موسوعة التفسير

سورةُ مُحمَّدٍ
الآيات (16-19)

ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ

غريب الكلمات:

آَنِفًا: أي: مُنْذُ قَريبٍ، أو السَّاعةَ في أوَّلِ وقتٍ يَقرُبُ منها؛ مِن قَولِك: استأنَفْتُ الشَّيءَ: إذا ابتدَأْتَه، ورَجعْتَ إلى أوَّلِه، وأصلُ (أنف) هنا: يدُلُّ على أخذِ الشَّيءِ مِن أوَّلِه [263] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 78)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/146)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 355)، ((تفسير القرطبي)) (16/238)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 382). .
طَبَعَ: أي: خَتَمَ وربَطَ، يُقالُ: طَبَع اللهُ على قَلبِ الكافِرِ، أي: ختَمَ عليه فلا يَعي وَعظًا ولا يُوَفَّقُ لِخَيرٍ، وأصلُه يدُلُّ على التَّغطيةِ على الشَّيءِ، والاستيثاقِ منه، بألَّا يَدخُلَه شَيءٌ، ولا يَخرُجَ منه شَيءٌ [264] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/438)، ((البسيط)) للواحدي (2/112) و (7/180)، ((المفردات)) للراغب (ص: 515)، ((النهاية)) لابن الأثير (3/112). .
يَنْظُرُونَ: أي: يَنْتظِرونَ؛ فالنَّظَرُ هنا بمعنى الانتظارِ، وأصْلُ (نظر): تأمُّلُ الشَّيءِ ومُعايَنَتُه، ومنه: نَظَرْتُه، أي: انتَظَرْتُه، كأنَّه يَنْظُرُ إلى الوَقْتِ الذي يأتي فيه [265] يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/11)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/444)، ((المفردات)) للراغب (ص: 813)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/118). .
بَغْتَةً: أي: فَجأةً، وأصلُ (بغت): يدُلُّ على مُفاجأةِ الشَّيءِ [266] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 153)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 120)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/272)، ((المفردات)) للراغب (ص: 135)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 252). .
أَشْرَاطُهَا: أي: عَلاماتُها، واحدُها: شَرَطٌ، ومنه الاشتِراطُ الَّذي يَشتَرِطُ النَّاسُ بَعضُهم على بعضٍ، إنَّما هي علاماتٌ يَجعَلونَها بيْنَهم، وأصلُ (شرط): يدُلُّ على عَلَمٍ وعَلامةٍ [267] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 410)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 79)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/260)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 355)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 382). .
مُتَقَلَّبَكُمْ: أي: مُتصَرَّفَكم وانتِشارَكم في أعمالِكم، وأصلُ (قلب): يدُلُّ على رَدِّ شَيءٍ مِن جِهةٍ إلى جِهةٍ [268] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/209)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/17)، ((تفسير البغوي)) (7/285)، ((تفسير القرطبي)) (16/242). .
وَمَثْوَاكُمْ: أي: مَقامَكم ومُستَقَرَّكم، وأصلُ (ثوي): يدُلُّ على إقامةٍ [269] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/393)، ((تفسير القرطبي)) (16/242)، ((تفسير ابن كثير)) (7/317). .

مشكل الإعراب:

- قَولُه تعالى: حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آَنِفًا
قَولُه: آَنِفًا: فيه وَجهانِ؛ أحَدُهما: أنَّه مَنصوبٌ على الحالِ، أي: مُؤتَنِفًا أو مُبتَدِئًا. والثَّاني: أنَّه مَنصوبٌ على الظَّرفِ، أي: ماذا قال السَّاعةَ [270] يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/10)، ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (2/ 673)، ((تفسير الزمخشري)) (4/322)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (9/695). ؟
- قَولُه تعالى: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ
المصدَرُ المؤوَّلُ أَنْ تَأْتِيَهُمْ في محَلِّ نَصبٍ بَدَلُ اشتِمالٍ مِن السَّاعَةَ، أي: يَنظُرونَ إتيانَ السَّاعةِ. (أنَّى) اسمُ استِفهامٍ مَبنيٌّ في محَلِّ رَفعٍ، خَبَرٌ مُقدَّمٌ، على معنى: كيف لهم التَّذَكُّرُ؟! أو هو في محِلِّ نَصبٍ على الظَّرفيَّةِ المكانيَّةِ مُتعَلِّقٌ بمَحذوفٍ، خَبَرٌ مُقَدَّمٌ على معنى: مِن أينَ لهم التَّذكُّرُ؟! ذِكْرَاهُمْ مُبتدَأٌ مُؤخَّرٌ. وفاعِلُ جَاءَتْهُمْ ضَميرٌ مُستَتِرٌ جوازًا يعودُ على السَّاعةِ، وجملةُ الشَّرطِ إِذَا جَاءَتْهُمْ مُعتَرِضةٌ بيْنَ المبتدأِ والخَبَرِ، وجوابُ الشَّرطِ مَحذوفٌ دلَّ عليه ما قَبْلَه، أي: إذا جاءَتْهم السَّاعةُ فمِن أين لهم التَّذكُّرُ، أو فكيفَ لهم التَّذَكُّرُ؟!
ويجوزُ أن يكونَ ذِكْرَاهُمْ فاعِلًا لـ جَاءَتْهُمْ، والمُبتدأُ المؤخَّرُ مَحذوفًا، أي: فأنَّى لهم الخَلاصُ إذا جاءَتْهم ذِكْراهم [271] يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/61)، ((معانى القرآن)) للأخفش (2/520)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/11)، ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (2/673)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (2/1162)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (9/697)، ((الجدول في إعراب القرآن)) لمحمود صافي (26/223). ؟!

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى مبيِّنًا موقفَ المنافِقينَ مِن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ومِن هؤلاء الَّذين يَتمَتَّعونَ ويَأكُلونَ كما تأكُلُ الأنعامُ، وزُيِّنَ لهم سُوءُ عَمَلِهم: قَومٌ يَستَمِعونَ إليك -وهم المُنافِقونَ- فإذا خرَجَوا مِن عِندِك -يا محمَّدُ- قالوا لِمَن حَضَر مَجلِسَك مِن أهلِ العِلمِ مِن الصَّحابةِ: ماذا قال مُحمَّدٌ مُنذُ وَقتٍ قَريبٍ؟!
أولئك هم الَّذين خَتَم اللهُ على قُلوبِهم فلم يُؤمِنوا، واتَّبَعوا أهواءَهم في الكُفرِ والتَّكذيبِ.
ثمَّ يُبيِّنُ الله تعالى حالَ المؤمنينَ الصَّادقينَ، فيقولُ: والَّذين آمَنوا بالحَقِّ واتَّبَعوه زادَهم ما سَمِعوا مِنَ القُرآنِ وكلامِ النَّبيِّ إيمانًا وثَباتًا، وأعطاهم اللهُ التَّقْوى.
ثمَّ يوبِّخُ المنافقينَ، فيقولُ: فهل يَنتَظِرُ أولئك المنافِقونَ إلَّا القيامةَ تأتيهم فَجأةً، فقد جاءَتهم أماراتُها وعَلاماتُها، فمِن أينَ لهم الانتِفاعُ بالتَّذَكُّرِ إذا جاءَتْهم القيامةُ؟!
ثمَّ يقولُ تعالى: فاعلَمْ -يا محمَّدُ- أنَّه لا مَعبودَ بحَقٍّ إلَّا اللهُ، واستَغفِرْ لِذَنْبِك، ولِذُنوبِ المؤمِنينَ والمؤمِناتِ، واللهُ يَعلَمُ تصَرُّفَكم وانتِشارَكم، ويَعلَمُ مَوضِعَ سُكونِكم وقَرارِكم.

تفسير الآيات:

وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آَنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا بَيَّن اللهُ تعالى حالَ الكافِرِ؛ ذكَرَ حالَ المنافِقِ بأنَّه مِن الكُفَّارِ [272] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/49). .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ.
أي: ومِن الكُفَّارِ قَومٌ يَستَمِعونَ إلى تِلاوتِك القُرآنَ -يا محمَّدُ-، أو إلى حديثِك في خُطَبِ الجُمُعةِ أو غيرِها، وهم المنافِقونَ [273] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/203)، ((الوسيط)) للواحدي (4/124)، ((تفسير القرطبي)) (16/238)، ((تفسير ابن كثير)) (7/315)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/98). .
حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آَنِفًا.
أي: فإذا خرَجَ أولئك المنافِقونَ مِن عِندِك -يا محمَّدُ- قالوا لِمَن حَضَر مَجلِسَك مِن أهلِ العِلمِ مِن الصَّحابةِ: ماذا قال مُحمَّدٌ مُنذُ وَقتٍ قَريبٍ [274] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/203)، ((الوسيط)) للواحدي (4/124)، ((تفسير ابن عطية)) (5/115)، ((تفسير القرطبي)) (16/238)، ((تفسير ابن كثير)) (7/315)، ((تفسير الشوكاني)) (5/42). قال ابن الجوزي: (وفي استفهامِهم قَولانِ؛ أحدُهما: لأنَّهم لم يَعْقِلوا ما يقولُ، ويدُلُّ عليه باقي الآيةِ. والثَّاني: أنَّهم قالوه استِهزاءً). ((تفسير ابن الجوزي)) (4/118). ممَّن اختار القولَ الأوَّلَ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والواحديُّ، وابنُ كثير. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/47)، ((الوسيط)) للواحدي (4/124)، ((تفسير ابن كثير)) (7/315). قال الواحدي: (لم يَعقِلوا ما قاله النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لِمَنعِ اللهِ تعالى إيَّاهم عن ذلك). ((الوسيط)) (4/124). وقال أيضًا: (وعلى هذا دلَّ كلامُ ابنِ عبَّاسٍ في روايةِ عِكْرِمةَ، قال: «كان المنافِقونَ إذا جلَسوا عندَ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم يَخرُجونَ فيَقولونَ: ماذا قال آنِفًا. ليس معهم قلوبٌ»، وعلى هذا دلَّ سياقُ الآيةِ، وهو قولُه: أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ). ((البسيط)) (20/240). وممَّن اختار القولَ الثَّانيَ: السمعانيُّ، والبغوي، ابنُ عطية، والعُلَيمي، والشوكاني، والقاسمي، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (5/175)، ((تفسير البغوي)) (4/213)، ((تفسير ابن عطية)) (5/115)، ((تفسير العليمي)) (6/316)، ((تفسير الشوكاني)) (5/42)، ((تفسير القاسمي)) (8/471)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/189). ؟!
كما قال تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا [الأنعام: 25] .
عن عبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ العاصِ رَضِيَ اللهُ عنهما، عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه قال وهو على المِنبَرِ: ((وَيْلٌ لِأَقْماعِ القَولِ [275] أقماع القولِ: الأقماعُ: جَمعُ قِمَعٍ، وهو الإناءُ الَّذي يُترَكُ في رُؤوسِ الظُّروفِ لِتُملأَ بالمائعاتِ مِن الأشربةِ والأدهانِ، والمرادُ: الَّذين آذانُهم كالقِمَعِ يَدخُلُ فيه سماعُ الحقِّ مِن جانبٍ، ويَخرُجُ مِن جانبٍ آخَرَ، لا يَستقِرُّ فيه. يُنظر: ((النهاية في غريب الحديث)) لابن الأثير (4/109)، ((فتح الباري)) لابن حجر (1/197). ، ويْلٌ لِلمُصِرِّينَ الَّذين يُصِرُّونَ على ما فَعَلوا وهم يَعلَمونَ )) [276] أخرجه مُطوَّلًا أحمدُ (6541)، والبخاريُّ في ((الأدب المفرد)) (380)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (11052)، وأخرجه الطبراني (13/651) (14579) باختلافٍ يسيرٍ. جوَّد إسنادَه المُنذِريُّ في ((الترغيب والترهيب)) (3/211)، وحسَّنه ابنُ حجر في ((فتح الباري)) (1/137)، وشعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (11/99)، وصحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (8/12)، وصحَّح الحديثَ الألبانيُّ في ((صحيح الجامع)) (897). .
أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ.
أي: أولئك هم الَّذين خَتَم اللهُ على قُلوبِهم، فهم لا يَعقِلونَ الحَقَّ، ولا يَفهَمونَه فَهْمًا يَنتَفِعونَ به [277] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/204)، ((تفسير القرطبي)) (16/239)، ((تفسير ابن كثير)) (7/315)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/226، 227). .
وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ.
أي: تَرَكوا الحَقَّ، واتَّبَعوا ما دعَتْهم إليه أنفُسُهم مِنَ الباطِلِ والضَّلالاتِ [278] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/204)، ((الوسيط)) للواحدي (4/124)، ((تفسير السعدي)) (ص: 787). .
وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا بَيَّن اللهُ تعالى أنَّ المنافِقَ يَستَمِعُ ولا ينتَفِعُ، ويَستعيدُ ولا يَستفيدُ؛ بَيَّن أنَّ حالَ المؤمِنِ المُهتدي بخِلافِه؛ فإنَّه يَستَمِعُ فيَفهَمُ، ويَعمَلُ بما يَعلَمُ، والمنافِقُ يَستعيدُ، والمُهتدي يُفَسِّرُ ويُعيدُ [279] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/50). .
وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى.
أي: والَّذين آمَنوا بالحَقِّ واتَّبَعوه زادهم ما سَمِعوا مِنَ القُرآنِ وكلامِ النَّبيِّ إيمانًا وعِلمًا، وعَمَلًا بالحَقِّ وثَباتًا عليه [280] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/205)، ((الوسيط)) للواحدي (4/124)، ((تفسير القرطبي)) (16/239)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/320)، ((تفسير ابن كثير)) (7/315). .
كما قال الله سبحانه وتعالى عن أصحابِ الكَهفِ: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى [الكهف: 13] .
وقال تعالى: وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى [مريم: 76] .
وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ.
أي: وأعطى اللهُ المُهتَدينَ في الدُّنيا تَقواهم إيَّاه، بتوفيقِهم للعَمَلِ بما أُمِروا به، والانتِهاءِ عمَّا نُهوا عنه [281] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/205)، ((الوسيط)) للواحدي (4/124)، ((تفسير ابن عطية)) (5/115)، ((تفسير السعدي)) (ص: 787). .
فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18).
فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً.
أي: فهل يَنتَظِرُ المنافِقونَ إلَّا مَجيءَ القيامةِ فَجأةً مِن غيرِ شُعورٍ بها، ولا استِعدادٍ لها [282] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/206)، ((تفسير ابن عطية)) (5/116)، ((تفسير القرطبي)) (16/240)، ((تفسير ابن كثير)) (7/315)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/228)، ((تفسير السعدي)) (ص: 787). ؟!
كما قال تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [الزخرف: 66] .
فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا.
أي: فقد جاءَتهم مُقَدِّماتُ القيامةِ، وعَلاماتُ قُربِها [283] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/206)، ((الوسيط)) للواحدي (4/124)، ((تفسير القرطبي)) (16/240)، ((تفسير ابن كثير)) (7/315). .
كما قال تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر: 1].
وعن أنسِ بنِ مالكٍ رَضيَ الله عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إنَّ مِن أشراطِ السَّاعةِ: أن يُرفَعَ العِلمُ، ويَثبُتَ الجَهلُ، ويُشرَبَ الخَمرُ، ويَظهَرَ الزِّنا )) [284] رواه البخاري (80)، ومسلم (2671). .
وعن أبي هُريرةَ رَضيَ اللهُ عنه، قال: ((كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومًا بارِزًا للنَّاسِ، فأتاه رجُلٌ، فقال: ... يا رسولَ اللهِ، متى السَّاعةُ؟ قال: ما المَسؤولُ عنها بأعْلَمَ مِنَ السَّائلِ، ولكنْ سأُحَدِّثُكَ عن أشْراطِها: إذا وَلَدَتِ الأَمَةُ رَبَّها [285] رَبَّها: أي: سيِّدَها، والمرادُ أن تَكثُرَ فُتوحُ بلادِ الكفرِ، فيَكثُرَ السَّراريُّ، فتَلِدُ الإماءُ الأولادَ مِن سادَتِهنَّ، وولدُ السَّيِّدِ بمَنزِلةِ السَّيِّدِ، فتَصيرَ الأمَةُ ولدَتْ ربَّها بهذا الاعتبارِ. وقيل: المرادُ: أن يَكثُرَ العُقوقُ مِن الأولادِ حتَّى يعامِلَ الولدُ أُمَّه مُعامَلةَ أَمَتِه بالسَّبِّ والإهانةِ. وقيل غيرُ ذلك. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن رجب (1/217)، ((فتح الباري)) لابن حجر (1/122). ، فذاك مِن أشْراطِها، وإذا كانتِ العُراةُ الحُفاةُ رُؤوسَ النَّاسِ، فذاك مِن أشْراطِها، وإذا تَطاوَلَ رِعاءُ البَهْمِ [286] البَهْم: بفتحِ الباءِ وإسكانِ الهاءِ، هي الصِّغارُ مِن أولادِ الغنمِ؛ الضَّأْنِ والمَعْزِ جميعًا، وقيل: أولادُ الضَّأنِ خاصَّةً، والمعنى: أنَّ أهلَ الفقرِ والحاجةِ تصيرُ لهم الدُّنيا حتَّى يَتباهَوا في البُنيانِ. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (1/163)، ((عمدة القاري)) للعيني (1/286). في البُنْيانِ، فذاك من أشْراطِها)) [287] أخرجه البخاري (4777)، ومسلم (9) واللفظ له. .
وعن عَمرِو بن تَغلِبَ رَضيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ مِن أشْراطِ السَّاعةِ: أن يَفيضَ المالُ، ويَكثُرَ الجَهلُ، وتَظهَرَ الفِتنُ، وتَفشُوَ التِّجارةُ )) [288] أخرجه النَّسائي (4456)، وأحمد (24009/78) بنحوه، والحاكِمُ (2147) واللَّفظُ له. صحَّح إسنادَه الحاكمُ، وشعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (39/520)، وصحَّح الحديثَ الألبانيُّ في ((صحيح سنن النسائي)) (4456). .
فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ.
أي: فمِن أين لهم الانتِفاعُ بالتَّذَكُّرِ والنَّدَمِ والتَّوبةِ إذا جاءَتْهم القيامةُ، وقد فات وَقتُ الإيمانِ، وأُغلِقَ بابُ التَّوبةِ والعَمَلِ بالقُرآنِ [289] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/207، 208)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1003)، ((تفسير القرطبي)) (16/241)، ((تفسير ابن كثير)) (7/315)، ((تفسير السعدي)) (ص: 787)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/255). قال القرطبي: (التَّقديرُ: فمِن أين لهمُ التَّذكُّرُ إذا جاءَتْهمُ السَّاعةُ؟! قال معناه قَتادةُ وغيرُه. وقيل: فكيف لهم بالنَّجاةِ إذا جاءتْهم الذِّكرى عندَ مَجيءِ السَّاعةِ؟ قاله ابنُ زَيدٍ. وفي الذِّكرى وجْهان؛ أحدُهما: تذكيرُهم بما عَمِلوه مِن خَيرٍ أو شرٍّ. الثَّاني: هو دعاؤُهم بأسمائِهم تبشيرًا وتخويفًا). ((تفسير القرطبي)) (16/241). ويُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/116). ؟!
كما قال تعالى: يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى [الفجر: 23] .
فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لبَيانِ المُناسَبةِ وُجوهٌ:
الأوَّلُ: هو أنَّه تعالى لَمَّا قال: فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا [محمد: 18] قال: فاعلَمْ أنَّه لا إلهَ إلا اللهُ يأتي بالسَّاعةِ، كما قال تعالى: أَزِفَتِ الْآَزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ [النجم: 57، 58].
الثَّاني: أنَّه تعالى لَمَّا قال: فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا، وهي آتِيَةٌ، فكأنَّ قائلًا قال: متى هذا؟ فقال: فاعلَمْ أنَّه لا إلهَ إلا اللهُ، واشتَغِلْ بما عليك مِن الاستِغفارِ، وكُنْ في أيِّ وقتٍ مَستعِدًّا لِلِقائِها، ويُناسِبُه قولُه تعالى: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ.
الثَّالِثُ: فاعلَمْ أنَّه لا إلهَ إلَّا اللهُ يَنفَعكَ [290] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/52). .
فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
أي: فاعلَمْ -يا محمَّدُ- أنَّه لا مَعبودَ بحَقٍّ إلَّا اللهُ الَّذي لا تجوزُ العِبادةُ إلَّا له وَحْدَه دونَ ما سِواه [291] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/208)، ((معاني القرآن)) للزجاج (5/12)، ((البسيط)) للواحدي (20/245)، ((تفسير الرازي)) (28/52)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (3/ 122)، ((تفسير الشوكاني)) (5/43)، ((تفسير السعدي)) (ص: 787)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/255). .
عن عُثمانَ بنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن مات وهو يَعلَمُ أنَّه لا إلهَ إلَّا اللهُ دخَلَ الجنَّةَ) ) [292] رواه مسلم (26). .
وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ.
أي: واطلُبْ -يا محمَّدُ- مِن رَبِّكَ مَغفِرةَ ذُنوبِكَ، وذُنوبِ المؤمِنينَ مِن أُمَّتِكَ ذُكورًا وإناثًا؛ فيَستُرُها عليكم، ولا يُؤاخِذُكم بها [293] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/208)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (11/6906)، ((تفسير القرطبي)) (16/242)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (10/317). .
كما قال تعالى حاكيًا دُعاءَ نَبيِّه نُوحٍ عليه السَّلامُ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [نوح: 28].
وقال عزَّ وجلَّ حاكيًا دُعاءَ نبيِّه إبراهيمَ عليه السَّلامُ: رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ [إبراهيم: 41] .
وقال سُبحانَه آمرًا نَبيَّه مُحمَّدًا عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ [المؤمنون: 118] .
وقال تبارك وتعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر: 10] .
وعن أبي موسى الأشعريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه كان يدعو بهذا الدُّعاءِ: ((اللَّهُمَّ اغفِرْ لي خَطيئتي وجَهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلَمُ به مِنِّي، اللَّهُمَّ اغفِرْ لي جِدِّي وهَزْلي، وخَطَئي وعَمْدي، وكُلُّ ذلك عندي، اللَّهُمَّ اغفِرْ لي ما قدَّمتُ وما أخَّرتُ، وما أسرَرتُ وما أعلَنتُ، وما أنت أعلَمُ به منِّي، أنت المقَدِّمُ وأنت المؤخِّرُ، وأنت على كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ )) [294] رواه البخاري (6399)، ومسلم (2719) واللَّفظُ له. .
وعن عاصمِ بنِ سُلَيمانَ الأحوَلِ، عن عبدِ اللهِ بنِ سَرْجِسَ رَضِيَ الله عنه قال: ((رأيتُ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وأكلتُ معه خُبزًا ولَحمًا -أو قال: ثَريدًا- قال: فقُلتُ له: أستَغفَرَ لك النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم؟ قال: نعَمْ، ولك، ثمَّ تلا هذه الآيةَ: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ)) [295] رواه مسلم (2346). .
وعن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((لَمَّا رأيتُ مِن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم طِيبَ نَفْسٍ قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، ادْعُ اللهَ لي، فقال: اللَّهُمَّ اغفِرْ لعائِشةَ ما تقَدَّمَ مِن ذَنْبِها وما تأخَّرَ، ما أسَرَّتْ وما أعلَنَتْ. فضَحِكَت عائِشةُ حتَّى سَقَط رأسُها في حِجْرِها مِنَ الضَّحِكِ! قال لها رَسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: أيَسُرُّكِ دُعائي؟ فقالت: وما لي لا يَسُرُّني دُعاؤُك؟! فقال صلَّى الله عليه وسلَّم: واللهِ إنَّها لَدُعائي لِأُمَّتي في كُلِّ صَلاةٍ )) [296] أخرجه البزَّارُ كما في ((مجمع الزوائد)) للهيثمي (9/246)، وابن حِبَّان (7111) واللَّفظُ له. صحَّحه ابنُ حِبَّانَ، وقال الهيثمي: (رجالُه رجالُ الصَّحيحِ غيرَ أحمدَ بنِ منصورٍ الرَّماديِّ، وهو ثقةٌ). وحَسَّن إسنادَه الألبانيُّ في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (5/324)، وشعيبٌ الأرناؤوطُ في تخريج ((صحيح ابن حبان)) (7111). .
وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كان رَسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم إذا صلَّى على جِنازةٍ يقولُ: اللَّهُمَّ اغفِرْ لِحَيِّنا ومَيِّتِنا، وشاهِدِنا وغائِبِنا، وصَغيرِنا وكَبيرِنا، وذَكَرِنا وأُنثانا، اللَّهُمَّ مَن أحيَيْتَه مِنَّا فأحْيِه على الإسلامِ، ومَن تَوَفَّيْتَه مِنَّا فتَوَفَّه على الإيمانِ، اللَّهُمَّ لا تَحرِمْنا أجْرَه، ولا تُضِلَّنا بَعْدَه)) [297] أخرجه أبو داودَ (3201)، والترمذيُّ بعد حديث (1024)، والنسائيُّ في ((السنن الكبرى)) (10919)، وابنُ ماجه (1498) واللفظ له، وأحمدُ (8809). صَحَّحه ابنُ دقيقِ العيدِ في ((الاقتراح)) (97)، وابن الملَقِّن في ((البدر المنير)) (5/271)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (1498)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (3201)، وقال ابن باز في ((حاشية بلوغ المرام)) (356): (له شاهِدانِ وسَنَدُهما جيِّدٌ). .
وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ.
أي: واللهُ يَعلَمُ تصَرُّفَكم وحَرَكاتِكم، ويَعلَمُ مَوضِعَ سُكونِكم وقَرارِكم للرَّاحةِ [298] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/208)، ((الوسيط)) للواحدي (4/125)، ((تفسير القرطبي)) (16/242، 243)، ((تفسير ابن كثير)) (7/317)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/235، 236)، ((تفسير السعدي)) (ص: 788)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/106). قيل: المرادُ بـ مُتَقَلَّبَكُمْ: تصَرُّفُكم وحَركتُكم وانتِشارُكم في النَّهارِ، والمرادُ بـ (مَثْوَاكُمْ): مأواكم باللَّيلِ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، وابنُ كثير. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/48)، ((تفسير ابن جرير)) (21/208)، ((تفسير ابن كثير)) (7/317). وقيل: المرادُ بـ مُتَقَلَّبَكُمْ: مُتصَرَّفُكم في أعمالِكم وأشغالِكم. والمرادُ بـ (مَثْوَاكُمْ): مَرجِعُكم في الدُّنيا والآخرةِ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى في الجملةِ: الزَّجَّاجُ، والواحديُّ. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/12)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1003). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ، والضَّحَّاكُ. يُنظر: ((تفسير البغوي)) (4/215)، ((تفسير القرطبي)) (16/243). وذهب القُرطبيُّ إلى العُمومِ، فقال: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ فيه خَمسةُ أقوالٍ: أحدُها: يَعلَمُ أعمالَكم في تصَرُّفِكم وإقامتِكم. الثَّاني: مُتَقَلَّبَكُمْ في أعمالِكم نهارًا. وَمَثْوَاكُمْ في لَيلِكم نِيامًا. وقيل: مُتَقَلَّبَكُمْ في الدُّنيا. وَمَثْوَاكُمْ في الدُّنيا والآخِرةِ. قاله ابنُ عبَّاسٍ، والضَّحَّاكُ. وقال عِكْرِمةُ: مُتَقَلَّبَكُمْ في أصلابِ الآباءِ إلى أرحامِ الأُمَّهاتِ. وَمَثْوَاكُمْ مُقامَكم في الأرضِ. وقال ابنُ كَيْسانَ: مُتَقَلَّبَكُمْ مِن ظَهرٍ إلى بَطنٍ إلى الدُّنيا. وَمَثْوَاكُمْ في القُبورِ. قُلتُ: والعُمومُ يأتي على هذا كُلِّه، فلا يخفى عليه سُبحانَه شَيءٌ مِن حَرَكاتِ بني آدَمَ وسَكَناتِهم، وكذا جميعُ خَلْقِه. فهو عالِمٌ بجَميعِ ذلك قبْلَ كَونِه جُملةً وتَفصيلًا، أُولى وأُخرى، سُبحانَه! لا إلهَ إلَّا هو). ((تفسير القرطبي)) (16/242، 243). ويُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 788). .
كما قال تعالى: وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [يونس: 61] .
وقال سُبحانَه: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود: 6] .

الفوائد التربوية:

1- مَن عَمِلَ بما عَلِمَ أورَثَه اللهُ عِلمَ ما لم يَعلَمْ، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ، وقال تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [299] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (10/10). [النساء: 66- 68] .
2- قَولُ اللهِ تعالى: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ فيه الحَثُّ على الاستِعدادِ قبْلَ مُفاجأةِ الموتِ؛ فإنَّ مَوتَ الإنسانِ قيامُ ساعتِه [300] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 787). .
3- قال الله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ العِلمُ لا بُدَّ فيه مِن إقرارِ القَلبِ ومَعرفتِه بمعنى ما طُلِبَ منه عِلمُه، وتمامُه أن يَعمَلَ بمُقتَضاه. وهذا العِلمُ الَّذي أمَرَ اللهُ به -وهو العِلمُ بتوحيدِ اللهِ- فَرضُ عَينٍ على كُلِّ إنسانٍ، لا يَسقُطُ عن أحدٍ كائِنًا مَن كان، بل كُلٌّ مُضطَرٌّ إلى ذلك، والطَّريقُ إلى العِلمِ بأنَّه لا إلهَ إلَّا هو- أمورٌ:
أحدُها بل أعظَمُها: تدبُّرُ أسمائِه وصِفاتِه وأفعالِه الدَّالَّةِ على كَمالِه وعَظَمتِه وجلالتِه؛ فإنَّها توجِبُ بَذْلَ الجُهدِ في التَّألُّهِ له، والتَّعَبُّدَ للرَّبِّ الكامِلِ الَّذي له كُلُّ حَمدٍ ومَجدٍ وجَلالٍ وجَمالٍ.
الثَّاني: العِلمُ بأنَّه تعالى المنفَرِدُ بالخَلقِ والتَّدبيرِ، فيُعلَمُ بذلك أنَّه المنفَرِدُ بالأُلوهيَّةِ.
الثَّالثُ: العِلمُ بأنَّه المُنفَرِدُ بالنِّعَمِ الظَّاهِرةِ والباطِنةِ، الدِّينيَّةِ والدُّنيويَّةِ؛ فإنَّ ذلك يُوجِبُ تَعَلُّقَ القَلبِ به ومحبَّتَه، والتَّألُّهَ له وَحْدَه لا شريكَ له.
الرَّابعُ: ما نَراه ونَسمَعُه مِن الثَّوابِ لأوليائِه القائِمينَ بتَوحيدِه مِن النَّصرِ والنِّعَمِ العاجِلةِ، ومِن عُقوبتِه لأعدائِه المُشرِكينَ به؛ فإنَّ هذا داعٍ إلى العِلمِ بأنَّه تعالى وَحْدَه المُستَحِقُّ للعبادةِ كُلِّها.
الخامِسُ: مَعرِفةُ أوصافِ الأوثانِ والأندادِ الَّتي عُبِدَتْ مع الله، واتُّخِذَتْ آلهةً، وأنَّها ناقِصةٌ مِن جميعِ الوُجوهِ، فقيرةٌ بالذَّاتِ، لا تَملِكُ لِنَفْسِها ولا لِعابِدِيها نفعًا ولا ضرًّا، ولا مَوتًا ولا حياةً ولا نُشورًا، ولا يَنصُرونَ مَن عَبَدَهم، ولا يَنفعونَهم بمِثقالِ ذَرَّةٍ؛ مِن جَلْبِ خَيرٍ، أو دَفعِ شَرٍّ؛ فإنَّ العِلمَ بذلك يُوجِبُ العِلمَ بأنَّه لا إلهَ إلَّا هو، وبُطلانَ إلهيَّةِ ما سِواه.
السَّادِسُ: اتِّفاقُ كُتُبِ الله على ذلك، وتواطُؤُها عليه.
السَّابعُ: أنَّ خواصَّ الخَلقِ الَّذين هم أكمَلُ الخليقةِ أخلاقًا وعُقولًا، ورأيًا وصوابًا وعِلمًا -وهم الرُّسُلُ والأنبياءُ والعُلَماءُ الرَّبَّانيُّونَ-: قد شَهِدوا لله بذلك.
الثَّامنُ: ما أقامه اللهُ مِن الأدِلَّةِ الأُفُقيَّةِ والنَّفْسيَّةِ الَّتي تدُلُّ على التَّوحيدِ أعظَمَ دَلالةٍ، وتُنادي عليه بلِسانِ حالِها بما أودَعَها مِن لطائِفِ صَنعتِه، وبَديعِ حِكمتِه، وغرائِبِ خَلْقِه.
فهذه الطُّرُقُ الَّتي أكثَرَ اللهُ مِن دَعوةِ الخَلقِ بها إلى أنَّه لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأبداها في كتابِه وأعادَها: عندَ تأمُّلِ العَبدِ في بَعضِها لا بُدَّ أن يكونَ عِندَه يقينٌ وعِلمٌ بذلك، فكيف إذا اجتَمَعت وتواطَأت واتَّفَقَت، وقامَتْ أدِلَّةُ التَّوحيدِ مِن كُلِّ جانبٍ؟ فهناك يَرسَخُ الإيمانُ والعِلمُ بذلك في قَلبِ العبدِ، بحيث يكونُ كالجِبالِ الرَّواسي، لا تُزَلزِلُه الشُّبَهُ والخَيالاتُ، ولا يَزدادُ -على تكَرُّرِ الباطِلِ والشُّبَهِ- إلَّا نُمُوًّا وكَمالًا.
هذا، وإنْ نظَرْتَ إلى الدَّليلِ العَظيمِ، والأمرِ الكبيرِ -وهو تدَبُّرُ هذا القُرآنِ العظيمِ، والتَّأمُّلُ في آياتِه- فإنَّه البابُ الأعظَمُ إلى العِلمِ بالتَّوحيدِ، ويَحصُلُ به مِن تفاصيلِه وجُمَلِه ما لا يَحصُلُ في غَيرِه [301] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 787). .
4- قَولُ اللهِ تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ مِن اللَّطائِفِ القُرآنيَّةِ أنْ أمَرَ هنا بالعِلمِ قبْلَ الأمرِ بالعَمَلِ في قَولِه تعالى: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ، قال ابنُ عُيَيْنةَ لَمَّا سُئِلَ عن فَضلِ العِلمِ: (ألم تَسمَعْ قَولَه حينَ بدَأَ به: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، ثمَّ أمَره بالعمَلِ، فقال: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) [302] أخرجه أبو نُعَيم في ((حلية الأولياء)) (7/285). . وترجَمَ البُخاريُّ في كتابِ العِلمِ مِن «صَحيحِه» [303] يُنظر: ((صحيح البخاري)) (1/26). : بابُ العِلمِ قبْلَ القَولِ والعَمَلِ؛ لِقَولِ الله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فبدأَ بالعِلمِ [304] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/105). .
5- الاستِغفارُ والتَّوحيدُ بهما يَكمُلُ الدِّينُ، كما قال تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وقال تعالى: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ * وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ [305] يُنظر: ((جامع الرسائل لابن تيمية)) (2/286). [هود: 1-3] .
6- قَولُ اللهِ تعالى: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ فيه إعلامٌ بأنَّه يَجِبُ على الإنسانِ بعدَ تَكميلِ نَفْسِه السَّعيُ في تَكميلِ غَيرِه؛ لِيَحصُلَ التَّعاوُنُ على ما خُلِقَ العِبادُ له [306] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/234). .
7- قَولُ اللهِ تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ، أي: هو عالِمٌ بجَميعِ أحوالِكم، لا يَخفى عليه شَيءٌ منها؛ فاحْذَروه [307] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (4/30). ، والمَقصودُ: الحَثُّ على الخَوفِ وطَلبِ المَغفرةِ مِن اللهِ الَّذي لا يَخفى عليه شَيءٌ مِن أحوالِ الخَلقِ [308] يُنظر: ((تفسير الرسعني)) (7/264). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- السَّمعُ بلا عَقلٍ لا يَنفَعُ، كما قال تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آَنِفًا [309] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/181). ، وذلك بناءً على أنَّهم لم يَعْقِلوا ما يقولُ.
2- قَولُه تعالى: حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن الأدِلَّةِ الدَّالَّةِ على وُجوبِ اتِّباعِ الصَّحابةِ؛ فإنَّ اللهَ تعالى شَهِدَ لهم بأنَّهم أُوتوا العِلمَ، وإذا كانوا أُوتوا هذا العِلمَ كان اتِّباعُهم واجِبًا [310] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (4/100). .
3- يُطبَعُ على قَلبِ العَبدِ باتِّباعِ الهَوى؛ قال تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ [311] يُنظر: ((روضة المحبين)) لابن القيم (ص: 402). .
4- في قَولِه تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ حُجَّةٌ على المُعتَزِلةِ والقَدَريَّةِ؛ حيثُ أخبَرَ سُبحانَه بالطَّابَعِ عنه، وباتِّباعِ الهوى عنهم [312] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/150). .
5- في قَولِه تعالى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ حُجَّةٌ على المُعتَزلةِ والقَدَريَّةِ؛ حيثُ أخبَرَ سُبحانَه عن إعطائِهم التَّقْوى [313] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/151). .
6- في قَولِه تعالى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ حُجَّةٌ على المُرجِئةِ -المُنكِرينَ زيادةَ الإيمانِ ونُقصانَه- في زيادةِ الهُدى [314] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/151). . وكذلك قَولُه تعالى: وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا الآيةَ، وقَولُه: لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ الآيةَ؛ ففي هذه الآياتِ وغَيرِها التَّصريحُ بزيادةِ الإيمانِ، وتدُلُّ هذه الآياتُ بدَلالةِ الالتِزامِ على أنَّه يَنقُصُ أيضًا؛ لأنَّ كلَّ ما يَزيدُ يَنقُصُ، وجاء مُصرَّحًا به في أحاديثِ الشَّفاعةِ الصَّحيحةِ [315] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/50). ، وهذا مِن أعظَمِ أُصولِ أهلِ السُّنَّةِ الَّذي فارَقوا به الجَهميَّةَ والمُرجِئةَ [316] يُنظر: ((مدارج السالكين)) (3/458). .
7- في قَولِه تعالى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ أنَّ المعاصيَ سَبَبٌ لِنِسيانِ العِلمِ؛ وَجْهُه: أنَّه إذا كانتِ الهدايةُ سَببًا لزيادةِ العِلمِ، فالمَعصيةُ سَبَبٌ لِنُقصانِها [317] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/198). ، فمَن أراد سَعةَ العِلمِ وثُبوتَ العِلمِ فعليه بطاعةِ اللهِ؛ لأنَّه كُلَّما اهْتَدى الإنسانُ بهدايةِ اللهِ ازداد هُدًى، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ [318] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/495). .
8- اللهُ سُبحانَه وتعالى هو الهادي وهو المُضِلُّ لِمَن يشاءُ، لكِنَّ سبَبَ الهدايةِ وسبَبَ الإضلالِ يكونُ مِن العبدِ؛ لأنَّ اللهَ تعالى قال: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ، فإذا علِمَ اللهُ مِن العَبدِ أنَّ نِيَّتَه الهُدى وطلَبَه الهُدى هَداه، وإذا زاغَ القَلبُ أزاغَه اللهُ، كما قال تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [319] يُنظر: ((شرح العقيدة السفارينية)) لابن عثيمين (1/352). [الصف: 5] .
9- إنَّ كُلَّ مَنِ استقرأَ أحوالَ العالَمِ وَجَدَ المسلمينَ أحَدَّ وأسَدَّ عَقلًا، وأنَّهم يَنالونَ في المدَّةِ اليسيرةِ مِن حقائقِ العُلومِ والأعمالِ أضعافَ ما يَنالُه غَيرُهم في قُرونٍ وأجيالٍ، وكذلك أهلُ السُّنَّةِ والحَديثِ، تَجِدُهم كذلك مُتمَتِّعينَ؛ وذلك لأنَّ اعتِقادَ الحقِّ الثَّابتِ يُقَوِّي الإدراكَ ويُصَحِّحُه؛ قال تعالى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى [320] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (4/10). .
10- في قَولِه تعالى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ إشارةٌ إلى أنَّ ثَوابَ الحَسَنةِ الحَسَنةُ بَعدَها [321] يُنظر: ((مجموع رسائل ابن رجب)) (1/13). .
11- قال الله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ في هذه الآيةِ لَطيفةٌ، وهي: أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم له أحوالٌ ثلاثةٌ: حالٌ مع اللهِ، وحالٌ مع نَفْسِه، وحالٌ مع غيرِه؛ فأمَّا مع اللهِ فوَحِّدْه، وأمَّا مع نَفْسِك فاستَغفِرْ لِذَنْبِك، واطلُبِ العِصمةَ مِن اللهِ، وأمَّا معَ المُؤمِنينَ فاستَغفِرْ لهم، واطلُبِ الغُفرانَ لهم مِنَ اللهِ تعالى [322] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/52). .
12- قَولُ اللهِ تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فيه سؤالٌ: النَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ كان عالِمًا بذلك، فما معنى الأمرِ؟
الجوابُ مِن وَجهَينِ:
الوَجهُ الأوَّلُ: أنَّ المعنى: فاثبُتْ على ما أنت عليه مِنَ العِلمِ، كقَولِ القائِلِ لجالِسٍ يُريدُ القِيامَ: اجلِسْ، أي: لا تَقُمْ.
الوَجهُ الثَّاني: أنَّ الخِطابَ مع النَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، والمرادُ قَومُه [323] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/52). .
13- ينبغي للإنسانِ إذا أراد أنْ يُؤدِّيَ عِبادةً أن يَفهَمَ أحكامَها أوَّلًا قبْلَ أن يَتلبَّسَ بها؛ لئَلَّا يَقعَ في محظورٍ منها، أو في تَركِ واجِبٍ؛ لأنَّ هذا هو الَّذي أمَرَ اللهُ به، فقال تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ فبَدَأ بالعِلمِ قبْلَ العمَلِ: (اعلَمْ) و(استَغفِرْ) [324] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (21/382). .
14- قَولُ اللهِ تعالى: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ استدَلَّ به مَن أجاز الصَّغائِرَ على الأنبياءِ [325] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 238). قال ابن تيميَّة: (تنازَعوا: هل يقَعُ مِن الأنبياءِ بعضُ الصَّغائرِ مع التَّوبةِ منها، أو لا يقعُ بحالٍ؟ فقال بعضُ مُتكلِّمي الحديثِ وكثيرٌ مِن المتكلِّمينَ مِن الشِّيعةِ والمُعتزِلةِ: لا تقعُ منهمُ الصَّغيرةُ بحالٍ، وزاد الشِّيعةُ حتَّى قالوا: لا يقعُ منهم لا خطأٌ ولا غيرُ خطأٍ. وأمَّا السَّلفُ وجمهورُ أهلِ الفقهِ والحديثِ والتَّفسيرِ وجمهورُ متكلِّمي أهلِ الحديثِ مِن الأشعريَّةِ وغيرِهم فلم يَمنعوا وُقوعَ الصَّغيرةِ إذا كان مع التَّوبةِ؛ كما دلَّت عليه النُّصوصُ مِن الكتابِ والسُّنَّةِ؛ فإنَّ الله يُحِبُّ التَّوَّابينَ. وإذا ابتُلِيَ بعضُ الأكابِرِ بما يَتوبُ منه فذاك لِكَمالِ النِّهايةِ، لا لِنَقصِ البِدايةِ). ((المُستدرَك على مجموع الفتاوى)) (1/208). ويُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (15/51). .
15- في قَولِه تعالى: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ أنَّ المَدعُوَّ له يَنتَفِعُ بدُعاءِ الغَيرِ [326] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (17/256). .
16- في قَولِه تعالى: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ قيلَ: أرْجى آيةٍ للمُؤمِنينَ هذه الآيةُ؛ لأنَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ أمَرَ رسولَه عليه السَّلامُ أن يَستغفِرَ لهم، فلا يُحتمَلُ ألَّا يَستغفِرَ وقد أمَرَه مَوْلاه بالاستِغفارِ، ثمَّ لا يُحتمَلُ أيضًا أنَّه إذا استغفَرَ لهم على ما أمَرَه به فلا يُجيبَ له [327] يُنظر: ((تفسير الماتريدي)) (9/275)، ((روح البيان)) للخَلْوتي (8/511). ، ولا نَشُكُّ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فعَلَ ما أمَرَه اللهُ به مِن الاستِغفارِ للمُؤمِنينَ والمُؤمِناتِ؛ فهذا دُعاءٌ لا نَشُكُّ -إنْ شاء اللهُ- أنَّ اللهَ قد أجابَه لِنُوحٍ وإبراهيمَ ومُحمَّدٍ والملائكةِ؛ فمَن مات على الإيمانِ فهو داخِلٌ تحتَ الدَّعَواتِ المَذكوراتِ -إنْ شاء اللهُ [328] يُنظر: ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/7751). .
17- قَولُ اللهِ تعالى: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ذِكرُ المؤمِناتِ بعدَ المُؤمِنينَ اهتِمامٌ بهِنَّ في هذا المَقامِ، وإلَّا فإنَّ الغالِبَ اكتِفاءُ القُرآنِ بذِكرِ المؤمنِينَ، وشُمولُه للمُؤمِناتِ على طريقةِ التَّغليبِ؛ للعِلمِ بعُمومِ تكاليفِ الشَّريعةِ للرِّجالِ والنِّساءِ، إلَّا ما استُثنيَ مِن التَّكاليفِ [329] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/105). .

بلاغة الآيات:

1- قَولُه تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آَنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ
- قولُه: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آَنِفًا كَلامٌ مُستأنَفٌ مَسوقٌ لِبَيانِ جانِبٍ آخَرَ مِنِ اسْتِهزائِهم وتَعنُّتِهم -على قولٍ-؛ فقدْ كانوا يَحضُرون مَجلِسَ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فيَسْمَعون كَلامَه ولا يَعُونَه، ولا يُلْقُون إليه بالًا، فإذا خَرَجوا مِن المَجلِسِ سأَلوا أهْلَ العِلمِ مِن الصَّحابةِ: ماذا قال السَّاعةَ؟ على جِهةِ الاسْتِهزاءِ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وما كان يَقولُه، أو اسْتِعلامًا -على قولٍ آخَرَ-؛ إذ لم يُلْقوا له آذانَهم تَهاوُنًا به [330] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/322)، ((تفسير البيضاوي)) (5/122)، ((تفسير أبي السعود)) (8/96)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/98)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/211). ، فما كانوا يُبالونَ بما يَتلو عليهم النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم مِن الآياتِ والهدَى، وأيضًا لِبَلادَتِهم وقِلَّةِ فَهمِهم، فلا يَعقِلون ما يُقالُ [331] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/315)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/189). .
- والاستِماعُ: أشدُّ السَّمْعِ وأقواهُ، أي: يَستمِعون باهتِمامٍ يُظهِرون أنَّهم حَرِيصونَ على وَعْيِ ما يَقولُه الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأنَّهم يُلقُون إليه بالَهُم، وهذا مِن استِعمالِ الفِعلِ في مَعنى إظْهارِه، لا في مَعنى حُصولِه [332] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/99). .
- قولُه: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ، أي: يَستمِعون إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن القُرآنِ وما يَقولُه مِن الإرشادِ، وحُذِفَ مَفعولُ يَسْتَمِعُ؛ لِيَشملَ ذلك [333] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/99). .
- قولُه: مَاذَا قَالَ آَنِفًا أُولَئِكَ سِياقُ الكَلامِ يدُلُّ على ذَمِّ هذا السُّؤالِ؛ لِقَولِه عَقِبَه: أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ؛ فهو سُؤالٌ يُنبِئُ عن مَذمَّةِ سائِلِيه، فإنْ كان سُؤالُهم حَقيقةً، أنْبَأَ عن قِلَّةِ وَعْيِهم لِمَا يَسْمَعونَه مِن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ فهمْ يَسْتعيدونَه مِن الَّذين عَلِمُوه؛ فلَعلَّ اسْتِعادتَهم إيَّاهُ لِقَصْدِ أنْ يَتدارَسُوه إذا خَلَوا معَ إخْوانِهم؛ لِيَختَلِقوا مَغامِزَ يُهيِّئونَها بيْنَهم، أو أنْ يُجِيبوا مَن يَسأَلُهم مِن إخْوانِهم عمَّا سَمِعوه في المجلِسِ الَّذي كانوا فيه. ويَجوزُ أنْ يكونَ السُّؤالُ على غَيرِ حَقيقتِه ناوينَ به الاسْتِهزاءَ، يُظهِرون لِلْمؤمنينَ اهْتمامَهم باسْتِعادةِ ما سَمِعوه ويَقولونَ لإخوانِهم: إنَّما نحنُ مُستهزِئون، أو أنْ يكونَ سُؤالُهم تَعريضًا بأنَّهم سَمِعوا كَلامًا لا يَستبِينُ المُرادُ منه؛ لإدْخالِ الشَّكِّ في نُفوسِ مَن يُحِسُّون منْهم الرَّغبةَ في حُضورِ مَجالِسِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ تَعريضًا بقِلَّةِ جَدْوى حُضورِها. ويَجوزُ أنْ تكونَ الآيةُ أشارَتْ إلى حادثةٍ خاصَّةٍ ذكَرَ فيها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ المُنافِقينَ وأحوالَهم، وعَلِمَ الَّذين كانوا حاضِرِين منهم أنَّهم المَعنيُّون بذلك، فأرادوا أنْ يَسألُوا سُؤالَ اسْتِطلاعٍ: هل شَعَرَ أهْلُ العِلمِ بأنَّ أولئك همُ المَعنيُّون؟ فيَكونَ مَفعولُ يَسْتَمِعُونَ مَحْذوفًا؛ لِلعِلمِ به عِندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ [334] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/100، 101). .
- قولُه: أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ استِئنافٌ بَيانيٌّ؛ لأنَّ قَولَهم: مَاذَا قَالَ آَنِفًا سُؤالٌ غَريبٌ مِن شَأْنِه إثارةُ سُؤالِ مَن يَسأَلُ عن سَببِ حُصولِه [335] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/101). .
- وفي قَولِه: أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ جِيءَ باسْمِ الإشارةِ أُولَئِكَ بعْدَ ذِكرِ صِفاتِهم؛ تَشْهيرًا بهم [336] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/101). . وكذلك جِيءَ بالمَوصولِ وصِلَتَيْه خَبرًا عن اسمِ الإشارةِ؛ لإفادةِ أنَّ هؤلاء المُتميِّزينَ بهذه الصِّفاتِ همْ أشخاصُ الفَريقِ المُتقرِّرِ بيْن النَّاسِ أنَّهم فَريقٌ مَطبوعٌ على قُلوبِهم؛ لأنَّه قدْ تَقرَّرَ عِندَ المُسلِمينَ أنَّ الَّذين صَمَّموا على الكُفْرِ همْ قد طبَعَ اللهُ على قُلوبِهم، وأنَّهم مُتَّبِعون لأهوائهِم؛ فأفادَتْ أنَّ هؤلاء المُستمِعين زُمرةٌ مِن ذلك الفَريقِ [337] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/101). .
2- قَولُه تعالى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ جُملةٌ مُعترِضةٌ بيْن جُملةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وما فُرِّعَ عنْها مِن قَولِه: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ، والواوُ اعتِراضيَّةٌ، والمَقصودُ مِن هذا الاعتِراضِ مُقابَلةُ فَريقِ الضَّلالةِ بفَريقِ الهِدايةِ على الأُسلوبِ الَّذي أُقِيمَتْ عليه هذه السُّورةُ، كما تَقدَّمَ في أوَّلِها؛ فهذا أُسلوبٌ مُستمِرٌّ وإنِ اختَلَفَت مَواقِعُ جُمَلِه [338] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/102). .
- وإضافةُ التَّقْوى إلى ضَميرِ (الَّذِينَ اهْتَدَوْا) إيماءٌ إلى أنَّهم عُرِفوا بها، واختُصَّتْ بهم [339] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/102). .
- وفي إسنادِ وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ إلى اللهِ تعالى، وإسنادِ مُتابَعةِ الهَوى إليهم؛ إيماءٌ إلى مَعنى قَولِ إبراهيمَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء: 80] ، وتَلويحٌ إلى أنَّ مُتابَعةَ الهَوى مَرَضٌ رُوحانيٌّ، ومُلازَمةَ التَّقوى دَواءٌ إلَهيٌّ؛ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ [340] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/343)، ((تفسير الألوسي)) (13/207). [الإسراء: 82] .
3- قَولُه تعالى: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ تَفريعٌ على ما مَضَى مِن وَصْفِ أحوالِ الكافِرينَ -من قوله: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ إلى قوله: وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ- الشَّامِلةِ لِأحوالِ الفَريقينِ، ففُرِّعَ عليها أنَّ كِلا الفَريقَينِ يَنتظِرون حُلولَ السَّاعةِ؛ لِيَنالوا جَزاءَهُم على سُوءِ كُفْرِهم؛ فضميرُ يَنْظُرُونَ مرادٌ به الكافِرونَ، فالكلامُ تَهديدٌ ووَعِيدٌ، ولأنَّ المُؤمِنينَ يَنتظِرون أُمورًا أُخَرَ؛ مِثلَ النَّصرِ والشَّهادةِ، قال تَعالى: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ الآيةَ [341] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/102). [التوبة: 52] .
- قولُه: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً الاستِفهامُ إنكارٌ مَشوبٌ بتَهكُّمٍ، وهو إنْكارٌ وتَهكُّمٌ على غائبينَ، مُوجَّهٌ إلى الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، أي: لا تَحسَبْ تَأخيرَ مُؤاخَذتِهم إفلاتًا مِن العِقابِ؛ فإنَّهم مُرْجَوْنَ إلى السَّاعةِ [342] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/102، 103). .
- والقَصْرُ الذي أفادَهُ الاستِثناءُ إِلَّا السَّاعَةَ في قَولِه: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً قَصْرٌ ادِّعائيٌّ [343] القَصرُ أو الحَصرُ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه، مِثلُ: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. وينقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصفُ الإلهيَّةِ الحقِّ على موصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144] . والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتنزيلِ غيرِ المذكور مَنزِلةَ العدَمِ، وقصْرِ الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السَّامعِ؛ كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زَيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زيدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ (إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التَّأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجرجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 19 - 22)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/525). ؛ نُزِّلَ انتِظارُهم ما يَأْملونَه مِن المَرْغوباتِ في الدُّنيا مَنزِلةَ العَدَمِ؛ لِضآلَةِ أمْرِه، بعْدَ أنْ نُزِّلوا مَنزِلةَ مَن يَنتظِرون -فيما يَنتظِرون- السَّاعةَ؛ لأنَّهم -لِتَحقُّقِ حُلولِه عليهم- جَديرون بأنْ يَكونوا مِن مُنتظِريها [344] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/103). .
- وقولُه: فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا تَعليلٌ لِمُفاجأةِ السَّاعةِ، لا لإتيانِها مُطلقًا، على مَعنى أنَّه لمْ يَبْقَ مِن الأُمورِ المُوجِبةِ لِلتَّذكُّرِ أمْرٌ مُترقَّبٌ يَنتظِرونَه سِوى إتيانِ نفْسِ السَّاعةِ؛ إذْ قد جاءَ أشْراطُها، فلمْ يَرفَعُوا لها رأسًا، ولم يَعُدُّوها مِن مَبادئِ إتْيانِها؛ فيكونُ إتيانُها بطَريقِ المُفاجأةِ لا مَحالةَ [345] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/97)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/103). .
- قولُه: فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (أنَّى) استِفهامٌ إنكاريٌّ، أي: كيف يَحصُلُ لهم الذِّكرى إذا جاءَتْهم السَّاعةُ؟! والمَقصودُ: إنكارُ الانتِفاعِ بالذِّكرى حِينَئذٍ [346] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/104). .
- وأيضًا قولُه: فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ حُكْمٌ بخَطئِهم وفَسادِ رأْيِهم في تَأْخيرِ التَّذكُّرِ إلى إتيانِها ببَيانِ اسْتِحالةِ نفْعِ التَّذكُّرِ حِينَئذٍ، أي: وكيفَ لهم ذِكْراهُم إذا جاءتْهُم؟! على أنَّ (أنَّى) خَبَرٌ مُقدَّمٌ، وذِكْرَاهُمْ مُبتدَأٌ، وإِذَا جَاءَتْهُمْ اعتِراضٌ وُسِّطَ بيْنَهما رمْزًا إلى غايةِ سُرْعةِ مَجيئِها، وإطلاقُ المَجيءِ عن قَيدِ البَغتةِ؛ لِمَا أنَّ مَدارَ اسْتِحالةِ نفْعِ التَّذكُّرِ كَونُه عِندَ مَجيئِه مُطلقًا، لا مُقيَّدًا بقَيدِ البَغتةِ [347] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/97). .
4- قَولُه تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ تَفريعٌ على جَميعِ ما ذُكِرَ مِن حالِ المُؤمِنينَ وحالِ الكافِرين؛ لَمَّا ذكَرَ حالَ المُؤمِنينَ وحالَ الكافِرين، وفُصِلَ بيْن وصْفَيْهما مِن السَّعادةِ والشَّقاوةِ، مِن مُفتتَحِ السُّورةِ مرَّةً بعْدَ أُخرى؛ قال: إذا عَلِمْتَ أنَّ الأمْرَ كما ذُكِرَ مِن سَعادةِ هؤلاءِ وشَقاوةِ هؤلاءِ، فاثْبُتْ على ما أنتَ عليه مِن العِلْمِ بوَحدانيَّةِ اللهِ، وعلى التَّواضُعِ وهضْمِ النَّفْسِ باستِغْفارِ ذَنْبِك وذُنوبِ مَن على دِينِك، والتَّفريعُ هذا مَزيدُ مُناسَبةٍ لِقَولِه آنِفًا: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ [348] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/323)، ((تفسير البيضاوي)) (5/122)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/345)، ((تفسير أبي السعود)) (8/97)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/ 104، 105). [محمد: 11] .
- والأمْرُ في قَولِه: فَاعْلَمْ كِنايةٌ عن طَلَبِ العِلْمِ، وهو العمَلُ بالمَعلومِ، وذلك مُستعمَلٌ في طَلَبِ الدَّوامِ عليه؛ لأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قد عَلِمَ ذلك وعَلِمَه المُؤمِنون، وإذا حصَلَ العِلمُ بذلك مرَّةً واحدةً تَقرَّرَ في النَّفْسِ؛ لأنَّ العِلمَ لا يَحتمِلُ النَّقيضَ، فليس الأمْرُ به بعْدَ حُصولِه لِطَلَبِ تَحصيلِه، بلْ لِطَلَبِ الثَّباتِ [349] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/105). .
- والأمْرُ في قَولِه: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ لِطَلَبِ تَجديدِ ذلك إنْ كان قد عَلِمَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن قبْلُ وعَمِلَه، أو هو لِطَلَبِ تَحصيلِه إنْ لم يكُنْ فَعَله مِن قبْلُ [350] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/105). .
- قولُه: وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، أي: لِذُنوبِهم، وفي إعادةِ الجارِّ تَنْبيهٌ على اختِلافِ مُتَعلَّقَيه جِنْسًا، وفي حَذْفِ المُضافِ وإقامةِ المُضافِ إليه مُقامَهُ إشْعارٌ بعَراقتِهم في الذَّنْبِ -فكأنَّ ذَواتَهم عَينُ الذُّنوبِ- وفَرْطِ افتِقارِهم إلى الاستغفارِ [351] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/122)، ((تفسير أبي السعود)) (8/97)، ((تفسير الألوسي)) (13/211). .
- واللَّامُ في قَولِه: وَلِلْمُؤْمِنِينَ لامُ العِلَّةِ، أو بمَعْنى (عن)، والمَفعولُ مَحذوفٌ، أي: اسْتغْفِرِ الذُّنوبَ مِن أجْلِ المُؤمِنينَ، وفي الكَلامِ حَذْفٌ، تَقديرُه: ولِلْمؤمِنينَ لِذُنوبِهم [352] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/106). .
- وجُملةُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ تَذْييلٌ جامِعٌ لِأحوالِ ما تَقدَّمَ؛ فالمُتقلَّبُ: مَصدرٌ بمَعنى التَّقلُّبِ؛ أُوثِرَ جَلْبُه هنا لِمُزاوَجةِ قَولِه: وَمَثْوَاكُمْ [353] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/106). .