موسوعة التفسير

سورةُ مَريمَ
الآيات (73-76)

ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ

غريب الكلمات :

مَقَامًا: أي: مَنزِلًا، وأصلُ (قوم): يدلُّ على الثَّباتِ [780]  يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 275)، ((تفسير ابن جرير)) (15/608)، ((المفردات)) للراغب (ص: 692)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 225). .
نَدِيًّا: أي مَجلِسًا، والنَّدِيُّ والنَّادي: مجتمَعُ القومِ ومجلسُهم، فإِذا تفَرَّقوا فليسَ بِنَدِيٍّ، يقال: نَدَوْتُ القوم، أَنْدُوهم، نَدْوًا: إذا جمعتَهم، وأصلُ (ندي) هنا: يدُلُّ على تَجَمُّعٍ [781] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 275)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 465)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/411)، ((البسيط)) للواحدي (14/302)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 225)، ((تفسير الرسعني)) (4/454)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 914). .
قَرْنٍ: أي: قومٍ وأُمَّة مِن الناسِ مُقترنِينَ في زمَنٍ واحدٍ، ويُطلَقُ القرنُ كذلك على الزَّمانِ، وأهلِ الزمانِ، وأهلِ مُدَّةٍ كان فيها نبيٌّ، أو كان فيها طَبقةٌ مِن أهلِ العِلمِ، قلَّت السِّنون أو كثُرتْ؛ وقيل: مُدَّتُه ثمانونَ سَنةً، وقيل غيرُ ذلك، وأصلُ (قرن) هنا: يدلُّ على جمْعِ شيءٍ إلى شيءٍ [782] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 150)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/76، 77)، ((المفردات)) للراغب (ص: 667)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 155)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 729). .
أَثَاثًا: الأثاثُ: مَتاعُ البيتِ، ويُقالُ للمالِ كلِّه إذا كثُر: أثاثٌ، وأصلُ (أثَّ): يدلُّ على كَثرةٍ وتَكاثُفٍ [783] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 275)، ((تفسير ابن جرير)) (14/319)، ((البسيط)) للواحدي (14/304)، ((المفردات)) للراغب (ص: 61)، ((تفسير ابن كثير)) (5/257)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 210). .
وَرِئْيًا: أي: مَنظرًا وشكلًا، وهو مِن رؤيةِ العينِ، وأصلُ (رَأَى): يدلُّ على نَظَرٍ وإبصارٍ بعينٍ أو بصيرةٍ [784] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 275)، ((تفسير ابن جرير)) (15/610، 613)، ((الغريبين)) للهروي (3/695)، ((البسيط)) للواحدي (14/304)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 225). .
فَلْيَمْدُدْ: أي: يُمهِلْ، ويُمْلِ، ويَمُدَّ، وأصلُ (مدد): يدلُّ على جَرِّ شيءٍ فِي طُولٍ، واتِّصالِ شَيءٍ بشَيءٍ في استِطالةٍ [785] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 275)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/269)، ((المفردات)) للراغب (ص: 763)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 226)، ((تفسير ابن كثير)) (5/258). .
مَرَدًّا: أي: مَرجِعًا وعاقِبةً، وأصلُ (ردد): يدلُّ على رَجعِ الشَّيءِ [786] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/386)، ((المفردات)) للراغب (ص: 348)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 881). .

المعنى الإجمالي:

يخبرُ الله تعالى عن موقفِ الكافرينَ عندَ سماعِهم لآياتِ الله وما يحتجُّون به على المؤمنينَ، فيقولُ: وإذا تُتلى على النَّاسِ آياتُنا الواضِحاتُ، قال الكُفَّارُ للمُؤمِنينَ: أيُّ الفريقينِ منَّا ومنكم أفضَلُ مَنزِلًا وعيشًا ومتاعًا، وأحسَنُ مَجلِسًا في الدُّنيا؟ فكيف نكونُ على الباطِلِ وأنتم على الحَقِّ، ونحن أفضَلُ منكم في ذلك؟!
ثمَّ يرُدُّ الله تعالى على هؤلاءِ الكافرينَ المغرورينَ، فيقول: وما أكثَرَ ما أهلَكْنا قبلَ كُفَّارِ قُرَيشٍ مِن الأمَمِ، ممنْ كانوا أحسَنَ متاعًا منهم، وأجمَلَ منظرًا وصُوَرًا! قل لهم -يا محمَّدُ-: مَن كان ضالًّا عن الحَقِّ غيرَ مُتَّبِعٍ طَريقَ الهُدى، فالله يُمهِلُه ويُملي له في ضَلالِه فيَزِيدُه من النِّعَم والعُمُرِ، حتى إذا رأى هؤلاء الكافرون ما توعَّدهم الله به: إمَّا العذابَ العاجِلَ في الدُّنيا، وإمَّا قيامَ السَّاعةِ؛ فسيَعلَمُون حينئذٍ مَن هو شَرٌّ مَكانًا ومُستقَرًّا، وأضعَفُ قُوَّةً وجُندًا وناصِرًا.
ثمَّ يبينُ الله تعالى حالَ أهلِ الهدايةِ بعدَ أن بيَّن حالَ أهلِ الضلالةِ، فيقولُ: ويزيدُ اللهُ الذين اهتَدَوا لدينِه يقينًا وإيمانًا، وعلمًا نافعًا، وتوفيقًا للعمل الصَّالح. والأقوالُ الأعمالُ الصَّالحاتُ الباقياتُ التي لا زوالَ لثوابِها خَيرٌ ثوابًا عند اللهِ في الآخرةِ، وخَيرٌ مَرجِعًا وعاقبةً.

تفسير الآيات:

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) .
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّ الله تعالى لَمَّا أقام الحُجَّةَ على مُنكري البَعثِ، وأتبَعَه بما يكونُ يومَ القيامةِ؛ أخبَرَ عنهم أنَّهم عارضوا تلك الحُجَّةَ الدَّامغةَ بحُسنِ شارتِهم في الدُّنيا، وذلك عندَهم يدُلُّ على كرامتِهم على اللهِ [787] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/290). .
وأيضًا فإنَّ هذا عَطفٌ على قَولِ اللهِ تعالى: وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا [مريم: 66] ، وهذا صِنفٌ آخَرُ مِن غُرورِ المُشرِكينَ بالدُّنيا؛ فقد أناطوا الدلالةَ على السَّعادةِ بأحوالِ طِيبِ العَيشِ في الدُّنيا، ويَرَونَ أنفُسَهم أسعَدَ مِن المؤمِنينَ [788] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/153). .
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) .
أي: وإذا تُتلى على النَّاسِ آياتُ القُرآنِ، والحالُ أنَّها دلالاتٌ واضِحاتٌ لا مِريةَ فيها، قال الكافِرونَ للمُؤمِنينَ [789] قال الشنقيطي: (لا خلافَ أنَّ مَقصودَهم بالاستفهامِ المذكورِ أنهم -أي: كفَّار قريش- خيرٌ مَقامًا وأحسَنُ نَدِيًّا من أصحابِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأنَّ ذلك هو دليلُهم على أنَّهم على الحَقِّ، وأنَّهم أكرَمُ على الله من المُسلِمينَ). ((أضواء البيان)) (3/483، 484). محتَجِّينَ على بُطلانِها، وكونِهم على الحَقِّ، مُفتَخرينَ عليهم ومتعَزِّزينَ بالدُّنيا: أيُّ الفريقينِ خَيرٌ مَنزِلًا، وأفضَلُ مَسكنًا وعَيشًا ومتاعًا، وأحسَنُ مجلسًا ومجْمَعًا، وأعمَرُ وأكثَرُ غِشيانًا وورُودًا؟ نحن بما لنا من الاتِّساعِ، أم أنتم بما لكم من خُشونةِ العَيشِ ورَثاثةِ الحالِ؟! فكيف نكونُ على الباطِلِ وأنتم على الحَقِّ، ونحن أفضَلُ منكم في ذلك [790] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/607، 608)، ((تفسير ابن كثير)) (5/257)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/237-238)، ((تفسير السعدي)) (ص: 499)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/483، 486). قال الشنقيطي أيضًا: (الظَّاهِرُ فيه أنَّ وَجهَ ذِكْرِهم للمَقامِ والنَّدِيِّ: أنَّ المَقامَ: هو محلُّ السُّكنى الخاصُّ لكُلِّ واحدٍ منهم، والنَّدِيُّ: محَلُّ اجتِماعِ بَعضِهم ببَعضٍ، فإذا كان كلٌّ منهما للكُفَّارِ أحسَنَ مِن نظيرِه عند المُسلِمينَ، دَلَّ ذلك على أنَّ نَصيبَهم في الدُّنيا أوفَرُ مِن نَصيبِ أصحابِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في ذلك الوقتِ). ((أضواء البيان)) (3/486). وقال البقاعي: (يجعلون ذلك الامتحانَ بالإنعامِ والإحسانِ دليلًا على رضا الرحمنِ، معَ التكذيبِ والكفرانِ، ويغفلون عن أنَّ في ذلك -مع التكذيبِ بالبعثِ- تكذيبًا مما يشاهدونه منا مِن القدرةِ على العذابِ؛ بإحلالِ النقمِ، وسلبِ النعمِ، ولو شِئْنا لأهلكناهم، وسلَبْنا جميعَ ما يفتخرونَ به). ((نظم الدرر)) (12/238). ؟!
كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا [الأنعام: 53] .
وقال سُبحانَه: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ [المؤمنون: 55- 56] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [سبأ: 35] .
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74) .
أي: وأهلَكْنا قبل كفَّارِ قُرَيشٍ كثيرًا من كفَّارِ الأُمَمِ الماضيةِ، وكانوا أحسَنَ منهم في أمتعةِ مساكِنِهم، وأجمَلَ في مَنظَرِهم وصُوَرِهم، ومع ذلك أهلَكَهم اللهُ بسَبَبِ كُفرِهم؛ فلْيَخَفْ هؤلاء المُشرِكونَ نِقمةَ اللهِ بالإهلاكِ، كسُنَّةِ مَن قَبلَهم مِن الكُفَّارِ [791] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/610)، ((الوسيط)) للواحدي (3/193)، ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (5/316)، ((تفسير ابن كثير)) (5/257، 258)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/238)، ((تفسير السعدي)) (ص: 499)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/154)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/484، 485). قال ابنُ كثير: (منهم من قال في الأثاثِ: هو المالُ. ومنهم من قال: المتاعُ. ومنهم من قال: الثِّيابُ. والرِّئْيُ: المنظَرُ، كما قال ابنُ عباس، ومجاهد، وغيرُ واحد. وقال الحسَنُ البصري: يعني: الصُّوَرَ. وكذا قال مالك: أَثَاثًا وَرِئْيًا: أكثَرُ أموالًا وأحسَنُ صُوَرًا. والكُلُّ مُتقارِبٌ صَحيحٌ). ((تفسير ابن كثير)) (5/257-258). .
قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75) .
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا ذكَر الله تعالى دليلَ الكافرينَ الباطلَ الدَّالَّ على شِدَّةِ عِنادِهم، وقُوَّةِ ضلالِهم؛ أخبَرَ هنا أنَّ مَن كان في الضَّلالةِ، بأن رَضِيَها لنَفسِه، وسَعى فيها، فإنَّ اللهَ يَمُدُّه منها، ويزيدُه فيها حبًّا؛ عقوبةً له على اختيارِها على الهدى [792] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:499). .
وأيضًا فإنَّ هذا جوابُ قَولِ الكافرينَ: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا [مريم: 73] ، لقَّنَ الله رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كَشفَ مُغالطتِهم أو شُبهتِهم، فأعلَمَهم بأنَّ ما هم فيه من نعمةِ الدُّنيا إنَّما هو إمهالٌ مِن اللهِ إيَّاهم؛ لأنَّ ملاذَ الكافِرِ استدراجٌ، فمعيارُ التَّفرقةِ بين النِّعمةِ النَّاشئةِ عن رضا الله تعالى على عبدِه، وبين النِّعمةِ التي هي استدراجٌ لِمن كفَرَ به، هو النَّظَرُ إلى حالِ من هو في نعمةٍ، بين حالِ هُدًى، وحالِ ضلالٍ [793] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/155). .
وأيضًا لمَّا بيَّنَ عاقبةَ أمْرِ الأُمَمِ المُهلَكةِ، معَ ما كان لهم مِنَ التَّمتُّعِ بفُنونِ الحُظوظِ العاجلةِ؛ أمَرَ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأنْ يُجيبَ هؤلاء المُفتخِرين بما لهم مِن الحُظوظِ ببَيانِ مآلِ أمْرِ الفريقينِ [794] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/277). .
قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا .
أي: قُلْ -يا محمَّدُ- لهؤلاء المُشرِكينَ: من كان مُنغَمِسًا في الضَّلالِ منَّا ومنكم، فلْيُمهِلْه اللهُ في ضلالِه، ويَزِدْه مِن النِّعَمِ والعُمُرِ؛ ليطولَ اغترارُه، ويزدادَ ضلالُه، فيكون ذلك أشَدَّ في عقوبتِه [795] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (2/637)، ((تفسير ابن جرير)) (15/614)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 687)، ((تفسير القرطبي)) (11/144)، ((تفسير النسفي)) (2/349)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/238-239)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/156)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/487 - 489). قال الشنقيطي: (في معنَى هذه الآيةِ الكريمةِ وجهانِ مِن التَّفسيرِ معروفانِ عندَ العلماءِ، وكلاهما يشهدُ له قرآنٌ: الأوَّلُ: أنَّ اللَّهَ جَلَّ وعلا أمَر نَبِيَّه صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم في هذه الآيةِ الكريمةِ أن يقولَ هذه الكلماتِ كدعاءِ المباهلةِ بينَه وبينَ المشركينَ، وإيضاحُ معناه: قُلْ يا نبِيَّ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم لهؤلاءِ المشرِكينَ الَّذين ادَّعَوْا أنَّهم خيرٌ منكم، وأنَّ الدَّليلَ على ذلك أنَّهم خيرٌ منكم مقامًا وأَحْسَنُ منكم نَدِيًّا: مَنْ كَانَ منَّا ومنكم فِي الضَّلَالَةِ -أي: الكفرِ والضَّلالِ عن طريقِ الحقِّ- فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا، أيْ: فأمهلَه الرَّحمنُ إمهالًا فيما هو فيه حتَّى يستدرِجَه بالإمهالِ، ويموتَ على ذلك، ولا يرجعَ عنه، بل يستمِرَّ على ذلك حتَّى يَرَى ما يُوعِدُه اللَّهُ، ... وعلى ذلك التَّفسيرِ فصيغةُ الطَّلَبِ المدلولُ عليها باللَّامِ في قولِه: فَلْيَمْدُدْ على بابِها، وعليه فهي لامُ الدُّعاءِ بالإمهالِ في الضَّلالِ على الضَّالِّ مِن الفريقينِ، حتَّى يَرى ما يُوعِدُه مِن الشَّرِّ وهو على أقبحِ حالٍ مِن الكفرِ والضَّلالِ، ... الوجهُ الثَّاني: أنَّ صيغَةَ الطَّلَبِ في قولِه: فَلْيَمْدُدْ، يُرادُ بها الإخبارُ عن سُنَّةِ اللَّهِ في الضَّالِّينَ، وعليه فالمعنَى: أنَّ اللَّهَ أجرَى العادةَ بأنَّه يُمْهِلُ الضَّالَّ، ويُمْلي له فيستدْرِجُه بذلك، حتَّى يرَى ما يُوعِدُه، وهو في غفلةٍ وكفرٍ وضلالٍ). ((أضواء البيان)) (3/487). .
حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ .
أي: مَن كان في الضَّلالةِ فلْيَمدُدْ له الرَّحمنُ في ضلالتِه إلى أن يرى الضالُّونَ ما وعَدَ اللهُ أن يأتيَهم به: إمَّا بالعذابِ العاجِلِ، وإمَّا بقيامِ السَّاعةِ، فيَصيرونَ إلى النَّارِ [796] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/615)، ((تفسير القرطبي)) (11/144)، ((تفسير ابن كثير)) (5/258)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/239)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/156)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/488). .
فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا .
أي: فسيَعلَمُ الكُفَّارُ حين يَرَونَ ذلك مَن هو شَرٌّ مَسكَنًا، ومَن هو أضعَفُ ناصِرًا: هم أم المؤمِنونَ، وسيتبيَّنُ لهم خِلافُ ما كانوا يظنُّونَ، وبُطلانُ ما كانوا يدَّعونَ [797] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/615)، ((تفسير البغوي)) (3/250)، ((تفسير القرطبي)) (11/144)، ((تفسير ابن كثير)) (5/258)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/488). قال الشنقيطي: (قولُه: شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا في مقابلةِ قَولِهم: خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا؛ لأنَّ مَقامَهم هو مكانُهم ومَسكَنُهم، والنَّدِيُّ: المجلِسُ الجامِعُ لوجوهِ قَومِهم وأعوانِهم وأنصارِهم، والجندُ هم الأنصارُ والأعوانُ، فالمقابلةُ المذكورةُ ظاهِرةٌ). ((أضواء البيان)) (3/488). ويُنظر: ((تفسير القرطبي)) (11/144). .
وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76) .
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى إمدادَ الضَّالِّ في ضلالتِه، وارتباكَه في الافتخارِ بنِعَمِ الدُّنيا؛ عَقَّبَ ذلك بزيادةِ هُدًى للمُهتدي، وبذكرِ الباقياتِ التي هي بدلٌ مِن تنعُّمِهم في الدُّنيا الذي يضمَحِلُّ ولا يَثبُتُ [798] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/292). .
وأيضًا لَمَّا أخْبَر سبحانَه عن حالِ أهلِ الضَّلالةِ، أرادَ أنْ يُبَيِّنَ حالَ أهلِ الهدايةِ، فقال [799] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (3/411). :
وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى .
أي: ويزيدُ الله المهتدينَ يقينًا وإيمانًا، وعلمًا نافعًا وتوفيقًا للعمل الصَّالح، وثباتًا على الحَقِّ [800] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/616)، ((تفسير البغوي)) (3/250)، ((تفسير القرطبي)) (11/144)، ((تفسير النسفي)) (2/349)، ((تفسير ابن كثير)) (5/258)، ((تفسير السعدي)) (ص: 499). .
كما قال تعالى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ [محمد: 17] .
وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا .
مناسبتُها لما قبلَها:
لَمَّا ذكر الله تعالى أنَّ الظَّالمينَ جَعَلوا أحوالَ الدُّنيا من المالِ والولَدِ، وحُسنِ المقامِ ونحو ذلك، علامةً لحُسنِ حالِ صاحِبِها؛ أخبَرَ هنا أنَّ الأمرَ ليس كما زعموا، بل العمَلُ الذي هو عنوانُ السَّعادةِ، ومَنشورُ الفلاحِ، هو العمَلُ بما يحِبُّه اللهُ ويرضاه [801] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 499). .
وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا .
أي: وأعمالُ الخيرِ الصَّالحةُ -التي لا زوالَ لثوابِها مِن أقوالٍ وأفعالٍ- أفضَلُ جزاءً عندَ اللهِ لأهلِ طاعتِه، وهي خيرٌ مَرجِعًا وعاقبةً لصاحبِها في الآخرةِ، مِمَّا يفتَخِرُ به الكُفَّارُ على المُؤمِنينَ مِن زينةِ الحياةِ الدُّنيا الفانيةِ [802] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/273، 281، 616)، ((تفسير ابن كثير)) (5/161 - 164، 259)، ((تفسير السعدي)) (ص: 499)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/158). .
كما قال تعالى: وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا [الكهف: 46] .
وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((سُبحانَ اللهِ، والحَمدُ للهِ، ولا إلهَ إلَّا اللهُ، والله أكبَرُ مِن الباقياتِ الصَّالحاتِ)) [803] أخرجه ابن جرير في ((التفسير)) (18/34). صحَّحه الألباني بشواهده في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (3264). .

الفوائد التربوية:

1- قال الله تعالى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا * وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا فيه أنَّ الاستدلالَ على خيرِ الآخرةِ بخيرِ الدُّنيا مِن أفسَدِ الأدلَّةِ، وأنَّه مِن طُرُقِ الكُفَّارِ [804] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: ٤٩9). .
2- قَولُ اللهِ تعالى: قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا فيه تنبيهٌ للمُسلِمينَ ألَّا يغتَرُّوا بإنعامِ اللهِ على الضُّلَّالِ [805] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/156). .
3- قال الله تعالى: قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا * وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى أنَّه يَمُدُّ للظالمينَ في ضلالِهم، ذكَرَ أنَّه يَزيدُ المهتدينَ هدايةً مِن فَضلِه عليهم ورحمتِه، والهدى يَشمَلُ العِلمَ النَّافِعَ، والعمَلَ الصَّالِحَ؛ فكُلُّ من سلك طريقًا في العلمِ والإيمانِ والعَمَلِ الصَّالحِ، زاده الله منه، وسَهَّله عليه ويسَّرَه له، ووهب له أمورًا أُخَرَ لا تدخُلُ تحت كَسبِه [806] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 499). .
4- مِن الطرقِ التي تعينُ على حفظِ العلمِ وضبطِه: أن يهتديَ الإنسانُ بعلمِه، قال الله تعالى: وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى، فكُلَّما عَمِلَ الإنسانُ بعِلمِه زاده اللهُ حِفظًا وفَهمًا؛ لعُمومِ الآيةِ [807] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (26/123). . وقد يُيَسِّرُ الله لطالب العِلمِ عُلومًا أُخَرَ ينتَفِعُ بها، وتكونُ مُوصِلةً له إلى الجنَّةِ، كما قيل: مَن عَمِل بما عَلِم، أورثَه اللهُ عِلمَ ما لم يعلَمْ، وكما قيل: ثوابُ الحَسَنةِ الحَسَنةُ بعدها، وقد دَلَّت هذه الآية على ذلك، وكذلك قَولُه: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ [808] يُنظر: ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (2/297). ويُنظر أيضًا: ((جامع الرسائل)) لابن تيمية (1/229). [محمد: 17] .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حُجَّةٌ على المُعتَزلةِ والقَدَريَّةِ فيما يزعمونَ مِن أنَّ أفعالَ العبادِ لا صنعَ لله فيها بتةً؛ فإضافةُ أفعالِ العبادِ إليهم لا تدفعُ فعلَ الله بهم، وإرادتَه فيهم [809] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقَصَّاب (2/276) و(2/204) و(3/ 528). .
2- في قَولِه تعالى: وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى حُجَّةٌ على المُرجِئةِ في زيادةِ الإيمانِ [810] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقَصَّاب (2/277). ، ففيه دَليلٌ على زيادةِ الإيمانِ ونَقصِه، كما قاله السَّلَفُ الصَّالِحُ، ويدُلُّ عليه قَولُه تعالى: وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا [المدثر: 31] ، وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [811] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 499). [الأنفال: 2] .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا
- قولُه: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ بَيِّنَاتٍ حالٌ مُؤكِّدةٌ مِن آَيَاتُنَا؛ لأنَّ آياتِه تعالى لا تكونُ إلَّا بهذا الوصفِ دائمًا [812] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/36)، ((تفسير أبي حيان)) (7/290)، ((تفسير أبي السعود)) (5/276). .
- قولُه: قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا فيه وضْعُ الموصولِ موضعَ الضَّميرِ؛ للتَّنبيهِ على أنَّهم قالوا ما قالوا كافِرين بما يُتْلَى عليهم، رادِّينَ له، أو قال الَّذين مَرَدوا منهم على الكُفرِ، ومَرَنوا على العُتوِّ والعِنادِ [813] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/276). .
- والاستفهامُ في قولِهم: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ تقريريٌّ [814] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/154). .
2- قولُه تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا خِطابٌ مِن اللهِ لرسولِه، وهذه الجُملةُ مُعترِضةٌ بين حكايةِ قولِهم، وبينَ تلْقينِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ما يُجيبُهم به عن قولِهم، وموقِعُها التَّهديدُ، وما بعدَها هو الجوابُ [815] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/154). .
- و(كَمْ) مفعولُ أَهْلَكْنَا، ومِنْ تَبيينٌ لإبهامِها، أي: كثيرًا مِن القُرونِ أهلَكْنا [816] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/36)، ((تفسير البيضاوي)) (4/17)، ((تفسير أبي حيان)) (7/290)، ((تفسير أبي السعود)) (5/277). ؛ فذكَرَ تعالى كثرةَ ما أهلَكَ مِن القُرونِ ممَّن كان أحسَنَ حالًا منهم في الدُّنيا، ففيه مِن التَّهديدِ والوعيدِ ما لا يَخْفَى؛ كأنَّه قيل: فلْيَنْتظِرْ هؤلاءِ أيضًا مثلَ ذلك [817] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/290)، ((تفسير أبي السعود)) (5/277). .
- قولُه: هُمْ أَحْسَنُ جُمِعَ الضَّميرُ؛ لأنَّ القرْنَ مُشتمِلٌ على أفرادٍ كثيرةٍ، فرُوعِيَ معناهُ [818] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/290). .
3- قولُه تعالى: قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا
- قولُه: قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ ... فيه وصْفُهم بالتَّمكُّنِ في الضلالةِ؛ لذمِّهم، والإشعارِ بعلَّةِ الحُكمِ، أي: مَنْ كان مُستقِرًّا في الضَّلالةِ، مغمورًا بالجهلِ والغَفلةِ عن عواقبِ الأُمورِ... [819] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/277)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/155). .
- قولُه: فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا إخراجُ الفعْلِ فَلْيَمْدُدْ على صِيغَةِ الأمْرِ؛ للإيذانِ بأنَّ ذلك ممَّا يَنْبغي أنْ يُفْعَلَ بمُوجِبِ الحِكمةِ؛ لقطْعِ المعاذيرِ، كما يُنْبِئُ عنه قولُه تعالى: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ [فاطر: 37] ، أو للاستدراجِ، كما ينطِقُ به قولُه تعالى: إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا [آل عمران: 178] . وقيل: المُرادُ به: الدُّعاءُ بالمدِّ والتَّنفيسِ، وعلى اعتبارِ الاستقرارِ في الضَّلالِ؛ لأنَّ المدَّ لا يكونُ إلَّا للمُصِرِّين عليها؛ إذ رُبَّ ضالٍّ يَهْديه اللهُ عَزَّ وجَلَّ [820] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/37- 38)، ((تفسير البيضاوي)) (4/18)، ((تفسير أبي حيان)) (7/291)، ((تفسير أبي السعود)) (5/277- 278)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/156). .
- والتَّعرُّضُ لعُنوانِ الرَّحمانيَّةِ في قولِه: فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا، قيل: لأنَّ المدَّ من أحكامِ الرَّحمةِ الدُّنيويَّةِ [821] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/278). ، ولأنَّ اللهَ تعالى إذا أراد العِقابَ يأتي به على وَجهِ الرَّحمةِ والنِّعمةِ؛ فيكونُ كَدَرًا بعدَ الصَّفاءِ، وألَمًا بعد الرَّاحةِ، وشِدَّةً بعد الرَّخاءِ؛ فهذا أقوى أثرًا. والحاصِلُ: لا يُتصَوَّرُ وقوعُ المدِّ المذكورِ إلَّا مِن الرَّحمنِ؛ لأنَّه أصلُه ومَنشؤُه [822] يُنظر: ((روح البيان)) للخلوتي (5/352). .
- ومَدًّا مفعولٌ مُطلقٌ مُؤكِّدٌ لعاملِه، أي: فلْيمدُدْ له المدَّ الشَّديدَ، فسَيَنْتهي ذلك [823] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/156). .
- قولُه: حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ جَمْعُ الضَّميرِ في الفعلينِ -رَأَوْا يُوعَدُونَ- باعتبارِ معنى (مَنْ)، كما أنَّ الإفرادَ في الضَّميرينِ الأوَّلينِ -مَنْ كَانَ لَهُ- باعتبارِ لفظِها [824] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/278). .
- قولُه: فَسَيَعْلَمُونَ حرْفُ الاستقبالِ (السِّينُ)؛ لتَوكيدِ حُصولِ العلْمِ لهم حينئذٍ، وليس للدَّلالةِ على الاستقبالِ؛ لأنَّ الاستقبالَ اسْتُفِيدَ من الغايةِ [825] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/157). .
- قولُه: إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ تَفصيلٌ للموعودِ؛ فإنَّه إمَّا العذابُ في الدُّنيا، وهو غلبةُ المُسلِمين عليهم، وتَعذيبُهم إيَّاهم قتْلًا وأسرًا، وإمَّا يومَ القيامةِ وما يَنالُهم فيه من الخزْيِ والنَّكالِ [826] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/37)، ((تفسير البيضاوي)) (4/18)، ((تفسير أبي حيان)) (7/292)، ((تفسير أبي السعود)) (5/278)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/157). .
- قولُه: شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا مُقابِلُ قولِهم: خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا [مريم: 73] ؛ فالمكانُ يُرادِفُ المقامَ، والجُندُ: الأعوانُ؛ لأنَّ النَّدِيَّ أُريدَ به أهْلُه؛ فقُوبِلَ (أَحْسَنُ نَدِيًّا) بـ (أَضْعَفُ جُنْدًا) [827] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/38)، ((تفسير البيضاوي)) (4/18)، ((تفسير أبي حيان)) (7/292)، ((تفسير أبي السعود)) (5/278)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/157). .
4- قوله تعالى: وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا
- قولُه: وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى كلامٌ مُستأنفٌ، سِيقَ لبَيانِ حالِ المُهتدينَ إثْرَ بَيانِ حالِ الضَّالِّينَ [828] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/278). . وقيل: عطْفٌ على الشَّرطيَّةِ المحكيةِ بعدَ القولِ، كأنَّه لمَّا بيَّنَ أنَّ إمهالَ الكافرِ وتَمتيعَه بالحياةِ الدُّنيا ليس لفضْلِه، أراد أنْ يُبيِّنَ أنَّ قُصورَ حظِّ المُؤمنِ منها ليس لِنَقْصِه، بل لأنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ أراد به ما هو خيرٌ له، وعوَّضه منه [829] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/18)، ((تفسير أبي السعود)) (5/278). . وقيل: عطْفٌ على فَلْيَمْدُدْ؛ لِما تضمَّنَه ذلك من الإمهالِ المُفضي إلى الاستمرارِ في الضَّلالِ؛ فالمعنى على الاحتباكِ [830] الاحْتِباك: هو الحذفُ مِن الأوائلِ لدَلالةِ الأواخِرِ، والحذفُ مِن الأواخِرِ لدَلالةِ الأوائلِ، إذا اجتمَعَ الحذفانِ معًا، وله في القرآنِ نظائرُ -كما هنا في هذِه الآيةِ- وهو مِن إبداعاتِ القُرآنِ وعناصِرِ إعجازِه، وهو مِن ألطفِ الأنواعِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/204)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/347). ، أي: فلْيمدُدْ له الرَّحمنُ مَدًّا، فيَزدَدْ ضلالًا، ويمُدَّ للَّذين اهْتَدوا، فيَزْدادوا هُدًى [831] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/38)، ((تفسير البيضاوي)) (4/18)، ((تفسير أبي السعود)) (5/278)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/157). .
- قولُه: وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ كلامٌ مُستأنفٌ واردٌ من جِهَتِه تعالى؛ لبَيانِ فضْلِ أعمالِ المُهتدِينَ [832] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/278). . وقيل: عطْفٌ على جُملةِ وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى، وهو ارتقاءٌ من بِشارتِهم بالنَّجاةِ إلى بشارتِهم برفْعِ الدَّرجاتِ [833] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/157). .
- ووَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ أيضًا صِفتانِ لمَحذوفٍ معلومٍ من المقامِ، أي: الأعمالُ الباقي نَعيمُها وخيرُها، وكان مُقْتضَى الظَّاهرِ في تَرتيبِ الوصفينِ: أنْ يُقدَّمَ الصَّالِحَاتُ على وَالْبَاقِيَاتُ؛ لأنَّهما وإنْ كانا وصفينِ لموصوفٍ مَحذوفٍ، إلَّا أنَّ أعرَفَهما في وَصفيَّةِ ذلك المحذوفِ هو الصَّالحاتُ؛ لأنَّه قد شاعَ أنْ يُقالَ: الأعمالُ الصَّالحاتُ، ولا يُقال: الأعمالُ الباقياتُ، ولأنَّ بقاءَها مُترتِّبٌ على صلاحِها، فلا جرَمَ أنَّ (الصَّالحاتِ) وصفٌ قام مَقامَ الموصوفِ، وأغنى عنه كثيرًا في الكلامِ، حتَّى صار لفظُ (الصَّالحات) بمنزلةِ الاسمِ الدَّالِّ على عمَلِ خيرٍ، وخُولِف مقتضَى الظَّاهرِ هنا، فقُدِّم (الباقياتُ) للتَّنبيهِ على أنَّ ما ذُكِر قبلَه إِنَّما كان مفصولًا لأنَّه ليس بباقٍ، وهو المالُ والبنونَ، كقولِه تعالَى: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ [الرعد: 26] ، فكان هذا التَّقديمُ قاضيًا لحقِّ الإيجازِ لإغنائِه عن كلامٍ محذوفٍ، تقديرُه: أنَّ ذلك زائلٌ أو ما هو بباقٍ والباقياتُ مِن الصَّالحاتِ خيرٌ منه، فكان قولُه: فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ [الْكَهْف: 45] مفيدًا للزَّوالِ بطريقةِ التَّمثيلِ وهو مِن دلالةِ التَّضمُّنِ، وكان قولُه: وَالْبَاقِيَاتُ مُفيدًا زوالَ غيرِها بطريقةِ الالتزامِ، فحصَل دلالتانِ غيرُ مطابقتيْنِ وهما أوقعُ في صناعةِ البلاغةِ، وحَصَل بثانِيَتِهما تأكيدٌ لمُفادِ الأولَى فجاءَ كلامًا مُؤكَّدًا مُوجَزًا [834] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/333) و(16/158). .
- قولُه: خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا فيه التَّعرُّضُ لعُنوانِ الرُّبوبيَّةِ مع الإضافةِ إلى ضَميرِه؛ لتَشريفِه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ [835] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/278). .
- قولُه: وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا، إنْ قيل: كيف قيلَ: خَيْرٌ ثَوَابًا، كأنَّ لمُفاخراتِهم ثوابًا حتَّى يُجْعَلَ ثوابُ الصَّالحاتِ خيرًا منه؟!
أُجِيبَ بأنَّه: كأنَّه قيل: ثوابُهم النَّارُ، ثمَّ بنى عليه خَيْرٌ ثَوَابًا؛ ففيه ضَرْبٌ من التَّهكُّمِ الَّذي هو أغيظُ للمُتَهددِ مِن أنْ يُقالَ له: عِقابُك النَّارُ.
فإنْ قيل: فما وجْهُ التَّفضيلِ في الخيرِ، كأنَّ لمَفاخرِهم شركًا فيه؟
قيل: هذا من وجيزِ كلامِهم، يقولونَ: الصَّيفُ أحرُّ من الشِّتاءِ، أي: أبلَغُ من الشِّتاءِ في برْدِه، وإمَّا لمُجرَّدِ الزِّيادةِ. وقيل: إنَّ اسمَ التَّفضيلِ ذُكِرَ على سَبيلِ المُشاكَلةِ [836] المُشاكَلة: لغةً: هي المُوافقةُ والمضاهاة والمُشابَهة. وفي اصطلاح البلاغيِّين هي: ذِكرُ الشيء بلفظِ غيرِه؛ لوُقوعِه في صُحبتِه تَحقيقًا أو تقديرًا؛ فمثالُ التَّحقيقي قولُه عز وجلَّ: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى: 40] ؛ إذ الجزاءُ على السيِّئةِ ليس بسيِّئةٍ في الحقيقةِ، لكنَّه سُمِّيَ سَيِّئةً للمشاكلةِ اللفظيَّة. ومثالُ التقديريِّ قولُه تعالى: صِبْغَةَ اللَّهِ [البقرة: 138] ، فـ صِبْغَةَ مصدر مؤكِّد لـ آَمَنَّا بِاللَّهِ [البقرة: 136] ، والمعنى: تطهيرُ الله؛ لأنَّ الإيمانَ يُطهِّر النفوسَ، وأصل ذلك: أنَّ النصارى كانوا يَغمِسون أولادَهم في ماءٍ أصفرَ يُسمُّونه المعموديَّة، ويقولون: إنَّه تطهيرٌ لهم، فعبَّر عن الإيمانِ باللهِ بصِبغةِ اللهِ؛ للمشاكلةِ بهذه القرينةِ الحالية. يُنظر: ((الصحاح)) للجوهري (5/1737)، ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 424)، ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (3/322- 323)، ((علوم البلاغة)) للمراغي (ص: 324- 325). لكلامِهم السَّابقِ [837] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/38)، ((تفسير أبي حيان)) (7/293)، ((تفسير أبي السعود)) (5/278). وقال الشنِّقيطي: (ويَظهَرُ لي في الآيةِ جَوابٌ آخَرُ أقرَبُ مِن هذا، وهو أنَّا قَدَّمْنا أنَّ القُرآنَ والسُّنَّةَ الصَّحيحةَ دلَّا على أنَّ الكافِرَ مُجازًى بعَمَلِه الصَّالحِ في الدُّنيا؛ فإذا بَرَّ والِدَيه، ونَفَّس عن المكروبِ، وقَرَى الضَّيفَ، ووصَلَ الرَّحِمَ -مَثَلًا- يَبتغي بذلك وَجْهَ اللهِ؛ فإنَّ اللهَ يُثيبُه في الدُّنيا، كما قدَّمْنا دَلالةَ الآياتِ عليه، وحديثَ أنسٍ عندَ مُسلِمٍ [2808]، فثوابُه هذا الرَّاجِعُ إليه مِن عَمَلِه في الدُّنيا، هو الذي فَضَّلَ اللهُ عليه في الآيةِ ثوابَ المؤمِنينَ، وهذا واضِحٌ لا إشكالَ فيه. والعِلمُ عندَ اللهِ تعالى). ((أضواء البيان)) (3/490). . وأيضًا: فإنَّ صِيغةَ التَّفضيلِ قد تُطلَقُ في القُرآنِ واللُّغةِ ويُرادُ بها مُجرَّدُ الاتِّصافِ، لا تَفضيلُ شيءٍ على شيءٍ [838] يُنظر: ((قواعد التفسير)) للسبت (1/258). .
- وفيه تَكريرُ الخيرِ؛ لمَزيدِ الاعتناءِ ببَيانِ الخيريَّةِ، وتأكيدٍ لها [839] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/278). .