موسوعة التفسير

سورةُ المُدَّثِّرِ
الآية (31)

ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ

غَريبُ الكَلِماتِ:

فِتْنَةً: أي: اختِبارًا، وابتِلاءً، وامتِحانًا، وأصلُ (فتن): يدُلُّ على اختِبارٍ وابتِلاءٍ [163] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 76، 101)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/472، 473)، ((المفردات)) للراغب (ص: 624)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 29، 139- 140). .
يَرْتَابَ: أي: يشُكَّ، والرَّيبُ مصدرُ: رابَني الشَّيءُ: إذا حصَل فيه الرِّيبةُ، وهي قلَقُ النَّفْسِ واضطرابُها، وسُمِّيَ به الشَّكُّ؛ لأنَّه يُقلِقُ النَّفْسَ ويُزيلُ الطُّمأنينةَ، وأصلُ (ريب): يدُلُّ على شَكٍّ [164] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 99)، ((تفسير ابن جرير)) (23/440)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 136)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/463)، ((تفسير الزمخشري)) (1/34)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 40)، ((تفسير البيضاوي)) (1/36)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 117). .

المعنى الإجماليُّ:

يقولُ تعالى ردًّا على المشرِكين، ومُبيِّنًا الحكمةَ مِن ذِكرِ عددِ خَزَنةِ النَّارِ: وما جعَلْنا خَزَنةَ النَّارِ التِّسعةَ عَشَرَ إلَّا ملائِكةً، وما جعَلْنا ذِكْرَ عَدَدِهم إلَّا فِتنةً للكُفَّارِ؛ لِيَستيقِنَ الَّذين أُوتُوا التَّوراةَ والإنجيلَ بأنَّ القُرآنَ حَقٌّ، وأنَّ محمَّدًا رَسولُ اللهِ، ويَزدادَ المؤمِنونَ إيمانًا بتَصديقِهم بهذا الخَبَرِ، ولا يَشُكَّ أهلُ التَّوراةِ والإنجيلِ والمؤمِنونَ بما أخبَرَ اللهُ به من عَدَدِ خَزَنةِ النَّارِ، ولِيَقولَ الَّذين في قُلوبِهم مَرَضُ الشَّكِّ والنِّفاقِ، والكافِرونَ باللهِ ورَسولِه: ما الحِكمةُ مِن هذا العَدَدِ؟
كما أضَلَّ اللهُ تعالى الكفَّارَ بهذا العَدَدِ، وهَدى المؤمِنينَ لقَبولِه، يُضِلُّ أيضًا مَن يَشاءُ ويَهْدي مَن يَشاءُ سُبحانَه وتعالى، وما يَعلَمُ جُنودَ رَبِّك وكَثْرتَهم إلَّا اللهُ وَحْدَه، وما هي إلَّا تَذكِرةٌ للنَّاسِ؛ لِيَتَّعِظوا بها ويَنزَجِروا.

تَفسيرُ الآيةِ:

وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان ما سَبَق غيرَ مُمَيِّزٍ للمعدودِ، وكانت الحِكمةُ في تعيينِ هذا العدَدِ غيرَ ظاهرةٍ، وكان هذا العَدَدُ مِمَّا يَستقِلُّه المتعَنِّتُ، فيَزيدُه كُفرًا- قال تعالى مُبَيِّنًا ذلك [165] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/62). :
وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً.
أي: وما جعَلْنا خَزَنةَ النَّارِ التِّسعةَ عَشَرَ إلَّا ملائِكةً [166] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/437)، ((تفسير ابن كثير)) (8/269)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/62)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/314). قال ابنُ كثير: (ذلك ردٌّ على مُشرِكي قُرَيشٍ حينَ ذكَرَ عدَدَ الخَزَنةِ، فقال أبو جَهلٍ: يا معشَرَ قُرَيشٍ، أمَا يَستطيعُ كُلُّ عَشَرةٍ منكم لواحِدٍ منهم فتَغلِبونَهم؟! فقال اللهُ: وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً أي: شَدِيدي الخَلْقِ، لا يُقاوَمونَ، ولا يُغالَبونَ). ((تفسير ابن كثير)) (8/269). .
وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا.
أي: وما جعَلْنا ذِكْرَ عَدَدِهم إلَّا فِتنةً للكُفَّارِ، ومِحنةً لهم [167] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/437)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/248)، ((الوسيط)) للواحدي (4/385)، ((تفسير البيضاوي)) (5/262)، ((تفسير ابن كثير)) (8/269). قال الزَّجَّاج: (لأنَّ بَعْضَهم قال: بَعضُنا يكفي هؤلاء!). ((معاني القرآن وإعرابه)) (5/248). وقال البيضاوي: (افتِتانُهم به: استِقلالُهم، واستهزاؤُهم به، واستبعادُهم أن يتولَّى هذا العَدَدُ القليلُ تعذيبَ أكثَرِ الثَّقَلينِ!). ((تفسير البيضاوي)) (5/262). .
لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ.
أي: ذكَرْنا ذلك العَدَدَ؛ لِيَستيقِنَ الَّذين أُوتُوا التَّوراةَ والإنجيلَ بأنَّ القُرآنَ حَقٌّ، وأنَّ محمَّدًا رَسولُ اللهِ؛ لِمُوافَقةِ كُتُبِهم للقُرآنِ بأنَّ عدَدَهم تِسْعةَ عَشَرَ [168] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/438)، ((تفسير القرطبي)) (19/82)، ((تفسير ابن كثير)) (8/269)، ((تفسير السعدي)) (ص: 897). وممَّن قال بأنَّ المرادَ بالَّذين أُوتُوا الكِتابَ: اليهودُ والنَّصارى: ابنُ جرير، وابنُ عطية، والشَّوكانيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/438)، ((تفسير ابن عطية)) (5/396)، ((تفسير الشوكاني)) (5/396). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ، وقَتادةُ، والضَّحَّاكُ، ومجاهدٌ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/438)، ((تفسير الماوردي)) (6/146). وقال ابنُ عاشور: (المرادُ بـ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ: اليهودُ حينَ يَبلُغُهم ما في القرآنِ مِن مِثْلِ ما في كُتُبِهم أو أخبارِهم، وكان اليهودُ يترَدَّدونَ على مكَّةَ في التِّجارةِ، ويتردَّدُ عليهم أهلُ مكَّةَ للمِيرةِ في خَيبَرَ وقُرَيظةَ ويَثرِبَ، فيَسألُ بَعضُهم بعضًا عمَّا يقولُه محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ويوَدُّ المُشرِكونَ لو يَجِدونَ عندَ اليَهودِ ما يكَذِّبونَ به أخبارَ القُرآنِ، ولكِنَّ ذلك لم يَجِدوه، ولو وَجَدوه لَكان أيسَرَ ما يَطعَنونَ به في القُرآنِ). ((تفسير ابن عاشور)) (29/315). ويُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/497، 498). .
وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا.
أي: وذَكَرْنا ذلك العَدَدَ؛ لِيَزدادَ المؤمِنونَ إيمانًا بتَصديقِهم بهذا الخَبَرِ [169] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/439)، ((الوسيط)) للواحدي (4/385)، ((تفسير ابن كثير)) (8/269)، ((تفسير السعدي)) (ص: 897). قال البِقاعي: (وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا أي: أوجَدوا هذه الحقيقةَ ولو على أدنى الوُجوهِ إلى ما عِندَهم مِن الإيمانِ إِيمَانًا بتَصديقِ ما لم يَعلَموا وَجهَ حِكمتِه، لا سِيَّما مع افتِتانِ غَيرِهم به، وكثرةِ كلامِهم فيه؛ فإنَّ الإيمانَ بمِثْلِ ذلك يكونُ أعظَمَ). ((نظم الدرر)) (21/63). وقال السعدي: (المؤمِنونَ كُلَّما أنزَل اللهُ آيةً، فآمَنوا بها وصَدَّقوا؛ ازداد إيمانُهم). ((تفسير السعدي)) (ص: 897). .
وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ.
أي: ولا يَشُكَّ أهلُ التَّوراةِ والإنجيلِ والمؤمِنونَ باللهِ ورَسولِه محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بما أخبَرَ اللهُ به مِن عَدَدِ خَزَنةِ النَّارِ [170] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/440)، ((الوسيط)) للواحدي (4/385)، ((تفسير القرطبي)) (19/82)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/63، 64). .
وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا.
أي: ولِيَقولَ الَّذين في قُلوبِهم مَرَضُ الشَّكِّ والنِّفاقِ، والكافِرونَ باللهِ ورَسولِه: ما الحِكمةُ مِن وراءِ هذا العَدَدِ [171] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/440)، ((تفسير السمعاني)) (6/96)، ((تفسير القرطبي)) (19/82)، ((تفسير ابن كثير)) (8/269)، ((تفسير السعدي)) (ص: 897)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/317). قال الواحدي: (معنى المثَلِ هاهنا: الحديثُ نَفْسُه، ومنه قَولُه: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ [الرعد: 35] ، أي: حَديثُها والخَبَرُ عنها). ((البسيط)) (22/441). وقال الرازي: (لَمَّا كان هذا العدَدُ عَدَدًا عَجيبًا، ظَنَّ القَومُ أنَّه رُبَّما لم يكُنْ مُرادُ اللهِ منه ما أشعَرَ به ظاهِرُه، بل جعَلَه مَثَلًا لشَيءٍ آخَرَ، وتنبيهًا على مقصودٍ آخَرَ- لا جَرَم سَمَّوْه مَثَلًا). ((تفسير الرازي)) (30/712). وقال أبو حيَّان: (لَمَّا سَمِعوا هذا العَدَدَ لم يَهتَدوا وحارُوا، فاستفهَمَ بعضُهم بعضًا عن ذلك؛ استِبعادًا أن يكونَ هذا مِن عندِ اللهِ، وسَمَّوْه مَثَلًا استِعارةً مِنَ المثَلِ المَضروبِ؛ استِغرابًا منهم لهذا العَدَدِ، والمعنى: أيَّ شيءٍ أراد اللهُ بهذا العَدَدِ العَجيبِ؟! ومُرادُهم: إنكارُ أصْلِه، وأنَّه ليس مِن عندِ اللهِ!). ((تفسير أبي حيان)) (10/334). ويُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/712). وقال ابن الجوزي: (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وفيه ثلاثةُ أقوالٍ: أحدُها: أنَّه النِّفاقُ، ذكره الأكثَرونَ. والثَّاني: أنَّه الشَّكُّ. قاله مُقاتلٌ، وزَعَم أنَّهم يهودُ أهلِ المدينةِ، وعِندَه أنَّ هذه الآيةَ مَدَنيَّةٌ. والثَّالثُ: أنَّه الخِلافُ. قاله الحُسَينُ بنُ الفَضلِ. وقال: لم يكُنْ بمكَّةَ نِفاقٌ. وهذه مكِّيَّةٌ. فأمَّا «الكافرون» فهم مُشرِكو العَرَبِ). ((تفسير ابن الجوزي)) (4/364). وممَّن ذهب إلى أنَّ الَّذين في قُلوبِهم مَرَضٌ: أي نِفاقٌ، وأنَّ المرادَ المنافِقونَ: السمرقنديُّ، ومكِّي، والزمخشري، والقرطبي، والنسفي، والخازن، وابن كثير، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/517)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/7838)، ((تفسير الزمخشري)) (4/652)، ((تفسير القرطبي)) (19/82)، ((تفسير النسفي)) (3/566)، ((تفسير الخازن)) (4/366)، ((تفسير ابن كثير)) (8/269)، ((تفسير الشوكاني)) (5/396). وممَّن قال مِن السَّلفِ: إنَّ المرادَ بالمرضِ النِّفاقُ: قَتادةُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/440)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (8/334). قال النسفي: (فإنْ قُلتَ: النِّفاقُ ظَهَر في المدينةِ، والسُّورةُ مَكِّيَّةٌ؟ قلتُ: معناه: ولِيَقولَ المنافِقونَ الَّذين يَظهَرونَ في المستقبَلِ بالمدينةِ). ((تفسير النسفي)) (3/566). وقال الإيجي: (وفي الآيةِ إخبارٌ عن الغيبِ؛ لأنَّها مكيَّةٌ، فظهَر النِّفاقُ في المدينةِ). ((تفسير الإيجي)) (4/406). وممَّن ذهب إلى أنَّهم اليهودُ مِن أهلِ المدينةِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/498). قال ابن عاشور: (المَرَضُ في القلوبِ: هو سُوءُ النِّيَّةِ في القُرآنِ والرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهؤلاء هم الَّذين لم يَزالوا في ترَدُّدٍ بيْن أن يُسلِموا وأن يَبقَوا على الشِّركِ، مِثلُ الأخنَسِ بنِ شَرِيقٍ، والوليدِ بنِ المُغيرةِ، وليس المرادُ بالَّذين في قُلوبِهم مَرَضٌ: المنافِقينَ؛ لأنَّ المنافِقينَ ما ظهَروا إلَّا في المدينةِ بعدَ الِهجرةِ، والآيةُ مَكِّيَّةٌ). ((تفسير ابن عاشور)) (29/317). قال ابن تيميَّةَ: (إنَّ مكَّةَ لم يكُنْ بها نِفاقٌ؛ بل إمَّا مؤمنٌ، وإمَّا كافرٌ). ((مجموع الفتاوى)) (27/ 274). وقال أيضًا: (أمَّا حينَ كان [أي: النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم] بمكَّةَ، وكان المؤمنونَ مُستَضْعَفينَ، فلم يكنْ أحدٌ يحتاجُ إلى النِّفاقِ، بل كان مِن المؤمنينَ مَن يَكتُمُ إيمانَه من كثيرٍ مِن النَّاسٍ، ومنهم مَن يَتكلَّمُ بالكفرِ مُكرَهًا مع طُمأنينةٍ قلبِه بالإيمانِ، وهذا مؤمنٌ باطنًا وظاهرًا... ولهذا قال العلماءُ -منهم أحمدُ بنُ حَنبلٍ-: لم يَكُنْ يُمكِنُهم نِفاقٌ، إنَّما كان النِّفاقُ بالمدينةِ. ولكنْ كان بمكَّةَ مَن في قلبِه مرضٌ، كما قال في السُّورةِ المكِّيَّةِ: وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا [المدثر: 31]). ((مجموع الفتاوى)) (16/504). وممَّن قال بأنَّ الكافِرينَ هم كُفَّارُ مكَّةَ: ابنُ جرير، ومكِّي، والبغوي، والزمخشري، والعُلَيمي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/440)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/7838)، ((تفسير البغوي)) (5/178)، ((تفسير الزمخشري)) (4/652)، ((تفسير العليمي)) (7/210). وقيل: الكافِرونَ هنا هم اليهودُ والنَّصارى. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (19/82). ؟
كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ.
أي: كما أضَلَّ اللهُ تعالى الكفَّارَ بهذا العَدَدِ، وهَدى المؤمِنينَ لقَبولِه، يُضِلُّ بما يُنَزِّلُ مِنَ القُرآنِ أيضًا مَن يَشاءُ، فيَخذُلُه عن اتِّباعِ الحَقِّ، ويَهْدي مَن يَشاءُ، فيُوَفِّقُه لاتِّباعِ الحَقِّ، ولله الحِكمةُ البالِغةُ [172] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/440)، ((تفسير السمعاني)) (6/96)، ((تفسير ابن كثير)) (8/270)، ((تفسير السعدي)) (ص: 897). قال ابنُ عاشور: (أي: مِثلَ ذلك الضَّلالِ الحاصِلِ للَّذين في قُلوبِهم مَرَضٌ وللكافِرينَ، والحاصِلِ للَّذين أوتوا الكتابَ بعدَ أن استيقَنوا، فلم يُؤمِنوا؛ يُضِلُّ اللهُ مَن يَشاءُ أن يُضِلَّه مِن عِبادِه، ومِثلَ ذلك الهُدى الَّذي اهتداه المؤمِنونَ فزادهم إيمانًا مع إيمانِهم؛ يَهدي اللهُ مَن يَشاءُ). ((تفسير ابن عاشور)) (29/318). .
كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ [البقرة: 26] .
وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ.
مُناسَبَتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان ما سَبَق مِمَّا يُوهِمُ قِلَّةَ جُنودِه تعالى؛ أتْبَعَه ما يُزيلُ ذلك، فقال:
وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ.
أي: وما يَعلَمُ عَدَدَ جُنودِ رَبِّك وكَثْرتَهم مِن الملائِكةِ أو غَيرِهم إلَّا اللهُ وَحْدَه [173] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/440)، ((تفسير ابن كثير)) (8/270)، ((تفسير الشوكاني)) (5/397)، ((تفسير السعدي)) (ص: 897). قال القرطبي: (أي: وما يَدري عَدَدَ مَلائكةِ رَبِّك الَّذين خلَقَهم لتعذيبِ أهلِ النَّارِ إِلَّا هُوَ أي: إلَّا اللهُ جَلَّ ثناؤُه). ((تفسير القرطبي)) (19/82). وقال ابنُ كثير: (قَولُه: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ أي: ما يَعلَمُ عَدَدَهم وكَثْرَتَهم إلَّا هو تعالى؛ لئلَّا يَتوهَّمَ مُتوَهِّمٌ أنَّهم تِسعةَ عَشَرَ فقط، كما قد قاله طائفةٌ مِن أهلِ الضَّلالةِ والجَهالةِ ومِن الفلاسفةِ اليونانيِّينَ، ومَن تابَعَهم مِن المِلَّتَينِ، الَّذين سمِعوا هذه الآيةَ، فأرادوا تنزيلَها على العُقولِ العَشَرةِ والنُّفوسِ التِّسعةِ الَّتي اختَرَعوا دعواها، وعَجَزوا عن إقامةِ الدَّلالةِ على مُقتضاها، أَفَهِموا صَدْرَ هذه الآيةِ وقد كَفَروا بآخِرِها؟! وهو قَولُه تعالى: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ). ((تفسير ابن كثير)) (8/270). وقال السعدي: (الواجِبُ أن يُتلقَّى ما أخبَرَ اللهُ به ورسولُه بالتَّسليمِ؛ فإنَّه لا يعلَمُ جنودَ رَبِّك مِن الملائكةِ وغَيرِهم إِلَّا هُوَ، فإذا كنتُم جاهِلينَ بجُنودِه، وأخبَرَكم بها العليمُ الخبيرُ؛ فعليكم أن تُصَدِّقوا خبَرَه، مِن غيرِ شَكٍّ ولا ارتيابٍ). ((تفسير السعدي)) (ص: 897). وقال ابنُ عاشور: (نَفْيُ العِلمِ هنا نَفيٌ للعِلمِ التَّفصيليِّ بأعدادِها وصِفاتِها وخصائصِها، بقرينةِ المقامِ؛ فإنَّ العِلمَ بعَدَدِ خَزَنةِ جَهنَّمَ قد حَصَل للنَّاسِ بإعلامٍ مِنَ اللهِ، لكِنَّهم لا يَعلَمونَ ما وراءَ ذلك). ((تفسير ابن عاشور)) (29/319). .
وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ.
أي: وما هي إلَّا تَذكِرةٌ عظيمةٌ للنَّاسِ؛ لِيَتَّعِظوا بها ويَنزَجِروا عن مُخالَفةِ الحَقِّ [174] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/441)، ((الوسيط)) للواحدي (4/385)، ((تفسير ابن كثير)) (8/272)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/67). قيل: المرادُ بقَولِه تعالى: هِيَ: النَّارُ. وممَّن قال بهذا: ابنُ جرير، والواحديُّ، والبَغَوي، والبِقاعي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/441)، ((الوسيط)) للواحدي (4/385)، ((تفسير البغوي)) (5/178)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/67). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: قَتادةُ، ومجاهدٌ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/441)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (8/334). وقيل: المرادُ: الدَّلائِلُ والحُجَجُ في القرآنِ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: السمرقنديُّ، والقرطبيُّ. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/517)، ((تفسير القرطبي)) (19/83). وقال الزَّجَّاجُ: (جاء في التَّفسيرِ: أنَّ النَّارَ في الدُّنيا تُذَكِّرُ بالنَّارِ في الآخِرةِ). ((معاني القرآن وإعرابه)) (5/248). قال الشوكاني: (وهو بعيدٌ). ((تفسير الشوكاني)) (5/397). وذهب السعديُّ إلى أنَّ المعنى: وما المقصودُ بهذه الموعِظةِ العبثَ، وإنَّما المقصودُ بها أن يَتذَكَّرَ البَشَرُ ما ينفَعُهم فيَفعَلوه، وما يَضُرُّهم فيتَرُكوه. يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 897). قال الشوكاني: (وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ أي: وما سَقَرُ وما ذُكِر مِن عَدَدِ خَزَنَتِها إِلَّا تَذْكِرَةٌ وموعِظَةٌ للعالَمِ، وقيل: وَمَا هِيَ أي: الدَّلائلُ والحُجَجُ والقرآنُ إلَّا تذكِرَةٌ للبشرِ... وقيلَ: ما هي أي عِدَّةُ خزنةِ جهنَّمَ إلَّا تذكِرَةٌ للبشَرِ لِيَعْلَموا كمالَ قُدْرَةِ اللَّهِ وأنَّه لا يَحْتاجُ إلى أعْوانٍ وأنصارٍ. وقِيلَ: الضَّميرُ في وَمَا هِيَ يَرْجِعُ إلى الجنودِ). ((تفسير الشوكاني)) (5/397). ويُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/319-320). .
كما قال تعالى: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ [الزمر: 16] .
وقال سُبحانَه: إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ * نَذِيرًا لِلْبَشَرِ [المدثر: 35، 36].

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- قَولُ اللهِ تعالى: لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا فيه بيانُ أنَّ الواجِبَ على المؤمِنِ المُبادَرةُ بالتَّصديقِ والانقيادِ، ولو لم يَعلَمِ الحِكمةَ أو السِّرَّ أو الغَرَضَ، بِناءً على أنَّ الخبَرَ مِنَ اللهِ تعالى [175] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/365). .
2- قَولُ اللهِ تعالى: لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ هذه مَقاصِدُ جَليلةٌ يعتني بها أولو الألبابِ، وهي السَّعيُ في اليقينِ، وزيادةِ الإيمانِ في كُلِّ وَقتٍ، وكُلِّ مسألةٍ مِن مسائِلِ الدِّينِ، ودَفعِ الشُّكوكِ والأوهامِ الَّتي تَعرِضُ في مقابلةِ الحَقِّ، فجَعَل ما أنزلَه اللهُ على رَسولِه مُحَصِّلًا لهذه الفوائِدِ الجليلةِ، وممَيِّزًا للكاذِبينَ مِنَ الصَّادِقينَ [176] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 896). .
3- إنَّ القلوبَ تمرضُ كغيرِها مِن الأعضاءِ، وعلاجُها في كتبِ الأطباء. وتمرضُ بالشُّبهاتِ والشُّكوكِ؛ لقولِه تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [البقرة: 10] ، وقال تعالى: وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، وتمرضُ القلوبُ بالشَّهواتِ لقولِه تعالى فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب: 32] أي: فجورٌ، وهو شهوةُ الزِّنا، وعلاجُ ذلك اتباعُ كتابِ الله وسنَّةِ رسولِه صلَّى الله عليه وسلَّم، والاجتهادُ في الطَّاعاتِ الظَّاهرةِ والباطنةِ، وتركُ المحرَّماتِ الظَّاهرةِ والباطنةِ [177] يُنظر: ((الآداب الشرعية)) لابن مفلح (3/124). .

 الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً جعَلَهم ملائِكةً؛ لوُجوهٍ:
الوَجهُ الأوَّلُ: لِيَكونوا بخِلافِ جِنسِ المعَذَّبينَ؛ لأنَّ الجِنسيَّةَ مَظِنَّةُ الرَّأفةِ والرَّحمةِ؛ ولذلك بَعَث الرَّسولَ المبعوثَ إلينا مِن جِنْسِنا؛ ليكونَ له رأفةٌ ورَحمةٌ بنا.
الوجهُ الثَّاني: أنَّهم أبعَدُ الخَلقِ عن معصيةِ اللهِ تعالى، وأقواهم على الطَّاعاتِ الشَّاقَّةِ.
الوجهُ الثَّالثُ: أنَّ قُوَّتَهم أعظَمُ مِن قوَّةِ الجِنِّ والإنسِ [178] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/709). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الزمخشري)) (4/651)، ((تفسير البيضاوي)) (5/262)، ((تفسير أبي السعود)) (9/59). .
2- قَولُ اللهِ تعالى: وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ فيه سُؤالٌ: ما وجْهُ تأثيرِ إنزالِ هذا المُتشابِهِ في استيقانِ أهلِ الكِتابِ؟
الجوابُ مِن وُجوهٍ:
الوجهُ الأوَّلُ: أنَّ هذا العددَ لَمَّا كان موجودًا في كتابِهم، ثمَّ إنَّه عليه السَّلامُ أخبَرَ على وَفقِ ذلك مِن غَيرِ سابِقةِ دِراسةٍ وتعَلُّمٍ، فظَهَر أنَّ ذلك إنَّما حَصَل بسبَبِ الوَحيِ مِنَ السَّماءِ، فالَّذين آمَنوا بمحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن أهلِ الكتابِ يَزدادونَ به إيمانًا.
الوَجهُ الثَّاني: أنَّ التَّوراةَ والإنجيلَ كانا محَرَّفَينِ، فأهلُ الكِتابِ كانوا يَقرَؤونَ فيهما أنَّ عَدَدَ الزَّبانيةِ هو هذا القَدْرُ، ولكِنَّهم ما كانوا يُعَوِّلون على ذلك كلَّ التعويلِ؛ لعِلْمِهم بتطَرُّقِ التَّحريفِ إلى هذينِ الكتابينِ، فلمَّا سَمِعوا ذلك مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَوِيَ إيمانُهم بذلك، واستيقَنوا أنَّ ذلك العَدَدَ هو الحَقُّ والصِّدقُ.
الوجهُ الثَّالثُ: أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يَعلَمُ مِن حالِ قُرَيشٍ أنَّه متى أخبَرَهم بهذا العَدَدِ العَجيبِ فإنَّهم يَستَهزِئونَ به ويَضحَكونَ منه؛ لأنَّهم كانوا يَستَهزِئونَ به في إثباتِ التَّوحيدِ والقُدرةِ والعِلمِ، مع أنَّ تلك المسائِلَ أوضَحُ وأظهَرُ، فكيف في ذِكرِ هذا العددِ العجيبِ؟! ثمَّ إنَّ استهزاءَهم برَسولِ الله وشِدَّةَ سُخرِيَتِهم به ما منَعَه مِن إظهارِ هذا الحَقِّ، فعندَ هذا يَعلَمُ كُلُّ أحَدٍ أنَّه لو كان غَرَضُ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم طلَبَ الدُّنيا والرِّياسةِ، لَاحتَرَز عن ذِكرِ هذا العَدَدِ العَجيبِ، فلمَّا ذكَرَه مع عِلْمِه بأنَّهم لا بدَّ أن يَستَهْزِئُوا به، عَلِمَ كُلُّ عاقلٍ أنَّ مَقصودَه منه إنَّما هو تبليغُ الوَحيِ، وأنَّه ما كان يُبالي في ذلك لا بتَصديقِ المصَدِّقينَ، ولا بتكذيبِ المكَذِّبين [179] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/711). .
3- في قَولِه تعالى: وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا إثباتُ زيادةِ الإيمانِ [180] يُنظر: ((شرح العقيدة الواسطية)) لابن عثيمين (2/233). ، فالمؤمِنُ كُلَّما جاءه أمرٌ عن اللهِ وصَدَّقَه ولو لم يَعلَمْ حَقيقتَه؛ اكتِفاءً بأنَّه مِن اللهِ، ازداد بهذا التَّصديقِ إيمانًا، وهي مسألةُ ازديادِ الإيمانِ بالطَّاعةِ والتَّصديقِ [181] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/365). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الرازي)) (30/ 711). . وفيه دليلٌ أيضًا على النَّقصِ؛ لأنَّه لا تُتَصَوَّرُ زيادةٌ إلَّا بما نَقَصَ عنها [182] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/266). ، وما جاز عليه الزِّيادةُ، جاز عليه النُّقصانُ [183] يُنظر: ((الغنية لطالبي طريق الحق)) للجيلاني (1/135). .
4- قَولُ اللهِ تعالى: مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا فيه سؤالٌ: القَومُ كانوا يُنكِرونَ كَونَ القُرآنِ مِن عندِ اللهِ، فكيف قالوا: مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا؟
الجوابُ: أمَّا الَّذين في قُلوبِهم مَرَضٌ، وهم المنافِقونَ، فكانوا في الظَّاهِرِ مُعتَرِفينَ بأنَّ القُرآنَ مِن عندِ اللهِ، فلا جَرَمَ قالوا ذلك باللِّسانِ، وأمَّا الكُفَّارُ فقالوه على سَبيلِ التَّهَكُّمِ، أو على سَبيلِ الاستِدلالِ بأنَّ القُرآنَ لو كان مِن عندِ اللهِ لَمَا قال مِثلَ هذا الكلامِ [184] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/712). .
5- في قَولِه تعالى: كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ حُجَّةٌ على المُعتزلةِ والقَدَرِيَّةِ في نِسبةِ الإضلالِ، والمشيئةِ منه سُبحانَه فيه [185] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/441). . فالهدايةُ والإضلالُ بيدِ الله؛ يهدي مَن يشاءُ بفضلِه، ويُضِلُّ مَن يشاءُ بعدلِه، وهو أعلمُ بمواقعِ فضلِه وعدلِه هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى [النجم: 30] ، وله في ذلك الحكمةُ البالغةُ، والحجَّةُ الدَّامغةُ [186] يُنظر: ((أعلام السنة المنشورة)) للحكمي (ص: 92). .
6- قال الله تعالى: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ فلا ينبغي استصغارُ شيءٍ مِن خلقِ الله تعالى إلَّا مِن حيثُ أذِن الله في استصغارِه؛ فإنَّ الله تعالى إذا سلَّط أضعفَ خلقِه على أشدِّهم أهلَكه، كما سلَّط البعوضَ على نمرودَ فأهلَكه بها، وكما سلَّط الجرادَ والقمَّلَ والضَّفادعَ على فرعونَ وقومِه [187] يُنظر: ((حسن التنبه لما ورد في التشبه)) لنجم الدين الغزي (7/259). .

بلاغةُ الآيةِ:

قولُه تعالَى: وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ
- قولُه: وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً صِيغةُ القصْرِ (ما... إلَّا) تُفيدُ قلْبَ اعتِقادِ أبي جَهْلٍ وغيرِه ما تَوهَّموه أو تَظاهَروا بتَوهُّمِه أنَّ المُرادَ تِسعةَ عشَرَ رجُلًا، فطَمِعَ أنْ يَخلُصَ منهم هو وأصحابُه بالقوَّةِ [188] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/314). .
- قولُه: وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا تَتميمٌ في إبطالِ تَوهُّمِ المشركينَ حَقارةَ عدَدِ خزَنةِ النارِ، وهو كَلامٌ جارٍ على تَقديرِ الأُسلوبِ الحَكيمِ [189] الأسلوبُ الحكيمُ: هو تلقِّي المُخاطَبِ بغيرِ ما يترقَّبُ بحملِ كلامِه على غيرِ مرادِه؛ تنبيهًا على أنَّه هو الأَولَى بالقصدِ، وكذلك أيضًا تلقِّي السَّائلِ بغيرِ ما يتطلَّبُ؛ تنبيهًا على ما هو الأولَى بحالِه وبالسُّؤالِ عنه، وهو مِن خلافِ مقتضَى الظاهرِ. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 327)، ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (4/42، 43)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 44)، ((مفاتيح التفسير)) للخطيب (1/132). ؛ إذ الكلامُ قدْ أثار في النُّفوسِ تَساؤلًا عن فائدةِ جَعْلِ خَزَنةِ جهنَّمَ تِسعةَ عشَرَ، وهلَّا كانوا آلافًا؛ ليكونَ مَرآهُم أشدَّ هَولًا على أهلِ النَّارِ؟ أو هلَّا كانوا مَلَكًا واحدًا؛ فإنَّ قُوَى الملائكةِ تَأتي كلَّ عمَلٍ يُسخِّرُها اللهُ له؟ فكان جَوابُ هذا السُّؤالِ: أنَّ هذا العدَدَ قدْ أظهَرَ لأصنافِ النَّاسِ مَبلَغَ فَهْمِ الكفَّارِ للقُرآنِ، وإنَّما حصَلَت الفِتنةُ مِن ذِكرِ عَددِهم في الآيةِ السَّابقةِ، فقولُه: وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ تَقديرُه: وما جَعَلْنا ذِكرَ عِدَّتِهم إلَّا فِتنةً... [190] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/314). .
- والقصرُ في قولِه: وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا قَصْرُ قلْبٍ [191] القَصرُ أو الحَصرُ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه؛ مِثلُ: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. وينقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصْفُ الإلَهيَّةِ الحقِّ على مَوصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144] . والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتنزيلِ غيرِ المذكور منزِلةَ العدَمِ، وقصْرِ الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقَصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السَّامعِ؛ كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زَيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زيدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ (إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسَّكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجُرْجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 19 - 22)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكة الميداني (1/525). للرَّدِّ على الَّذين كَفَروا؛ إذِ اعتَقَدوا أنَّ عِدَّتَهم أمْرٌ هيِّنٌ، والتَّقديرُ: ما جعَلْنا ذِكرَ عِدَّتِهم لعِلَّةٍ وغرَضٍ إلَّا لغَرضِ فِتنةِ الَّذين كَفروا [192] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/315). .
- وقيل: وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي: وما جَعَلْنا عَدَدَهم إلَّا العددَ الَّذي اقْتَضى فِتنتَهم، وهو التِّسعةَ عشَرَ، فعُبِّرَ بالأثَرِ عن المُؤثِّرِ؛ تَنبيهًا على أنَّه لا يَنفَكُّ منه [193] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/262)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/134)، ((تفسير أبي السعود)) (9/59). .
- والاستِيقانُ: قُوَّةُ اليقينِ؛ فالسِّينُ والتَّاءُ فيه للمُبالَغةِ [194] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/315). .
- قولُه: وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ المَقصودُ مِن ذِكرِه التَّمهيدُ لذِكرِ مُكابَرةِ الَّذين في قُلوبِهم مرَضٌ والكافِرينَ في سُوءِ فَهْمِهم لهذه العِدَّةِ؛ تَمْهيدًا بالتَّعريضِ قبْلَ التَّصريحِ؛ لأنَّه إذا قِيل: وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ شَعَرَ الَّذين في قُلوبِهم مرَضٌ والكافِرون بأنَّهم لَمَّا ارْتابُوا في ذلك فقدْ كانوا دونَ مَرتبةِ الَّذين أُوتوا الكِتابَ؛ لأنَّهم لا يُنازِعون في أنَّ الَّذين أُوتوا الكِتابَ أرجَحُ منهم عُقولًا، وأسَدُّ قَولًا؛ ولذلك عُطِفَ عليه وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا، أي: لِيَقولوا هذا القولَ إعرابًا عمَّا في نُفوسِهم مِن الطَّعنِ في القرآنِ غيرَ عالِمِينَ بتَصديقِ الَّذين أُوتوا الكِتابَ [195] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/316، 317). .
- فإنْ قِيل: لِمَ قال: وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ والاستِيقانُ وازديادُ الإيمانِ دالَّانِ على انتفاءِ الارتيابِ؟
 فالجوابُ: لأنَّه إذا جَمَع لهم إثباتَ اليقينِ ونفْيَ الشَّكِّ، كان آكَدَ وأبلَغَ لوَصْفِهم بسُكونِ النَّفْسِ، وثَلَجِ الصَّدرِ، فالمقصودُ مِن إعادةِ هذا الكلامِ هو أنَّه حَصَل لهم يقينٌ جازمٌ، بحيثُ لا يحصُلُ عَقِيبَه البتَّةَ شَكٌّ ولا رَيبٌ، ولأنَّ فيه تَعريضًا بحالِ مَن عَداهم، كأنَّه قال: ولِتُخالِفَ حالُهم حالَ الشَّاكِّينَ المُرتابينَ مِن أهلِ النِّفاقِ والكُفْرِ [196] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/652)، ((تفسير الرازي)) (30/711، 712)، ((تفسير البيضاوي)) (5/262)، ((تفسير أبي حيان)) (10/333)، ((تفسير أبي السعود)) (9/60). .
- وإنَّما لم يُنظَمِ المؤمنونَ في سَلْكِ أهلِ الكِتابِ في نفْيِ الارتيابِ، حيث لم يُقَلْ: ولا يَرْتابوا؛ للتَّنبيهِ على تَبايُنِ النَّفيَينِ حالًا، فإنَّ انتفاءَ الارتيابِ مِن أهلِ الكتابِ مُقارِنٌ لِما يُنافيهِ مِن الجُحودِ، ومِن المؤمنينَ مُقارنٌ لِما يَقتضيهِ مِن الإيمانِ، وكمْ بيْنَهما! والتَّعبيرُ عن المؤمنينَ باسمِ الفاعلِ في قولِه: وَالْمُؤْمِنُونَ بعْدَ ذِكرِهم بالموصولِ والصِّلةِ الفِعليَّةِ المُنبئةِ عن الحُدوثِ؛ للإيذانِ بثَباتِهم على الإيمانِ بعدَ ازديادِه، ورُسوخِهم في ذلك [197] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/60). .
- قولُه: وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا إفرادُ قَولِهم هذا بالتَّعليلِ مع كَونِه مِن بابِ فِتنتِهم؛ للإشعارِ باستقلالِه في الشَّناعةِ [198] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/60). .
- وقولُهم: مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا استِفهامٌ إنكاريٌّ، وتَقديرُ الكلامِ: ما الأمْرُ الَّذي أراده اللهُ بهذا الكلامِ في حالِ أنَّه مَثَلٌ؟! والمعنى: لم يُرِدِ اللهُ هذا العددَ المُمثَّلَ به، وقدْ كُنِّيَ بنَفْيِ إرادةِ اللهِ العدَدَ عن إنكارِ أنْ يكونَ اللهُ قال ذلك، فكَنَّوْا بنَفْيِ إرادةِ اللهِ وصْفَ هذا العدَدِ عن تَكذيبِهم أنْ يكونَ هذا العدَدُ مُوافقًا للواقعِ؛ لأنَّهم يَنْفُونَ فائدتَه، وإنَّما أرادوا تَكذيبَ أنْ يكونَ هذا وَحْيًا مِن عندِ اللهِ [199] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/317). .
- قولُه: كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ تَشبيهٌ، الغرَضُ منه تَقريبُ المعْنى المعقولِ إلى المعْنَى المحسوسِ المعروفِ في واقعةِ الحالِ، فمِثلَ ذلك المذكورِ مِن الإضلالِ والهُدى يُضِلُّ الكافِرينَ ويَهْدي المؤمنينَ، وقاله تَعليمًا للمُسلمينَ، وتَنبيهًا للنَّظَرِ في تَحصيلِ ما يَنفَعُ نُفوسَهم. ووَجْهُ الشَّبهِ هو السَّببيَّةُ في اهتداءِ مَن يَهْتدي، وضَلالِ مَن يَضِلُّ، في أنَّ كُلًّا مِن المُشبَّهِ والمُشبَّهِ به جَعَلَه اللهُ سَببًا وإرادةً لحِكمةٍ اقْتَضاها عِلمُه تعالَى، فتَفاوَتَ النَّاسُ في مَدَى أفهامِهم فيه بيْن مُهتدٍ ومُرتابٍ مُختلِفِ المَرتبةِ في رَيبِه، ومُكابرٍ كافرٍ، وسيِّئِ فَهْمٍ كافرٍ. وهذه كَلمةٌ عَظيمةٌ في اختِلافِ تَلقِّي العُقولِ للحَقائقِ وانتفاعِهم بها أو ضِدِّه، بحسَبِ اختلافِ قَرائحِهم وفُهومِهم وتَراكيبِ جِبلَّاتِهم المُتسلسلةِ مِن صَوابٍ إلى مِثلِه، أو مِن تَردُّدٍ واضطرابٍ إلى مِثلِه، أو مِن حَنَقٍ وعِنادٍ إلى مِثلِه، فانْطَوى التَّشبيهُ مِن قولِه: كَذَلِكَ على أحوالٍ وصُوَرٍ كثيرةٍ تَظهَرُ في الخارجِ [200] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/318). .
- قولُه: كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ مَحلُّ كَذَلِكَ نصْبٌ بالنِّيابةِ عن المفعولِ المُطلَقِ؛ لأنَّ الجارَّ والمجرورَ هنا صِفةٌ لمَصدرٍ مَحذوفٍ دلَّت عليه الصِّفةُ، والتَّقديرُ: يُضِلُّ اللهُ مَن يشاءُ، ويَهْدي مَن يشاءً إضلالًا وهَدْيًا كذلك الإضلالِ والهَدْي. وقُدِّمَ وصْفُ المفعولِ المُطلَقِ على الفِعلِ؛ للاهتِمامِ بهذا التَّشبيهِ؛ لِما يُرشِدُ إليه مِن تَفصيلٍ عندَ التَّدبُّرِ فيه، وحصَل مِن تَقديمِه أيضًا مُحسِّنُ الجمْعِ، ثمَّ التَّقسيمِ [201] الجمعُ والتَّقسيمُ: هو جمْعُ متعدِّدٍ تحتَ حُكمٍ، ثمَّ تقسيمُه، كقولِه تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ [فاطر: 32] . يُنظر: ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (3/315)، ((مفاتيح التفسير)) للخطيب (ص: 424). ؛ إذ جاء تَقسيمُه بقولِه: يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [202] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/319). . فحُذِفَ المَصدرُ، وأُقيمَ وصْفُه مُقامَه، ثمَّ قُدِّمَ على الفِعلِ لإفادةِ القَصرِ، فصارَ النَّظمُ: مِثلَ ذلكَ الإضلالِ وتلك الهِدايةِ يُضِلُّ اللهُ مَن يَشاءُ إضلالَه؛ لصَرفِ اختيارِه حسَبَ استِعدادِه السَّيِّئِ إلى جانبِ الضَّلالِ عندَ مُشاهَدتِه لآياتِ الله تعالى النَّاطِقةِ بالهُدى، ويَهْدي مَن يَشاءُ هِدايتَه لصَرفِ اختيارِه حسَبَ استِعدادِه الحسَنِ عندَ مُشاهَدةِ تلك الآياتِ إلى جانبِ الهُدى، لا إضلالًا وهِدايةً أدْنَى منهما [203] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/60)، ((تفسير الألوسي)) (15/142). .
- قولُه: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ كَلمةٌ جامعةٌ لإبطالِ التَّخرُّصاتِ الَّتي يَتخرَّصُها الضَّالُّون ومَرضَى القُلوبِ عندَ سَماعِ الأخبارِ عن عالَمِ الغَيبِ وأُمورِ الآخِرةِ، مِن نحْوِ ما هَذَى به أبو جهْلٍ في أمْرِ خَزَنةِ جَهنَّمَ، يَشملُ ذلك وغيرَه؛ فلذلك كان لهذه الجُملةِ حُكْمُ التَّذييلِ [204] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/319). .
- قولُه: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ إضافةُ (ربّ) إلى ضَميرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إضافةُ تَشريفٍ، وتَعريضٌ بأنَّ مِن شأْنِ تلك الجُنودِ أنَّ بَعضَها يكونُ به نصْرُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [205] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/319). .
- قولُه: وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ فيه مَعانٍ كَثيرةٌ، أعْلاها أنْ يكونَ هذا تَتِمَّةً لقولِه: وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، على أنْ يكونَ جاريًا على طَريقةِ الأُسلوبِ الحكيمِ [206] الأسلوبُ الحكيمُ: هو تلقِّي المُخاطَبِ بغيرِ ما يترقَّبُ بحملِ كلامِه على غيرِ مرادِه؛ تنبيهًا على أنَّه هو الأَولَى بالقصدِ، وكذلك أيضًا تلقِّي السَّائلِ بغيرِ ما يتطلَّبُ؛ تنبيهًا على ما هو الأولَى بحالِه وبالسُّؤالِ عنه، وهو مِن خلافِ مقتضَى الظاهرِ. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 327)، ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (4/42، 43)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 44)، ((مفاتيح التفسير)) للخطيب (1/132). ، أي: أنَّ النَّافِعَ لكم أنْ تَعلَموا أنَّ الخبرَ عن خَزَنةِ النَّارِ بأنَّهم تِسعةَ عشَرَ -وذلك على قولٍ-، فائدتُه أنْ يكونَ ذِكرَى للبشَرِ؛ ليَتذكَّروا دارَ العِقابِ بتَوصيفِ بَعضِ صِفاتِها؛ لأنَّ في ذِكرِ الصِّفةِ عَونًا على زِيادةِ استِحضارِ الموصوفِ، فغرَضُ القُرآنِ الذِّكرى، وقدِ اتَّخَذه الضَّالُّون ومَرضَى القُلوبِ لَهوًا وسُخريةً ومِراءً بالسُّؤالِ عن جَعْلِهم تِسعةَ عَشَرَ ولم يَكونوا عِشرينَ، أو مِئاتٍ، أو آلافًا [207] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/319، 320). !
- وقيل: قولُه: وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ القصْرُ مُتوجِّهٌ إلى مُضافٍ مَحذوفٍ يدُلُّ عليه السِّياقُ، تَقديرُه: وما ذِكْرُها أو وَصْفُها، أو نحْوُ ذلك [208] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/320). .
- وإنَّما حَمَلَتِ الآيةُ المعانيَ الكثيرةَ بحُسنِ مَوقعِها في هذا الموضِعِ، وهذا مِن بَلاغةِ نظْمِ القُرآنِ، ولو وَقَعَت إثرَ قولِه: لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ [المدثر: 29] لَتَمحَّضَ ضَميرُ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى للعَودِ إلى سَقَرَ، وهذا مِن الإعجازِ بمَواقعِ جُمَلِ القرآنِ [209] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/320). .