موسوعة التفسير

سورةُ التَّوبةِ
الآيات ( 48-52)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ

غريب الكلمات:

قَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ: أي: دَبَّروا لك الحِيَلَ والمكايِدَ، ودوَّروا الآراءَ في إبطالِ أمْرِك، وتَقليبُ الأمورِ: تَدبيرُها والنَّظرُ فيها، وأصلُ (قلب): يدلُّ على ردِّ شَيءٍ مِن جِهةٍ إلى جِهةٍ [854] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/17)، ((المفردات)) للراغب (ص: 681، 682)، ((تفسير الزمخشري)) (2/277)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 139). .
تَرَبَّصُونَ: أي: تَنتَظِرونَ، وأصل التَّربُّص: الانتِظارُ والتمَكُّثُ [855] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/477)، ((المفردات)) للراغب (ص: 338)، ((تفسير القرطبي)) (8/160)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 129). .
الْحُسْنَيَيْنِ: أي: العاقِبَتينِ اللَّتَينِ كلٌّ منهما حسَنٌ: النُّصرةُ أو الشَّهادةُ، وأصل (حسن) ضِدُّ القُبحِ [856] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 188)، ((تفسير ابن جرير)) (11/496)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/57)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 412). .

المعنى الإجمالي:

يُخبِرُ تعالى أنَّ المُنافِقينَ طَلَبوا فِتنةَ المُسلِمينَ من قبلُ، وطَلَبوا الشَّرَّ لِرَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فصرَّفوا آراءَهم، وأعمَلُوا الحِيَلَ والمكايِدَ؛ ليُحَقِّقوا ذلك، إلى أن جاء نصرُ الله، وغلَبَ دينُه، وهم كارِهونَ حُصولَ ذلك.
ويُبيِّنُ تعالى أنَّ مِن المُنافِقينَ مَن يقولُ لمُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حين دعاهم لِغَزوِ الرُّومِ: ائذَنْ لي في التخَلُّفِ عن الخُروجِ، ولا تفتِنِّي برؤيةِ نِساءِ الرُّومِ؛ فإنِّي لا أصبِرُ عنهُنَّ إن رأيتُهنَّ.
ويُبَيِّنُ تعالى أنَّهم قد وقعوا في الفِتنةِ العظيمةِ ببَقائِهم في الكُفرِ، وإثمِ تَخلُّفِهم عن الجِهادِ، وبمَعصيَتِهم لرَسولِ الله، وإنَّ جَهنَّمَ لَمُحيطةٌ بالكافرينَ.
ويُبيِّنُ تعالى أنَّه إن غزا المؤمنون ونَصَرهم اللَّهُ على أعدائِهم، وغَنِموا، ونالهم خِصْبٌ فِي مَعايِشِهم؛ ساء ذلك المُنافِقينَ وحَزِنوا من أجلِه، وإن تصِبْهم مصيبةٌ بهزيمةٍ أو قتلٍ أو جِراحٍ يَقولوا: قد احتَطْنا لأنفُسِنا، وأخَذْنا حِذْرَنا من قَبلُ، فسَلِمْنا؛ لِعَدمِ خُروجِنا معكم، وينصَرِفوا وهم فَرِحونَ، وأمَرَ اللهُ نبيَّه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يقولَ لهم: لن يُصيبَنا إلَّا ما كتَبَ اللهُ لنا، هو سيِّدُنا وناصِرُنا، وعلى الله وَحدَه فلْيَعتَمِدِ المُؤمِنونَ، ويُفَوِّضوا أمورَهم إليه.
كما أمَرَه تعالى أن يقولَ لهم: هل تَنتَظِرونَ بنا إلَّا أن تُصيبَنا إحدى الحُسنَيَينِ: النَّصرُ أو الشَّهادةُ، ونحن ننتظِرُ أن يُصيبَكم اللهُ بِعقوبةٍ مِن عِندِه أو بأيدينا، فانتَظِروا ونحنُ معكم مُنتَظِرونَ.

تفسير الآيات:

لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاء الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وللمسلمينَ أنَّه ثَبَّطَ المُنافقينَ عن الخُروجِ للجِهادِ، وبيَّن أنَّهم لو خَرَجوا فيهم ما زادُوهم إلَّا خَبالًا- بَيَّنَ أنَّ هذا الذي ينطوي عليه المُنافقونَ مِن الشرِّ، كان موجودًا فيهم قبلَ ذلك؛ قبل أن يَنزِلَ القرآنُ في شأنِهم، وأن تَطَّلِعُوا عليهم، فقال تعالى [857] يُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/552). :
لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ.
أي: لقد طلَبَ المُنافِقونَ فِتنةَ المُسلِمينَ، بصَدِّهم عن الدِّينِ، وإفسادِ ما بينهم مِن قَبلِ غَزوةِ تبوكَ، كما فعَلُوا في غزوةِ أحُدٍ وغَيرِها [858] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/488)، ((البسيط)) للواحدي (10/475)، ((تفسير السمعاني)) (2/315)، ((تفسير ابن عطية)) (3/41)، ((تفسير الرازي)) (16/65)، ((تفسير القرطبي)) (8/157)، ((تفسير ابن كثير)) (4/160)، ((تفسير السعدي)) (ص: 339)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/553). .
وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ.
أي: وطلَبَ المُنافِقونَ الشَّرَّ لك- يا مُحمَّدُ- فصرَّفوا آراءَهم، وأجالُوا أفكارَهم، وأدارُوا عُقولَهم، وأعمَلُوا الحِيَل والمكايِدَ، ساعِينَ بذلك لإفسادِ أمْرِك، وإنكارِ دِينِك، وصَدِّ النَّاسِ عن اتِّباعِك، وتخذيلِ أصحابِك عنك [859] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/488)، ((البسيط)) للواحدي (10/476)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 466)، ((تفسير السمعاني)) (2/315)، ((تفسير ابن عطية)) (3/41)، ((تفسير الرازي)) (16/65)، ((تفسير السعدي)) (ص: 339)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/219)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/553). .
حَتَّى جَاء الْحَقُّ.
أي: سعى المُنافقونَ في ابتغاءِ الفِتنةِ، وتقليبِ الأمورِ، إلى أن جاء نَصرُ الله تعالى [860] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/488)، ((تفسير الشوكاني)) (2/419)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/554). قال ابنُ كثير: (لقد أعمَلوا فِكرَهم وأجالوا آراءَهم في كيدِك وكَيدِ أصحابِك، وخِذلانِ دِينِك وإخمالِه مُدَّةً طويلةً، وذلك أولَّ مَقدَمِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المدينةَ، رَمَتْه العربُ عن قَوسٍ واحدةٍ، وحارَبَتْه يهودُ المدينة ومُنافِقوها، فلمَّا نصَرَه اللهُ يومَ بدرٍ وأعلى كَلِمَتَه، قال عبدُ الله بنُ أُبيٍّ وأصحابُه: هذا أمرٌ قد توجَّهَ. فدَخَلوا في الإسلامِ ظاهرًا، ثمَّ كُلَّما أعزَّ اللهُ الإسلامَ وأهلَه، غاظَهم ذلك وساءَهم؛ ولهذا قال تعالى: حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّه وَهُمْ كَارِهُونَ). ((تفسير ابن كثير)) (4/160- 161). .
كما قال عزَّ وجلَّ: وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء: 81] .
وقال سبحانه: قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ [سبأ: 49] .
وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ.
أي: وغلَبَ دينُ الله الذي أمَرَ بالدُّخولِ فيه- وهو الإسلامُ- وعلا وظهَرَ وانتصَرَ، والحالُ أنَّ المُنافِقينَ كارِهونَ لِظُهورِه، ويَسوؤُهم انتصارُه وعُلُوُّه [861] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/488)، ((تفسير الرازي)) (16/65)، ((تفسير السعدي)) (ص: 339)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/220)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/554). قال ابن عاشور: (والمرادُ بظُهورِ أمرِ اللهِ نصرُ المُسلِمينَ بفَتحِ مَكَّةَ، ودُخول النَّاسِ في الدِّينِ أفواجًا، وذلك يكرَهُه المُنافِقونَ). ((تفسير ابن عاشور)) (10/220). .
وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49).
وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي.
سبَبُ النُّزولِ:
عن جابِرِ بنِ عَبدِ الله رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((سمِعْتُ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ لجَدِّ بنِ قَيسٍ: يا جَدُّ، هل لك في جِلادِ بني الأصفَرِ؟ قال جدٌّ: أوَ تأذَنُ لي يا رسولَ الله؛ فإنِّي رجُلٌ أحِبُّ النِّساءَ، وإنِّي أخشى إنْ أنا رأيتُ نِساءَ بَني الأصفَرِ أنْ أفتَتِنَ؟! فقال رَسولُ الله- وهو مُعرِضٌ عنه-: قد أذِنْتُ لك، فعند ذلك أنزَلَ اللهُ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا)) [862] أخرجه ابن أبي حاتم في ((التفسير)) (6/1809). و​حسَّن إسنادَه الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (6/1225)​. .
وعن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما، قال: ((لَمَّا أراد النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يَخرُجَ إلى غزوةِ تَبوكَ، قال للجَدِّ بنِ قَيسٍ: يا جَدُّ بنَ قَيسٍ، ما تقولُ في مُجاهَدةِ بني الأصفَرِ؟ قال: يا رسولَ الله، إنِّي امرُؤٌ صاحِبُ نِساءٍ، ومتى أرى نِساءَ بني الأصفَرِ أفتَتِنُ؛ فائذَنْ لي في الجُلوسِ، ولا تفتِنِّي! فأنزَلَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا)) [863] أخرجه الطبراني في ((المعجم الكبير)) (2/275) (2154)، وأبو نعيم في ((معرفة الصحابة)) (1720)​. ​قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/33)​: فيه يحيى الحمَّاني وهو ضعيفٌ، وقال الألباني في ((النصيحة)) (258): له شاهدٌ مِن حديث جابرٍ، وآخرُ مِن مرسلِ مجاهدٍ بسندٍ صحيحٍ عنه. قال الواحديُّ: (قال ابنُ عباسٍ والمفسِّرون كلُّهم: نزلتْ في جدِّ بنِ قيسٍ المنافقِ). ((البسيط)) (10/476). .
وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي.
أي: ومِنَ المُنافِقينَ مَن يَقولُ لمُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حين دَعاهم إلى غَزوِ الرُّومِ: ائذَنْ لي في القُعودِ عن الخُروجِ معك، ولا تَبتَلِني برؤيةِ نِساءِ الرُّومِ؛ فإنِّي إن رأيتُهنَّ لا أصبِرُ عَنهنَّ، فأقَعُ في الإثمِ بسبَبِ الخُروجِ معكم [864] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/491)، ((تفسير ابن عطية)) (3/42)، ((تفسير ابن كثير)) (4/161)، ((تفسير السعدي)) (ص: 339)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/555). !!
أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ.
أي: ألَا إنَّ المُنافِقينَ الذين اعتَذَروا عن الجِهادِ بسبَبِ خَوفِهم مِن الفِتنةِ بنِساءِ الرُّومِ، قد وقَعُوا في الفِتنةِ العَظيمةِ ببَقائِهم في الكُفرِ، وإثْمِهم بالتخَلُّفِ عن الجهادِ، ومَعصيةِ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ [865] يُنظر: ((معاني القرآن)) للزجاج (2/452)، ((البسيط)) للواحدي (10/479)، ((تفسير ابن عطية)) (3/42)، ((تفسير الرازي)) (16/65)، ((تفسير القرطبي)) (8/159)، ((تفسير ابن كثير)) (4/161)، ((تفسير السعدي)) (ص: 339)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/558). .
وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ.
أي: وإنَّ نارَ جَهنَّمَ ستُحيطُ بالكافِرينَ يَومَ القيامةِ، وتُحدِقُ بهم مِن كُلِّ جانِبٍ، فليس لهم عنها مفَرٌّ [866] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/494)، ((البسيط)) للواحدي (10/479)، ((تفسير ابن عطية)) (3/42)، ((تفسير القرطبي)) (8/159)، ((تفسير ابن كثير)) (4/161)، ((تفسير السعدي)) (ص: 339)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/558). .
كما قال تعالى: يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ * يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [العنكبوت: 54-55] .
وقال سُبحانه: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهمْ غَوَاشٍ [الأعراف: 41] .
وقال عزَّ وجلَّ: إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهمْ سُرَادِقُهَا [الكهف: 29] .
وقال جلَّ جلاله: لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوههمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ * بَلْ تَأْتِيهمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ [الأنبياء: 39-40] .
وقال تبارك وتعالى: إِنَّهَا عَلَيْهمْ مُؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ [الهمزة: 8-9] .
إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ (50).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ هذا نوعٌ آخَرُ مِن كَيدِ المُنافِقينَ، ومن خُبْثِ بَواطِنِهم [867] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (16/66). .
إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ.
أي: إن غَزَوْتُمْ وَنَصَرَكم اللَّهُ على أعدائِكم، وظَهَرْتُم عليهم وغَنِمْتُم، وتتابَعَ النَّاسُ في دُخولِ دينِكم، ونالكم خِصْبٌ فِي مَعايِشِكم؛ ساء ذلك المُنافِقينَ، وحَزِنوا من أجلِه [868] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/494)، ((البسيط)) للواحدي (10/480)، ((تفسير البغوي)) (2/356)، ((تفسير ابن كثير)) (4/161، 162)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/559). قال محمد رشيد رضا: (المتبادِرُ أنَّ هذا إخبارٌ عن شأنِهم في ماضِيهم وحاضِرِهم ومُستَقبلِهم، والحَسنةُ كلُّ ما يَحسُنُ وقعُه ويَسُرُّ، مِن غنيمةٍ ونُصرةٍ ونِعمةٍ، أي: أنَّه يَسوؤُهم كلُّ ما يَسُرُّك، كما ساءَهم النَّصرُ في بَدرٍ وغيرِ بَدرٍ مِن الغَزواتِ). ((تفسير المنار)) (10/413). .
وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ.
أي: وإن تُصِبْكم مُصيبةٌ بهزيمةٍ أو قتلٍ أو جِراحٍ، يقُلِ المُنافِقونَ: قد احتَطْنا لأنفُسِنا، وأخَذْنا حِذْرَنا مِن قَبلِ أن يُصيبَكم هذا المَكروهُ، فسَلِمْنا لأنَّا لم نَخرُجْ معكم [869] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/494)، ((البسيط)) للواحدي (10/480)، ((تفسير الرازي)) (16/66)، ((تفسير ابن كثير)) (4/162)، ((تفسير الشوكاني)) (2/421)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (10/413)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/559). قال ابن عطية: (قَولُه تعالى: إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ الآية، أخبَرَ تعالى عن مُعتَقَدِهم وما هم عليه، و«الحسَنةُ» هنا بحسَبِ الغَزوةِ هي: الغنيمةُ والظَّفَر، و«المُصيبة» الهَزمُ والخَيبةُ، واللَّفظُ عامٌّ بعد ذلك في كلِّ محبوبٍ ومَكروهٍ). ((تفسير ابن عطية)) (3/42). .
وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ.
أي: وينصَرِفِ المُنافقونَ- إن أصابَتْكم مصيبةٌ- [870] قال الشنقيطي: (وَيَتَوَلَّوْا عن دينِ الإسلامِ، ونُصرةِ رَسولِ الله، أو يتولَّى بعضُهم راجعًا إلى بعضٍ). ((العذب النمير)) (5/560). ويُنظر: ((تفسير الرازي)) (16/66). وهم مَسرُورونَ بما أصابَكم، ومَسرُورونَ بسَلامَتِهم بتخلُّفِهم عنكم [871] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/494)، ((البسيط)) للواحدي (10/480)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/559، 560). .
قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان قَولُهم: قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ متضَمِّنًا لِتوهُّمِ القدرةِ على الاحتراسِ مِن القَدَرِ؛ ومبينًا أنَّهم يَفرَحونَ بمُصيبةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والمسلمينَ، وبِعَدمِ مُشاركَتِهم لهم فيها، فقال تعالى رادًّا عليهم في ذلك [872] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/496)، ((تفسير السعدي)) (ص:339). ، بعَدمِ اكتراثِ المُسلِمينَ بالمُصيبةِ، وانتفاءِ حُزْنِهم عليها؛ لأنَّهم يعلمونَ أنَّ ما أصابَهم ما كان إلَّا بتقديرِ الله لِمَصلحةِ المُسلِمين في ذلك، فهو نَفعٌ مَحضٌ [873] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/223). .
قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا.
أي: قُلْ- يا محمَّدُ- للمُنافِقينَ الذين يَفرَحونَ بما يُصيبُكم مِن مَكروهٍ: لن يُصيبَنا إلَّا ما قدَّرَه اللهُ وكتَبَه لنا في اللَّوحِ المَحفوظِ [874] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/495)، ((البسيط)) للواحدي (10/480، 481)، ((تفسير ابن عطية)) (3/42)، ((تفسير ابن كثير)) (4/162)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/560). .
كما قال تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّه يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ [الحديد: 22-23] .
وقال سُبحانه: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّه [التغابن: 11] .
وعن صُهَيبٍ رَضِيَ الله عنه، قال: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((عَجَبًا لأمرِ المُؤمِنِ، إنَّ أمْرَه كُلَّه خَيرٌ، وليس ذاك لأحَدٍ إلَّا للمُؤمِنِ؛ إن أصابَتْه سرَّاءُ شكَرَ، فكان خَيرًا له، وإن أصابَتْه ضَرَّاءُ صَبَرَ، فكان خَيرًا له )) [875] رواه مسلم (2999). .
وعن عبدِ الله بنِ عَمرِو بنِ العاصِ رَضِيَ الله عنهما، قال: ((سَمِعْتُ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: كتَبَ اللهُ مَقاديرَ الخَلائِقِ قَبلَ أن يَخلُقَ السَّمَواتِ والأرضَ بِخَمسينَ ألفَ سنةٍ )) [876] رواه مسلم (2653). .
هُوَ مَوْلاَنَا.
أي: اللهُ هو سَيِّدُنا وناصِرُنا [877] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/495)، ((تفسير القرطبي)) (8/160)، ((تفسير ابن كثير)) (4/162)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/560). .
وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ.
أي: وعلى الله وَحْدَه فلْيعتَمِدِ المؤمنونَ، ويُفَوِّضوا أمورَهم إليه [878] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/495)، ((تفسير القرطبي)) (8/160)، ((العذب النمير))  للشنقيطي (5/561). .
قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ (52).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لما أجابَ تعالى عن فَرَحِ المُنافِقينَ بمصائِبِ المُؤمنِينَ؛ أجاب بجوابٍ ثانٍ، وذلك لأنَّ المُسلِمَ إذا ذهَبَ إلى الغَزوِ، فإن صار مَغلوبًا مقتولًا، فاز بالاسمِ الحَسَنِ في الدُّنيا، والثَّوابِ العظيمِ الذي أعَدَّه اللهُ للشُّهَداءِ في الآخرةِ، وإن صار غالبًا فاز في الدُّنيا بالمالِ الحلالِ والاسمِ الجَميلِ، وهي الرُّجوليَّةُ والشَّوكة والقُوَّة، وفي الآخرة: بالثَّوابِ العَظيمِ. وأمَّا المنافِقُ إذا قعد في بَيتِه، قعَد مذمومًا، مَنسوبًا إلى الجُبنِ والفَشَلِ، وضَعفِ القَلبِ، والقَناعةِ بالأمورِ الخَسيسةِ من الدُّنيا على وجهٍ يُشارِكُه فيها النِّسوانُ والصِّبيانُ، والعاجِزونَ مِن النِّساء، ثم يكونونَ أبدًا خائِفينَ على أنفُسِهم وأولادِهم وأموالِهم، وفي الآخِرةِ إن ماتوا فقد انتَقَلوا إلى العذابِ الدَّائمِ في القِيامةِ، وإن أَذِنَ اللهُ في قَتْلِهم وَقَعوا في القَتلِ والأسْرِ والنَّهبِ، وانتَقَلوا من الدُّنيا إلى عذابِ النَّارِ [879] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (16/67-68). .
وأيضًا لَمَّا تضَمَّنَ ما سبقَ أنَّ سَرَّاءَ المؤمنينَ وضَرَّاءَهم لهم خَيرٌ؛ من حيثُ إنَّ الرِّضا بـمُرِّ القَضاءِ، مُوجِبٌ لإقبالِ القاضي على المقضِيِّ عليه بالرَّأفةِ والرَّحمةِ- صرَّحَ بذلك في قَولِه تعالى: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ أي: وهي أن نُصيبَ أعداءَنا، فنظفَرَ ونغنَمَ ونُؤجَرَ، أو يُصيبُونا بقَتلٍ أو غيرِه، فنؤجَرَ، وكِلَا الأمرينِ حَسَنٌ [880] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/497). .
قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ.
أي: قلْ- يا مُحمَّدُ- للمُنافِقينَ الذين يَفرَحونَ بما يُصيبُكم مِن مكروهٍ: ما تنتَظِرونَ بنا إلَّا أن تُصيبَنا إحدى الخَلَّتينِ اللَّتين هما أحسَنُ مِن غَيرِهما: النَّصرُ أو الشَّهادةُ [881] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/496)، ((تفسير ابن كثير)) (4/162)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/563، 564). ونسب الواحدي إلى ابنِ عبَّاسٍ وجميعِ المفَسِّرينَ في: إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ أنَّ الأُولى منهما تعني الغنيمةَ والفَتحَ، والثانيةَ تعني الشَّهادةَ والمغفرةَ. يُنظر: ((البسيط)) (10/483). .
عن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((تضمَّنَ اللهُ لِمَن خرَجَ في سبيلِه، لا يُخرِجُه إلَّا جِهادًا [882] قال النَّووي: (هكذا هو في جميعِ النُّسَخِ (جِهادًا) بالنَّصبِ، وكذا قال بعده: (وَإيمانًا بي وتصديقًا) وهو منصوبٌ على أنَّه مفعولٌ له، وتقديرُه: لا يُخرِجُه المُخرِجُ ويُحَرِّكُه المحَرِّكُ إلا للجهادِ والإيمانِ. والتصديق). ((شرح النووي على مسلم)) (13/20). في سبيلي، وإيمانًا بي، وتصديقًا بِرُسُلي، فهو عليَّ ضامِنٌ أن أُدخِلَه الجنَّةَ، أو أَرجِعَه إلى مَسكَنِه الذي خرَجَ منه، نائلًا ما نال من أجرٍ أو غنيمةٍ، والذي نفسُ مُحمَّدٍ بِيَده، ما من كَلْمٍ يُكْلَمُ [883] الكَلْمُ: الجُرحُ. ويُكْلَمُ: أي: يُجرَحُ. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (13/21). في سبيلِ الله، إلَّا جاء يومَ القِيامةِ كَهَيئَتِه حين كُلِمَ؛ لَونُه لَونُ دَمٍ، ورِيحُه مِسكٌ، والذي نفسُ مُحمَّدٍ بِيَدِه، لولا أن يَشُقَّ على المُسلِمينَ ما قعَدْتُ خلافَ سَرِيَّةٍ تغزُو في سبيلِ الله أبدًا، ولكِنْ لا أجِدُ سَعةً فأحمِلَهم، ولا يَجِدونَ سَعةً، ويشُقُّ عليهم أن يتخَلَّفوا عني، والذي نفسُ مُحمَّدٍ بِيَدِه، لَوَدِدْتُ أنِّي أغزو في سَبيلِ الله فأُقتَلُ، ثم أغزو فأُقتَلُ، ثمَّ أغزو فأُقتَلُ )) [884] رواه مسلم (1876). .
وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا.
أي: ونحن ننتَظِرُ بكم- أيُّها المُنافِقونَ- أن يُصيبَكم اللهُ في الدُّنيا بعقوبةٍ مِن عِندِه أو بعذابٍ بأيدينا، فيُسَلِّطَنا عليكم، فنَقتُلَكم، إن أظهَرْتم نِفاقَكم [885] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/496)، ((البسيط)) للواحدي (10/485)، ((تفسير البغوي)) (2/357)، ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (3/107)، ((تفسير ابن كثير)) (4/162)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/224)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/565). .
فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ.
أي: وإذا كان الأمرُ كذلك إذن فانتَظِروا، ونحن مَعكم مُنتَظِرونَ ما اللهُ فاعِلٌ بنا وبكم؛ فكلٌّ منا سيَصيرُ إلى ما يتربَّصُ به الآخَرُ إليه [886] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/496)، ((تفسير الألوسي)) (5/306)، ((تفسير القاسمي)) (5/432)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (10/415)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/565). .
كما قال تعالى: فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ [يونس: 102] .

الفوائد التربوية:

1- قال الله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا فيه تنبيهٌ على أنَّ من عصى اللهَ لِغَرَضٍ ما، فإنَّه تعالى يُبطِلُ عليه ذلك الغَرَضَ، ألا ترى أنَّ القَومَ إنَّما اختاروا القُعودَ؛ لِئلَّا يقَعُوا في الفتنةِ، فالله تعالى بيَّنَ أنهَّم في عَينِ الفِتنةِ واقعونَ ساقِطونَ [887] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (16/65). ؟!
2- قَولُ الله تعالى: قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّه فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ فيه تعليمٌ للمُسلِمينَ التخَلُّقَ بألَّا يَحزَنوا لِما يُصيبُهم؛ لِئلَّا يَهنوا وتذهَبَ قُوَّتُهم، وأن يَرضَوْا بما قَدَّرَ اللهُ لهم، ويَرجُوا رِضا رَبِّهم؛ لأنَّهم واثِقونَ بأنَّ اللهَ يُريدُ نَصرَ دِينِه [888] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/223). .
3- أخبَرَ اللهُ تعالى عن نَفسِه في قَولِه تعالى: قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا أنَّه هو سُبحانه وليُّ المؤمنينَ، فلا يقضي قضاءً لهم إلَّا كان خيرًا لهم، ومَن تولَّاه اللهُ لم يَخذُلْه، وإنَّما يتولَّى مَصالِحَه [889] يُنظر: ((مجموع رسائل ابن رجب)) (3/146). .
4- إذا ترَكَ العِبادُ الذي أُمِرُوا به من الجهادِ في سَبيلِ الله، واشتَغَلوا عنه بما يصُدُّهم عنه مِن عمارةِ الدُّنيا، هلَكوا في دُنياهم بالذُّلِّ، وقَهرِ العَدُوِّ لهم، واستيلائِه على نُفوسِهم وذراريِّهم وأموالِهم، ورَدِّه لهم عن دِينِهم، وعَجْزِهم حينئذٍ عن العمَلِ بالدِّينِ، بل وعن عمارةِ الدُّنيا، وفُتورِ همَمِهم عن الدِّينِ، بل وفسادِ عَقائِدِهم فيه. قال تعالى: وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِه فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة: 217] وتَركُ الجهادِ يُوجِبُ الهلاكَ في الدُّنيا- كما يُشاهدُه النَّاسُ- وأمَّا في الآخرةِ فلَهم عذابُ النَّارِ. وأمَّا المؤمِنُ المجاهدُ، فهو كما قال اللهُ تعالى: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِه أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ فأخبَرَ تعالى أنَّ المُؤمِنَ لا ينتَظِرُ إلَّا إحدى الحُسنَيَينِ: إمَّا النَّصرَ والظَّفَرَ، وإمَّا الشَّهادةَ والجنَّةَ، فالمؤمِنُ المجاهدُ إن حَيِيَ حَيِيَ حياةً طيِّبةً، وإن قُتِلَ فما عند الله خَيرٌ للأبرارِ [890] يُنظر: ((جامع المسائل)) لابن تيمية (5/327- 328). .
5- قال اللهُ تعالى: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ هذه الآيةُ الكريمةُ مِن أعظَمِ الآياتِ التي تجعَلُ المُسلِمَ يَشتاقُ إلى الجهادِ غايةَ الاشتياقِ؛ لأنَّك لا تجِدُ في الدُّنيا رجلًا مآلُه إلى خيرٍ عَظيمٍ على كلِّ التَّقديراتِ إلَّا المجاهدَ في سبيلِ الله؛ لأنَّه إن مات نال أمنيَّةَ الدُّنيا والآخِرةِ، ونال الفوزَ والحياةَ الأبديَّةَ، والكرامةَ التي لا نظيرَ لها، وإنْ نصَرَه اللهُ على عدُوِّه، فرجَعَ ظافِرًا غانِمًا فائِزًا؛ فهذا أيضًا حسَنٌ، وهذا لا يكونُ لأحَدٍ إلَّا للمجاهدِ في سبيلِ الله، فمن تأمَّلَ معنى هذه الآيةِ الكريمةِ اشتاقَ لا محالةَ إلى الجهادِ في سَبيلِ الله تعالى [891] يُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/564). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ الله تعالى: لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّه وَهُمْ كَارِهُونَ وُصِفَ أمرُ الله بالظُّهورِ؛ لأنَّه كان كالمَستورِ، أي: غلَبَ وعلا دينُ الله [892] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/431). .
2- وقولُه: وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّه وَهُمْ كَارِهُونَ فيه تَنْبيهٌ على أنَّهُ لا تَأثيرَ لِمَكْرِهم وكَيدِهم، ومُبالغتِهم في إِثارةِ الشَّرِّ؛ فإنَّهم مُذْ رَامُوا ذلك رَدَّه اللهُ في نَحْرِهم، وقَلَبَ مُرادَهُم، وأتَى بِضِدِّ مَقصودِهم؛ فكما كان ذَلِكَ في الماضي كذا يَكونُ في المُستقبَلِ [893] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/431). .
3- قولُهُ تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي إلى قوله: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِه أَوْ بِأَيْدِينَا استُدِلَّ به على جوازِ قَتلِ الزِّنديقِ والمُنافِقِ مِن غَيرِ استتابةٍ، وجهُ ذلك أنَّ معنى قَولِه: أَوْ بِأَيْدِينَا- أي: بالقَتلِ- إن أظهَرْتُم ما في قُلوبِكم قتَلْناكم؛ وذلك لأنَّ العَذابَ على ما يُبطِنونَه مِن النِّفاقِ بأيدينا لا يكونُ إلَّا القَتلَ لِكُفرِهم، ولو كان المنافِقُ يَجِبُ قَبولُ ما يُظهرُه من التوبةِ بعدما ظهَرَ نفاقُه وزَندقَتُه، لم يمكِنْ أن نتربَّصَ بهم أن يُصيبَهم اللهُ تعالى بعذابٍ مِن عِندِه أو بأيدينا؛ لأنَّا كُلَّما أرَدْنا أن نعَذِّبَهم على ما أظَهَروه أظهَرُوا التَّوبةَ [894] يُنظر: ((الصارم المسلول على شاتم الرسول)) لابن تيمية (ص: 345). .
4- قَولُ الله تعالى: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ هذا وعيدٌ لهم على الفِتنةِ التي ترَدَّوْا فيها، وُضِعَ فيه المُظهَرُ مَوضِعَ ضَميرِهم؛ للنَّصِّ على أنَّ عِقابَهم بإحاطةِ جَهنَّمَ بهم عقابٌ على الكُفرِ الذي حمَلَهم على ذلك الاعتذارِ، الذي هو ذنبٌ في نفِسه كان أقصى عِقابِه مسَّ النَّارِ دونَ إحاطَتِها لو لم يكُن سَبَبُه الكفرَ، بتكذيبِ الرَّسولِ فيما جاء به مِن حُكمِ الجِهادِ وثَوابِه، والعِقابِ على تَرْكِه، أو الشَّكِّ في ذلك [895] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (10/412). .
5- في قَولِه تعالى: قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا دَلالةٌ على أنَّ ما يُصيبُ العبدَ في دُنياه- ممَّا يضُرُّه أو ينفَعُه- فكلُّه مُقَدَّرٌ عليه، ولا يصيبُ العبدَ إلَّا ما كُتِبَ له مِن مقاديرِ ذلك في الكتابِ السَّابِقِ، ولو اجتهَدَ على ذلك الخلقُ كلُّهم جميعًا [896] يُنظر: ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (1/483). .
6- قَولُ الله تعالى: وَعَلَى اللَّه فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ يفيدُ الحَصرَ، وهذا كالتَّنبيه على أنَّ حالَ المُنافِقينَ بالضِّدِّ من ذلك، وأنَّهم لا يتوكَّلونَ إلَّا على الأسبابِ الدُّنيويَّةِ، واللَّذَّاتِ العاجلةِ الفانيةِ [897] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (16/67). .
 7- قال الله تعالى: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِه أَوْ بِأَيْدِينَا. ولم تُذكَرْ هاتانِ العاقِبَتانِ للمُنافقينَ بِصيغةِ الحَصرِ كعاقِبَتَي المؤمنينَ؛ لجوازِ أن يَتوبوا عن نِفاقِهم، ويَصِحَّ إيمانُهم، وقد تاب بعضُهم، واعتَرَفوا بما كانوا عليه بعد ظُهورِ أمْرِهم [898] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (10/413). .
8- في قَولِه تعالى: أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا إثباتُ تأثيرِ الأسبابِ؛ حيث بيَّن اللهُ تعالى أنَّ العذابَ قد يقَعُ بأيدي العِبادِ [899] يُنظر: ((جامع المسائل)) لابن تيمية (3/225). .

بلاغة الآيات:

1- قَولُه تعالى: لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّه وَهُمْ كَارِهُونَ في هذه الآيةِ تَحقيرٌ لشَأْنِهم؛ وذلك أنَّه أخْبَر أنَّهم لَمَّا سَعَوا على الإسلامِ، أبْطَل اللهُ سَعْيَهم [900] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (3/41). .
وجُملةُ: لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ تَعْليلٌ لقولِه: يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ؛ لأنَّها دَليلٌ على أنَّ ذلك دَيدنٌ لهم مِنْ قَبْلُ [901] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/219). .
2- قوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ
قَولُه: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي عبَّرَ عن قولِه بالفعلِ المضارعِ؛ لاستحضارِ تلك الحالِ لِغَرابَتِها، فإنَّ مِثْلَه في نفاقِه لا يخشَى على نَفْسِه إثمَ الافتتانِ بالنِّساءِ؛ إذ لا يجِدُ مِن دِينِه مانعًا مِن التمتُّعِ بهنَّ وهو يحِبُّهنَّ، بل شأنُ ذلك أن يكونَ مُرَغِّبًا له في هذه الغَزوةِ [902] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (10/412). .
قولُه: أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا في الإتيانِ بأداةِ الاسْتِفتاحِ ألَا: تَنبيهٌ على ما بَعْدَها من عَجيبِ حالِهم؛ إذْ عامَلَهم اللهُ بنَقيضِ مَقْصودِهم؛ فهم احْتَرَزوا عن فِتْنةٍ فوَقَعوا في الفِتْنةِ [903] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/221). .
والتَّعريفُ في الْفِتْنَةِ تَعْريفُ الجِنْسِ المؤذِنُ بكَمالِ المُعرَّفِ في جِنْسِه، أي: في الفِتْنةِ العَظيمةِ سَقَطوا [904] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/221). .
وقَدَّمَ الظَّرفَ: فِي الْفِتْنَةِ على عامِلِه: سَقَطُوا للدَّلالةِ على الحَصرِ، يقولُ: ألَا فلْيَعْلموا أنَّهم سَقَطوا وتَرَدَّوا بهذا القَولِ في هاويةِ الفِتنةِ بأوسَعِ مَعناها، لا في شَيءٍ آخَرَ مِن شُبُهاتِها أو مُشابهاتِها [905] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (10/412). .
قولُه: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ فيه إيثارُ الجُمْلةِ الاسْميَّةِ؛ للدَّلالةِ على الثَّباتِ والاسْتِمرارِ [906] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/72). .
في قولِه: لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ إيثارُ وضْعِ المُظْهَرِ مَوضِعَ المُضْمَرِ- حيثُ لم يَقُلْ: مُحيطةٌ بِهم-؛ للتَّسجيلِ عليهم بالكُفْرِ، والإشعارِ بأنَّهُ مُعظمُ أسبابِ الإحاطةِ المذكورةِ [907] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/72). .
3- قوله تعالى: إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ
قولُه: إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا... فيه إسنادُ المُساءةِ إلى الحَسَنةِ والمَسرَّةِ إلى أَنْفُسِهمْ، دونَ المصيبةِ بأنْ يُقالَ: (وإنْ تُصِبْكَ مُصيبةٌ تَسْرُرْهُمْ)؛ للإيذانِ باخْتِلافِ حالَيْهم حالَتَيِ عُروضِ المَساءةِ والمَسرَّةِ بأنَّهُمْ في الأُوْلى مُضطرُّونَ، وفي الثَّانيةِ مُخْتارونَ [908] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/73). .
قولُه: وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ فيه تَمْثِيلٌ لِحالِم في تَخلُّصِهم مِنَ المُصيبةِ، التي قَدْ كانتْ تَحِلُّ بهم لو خَرَجوا مع المُسْلِمينَ، بحالِ مَن أَشْرَفوا على خَطَرٍ ثُمَّ سَلِموا منه، ورَجَعوا فَرِحينَ مَسْرورينَ بسَلامتِهم، وبإصابةِ أعدائهم [909] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/222). .
قولُه: وَهُمْ فَرِحُونَ فيه إيثارُ الجُمْلةِ الاسْميَّةِ؛ للدَّلالةِ على دَوامِ السُّرورِ [910] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/73). .
4- قوله تعالى: قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّه فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ
قولُه: قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا فيه تَعدِيةُ فِعْلِ كَتَبَ باللَّامِ لَنَا؛ للإيذانِ بأنَّهُ كَتَبَ ذلك لنَفْعِهم؛ لأنَّهم يَعْلَمونَ أنَّ ما أَصابَهم ما كان إلَّا بتَقديرِ الله لِمْصلحةِ المُسلِمينَ في ذلك؛ فهو نَفْعٌ مَحْضٌ [911] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/223). . فقال: لَنَا دون (علينا)؛ تنبيهًا على أنَّ الذي يُصيبُنا، نَعُدُّه نِعمةً لا نِقمةً، كما دلَّ لذلك الآيةُ التي تليها: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ [912] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (11/514). . وهذه اللَّامُ في قولِه إلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا أيضًا مفيدةٌ مَعْنى الاخْتِصاصِ، كأنَّه قيل: لنْ يُصيبَنا إلَّا ما اخْتَصَّنا اللهُ بِه مِنَ النُّصْرةِ عليكم أو الشَّهادةِ [913] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/278). .
قولُه: وَعَلَى اللَّه فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ فيه إظهارُ الاسْمِ الجليلِ اللَّه في مَقامِ الإضمارِ؛ لإظْهارِ التَّبرُّكِ والتَّلذُّذِ بِه [914] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/73). وهذا الوَجْهُ على أنَّ جُملةَ وَعَلَى اللَّه فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ تمامِ الكلامِ المأمورِ به في قولِه: قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا...، وأمَّا على القولِ بأنَّ الجُملةَ مَسوقةٌ مِن قِبلِه تعالى أمرًا للمُؤمنينَ بالتَّوكُّلِ إثرَ أمرِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بما ذُكِرَ؛ فليس فيها هذا الوَجْهُ. .
وفي قولِه: وَعَلَى اللَّه فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ قدَّم الظَّرْفَ وَعَلَى اللَّه على الفِعْلِ فَلْيَتَوَكَّلِ؛ لإفادةِ القَصْرِ، وأَصْلُ الكلامِ في غَيرِ القُرآنِ: (ليتوكَّلِ المؤمنونَ علىِ الله) [915] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/73). .
5- قوله تعالى: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِه أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ
قولُه: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ ... الاسْتِفهامُ مُستَعمَلٌ في النَّفي بقَرينةِ الاسْتِثناءِ، ومَعْنى الكلامِ تَوبيخٌ لهم، وتَخطئةٌ لتَربُّصِهم؛ لأنَّهُمْ يَتربَّصونَ بالمُسلِمينَ أنْ يُقْتلوا، ويَغْفُلونَ عن احْتِمالِ أنْ يُنْصروا؛ فكان المَعْنى: لا تَتربَّصونَ بِنا إلَّا أنْ نُقْتَلَ أو نَغْلِبَ، وذلك إحْدى الحُسْنَيَيْنِ [916] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/224). .
وجاءتْ جُملةُ: وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ اسْميَّةً- حيثُ لَمْ يَقُلْ (ونَتَربَصُّ بِكُمْ)- بخِلافِ الجُمْلةِ الفِعليَّةِ المعطوفِ عليها هَلْ تَرَبَّصُونَ؛ لإفادةِ تَقويةِ التَّربُّصِ، وكِنايةً عن تَقويةِ حُصولِ المُتربِّصِ؛ لأنَّ تَقويةَ التَّربُّصِ تُفيدُ قوَّةَ الرَّجاءِ في حُصولِ المُتربِّصِ، فتُفيدُ قُوَّةَ حُصولِه، وهو المُكْنَى عنه [917] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/225). .
قولُه: فَتَرَبَّصُوا أَمْرٌ يتضَّمنُ التَّهديدَ والوعيدَ [918] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/433). .
وجُملةُ: إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ تَهديدٌ للمُخاطبينَ، وفُصِلَتْ هذه الجُمْلةُ عَنِ التي قَبْلَها- أي: لَمْ تُعْطَفْ عليها-؛ لأنَّها كالعِلَّةِ للحَضِّ [919] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/225). .