما يُرضي اللهَ، وتَرْكِ ما يُسخِطُه [875] ممَّن اختار العمومَ في معنى الجهادِ: الزمخشريُّ، وأبو حيان، والبِقاعي، والقاسمي. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/465)، ((تفسير أبي حيان)) (8/367)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/481)، ((تفسير القاسمي)) (7/565). قال أبو حيان: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا : أطْلَق المجاهَدةَ، ولم يُقيِّدْها بمُتعلَّقٍ؛ ليتَناوَلَ المُجاهَدةَ في النَّفْسِ الأمَّارةِ بالسُّوءِ، والشَّيطانِ، وأعداءِ الدِّينِ. وما وَرَد مِن أقوالِ العلماءِ فالمقصودُ بها المثالُ). ((تفسير أبي حيان)) (8/367). وقال ابن عطيَّة: (هي قبْلَ الجهادِ العُرفيِّ، وإنَّما هو جهادٌ عامٌّ في دينِ الله، وطلَبِ مَرْضاتِه). ((تفسير ابن عطية)) (4/326). وقيل: المرادُ: بقولِه تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا أي: مُجاهَدةُ الكفَّارِ والمشركين، وقتالُ أعداءِ الله. وممَّن قال بذلك في الجملةِ: ابنُ جريرٍ، ومكِّي، والواحديُّ، والبغوي، وابن الجوزي، والرسعني، والقرطبي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/444)، ((الهداية الى بلوغ النهاية)) لمكي (9/5650)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 837)، ((تفسير البغوي)) (3/568)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/414)، ((تفسير الرسعني)) (5/631)، ((تفسير القرطبي)) (13/365). وممَّن قال بنحوِ هذا القولِ مِنَ السَّلفِ: ابن زيد، وأبو سورة. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/445)، ((تفسير الثعلبي)) (7/290). وقال ابنُ جُزَي: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا يعني: جِهادَ النَّفْسِ؛ مِنَ الصَّبرِ على إذايةِ الكفَّارِ، واحتمالِ الخروجِ عن الأوطانِ، وغيرِ ذلك. وقيل: يعني: القتالَ، وذلك ضعيفٌ؛ لأنَّ القتالَ لم يكن مأمورًا به حينَ نُزولِ الآيةِ). ((تفسير ابن جزي)) (2/129). ويُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/36). وقال الألوسي: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا في شأنِنا ومِن أجْلِنا ولوجِهنا خالصًا؛ ففيه مُضافٌ مُقدَّرٌ). ((تفسير الألوسي)) (11/15). وقال ابن القيم: (قال تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا، وقال وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ ... وهذا يُفهَمُ منه معنيان؛ أحدُهما: أنَّ ذلك في مَرْضاتِه وطاعتِه وسَبيلِه، وهذا فيما يفعَلُه الإنسانُ باختيارِه ... والثَّاني: أنَّه بسبَبِه وبجِهتِه حَصَل ذلك، وهذا فيما يُصيبُه بغيرِ اختيارِه، وغالِبُ ما يأتى قَولُهم: «ذلك في اللهِ» في هذا المعنى، فتأمَّلْ قَولَه...: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا؛ فإنَّه يترتَّبُ عليه الأذى فيه سُبحانَه، وليست «في» هاهنا للظرفيَّةِ، ولا لمجرَّدِ السَّببيَّةِ، وإن كانت السَّببيةُ هي أصْلَها). ((عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين)) (ص: 49). لَنَدُلَّنَّهم ونُوَفِّقَنَّهم إلى الطُّرُقِ المُوصِلةِ إلينا وإلى رِضْوانِنا في الدُّنيا والآخرةِ [876] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/444)، ((تفسير القرطبي)) (13/364، 365)، ((تفسير ابن كثير)) (6/296)، ((تفسير السعدي)) (ص: 636)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/36، 37)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 413). قال ابن عاشور: (سُبُلُ الله: الأعمالُ الموصِلةُ إلى رِضاهُ وثَوابِه). ((تفسير ابن عاشور)) (21/36، 37). ويُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/326). .
كما قال تعالى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ [محمد: 17] .
وقال سُبحانَه: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى [الليل: 5 - 7] .
وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ.
أي: وإنَّ الله لَمَعَ المُحسِنينَ بالحِفظِ والنَّصرِ، والإعانةِ والهدايةِ [877] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/444)، ((الوسيط)) للواحدي (3/426)، ((تفسير السعدي)) (ص: 636)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/37)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 416). .
كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل: 128] .
وعن أبي هُريرةَ رَضيَ اللهُ عنه، ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم كان يَومًا بارِزًا للنَّاسِ، إذْ أتاه رجُلٌ يمشي... قال: يا رَسولَ اللهِ، ما الإحسانُ؟ قال: الإحسانُ أن تَعبُدَ اللهَ كأنَّك تَراهُ، فإنْ لم تكُنْ تَراهُ فإنَّه يَراكَ )) [878] رواه البخاري (4777) واللفظ له، ومسلم (9). .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- قال تعالى: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ فلا ينبغي للمؤمنِ أنْ يَستَنَّ بالكافرِ، فلا يَفزَعَ إلى الدُّعاءِ إلَّا عندَ الشَّدائدِ [879] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/12). !
2- في قَولِه تعالى: فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ سَفَهُ مَن يَجعَلُ النِّعَمَ سببًا للأشَرِ والبَطَرِ؛ فإنَّ مَن فَعَل ذلك فيه شَبَهٌ مِن هؤلاء المشركينَ؛ لأنَّ الواجبَ على مَن أنعَمَ اللهُ عليه بنِعمةٍ أنْ يَزدادَ عِبادةً للهِ عزَّ وجلَّ؛ لأنَّ العبادةَ مِن الشُّكرِ، فإذا أنعَمَ عليك ربُّك بنِعمةٍ فازدَدْ له شُكرًا [880] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 400). .
3- قَولُ الله تعالى: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ دَليلٌ على أنَّ مَعرِفةَ الرَّبِّ في فِطرةِ كُلِّ إنسانٍ، وأنَّهم إنْ غفَلوا في السَّرَّاءِ فلا شَكَّ أنَّهم يَلُوذونَ إليه في حالِ الضَّرَّاءِ؛ فعُلِمَ أنَّ الاشتِغالَ بالدُّنيا هو الصَّادُّ عن كلِّ خَيرٍ، وأنَّ الانقِطاعَ عنها مُعِينٌ للفِطرةِ الأولى المُستَقيمةِ؛ ولهذا نَجِدُ الفُقَراءَ أقرَبَ إلى كلِّ خيرٍ [881] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/477). .
4- في قَولِه تعالى: وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ الحَذَرُ الشَّديدُ ممَّا عليه بعضُ المُسلِمينَ اليومَ، اَّلذين ليس لهم هَمٌّ إلَّا التَّمتُّعَ بالدُّنيا فقط؛ فهؤلاء لا يَتحدَّثون إلَّا عن الرَّفاهيةِ والتَّرفيهِ، لكنْ أمراضُ القلوبِ وعِلَلُ وانحرافاتُ القلوبِ قَلَّ أن يَتكلَّموا عنها، مع أنَّها هي الأصلُ، فإذا مَرِضَتِ القُلوبُ، فما الفائدةُ مِن ترفيهِ الأبدانِ؟! ثُمَّ إنْ نَزلَتْ نِقمةٌ مِن اللهِ ازدادوا حَسرةً -والعياذُ باللهِ، فترفيهُ القلوبِ بطاعةِ اللهِ سبحانه وتعالى هو الَّذي فيه الفائِدةُ الحقيقيَّةُ للبدنِ وللقَلبِ ولكُلِّ شَيءٍ؛ قال سُبحانَه وتعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [882] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 404). [النحل: 97] .
5- قَولُ الله تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ فيه دَلالةٌ على أنَّ أحرَى النَّاسِ بموافَقةِ الصَّوابِ أهلُ الجهادِ [883] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 636). .
6- قَولُه تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ فيه دَلالةٌ على أنَّ مَن أحسَنَ فيما أُمِرَ به أعانه اللهُ، ويسَّرَ له أسبابَ الهدايةِ [884] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 636). .
7- قَولُه تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ فيه دَلالةٌ على أنَّ مَن جَدَّ واجتهد في طلَبِ العِلمِ الشَّرعيِّ، فإنَّه يَحصُلُ له مِن الهدايةِ والمَعونةِ على تحصيلِ مَطلوبِه أمورٌ إلهيَّةٌ خارجةٌ عن مَدرَكِ اجتهادِه، وتيسَّر له أمرُ العِلمِ؛ فإنَّ طلَبَ العِلمِ الشَّرعيِّ مِن الجهادِ في سبيلِ الله، بل هو أحَدُ نَوْعَيِ الجهادِ الَّذي لا يقومُ به إلَّا خواصُّ الخَلقِ، وهو الجِهادُ بالقَولِ واللِّسانِ، للكُفَّارِ والمُنافِقينَ، والجِهادُ على تعليمِ أمورِ الدِّينِ، وعلى ردِّ نزاعِ المخالِفينَ للحَقِّ، ولو كانوا مِن المُسلِمينَ [885] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 636). .
8- في قَولِه تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا عَلَّقَ سُبحانَه الهِدايةَ بالجهادِ، فأكمَلُ النَّاسِ هدايةً أعظَمُهم جِهادًا، وأفرَضُ الجهادِ: جِهادُ النَّفْسِ، وجهادُ الهوى، وجِهادُ الشَّيطانِ، وجِهادُ الدُّنيا؛ فمَن جاهدَ هذه الأربعةَ في اللهِ هَداه اللهُ سُبُلَ رِضاهُ الموصِلةَ إلى جنَّتِه، ومَن تَرَكَ الجهادَ فاتَه مِن الهُدَى بحسَبِ ما عَطَّلَ مِن الجِهادِ [886] يُنظر: ((الفوائد)) لابن القيم (ص: 59). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- قَولُ الله تعالى: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ فيه إشارةٌ إلى أنَّ المانِعَ مِن التَّوحيدِ هو الحياةُ الدُّنيا، وبيانُ ذلك هو أنَّهم إذا انقطَع رجاؤُهم عن الدُّنيا رجَعوا إلى الفِطرةِ الشَّاهِدةِ بالتوحيدِ، ووَحَّدوا وأخلَصوا، فإذا أنجاهم وأرجأَهم عادوا إلى ما كانوا عليه مِن حُبِّ الدنيا، وأشرَكوا [887] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/76). !
2- في قولِه تعالى: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أنَّ اللُّجوءَ إلى اللهِ في حالِ الشِّدَّةِ أمرٌ فِطْرِيٌّ؛ بدليلِ أنَّ هؤلاء غَلَبَتْهم فِطْرَتُهم حتَّى دَعَوُا اللهَ وحْدَه مُخلِصينَ له الدِّينَ [888] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 399). .
3- في قوله تعالى: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ أنَّه سبحانَه يَستجيبُ للمُضْطَرِّ، ولو كان كافرًا؛ لِمَوضِعِ اضْطِرارِه وإخلاصِه، وللإخلاصِ عندَه سُبحانَه مَوقِعٌ وذِمَّةٌ، وُجِد مِن مؤمنٍ أو كافرٍ، طائعٍ أو فاجرٍ [889] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (13/223)، ((فتاوى نور على الدرب)) لابن عثيمين (138/12). .
4- في قوله تعالى: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ أنَّ الكافرَ كان يُوَحِّدُ اللهَ في الشِّدَّةِ والبلاءِ، دونَ النِّعمةِ والرَّخاءِ [890] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (8/50). ؛ وعليه فإنَّ إشراكَ السَّابقينَ أهْوَنُ مِن إشراكِ مَن أشرَكَ مِن المتأخِّرينَ مِن هذه الأمَّةِ؛ لأنَّ المُشرِكينَ المتأخِّرينَ يُشرِكون في الرَّخاءِ وفي الشِّدَّةِ، وأيضًا لا يَدْعونَ اللهَ سبحانه وتعالى، لكنْ يَدْعُون أولياءَهم [891] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 398). !
5- في قوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا سؤالٌ: أنَّه يُشكِلُ على هذا أنَّ مِثلَ هذه الصِّيغةِ تأتي في سياقاتٍ أخرَى، وقد جَمَعهم اللهُ تعالى في آيةٍ واحدةٍ؛ قال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ [الأنعام: 93] ، وأيضًا قولُه تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [البقرة: 114] ، وورَدَ في الحديثِ: ((ومَن أظْلَمُ ممَّن ذَهَب يَخْلُقُ كخَلْقي )) [892] أخرجه البخاري (5953)، ومسلم (2111) من حديث أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه. !
والجوابُ مِن أحدِ وجهَينِ:
الأوَّل: أنَّ هذه الأشياءَ جميعَها اشتركَتْ في المرتبةِ العُليا مِن الظُّلمِ؛ فكلُّها في مقامِ الأظْلَميَّةِ، فـ (أفعلُ التَّفضيلِ) لا تمنعُ التَّساويَ، ولكنَّها تمنعُ الزِّيادةَ. وعلى ذلك فلا مُعارَضةَ ألبتَّةَ بينَ الآياتِ؛ فهؤلاءِ المذكورونَ لا يُوجَدُ أحدٌ أظلَمُ منهم، وهم مُتساوونَ في مرتبةِ الظُّلْمِ.
الثَّاني: أنَّ هذه المواضعَ تتخصَّصُ بصِلاتِها، ومعنَى (تتخصَّصُ بصِلاتِها): أنَّ كُلَّ واحدٍ منها تُفَسِّرُه صِلةُ مَوصُولِه، أي: أنَّ كلَّ واحدةٍ تختصُّ ببابِها؛ فيكونُ المعنَى: لا أحدَ مِنَ المُفْتَرِينَ أظلَمُ مِمَّنِ افتَرَى على اللهِ كَذِبًا، ولا أحدَ مِنَ المانِعِينَ أظلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ، ولا أحدَ مِنَ المُعْرِضِينَ أظلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بآياتِ رَبِّهِ فأَعرَضَ عنها... إلخ [893] يُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (1/512، 513)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأنعام)) (ص: 122، 123)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 410). والوجهُ الأوَّلُ مخرَّجٌ على قاعدةِ: (نفْيُ التَّفضيلِ لا يَستلزِمُ نفْيَ المساواةِ). يُنظر: ((قواعد التفسير)) لخالد السبت (2/528). .
6- ذَكَر اللهُ تعالى لفظةَ «السَّبيلِ» في القرآنِ بصيغةِ الإفرادِ، كقولِه سبحانه: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام: 153] ، وذَكَر في مواطنَ أُخرَى في القرآنِ الكريمِ لفظةَ «السَّبيلِ» بصيغةِ الجَمْعِ، كقولِه سبحانَه وتعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا، وقولِه: وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا [إبراهيم: 12] ، ووجْهُ ذلك: أنَّ السَّبيلَ المضافَ إلى اللهِ تعالى تارةً يكونُ مفردًا، وتارةً يكونُ جمعًا؛ لكنْ إذا كان جمعًا غيرَ مضافٍ إلى اللهِ فهو سُبُلُ الضَّلالِ، يُفْرَدُ السَّبيلُ المضافُ إلى اللهِ تعالى؛ لأنَّه سبيلٌ واحدٌ يُوصِلُ إلى اللهِ -وهو الإسلامُ-، وتُجْمَعُ سُبُلُ الضَّلالِ؛ لأنَّها متفرِّقةٌ: هذا نصرانيٌّ، وهذا يهوديٌّ، وهذا شيوعيٌّ، وهذا بعثيٌّ، وهذا مُلْحِدُ، إلى آخِرِه، فهي سُبُلٌ متفرِّقةٌ، وكلُّها ضلالٌ، وما جَمَعَه اللهُ تعالى مِن السَّبيلِ المضافِ إليه؛ فإنَّما يَجْمَعُه لِتَنَوُّعِ العباداتِ الَّتي هي سبيلُ اللهِ عزَّ وجلَّ: هذه صلاةٌ، وهذه زكاةٌ، وهذا صيامٌ، وهذا حجٌّ، وهذا جهادٌ، وهذا أمرٌ بمعروفٍ ونهيٌ عن منكَرٍ، وهذه دعوةٌ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ؛ فصار جمْعُه له وجهٌ، وإفرادُه له وجهٌ آخَرُ، أمَّا سُبُلُ الضَّلالِ فإنَّها مُتفرِّقةٌ؛ فلا تكونُ إلَّا مجموعةً [894] يُنظر: ((لقاء الباب المفتوح)) لابن عثيمين (اللقاء رقْم: 131). .
7- المؤمِنُ يُثابُ على الحَسَنةِ بحسنةٍ أُخرَى، فإذا عَمِلَ بعِلمِه وَرَّثَه اللهُ عِلْمَ ما لم يَعلَمْ، وإذا عَمِل بحَسَنةٍ دَعَتْه إلى حَسَنةٍ أخرى؛ قال الله تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا، وقال أيضًا: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ [895] يُنظر: ((جامع الرسائل)) لابن تيمية (1/229). [محمد: 17] .
8- الجِهادُ مُوجِبٌ للهدايةِ الَّتي هي مُحيطةٌ بأبوابِ العلمِ، كما دَلَّ عليه قَولُه تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا، فجَعَل سُبحانَه لِمَن جاهدَ فيه هِدايةَ جميعِ سُبُلِه تعالى، ولهذا قال الإمامانِ عبدُ اللهِ بنُ المُبارَكِ وأحمدُ بنُ حَنْبَلٍ وغيرُهما: (إذا اختَلَف النَّاسُ في شَيءٍ فانظُروا ماذا عليه أهلُ الثَّغْرِ؛ فإنَّ الحقَّ معهم؛ لأنَّ اللهَ يقولُ: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) [896] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (28/442). .
9- في قَولِه تعالى: لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا لم يَقُلْ: «لَنَهْدِيَنَّهم إلى»، بل قال: سُبُلَنَا، فعَدَّى الهدايةَ بنَفْسِها إلى المفعولِ الثَّاني؛ فيَشْملُ ذلك هِدايةَ الدَّلالةِ وهدايةَ التَّوفيقِ، ومنه قولُه عزَّ وجلَّ في سورةِ الفاتحةِ: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: 6] لم يَقُلْ: «اهدِنا إلى الصَّراطِ المستقيمِ»، بل قال: اهْدِنَا الصِّرَاطَ؛ فيَشملُ الهِدايةَ إليه، ويَشملُ الهدايةَ فيه؛ فالهدايةُ إليه: الدَّلالةُ إليه، أي: يَدُلُّك على الصِّراطِ المستقيمِ، والهدايةُ فيه: أن يُوَفِّقَك للعَمَلِ في إطارِ هذا الصِّراطِ؛ فقولُه تعالى: لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا يَشملُ الأمْرَينِ: هِدايةَ الدَّلالةِ والعِلمِ، وهدايةَ التَّوفيقِ والإرشادِ [897] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 413). .
10- مَن تأمَّل فاتحةَ هذه السُّورةِ ووسَطَها وخاتمَها وجَد في ضِمْنِها أنَّ أوَّلَ الأمرِ ابتلاءٌ وامتحانٌ، ووسَطَه صبرٌ وتَوكُّلٌ، وآخِرَه هدايةٌ ونصرٌ [898] يُنظر: ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 247). .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قوله تعالى: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ هذا انتِقالٌ إلى إلزامِهم بما يَقْتضيهِ دُعاؤهم حينَ لا يُشرِكون فيه إلهًا آخَرَ مع اللهِ، بعدَ إلْزامِهم بمُوجباتِ اعترافاتِهم؛ فإنَّهم يَدْعون أصنامَهم في شُؤونٍ مِن أحوالِهم ويَستنصِرونهم، ولكنَّهم إذا أصابهم هَوْلٌ توجَّهوا بتضَرُّعِهم إلى اللهِ. وإنَّما خصَّ بالذِّكرِ حالَ خَوفِهم مِن هَولِ البحرِ في هذه الآيةِ وفي آياتٍ كثيرةٍ -مِثْلُ ما في سُورةِ (يُونسَ)، وما في سُورةِ (الإسراءِ)-؛ لأنَّ أسفارَهم في البَرِّ كانوا لا يَعْتَريهم فيها خَوفٌ يعُمُّ جميعَ السَّفرِ؛ لأنَّهم كانوا يُسافِرون قوافِلَ، معهم سلاحُهم، ويَمُرُّون بسُبُلٍ يأْلَفونها، فلا يَعترِضُهم خَوفٌ عامٌّ، فأمَّا سَفَرُهم في البحرِ فإنَّهم يَفْرَقون مِن هَولِه، ولا يَدفَعُه عنهم وَفْرةُ عدَدٍ، ولا قوَّةُ عُدَدٍ، فهم يَضَّرَّعون إلى اللهِ بطَلبِ النَّجاةِ، ولعلَّهم لا يَدْعُون أصنامَهم حينَئذٍ، فأمَّا تَسخيرُ المخلوقاتِ فما كانوا يطْمَعون به إلَّا مِن اللهِ تعالى، وأيضًا كان يُخامِرُهم الخَوفُ عندَ رُكوبِهم في البحرِ؛ لقِلَّةِ إلْفِهم برُكوبِه؛ إذ كان مُعظَمُ أسفارِهم في البَراري [899] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/32). .
- وأفادتِ الفاءُ في قولِه: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ تَفريعَ ما بعْدَها على ما قبْلَها، والمُفرَّعُ عليه مَحذوفٌ، ليس هو واحدًا مِن الأخبارِ المُتقدِّمةِ بخُصوصِه، ولكنَّه مجموعُ ما تدُلُّ عليه قوَّةُ الحديثِ عنهم وما تَقْتضيهِ الفاءُ، والتَّقديرُ: همْ -أي: المُشرِكون- على ما وُصِفوا به مِن الغفلةِ عن دَلائلِ الوَحدانيَّةِ، وإلْغائِهم ما في أحوالِهم مِن دَلائلِ الاعترافِ للهِ بها؛ لا يَضَّرَّعون إلَّا إلى اللهِ، فإذا رَكِبوا في الفُلْكِ دَعَوُا اللهَ؛ فضمائرُ جمْعِ الغائبينَ عائدةٌ إلى المشركينَ [900] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/464)، ((تفسير البيضاوي)) (4/199)، ((تفسير أبي حيان)) (8/366)، ((تفسير أبي السعود)) (7/47)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/32). .
- والرُّكوبُ هو الاستعلاءُ على الشَّيءِ المُتحرِّكِ، وهُو مُتعَدٍّ بنفْسِه كما في قولِه تعالى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا [النحل: 8] ، واستعمالُه هاهنا وفي أمثالِه بكلمةِ (في)؛ للإيذانِ بأنَّ المركوبَ في نفْسِه مِن قَبِيلِ الأمكنةِ، وحَركتَه قَسْريةٌ غيرُ إراديَّةٍ [901] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/47)، ((تفسير أبي حيان)) (8/366). .
- وفي قولِه: إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ جِيءَ بحرْفِ المُفاجأةِ (إذا)؛ للدَّلالةِ على أنَّهم ابتَدَروا إلى الإشراكِ في حِينِ حُصولِهم في البَرِّ، أي: أسْرَعوا إلى ما اعْتادوهُ مِن زِيارةِ أصنامِهم والذَّبحِ لها [902] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/33). !
- وفي تَسميتِهم مُخلِصينَ: ضرْبٌ مِن التَّهكُّمِ [903] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/464). ؛ فأمَّا على أنَّ المرادَ بالدِّينِ المِلَّةُ فظاهرٌ، وأمَّا على أنَّ المرادَ الطَّاعةُ؛ فلأنَّهم لا يَستمِرُّونَ على هذه الحالِ، فهي قبيحةٌ باعتِبارِ المآلِ [904] يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (11/14). .
2- قوله تعالى: لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ
- الأمرُ في قولِه: لِيَكْفُرُوا.. وَلِيَتَمَتَّعُوا على سَبيلِ التَّهديدِ، كقولِه: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ [فصلت: 40] [905] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/366)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/33). ، وذلك على القولِ بأنَّ اللَّامَ فيهما لامُ الأمرِ.
3- قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ هذا تَذكيرٌ خاصٌّ لأهلِ مكَّةَ، وإنَّما خُصُّوا مِن بيْنِ المشركينَ مِن العربِ؛ لأنَّ أهلَ مكَّةَ قُدوةٌ لجميعِ القبائلِ، وأكثَرُ قبائلِ العربِ كانوا يَنتظِرون ماذا يكونُ مِن أهْلِ مكَّةَ، فلمَّا أسلَمَ أهْلُ مكَّةَ يومَ الفتْحِ، أقبَلَتْ وُفودُ القبائلِ مُعلِنةً إسلامَهم. والجُملةُ مَعطوفةٌ على جُملةِ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ [العنكبوت: 65] ، باعتبارِ ما اشتمَلَت عليه تلك الجُملةُ مِن تَقريعِهم على كُفرانِ نِعَمِ اللهِ تعالى؛ ولذلك عُقِّبَت هذه الجُملةُ بقولِه: وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ [906] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/464)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/33، 34). .
- والاستِفهامُ في قولِه: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا استِفهامٌ إنكاريٌّ، جُعِلَت نِعمةُ أمْنِ بلَدِهم كالشَّيءِ المُشاهَدِ، فأنكَرَ عليهم عدَمَ رُؤيتِه [907] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/34). .
- قوله: حَرَمًا آَمِنًا أي: آمِنًا أهْلُه عمَّا يَسوؤُهم مِن السَّبْيِ والقتلِ، على أنَّ أمْنَه كِنايةٌ عن أمْنِ أهلِه، أو على أنَّ في الكلامِ مضافًا مقَدَّرًا [908] يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (11/14). . وقيل: لَمَّا أمِنَ كُلُّ مَن دخَله، كان كأنَّه هو نفْسَه الآمِنُ [909] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/478). . وقيل: بل الصَّوابُ أنَّ الحرَمَ نفْسَه آمِنٌ؛ ولهذا عصَمه الله سبحانه وتعالى مِن كلِّ أحدٍ [910] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 406). .
- والمُضارِعُ في المواضعِ الثَّلاثةِ -وَيُتَخَطَّفُ يُؤْمِنُونَ يَكْفُرُونَ-: دالٌّ على تجدُّدِ الفِعلِ [911] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/34). .
- قولُه: أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ فيه تَقديمُ الصِّلَتَينِ أَفَبِالْبَاطِلِ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ؛ للاهتِمامِ، أو الاختِصاصِ على طَريقِ المُبالَغةِ [912] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/200). ، أو لإظهارِ كَمالِ شَناعةِ ما فَعَلوا [913] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/47). .
4- قوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ
- افتتَحَ تَشخيصَ حالِهم بالاستِفهامِ عن وُجودِ فريقٍ هم أظلَمُ مِن هؤلاء الَّذين افتَرَوا على اللهِ، وكذَّبوا بالحقِّ؛ تَوجيهًا لأذهانِ السَّامعينَ نحْوَ البحثِ هلْ يَجِدون أظلَمَ منهم؟ حتَّى إذا أجادوا التَّأمُّلَ، واستَقْرَوْا مَظانَّ الظَّلَمةِ، واستَعْرَضوا أصنافَهم؛ تَيَقَّنوا أنْ ليس ثَمَّةَ ظُلْمٌ أشَدُّ مِن ظُلْمِ هؤلاء [914] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/34). .
- وتَقْييدُ الافتِراءِ بالحالِ المُوكِّدةِ في قولِه: كَذِبًا؛ لِزِيادةِ تَفظيعِ الافتِراءِ؛ لأنَّ اسمَ الكَذِبِ مُشتهَرُ القُبْحِ في عُرْفِ النَّاسِ، وإنَّما اختِيرَ الافتِراءُ؛ للدَّلالةِ على أنَّهم يَتعمَّدونَ الاختلاقَ تعمُّدًا لا تُخالِطُه شُبْهةٌ [915] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/35). .
- وتَقْييدُ تَكذيبِهم بالحقِّ بقولِه: لَمَّا جَاءَهُ؛ لإدماجِ ذَمِّ المُكذِّبين بنُكرانِ نِعمةِ إرسالِ الحقِّ إليهم الَّتي لم يَقْدُروها قَدْرَها، وكان شأْنُ العُقلاءِ أنْ يَتطلَّبوا الحقَّ، ويَرحَلوا في طَلبِه، وهؤلاء جاءهم الحقُّ بيْنَ أيدِيهم فكذَّبوا به! وأيضًا فإنَّ (لَمَّا) التَّوقيتيَّةَ تُؤْذِنُ بأنَّ تَكذيبَهم حصَلَ بِدارًا عندَ مَجِيءِ الحقِّ، أي: دونَ أنْ يَترُكوا لأنفُسِهم مُهلةَ النَّظرِ [916] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/465)، ((تفسير البيضاوي)) (4/200)، ((تفسير أبي حيان)) (8/367)، ((تفسير أبي السعود)) (7/48)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/35). .
- وجُملةُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ بَيانٌ لجُملةِ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا، وتَقريرٌ لها؛ لأنَّ في جُملةِ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ إلى آخرِها، إيذانًا إجماليًّا بجزاءٍ فَظيعٍ يَترقَّبُهم، فكان بَيانُه بمَضمونِ جُملةِ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ، وهو بألفاظِه ونظْمِه يُفِيدُ تمَكُّنَهم مِن عذابِ جهنَّمَ؛ إذ جُعِلَت مَثْواهم؛ فالمَثْوى: مكانُ الثَّواءِ، والثَّواءُ: الإقامةُ الطَّويلةُ والسُّكْنى. وعُلِّق ذلك بعُنوانِ الكافرينَ؛ للتَّنبيهِ على استِحقاقِهم ذلك لأجْلِ كُفْرِهم [917] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/35، 36). .
- والاستِفهامُ في قولِه: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ تَقريرٌ لِثَوائِهم في جهنَّمَ، أي: أَلَا يَستوجبونَ الثَّواءَ فيها، وقد فعَلوا ما فعَلوا مِنَ الافتراءِ على اللهِ تعالى، والتَّكذيبِ بالحقِّ الصَّريحِ؟! أو إنكارٌ واستِبعادٌ لاجترائِهم على ما ذُكِرَ مِن الافتراءِ والتَّكذيبِ مع عِلْمِهم بحالِ الكَفَرةِ، أي: ألَمْ يَعْلَموا أنَّ في جهنَّمَ مَثْوًى للكافرينَ حتَّى اجْتَرؤوا هذه الجَراءةَ [918] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/465)، ((تفسير البيضاوي)) (4/200)، ((تفسير أبي حيان)) (8/367)، ((تفسير أبي السعود)) (7/48). ؟! فالهمزةُ للاستِفهامِ التَّقريريِّ، وأصْلُها: إمَّا الإنكارُ بتَنزيلِ المُقِرِّ مَنزِلةَ المُنكِرِ؛ لِيَكونَ إقرارُه أشَدَّ لُزومًا له، وإمَّا أنْ تكونَ للاستفهامِ، فلمَّا دخَلَت على النَّفيِ أفادَتِ التَّقريرَ؛ لأنَّ إنكارَ النَّفْيِ إثباتٌ للمَنْفيِّ، وهو إثباتٌ مُستعمَلٌ في التَّقريرِ على وجْهِ الكِنايةِ. وهذا تَقريرٌ لمَنْ يَسمَعُ هذا الكلامَ، وجُعِلَ كَوْنُ جهنَّمَ مَثْواهم أمْرًا مُسَلَّمًا معروفًا -بحيث يُقِرُّ به كلُّ مَن يُسْألُ عنه- كِنايةً عن تَحقُّقِ المَغَبَّةِ على طَريقةِ إيماءِ الكِنايةِ [919] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/36). .
- والتَّعريفُ في (الكافرين) تعريفُ العهْدِ، أي: لهؤلاء الكافرينَ، وهم الَّذين ذُكِروا مِن قبْلُ بأنَّهم افتَرَوا على اللهِ كذِبًا، وكذَّبوا بالحقِّ، فكان مُقْتضى الظَّاهرِ الإتيانَ بضَميرِهم، فعُدِلَ عنه إلى الاسمِ الظاهرِ؛ لإحضارِهم بوصْفِ الكُفْرِ [920] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/367)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/36). .
5- قوله تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ختَمَ تَوبيخَ المشركينَ وذَمَّهم بالتَّنويهِ بالمؤمنينَ؛ إظهارًا لمَزيدِ العِنايةِ بهم، فلا يَخْلو مَقامُ ذَمِّ أعدائِهم عن الثَّناءِ عليهم؛ لأنَّ ذلك يَزِيدُ الأعداءَ غيظًا وتَحقيرًا. والَّذين جاهَدوا في اللهِ هم المؤمنونَ الأوَّلونَ؛ فالمَوصولُ بمَنزلةِ المُعرَّفِ بلامِ العهْدِ. وجِيءَ بالمَوصولِ؛ للإيماءِ إلى أنَّ الصِّلةَ سببُ الخَبرِ [921] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/36). .
- وفي قولِه: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ إيجازٌ بالحذْفِ؛ فقد أطلَقَ المُجاهَدةَ ولم يُقيِّدْها بمَفعولٍ؛ لِيَتناوَلَ كلَّ ما يجِبُ مُجاهَدتُه؛ مِن النَّفْسِ الأمَّارةِ بالسُّوءِ، والشَّيطانِ، وأعداءِ الدِّينِ [922] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/465)، ((تفسير البيضاوي)) (4/200)، ((تفسير أبي حيان)) (8/367)، ((تفسير أبي السعود)) (7/48)، ((الجدول في إعراب القرآن)) لصافي (21/21)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (7/461). .
- وفي قولِه: لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا إيماءٌ إلى تَيسيرِ طَريقِ الهجرةِ الَّتي كانوا يتأَهَّبون لها أيَّامَ نُزولِ هذه السُّورةِ [923] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/37). .
- وجُملةُ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ تَذييلٌ للآيةِ، مُؤكَّدٌ بكَلِمتَيِ التَّوكيدِ (إنَّ) واللَّامِ [924] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/206). . وإنَّما جِيءَ بها مَعطوفةً؛ للدَّلالةِ على أنَّ المُهِمَّ مِن سَوقِها هو ما تَضمَّنَتْه مِن أحوالِ المؤمنينَ، فعُطِفَت على حالتِهم الأُخرى، وأفادَتِ التَّذييلَ بعُمومِ حُكْمِها [925] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/37). .
- والمُرادُ بـ الْمُحْسِنِينَ جميعُ الَّذين كانوا مُحسنينَ، أي: كان عمَلُ الحَسناتِ شِعارَهم، وهو عامٌّ. وفيه تَنويهٌ بالمؤمنينَ بأنَّهم في عِدادِ مَن مَضى مِن الأنبياءِ والصَّالحينَ، وهذا أوقَعُ في إثباتِ الفوزِ لهم ممَّا لو قِيل: فأولئك المُحسِنون؛ لأنَّ في التَّمثيلِ بالأُمورِ المُقرَّرةِ المشهورةِ تَقريرًا للمَعاني [926] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/37). .
- وهذه خاتمةٌ شريفةٌ للسُّورةِ؛ لأنَّها مُجاوِبةٌ لِمُفْتَتَحِها، ناظرةٌ إلى فَريدةِ قِلادتِها أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ [العنكبوت: 2] ، لامِحةٌ إلى واسطةِ عِقْدِها يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ [العنكبوت: 56] ، وهي في نفْسِها جامعةٌ فاذَّةٌ [927] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/206). .