موسوعة التفسير

سورةُ الأنْبياءِ
الآيات (34-40)

ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ

غريب الكلمات:

مِنْ عَجَلٍ: أي: عَجُولًا، والعَجَلةُ: طَلَبُ الشَّيءِ وتَحرِّيه قبلَ أوانِه، وأصلُ (عجل): يدُلُّ على الإسراعِ [377] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 286)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/237)، ((المفردات)) للراغب (ص: 548)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 237)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 653). .
فَتَبْهَتُهُمْ: أي: تَغشاهم فجأةً، وأصلُ (بهت): يدلُّ على الدَّهَشِ والحَيرةِ [378] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/277)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/307)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 238)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 319). .

المعنى الإجمالي:

يُبيِّنُ الله تعالى أنَّ مصيرَ جميعِ البشرِ إلى الموتِ، فيَقولُ تعالى: وما جَعَلْنا لبشَرٍ مِن قَبلِك -يا محمَّدُ- دوامَ البَقاءِ في الدُّنيا، أفإنْ مِتَّ فهم يُخَلَّدونَ فيها؟! كلَّا، لا يكونُ هذا. كلُّ نَفسٍ ذائِقةُ الموتِ لا محالةَ، ونختَبِرُكم -أيُّها النَّاسُ- بالشِّدَّةِ والمِحَنِ تارةً، وبالرَّخاءِ والنِّعَمِ تارةً أخرى؛ فِتنةً لكم، ثمَّ إلينا تُرجَعونَ للحِسابِ والجَزاءِ.
ثمَّ يذكرُ الله سبحانَه جانبًا مِن سفاهاتِ الكفار تجاهَ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فيقولُ: وإذا رآك الكُفَّارُ -يا محمَّدُ- يَستَهزِئونَ بك، ويقولونَ لائمين إيَّاك؛ لكُفرِك بآلهتِهم: أهذا الذي يَسُبُّ آلهتَكم؟ وكفروا بذِكرِ الرَّحمنِ، فهم أحقُّ بالاستِنكارِ واللَّومِ!
ثمَّ بيَّن اللهُ تعالى ما جُبِل عليه الإنسانُ مِن تسرُّعٍ، فقال: خُلِق الإنسانُ عَجولًا، سأُريكم -أيُّها المُستَعجِلونَ بالعذابِ- آياتِ عَذابي وانتِقامي، فلا تَستَعجِلوا ربَّكم بالعَذابِ.
ويقولُ هؤلاء الكُفَّارُ مُستعجلينَ العَذابَ مُستَهزئينَ: متى يأتينا عَذابُ اللهِ -يا محمَّدُ- إنْ كنتَ أنت ومَنِ اتَّبَعَك مِنَ الصَّادقينَ؟
لو يَعلَمُ هؤلاء الكُفَّارُ ما يُلاقونَه مِن العَذابِ عندما لا يَستَطيعونَ أن يَدفَعوا عن وُجوهِهم وظُهورِهم النَّارَ؛ لَمَا استعجَلوا العذابَ. ولا ناصِرَ لهم يدفَعُ عنهم عَذابَ اللهِ، بل تأتيهم النَّارُ فَجأةً، فيتحيَّرونَ عند ذلك، ويخافونَ خَوفًا عظيمًا، ولا يَستطيعونَ دَفعَ النَّارِ عن أنفُسِهم، ولا يُمهَلونَ لاستدراكِ تَوبةٍ واعتذارٍ.

تفسير الآيات:

وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا استدَلَّ اللهُ تعالى بستَّةِ أنواعٍ مِن الدلائلِ [379] وهذه الأنواعُ الستةُ مِن الدلائلِ هي: النوعُ الأولُ: قولُه: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا. النَّوعُ الثَّاني: قولُه تعالى: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ. النَّوعُ الثَّالثُ: قولُه تعالى: وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ. النَّوعُ الرَّابعُ: قولُه تعالى: وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ. النَّوعُ الخامسُ: قولُه تعالى: وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آَيَاتِهَا مُعْرِضُونَ. النَّوعُ السَّادسُ: قولُه تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (22/136- 140). التي تُعَدُّ مِن أصولِ النِّعَمِ الدُّنيويَّةِ؛ أتبَعها بما نبَّه به على أنَّ هذه الدُّنيا جعَلَها كذلك، لا لتبقَى وتدومَ، أو يبقَى فيها مَن خُلِقَت الدُّنيا له، بل خلَقَها سُبحانه وتعالى للابتلاءِ والامتحانِ، ولكي يُتوصَّلَ بها إلى الآخرةِ التي هي دارُ الخُلودِ [380] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (22/142). .
وأيضًا فبعدَ أن ذكَر سبحانَه الأدلةَ على وجودِ الخالقِ الواحدِ القادرِ، بما يَرَوْن مِن الآياتِ الكونيةِ- أردَفَ ذلك ببيانِ أنَّ هذه الدُّنيا ما خُلِقت للخلودِ والدوامِ، ولا خُلِق مَن فيها للبقاءِ، بل خُلِقت للابتلاءِ والامتحانِ، ولتكونَ وسيلةً إلى الآخرةِ التي هى دارُ الخلودِ، فلا تَشْمَتوا إذا ماتَ محمدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم، فما هذا بسبيلِه وحْدَه، بل هذا سُنَّةُ اللهِ فى الخلْقِ أجمعينَ [381] يُنظر: ((تفسير المراغي)) (17/29). .
وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ.
أي: وما خلَّدْنا -يا محمَّدُ- أحدًا مِن البَشَرِ قَبْلَك في الدُّنيا؛ فنُخَلِّدَك فيها، ولا بُدَّ لك مِن أن تموتَ فيها كما مات مَن قَبْلَك [382] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/268)، ((تفسير القرطبي)) (11/287)، ((تفسير ابن كثير)) (5/341)، ((تفسير السعدي)) (ص: 523)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/145). قال القرطبي: (قوله تعالى: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أي: دوامَ البَقاءِ في الدُّنيا، نزَلت حينَ قالوا: نتربَّصُ بمحمَّدٍ رَيْبَ المَنُونِ. وذلك أنَّ المشركينَ كانوا يَدفَعونَ نبُوَّتَه، ويقولون: شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ، ولعلَّه يموتُ كما مات شاعرُ بني فلانٍ، فقال الله تعالى: قد مات الأنبياءُ مِن قَبلِك، وتولَّى اللهُ دينَه بالنصرِ والحِياطةِ، فهكذا نحفَظُ دينَك وشَرْعَك). ((تفسير القرطبي)) (11/287). .
كما قال تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر: 30] .
أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ.
أي: فهل إذا متَّ -يا محمَّدُ- سيُخَلَّدُ المُشرِكونَ في الدُّنيا مِن بَعدِك؟! كلَّا، بل سيموتونَ [383] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/268)، ((تفسير ابن كثير)) (5/342)، ((تفسير السعدي)) (ص: 523). .
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35).
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ.
أي: كلُّ نَفسٍ مخلوقةٍ لا بدَّ أن تذوقَ ألمَ مُفارَقةِ جَسَدِها [384] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/268)، ((تفسير ابن جزي)) (2/22)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/418)، ((تفسير الشوكاني)) (3/479)، ((تفسير السعدي)) (ص: 523)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/64). قال ابنُ القيمِ: (الصَّوابُ أَن يُقال: موتُ النُّفوسِ هو مفارقتُها لأجسادِها، وخروجُها منها، فإنْ أُريدَ بموتِها هذا القدْرُ فهي ذائقةُ الموتِ، وإنْ أُريدَ أنَّها تعدمُ وتضمحلُّ وتصيرُ عدمًا مَحْضًا فهى لا تموتُ بهذا الاعتبارِ، بل هي باقيةٌ بعدَ خلقِها في نعيمٍ أو في عذابٍ). ((الروح)) (ص: 34). وقال ابنُ رجب: (النَّفسُ يُرادُ بها مجموعُ الرُّوحِ والبَدَنِ، كما في قوله تعالى: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس: 7- 8] ، وقَولِه سبحانه وتعالى: فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ [النجم: 32] ، وقَولِه تعالى: وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء: 29] ... وقولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «ما مِن نَفسٍ مَنفوسةٍ اليَومَ، يأتي عليها مئةُ سَنَةٍ وهي حَيَّةٌ يومَئذٍ»... والمرادُ: مَوتُ الأحياءِ الموجودينَ في يَومِه ذلك، ومفارقةُ أرواحِهم لأبدانِهم قبل المئةِ سَنةٍ، ليس المرادُ عَدَمَ أرواحِهم واضمِحلالَها، فكذلك قَولُه سُبحانه وتعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ، إنَّما المرادُ كُلُّ مخلوقٍ فيه حياةٌ فإنَّه يذوقُ الموتَ، وتفارِقُ رُوحُه بَدَنَه، [فإن أراد مَن قال: إنَّ النَّفسَ والرُّوحَ تَموتُ، أنَّها تذوقُ ألَمَ مُفارقةِ الجَسَدِ، فهو حقٌّ]). ((أهوال القبور)) (ص: 126). وقال ابنُ عطيةَ: (وقولُه: كُلُّ نَفْسٍ عمومٌ يُرادُ به الخصوصُ، والمرادُ كلُّ نفسٍ مخلوقةٌ). ((تفسير ابن عطية)) (4/81). .
وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً.
أي: ونختَبِرُكم -أيُّها النَّاسُ- بالمصائِبِ والشِّدَّةِ تارةً، وبالرَّخاءِ والنِّعَمِ تارةً أخرى؛ فِتنةً لكم لِنَنظرَ صَبْرَكم وشُكرَكم [385] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/268)، ((تفسير القرطبي)) (11/287)، ((مجموعة الرسائل والمسائل)) لابن تيمية (5/137)، ((عدة الصابرين)) لابن القيم (ص: 151)، ((تفسير ابن كثير)) (5/342)، ((اختيار الأولى)) لابن رجب (ص: 123)، ((تفسير السعدي)) (ص: 523)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/147). .
كما قال تعالى: وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأعراف: 168].
وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ.
أي: وإلينا -أيُّها النَّاسُ- تُرَدُّونَ لا إلى غَيرِنا، فنُجازيكم بحَسَبِ أعمالِكم [386] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/269)، ((تفسير ابن كثير)) (5/342)، ((تفسير أبي السعود)) (6/66). .
كما قال تعالى: إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ [الغاشية: 25، 26].
وَإِذَا رَآَكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آَلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا كان الكُفَّارُ يَغُمُّهم ذِكرُ آلهتِهم بسُوءٍ؛ شَرَعوا في الاستهزاءِ، وتَنقيصِ مَن يَذْكُرُهم على سبيلِ المُقابَلةِ [387] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/429). .
وَإِذَا رَآَكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا.
أي: وإذا رآك -يا محمَّدُ- كفَّارُ قُرَيشٍ، يَستَهزِئونَ ويَستَخِفُّونَ بك [388] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/270)، ((تفسير ابن كثير)) (5/342)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/147). .
كما قال تعالى: وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا [الفرقان: 41].
أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آَلِهَتَكُمْ.
أي: يقولونَ إذا رأَوُا الرَّسولَ -استِنكارًا-: أهذا هو الذي يَعيبُ أصنامَكم التي تَعبُدونَها [389] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/270)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 715)، ((تفسير القرطبي)) (11/288)، ((تفسير السعدي)) (ص: 523)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/148). ؟
وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ.
أي: وهؤلاء المُستَهزِئونَ بالرَّسولِ يَكفُرونَ بذِكرِ الرَّحمنِ [390] قيل: معنى وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ: أي أنَّهم كافِرونَ باللَّهِ وما يجبُ أن يُذكَرَ به مِن الوحدانيَّةِ. وممن اختار هذا المعنى في الجملةِ: مقاتلُ بنُ سليمان، والزمخشري، والنسفي، والعُليمي، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/79)، ((تفسير الزمخشري)) (3/116)، ((تفسير النسفي)) (2/403)، ((تفسير العليمي)) (4/355)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/149). وقيل: المعنى: الذِّكرُ الذي يستَحِقُّه الرحمنُ مِن المدحِ والثناءِ مما هو أهلٌ له. وممن اختار هذا المعنى: ابنُ جرير، وابنُ تيميَّة. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/270)، ((بيان تلبيس الجهمية)) لابن تيمية (8/431). قيل: المرادُ بالذِّكرِ هنا: الذِّكرُ الواردُ مِن الرَّحمنِ، وهو: القرآنُ. وممَّن ذهب إلى ذلك: القرطبي، وأبو حيان، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (11/288)، ((تفسير أبي حيان)) (7/430)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/66). قال ابنُ عاشور: (ومعنَى كُفرِهم بِذكرِ الرحمنِ: إنكارُهم أنْ يكونَ القرآنُ آيةً دالَّةً على صِدْقِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم، فقالوا: فَلْيَأْتِنَا بِآَيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [الأنبياء: 5] . وأيضًا كُفرُهم بما جاءَ به القرآنُ مِن إثباتِ البعثِ). ((تفسير ابن عاشور))  (17/66). وقيل: معنى كُفرِهم بذِكرِ الرَّحمنِ هو أنَّهم قالوا: ما نعرِفُ الرحمنَ، فكفروا بالرحمنِ، أي: بتسميتِه بهذا الاسمِ. وممن اختار هذا القولَ: السمعانيُّ، وابنُ الجوزي، والرسعني، والشربيني. يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (3/380)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/190)، ((تفسير الرسعني)) (4/616)، ((تفسير الشربيني)) (2/504). قال الشِّنقيطي: (قال بعضُ أهلِ العِلمِ: معنى كُفرِهم بذِكرِ الرَّحمنِ: هو الموضَّحُ في قَولِه تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا [الفرقان: 60] ، وقولِهم: ما نَعرِفُ الرَّحمنَ إلَّا رحمنَ اليمامةِ، يعنون مسيلِمةَ الكَذَّابَ. وقد بيَّن ابنُ جريرٍ الطبريُّ وغيرُه أنَّ إنكارَهم لمعرفتِهم الرَّحمنَ تجاهُلٌ منهم ومُعاندةٌ، مع أنَّهم يعرفونَ أنَّ الرَّحمنَ مِن أسماءِ الله تعالى. قال: وقال بعض شعراء الجاهليَّةِ الجهلاء: ألَا ضربَت تلك الفتاةُ هجينَها ... ألا قطَعَ الرَّحمنُ رَبِّي يَمينَها). ((أضواء البيان)) (4/148). الذي يُنعِمُ عليهم [391] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/270)، ((تفسير القرطبي)) (11/288)، ((تفسير أبي حيان)) (7/430)، ((تفسير ابن كثير)) (5/342)، ((تفسير السعدي)) (ص: 523)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/66). !
خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37)  .
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا كان الكافِرونَ يَستَعجِلونَ عَذابَ اللهِ وآياتِه المُلجِئةَ إلى الإقرارِ والعِلمِ، نهاهم تعالى عن الاستِعجالِ [392] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/430). .
وأيضًا لَمَّا ذكَرَ المُستَهزِئينَ بالرَّسولِ صلواتُ الله وسلامُه عليه، وقَع في النُّفوسِ سُرعةُ الانتِقامِ منهم واستعجَلَت، فقال الله تعالى: خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ؛ لأنَّه تعالى يُملي للظَّالمِ حتى إذا أخذَه لم يُفلِتْه، يُؤجِّلُ ثمَّ يُعَجِّلُ، ويُنظِرُ ثمَّ لا يُؤخِّرُ؛ ولهذا قال: سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي أي: نَقْمي وحُكمي واقتِداري على مَن عَصاني، فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ [393]  يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/343). .
خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ.
أي: طُبِع الإنسانُ ورُكِّبَ على العَجَلةِ [394] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (11/288)، ((تفسير السعدي)) (ص: 523)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/150). وممَّن اختار هذا المعنى المذكورَ: القرطبيُّ، والبقاعي، والسعدي، وابن عاشور، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (11/288)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/420)، ((تفسير السعدي)) (ص: 523)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/68)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/150). وممن نصَّ على أنَّ المرادَ بالإنسانِ هنا: الجنسُ: ابنُ عطيةَ، والرسعني، وابنُ جزي، والعُليمي، والشوكاني، والقاسمي، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/82)، ((تفسير الرسعني)) (4/616)، ((تفسير ابن جزي)) (2/22)، ((تفسير العليمي)) (4/356)، ((تفسير الشوكاني)) (3/481)، ((تفسير القاسمي)) (7/194)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/150). وقيل: المرادُ بالإنسانِ: آدمُ، وعلى هذا القولِ فمعنى الكلامِ: أنَّه خُلِق عجولًا -ونسَبه ابنُ الجوزي للأكثرينَ- ولمَّا طُبِع آدمُ على هذا المعنى، وُجِد في أولادِه، وأوْرَثهم العَجَلَ. وقيلَ: غيرُ ذلك. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (3/191). قال الشوكاني: (خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ أي: جُعِل لِفَرطِ استِعجالِه كأنَّه مخلوقٌ مِن العَجَلِ. قال الفرَّاءُ: كأنَّه يقولُ: بِنْيتُه وخِلقتُه من العَجَلةِ وعلى العَجَلةِ. وقال الزجَّاجُ: خوطِبَت العرَبُ بما تَعقِلُ، والعَرَبُ تقولُ للذي يَكثُرُ منه الشَّيءُ: خُلِقْتَ منه! كما تقولُ: أنتَ مِن لَعِبٍ، وخُلِقْتَ مِن لَعِبٍ؛ تريدُ المُبالغةَ في وَصفِه بذلك، ويدُلُّ على هذا المعنى قَولُه تعالى: وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا [الإسراء: 11]). ((تفسير الشوكاني)) (3/481). ويُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (2/203)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (3/392). .
كما قال تعالى: وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا [الإسراء: 11].
سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ.
أي: سأُريكم -أيُّها المُستَعجِلونَ رَبَّهم بالعَذابِ- آياتِ عَذابي وانتِقامي، وحُكمي وقُدرَتي على مَن كَفَرَ بي وعصاني؛ فلا تَستَعجِلوا ربَّكم بالعذابِ [395] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/343)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/420)، ((تفسير السعدي)) (ص: 523). وممن قال بهذا المعنى المذكور في الجملةِ: ابنُ كثير، والبقاعي، والسعدي. يُنظر: المصادر السابقة. قال الرسعني: (سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي قال المفسِّرونَ: هو ما أصابَهم مِن القتلِ والأَسْرِ يومَ بدرٍ. قال ابنُ السائب: المعنى: إنَّكم تسافرونَ، فتَرَون آثارَ الهلاكِ في الماضينَ). ((تفسير الرسعني)) (4/618). !
كما قال تعالى: أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ [الصافات: 176] .
وقال سُبحانَه: فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ [الذاريات: 59].
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38).
أي: ويقولُ هؤلاء المُستَعجِلونَ رَبَّهم بالآياتِ والعَذابِ لمحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم وللمُؤمِنينَ به: متى يأتينا عَذابُ اللهِ إنْ كُنتُم صادقينَ فيما تَعِدونَنا به منَ العذابِ [396] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/276)، ((تفسير ابن كثير)) (5/343)، ((تفسير السعدي)) (ص: 523). ؟
لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39).
أي: لو يتيقَّنُ الكُفَّارُ المُستَعجِلونَ العَذابَ ماذا لهم من البَلاءِ حين تَلفحُ وجوهَهم النَّارُ، فلا يَستَطيعونَ في ذلك الوَقتِ أن يَكُفُّوا بأنفُسِهم النَّارَ عن وُجوهِهم ولا عن ظُهورِهم، ولا يَجِدونَ لهم ناصِرًا ينصُرُهم، ويُنجِيهم مِن عَذابِ اللهِ؛ لَما استعجَلوا العذابَ، ولَتابوا وآمَنوا باللهِ [397] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/276)، ((تفسير القرطبي)) (11/290)، ((تفسير ابن كثير)) (5/343)، ((تفسير السعدي)) (ص: 523)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/151، 152). وقال الشنقيطي: (معنى الآية الكريمة: لو يعلَمُ الكُفَّارُ الوَقتَ الذي يَسألَونَ عنه بقَولِهم: متى هذا الوعدُ؟ وهو وَقتٌ صعبٌ شَديدٌ، تحيطُ بهم فيه النَّارُ مِن وراءَ وقُدَّامَ، فلا يَقدِرونَ على مَنْعِها ودَفْعِها عن أنفُسِهم، ولا يَجِدونَ ناصِرًا ينصُرُهم؛ لَما كانوا بتلك الصِّفةِ مِن الكفر والاستِهزاءِ والاستِعجالِ، ولكِنَّ جَهْلَهم بذلك هو الذي هوَّنَه عليهم). ((أضواء البيان)) (4/151). وقيل: الضَّميرُ في يَكُفُّونَ عائدٌ إلى ملائكةِ العَذابِ، ومعنى الكَفِّ على هذا الوجهِ: الإمساكُ، أي: حين لا يُمسِكُ الملائكةُ اللَّفْحَ بالنَّارِ عن وجوهِ المُشرِكينَ، وتكونُ هذه الآيةُ في معنى قَولِه تعالى في سورة [الأنفال: 50] : وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ؛ فإنَّ ذلك ضَربٌ بسياطٍ مِن نارٍ، ويكونُ ما هنا إنذارًا بما سيَلقَونَه يومَ بَدرٍ، كما أنَّ آيةَ الأنفالِ حِكايةٌ لِما لَقُوه يومَ بدرٍ. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/70). قال الشوكاني: (وجوابُ «لَوْ» محذوفٌ، والتَّقديرُ: لو عَلِموا الوقتَ الذي لا يَكُفُّونَ عن وجوهِهم النَّارَ ولا عن ظُهورِهم ولا هم يُنصَرونَ، لَما استَعجَلوا الوعيدَ. وقال الزَّجَّاجُ في تقديرِ الجوابِ: لعَلِموا صِدقَ الوَعدِ. وقيل: لو عَلِموه ما أقاموا على الكُفرِ. وقال الكِسائي: هو تنبيهٌ على تحقيقِ وقوعِ السَّاعةِ، أي: لو عَلِموه عِلمَ يقينٍ لعَلِموا أنَّ السَّاعةَ آتيةٌ، ويدُلُّ عليه قَولُه تعالى: بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً). ((تفسير الشوكاني)) (3/482). ويُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (3/392). .
كما قال تعالى: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ [الأعراف: 41] .
وقال سُبحانَه: سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ [إبراهيم: 50] .
وقال عزَّ وجَلَّ: إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا [الكهف: 29] .
وقال تبارك وتعالى: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [الزمر: 16] .
بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى شِدَّةَ هذا العذابِ؛ بيَّنَ أنَّ وَقتَ مَجيئِه غيرُ مَعلومٍ لهم [398] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (22/146). ، فقال:
بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ.
أي: بل تأتيهم النَّارُ فجأةً، فتصيبُهم بالذُّعْرِ والخوفِ والحيرةِ فلا يَدرونَ ما يصنعونَ [399] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/276، 277)، ((تفسير ابن كثير)) (5/343)، ((تفسير السعدي)) (ص: 524). ممن اختار أنَّ المرادَ بقولِه: بَلْ تَأْتِيهِمْ أي: النارُ: ابنُ جرير، وابنُ كثيرٍ، والسعدي. يُنظر المصادر السابقة. وقيل: المرادُ: الساعةُ. وممن اختاره: مقاتلُ بنُ سليمان، والسمرقندي، والسمعاني، والبغوي، وابنُ عطية. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/80)، ((تفسير السمرقندي)) (2/426)، ((تفسير السمعاني)) (3/381)، ((تفسير البغوي)) (3/289)، ((تفسير ابن عطية)) (4/83). !
كما قال تعالى: لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ * فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [الشعراء: 201- 202] .
فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ.
أي: فلا يَستَطيعونَ دَفْعَ النَّارِ عن أنفُسِهم حين تبغَتُهم، ولا هم يُمهَلونَ فيُؤخَّرُ عنهم العَذابُ لِيَتوبُوا [400] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/277)، ((تفسير القرطبي)) (11/290)، ((تفسير السعدي)) (ص: 523). .

الفوائد التربوية:

1- قَولُه تعالى: أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ يُفهَمُ منه أنَّه لا ينبغي للإنسانِ أن يَفرحَ بمَوتِ أحَدٍ؛ لأجلِ أمرٍ دُنيويٍّ يَنالُه بسَبَبِ مَوتِه؛ لأنَّه هو ليس مخلَّدًا بَعدَه، وفي معناه قولُ القائلِ:
تمنَّى رجالٌ أنْ أموتَ وإنْ أمُتْ                   فتلك سبيلٌ لستُ فيها بأوحَدِ
فقُلْ لِلَّذي يبغي خِلافَ الَّذي مضَى             تَهيَّأْ لأخرَى مِثْلِها فكأنْ قَدِ [401] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/146). والبيت الأول في ((ديوان الشافعي)) (68)، ونُسِب البيتانِ للشافعيِّ، ونُسِبا لغيرِه أيضًا معَ بعضِ الاختلافاتِ. يُنظر: ((عيون الأخبار)) لابن قتيبة (3/ 131)، ((البصائر والذخائر)) للتوحيدي (8/64)، ((بغية الطلب)) لابن العديم (4/ 1626)، ((حياة الحيوان)) للدميري (1/46).
2- ممَّا يُعينُ على الزُّهدِ أن يتأمَّلَ الإنسانُ في هذه الحياةِ الدُّنيا، وأنَّها دارُ مَمَرٍّ، وليست دارَ مَقَرٍّ، وأنَّها لم تَبْقَ لأحدٍ مِن قَبْلِك، وما لم يَبقَ لأحدٍ مِن قبلِك لن يبقَى لك؛ قال الله تعالى: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ يعني: لن يخَلَّدَ أحدٌ في هذه الدُّنيا، وكذلك يعلَمُ أنَّ هذه الدنيا دارُ تَنغيصٍ وكَدَرٍ، فما سُرَّ بها الإنسانُ يومًا إلَّا ساءَه الأمرُ في اليومِ الثَّاني، فإذا عَلِمَ حَقيقةَ الدُّنيا فإنَّه بعَقلِه وإيمانِه سوف يزهَدُ بها، ولا يُؤْثِرُها على الآخرةِ؛ قال الله تعالى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى [402] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) لابن عثيمين (12/782). [الأعلى: 16- 19] .
3- قال الله تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ الابتِلاءُ لا يتحَقَّقُ إلَّا معَ التَّكليفِ؛ فالآيةُ دالَّةٌ على حُصولِ التَّكليفِ، وتدُلُّ على أنَّه سُبحانَه وتعالى لم يقتَصِرْ بالمكَلَّفِ على ما أمَرَ ونهَى، وإن كان فيه صعوبةٌ، بل ابتلاه بأمرينِ: أحدُهما: ما سمَّاه خَيرًا، وهو نِعَمُ الدُّنيا مِن الصِّحَّةِ واللَّذَّةِ، والسُّرورِ والتَّمكينِ مِن المراداتِ. والثَّاني: ما سمَّاه شَرًّا، وهو المضارُّ الدُّنيويَّةُ مِن الفَقرِ والآلامِ، وسائِرِ الشَّدائِدِ النَّازلةِ بالمُكَلَّفينَ، فبَيَّنَ تعالى أنَّ العَبدَ مع التَّكليفِ يتَرَدَّدُ بينَ هاتينِ الحالَتينِ؛ لكي يَشكُرَ على المِنَحِ، ويَصبِرَ في المِحَن، فيَعظُمَ ثَوابُه إذا قام بما يَلزَمُ [403] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (22/143). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ الله تعالى: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ اسْتُدِلَّ به على أنَّ الخَضِرَ عليه السَّلامُ مات، وليسَ بحيٍّ إلى الآن؛ لأنَّه بشرٌ، سواءٌ كان وليًّا، أو نبيًّا، أو رسولًا [404] يُنظر: (( تفسير ابن كثير)) (5/341). .
2- قال الله تعالى: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ في الآيةِ إيماءٌ إلى أنَّ الذين لم يُقَدِّرِ اللهُ لهم الإسلامَ مِمَّن قالوا ذلك القَولَ، سيَموتونَ قَبلَ مَوتِ النبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، فلا يَشمَتونَ به؛ فإنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يَمُتْ حتى أهلَكَ اللهُ رُؤوسَ الذين عانَدوه، وهدَى بقِيَّتَهم إلى الإسلامِ [405] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/63). .
3- قَولُ القائِلِ: «أدامَ اللهُ أيَّامَك» هو مِن الاعتداء في الدُّعاءِ؛ لأنَّ دوامَ الأيَّام مُحالٌ، مُنافٍ لِقَولِ الله تعالى: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ، وقَولِه: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [406] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (3/69). [الرحمن: 26- 27].
4- في قَولِه تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ عُبِّرَ بقولِه: ذَائِقَةُ؛ لأنَّ الموتَ له مَذاقٌ مُرٌّ يكرَهُه كلُّ إنسانٍ [407] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (3/438). .
5- قَولُ الله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ فيه إيماءٌ إلى أنَّ المقصودَ مِن هذه الحياةِ الدُّنيا الابتلاءُ، والتَّعريضُ للثَّوابِ والعِقابِ [408] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/66). .
6- قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ فقولُه: وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ فيه إثْباتٌ للبعْثِ، فجمَعَتْ هذه الآيةُ الموتَ والحياةَ والنَّشرَ [409] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/65). .
7- أصلُ الفِتنةِ: الابتِلاءُ والامتِحانُ والاختِبارُ، ويكونُ تارةً بما يسوءُ، وتارةً بما يَسُرُّ، كما قال تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [410] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن رجب (3/34). .
8- اللهُ سُبحانه وتعالى كما هو خالِقُ الخَلقِ؛ فهو خالِقُ ما به غِناهم وفَقْرُهم، فخلَقَ الغِنى والفَقرَ لِيَبتليَ بهما عبادَه أيُّهم أحسَنُ عَمَلًا، وجعَلَهما سَبَبًا للطَّاعةِ والمعصيةِ، والثوابِ والعِقابِ؛ قال تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ، فأخبَر سبحانَه أنَّ الغِنَى والفقرَ مَطِيَّتا الابتلاءِ والامتحانِ [411] يُنظر: ((عدة الصابرين)) لابن القيم (ص: 160). .
9- قَولُ الله تعالى: وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ في ذِكرِ اسمِه (الرَّحمنِ) هنا بيانٌ لِقَباحةِ حالِ الكافرينَ، وأنَّهم كيف قابَلوا الرَّحمنَ مُسدِيَ النِّعَمِ كُلِّها، ودافِعَ النِّقَمِ، الذي ما بالعبادِ مِن نِعمةٍ إلَّا منه، ولا يَدفَعُ السُّوءَ إلَّا هو- بالكُفرِ والشِّركِ [412] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 523). ؟!
10- إذا كان في المخلوقِ خُلُقٌ كبيرٌ مِن شَيءٍ مُعَيَّنٍ نُسِبَ إليه؛ لهذا قال تعالى: خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ مع أنَّه خُلِقَ مِن تُرابٍ، لكِنْ لَمَّا كانت طبيعتُه العَجَلةَ، صار كأنَّه ناشئٌ منها، كأنَّها عُنصرُ وُجودِه [413] يُنظر: ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (2/142). !
11- قَولُ الله تعالى: خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ فيه سؤالٌ: القَومُ استَعجَلوا الوعيدَ على وَجهِ التَّكذيبِ، ومَن هذا حالُه لا يكونُ مُستَعجِلًا على الحقيقةِ! الجوابُ: أنَّ استِعجالَهم على هذا الوَجهِ أدخَلُ في الذَّمِّ؛ لأنَّه إذا ذُمَّ المرءُ على استِعجالِ الأمرِ المعلومِ، فبِأنْ يُذَمَّ على استِعجالِ ما لا يكونُ مَعلومًا له، كان أَولى، وأيضًا فإنَّ استِعجالَهم بما توعَّدَهم مِن عِقابِ الآخرةِ أو هَلاكِ الدُّنيا يتضَمَّنُ استِعجالَ الموتِ، وهم عالِمونَ بذلك، فكانوا مُستَعجِلينَ في الحقيقةِ [414] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (22/145). .
12- لا إشكالَ في قَولِه تعالى: خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ مع قَولِه تعالى: فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ، فلا يُقالُ: كيف يقولُ: إنَّ الإنسانَ خُلِق من العَجَلِ، وجُبِلَ عليه، ثمَّ ينهاه عمَّا خُلِقَ منه وجُبِلَ عليه؛ لأنَّه تكليفٌ بمُحالٍ؟! لأنَّا نقولُ: نعم، هو جُبِل على العَجَلِ، ولكِنْ في استطاعتِه أن يُلزِمَ نَفسَه بالتَّأنِّي، كما أنَّه جُبِل على حُبِّ الشَّهواتِ مع أنَّه في استطاعتِه أن يُلزِمَ نَفسَه بالكَفِّ عنها، كما قال تعالى: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [415]  يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي(4/152). [النازعات:40، 41].
13- قَولُ الله تعالى: بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً لم يُعلِمِ المكَلَّفينَ وقتَ الموتِ والقيامةِ؛ لِما فيه مِن المصلحةِ؛ لأنَّ المرءَ مع كِتمانِ ذلك أشَدُّ حَذرًا، وأقرَبُ إلى التَّلافي [416] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (22/146). .
14- قولُه تعالى: وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ فيه تَنبيهٌ لهم إلى أنَّهم أُنْظِروا زمَنًا طويلًا لعلَّهم يُقلِعون عن ضَلالِهم [417] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/118)، ((تفسير البيضاوي)) (4/52)، ((تفسير أبي السعود)) (6/68)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/72). .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ
- في قولِه: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ طَريقةُ القولِ بالمُوجَبِ [418] القولُ بالموجَبِ في اصطلاحِ الأصوليين: هو تسليمُ ما جعَله المستدلُّ موجِبًا لعِلَّته مع استبقاءِ الخِلافِ، ومعنى ذلك: أن يسلِّمَ الخصمُ الدليلَ الذى استدلَّ به المستدلُّ، إلَّا أنَّه يقولُ: هذا الدليلُ ليس فى محلِّ النزاعِ، إنَّما هو في غيرِه؛ فيبقَى الخلافُ بينهما، ومنه قولُه تعالى: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ [المنافقون: 8] ؛ فإنَّ الله سلَّم لهم أنَّ الأعزَّ قادرٌ على إخراجِ الأعزِّ، ولكن صرَّح بأنَّ ذلك لا ينفعُهم؛ لأنَّهم الأذل. يُنظر: ((تشنيف المسامع بجمع الجوامع)) للزركشي (4/361)، (( البحر المحيط)) للزركشي (5/297)، ((غايه الوصول شرح لب الأصول)) لزكريا الأنصاري (ص: 131)، ((المنهاج)) للباجي (ص: ١٧٣)، ((شرح مراقي السعود)) للشنقيطي (2/535). وقال بهاء الدين السبكي: ( مِن البديعِ المعنوي ما يسمَّى القولَ بالموجبِ، وهو قريبٌ مِن القولِ بالموجبِ المذكورِ فى الأصولِ والجدلِ، وهو تسليمُ الدليلِ مع بقاءِ النِّزاعِ). ((عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح)) (2/278). ، أي: إنَّك تَموتُ كما قالوا، ولكنَّهم لا يرَونَ ذلك وهم بحالِ مَن يَزْعمون أنَّهم مُخلَّدون، فأَيْقنوا بأنَّهم يتربَّصونَ بك رَيْبَ المَنونِ من فرَطِ غُرورِهم؛ فالتَّفريعُ بقولِه: أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ كان على ما في الجُملةِ الأُولى من القولِ بالمُوجَبِ، أي: ما هم بخالدينَ حتَّى يُوقِنوا أنَّهم يرَونَ موتَك. وفي الإنكارِ الَّذي هو في مَعنى النَّفيِ: إنذارٌ لهم بأنَّهم لا يَرى موتَه منهم أحدٌ. والاستفهامُ في قولِه: أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ استفهامٌ إنكاريٌّ؛ لمَّا كان تَمنِّيهم موتَه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وتربُّصُهم به رَيْبَ المَنونِ يَقْتضي أنَّ الَّذين تَمنَّوا ذلك وتربَّصوا به كأنَّهم واثِقونَ بأنَّهم يَموتونَ بعْدَه، فتَتِمُّ شَماتَتُهم، أو كأنَّهم لا يَموتونَ أبدًا، فلا يَشمَتْ بهم أحدٌ؛ وُجِّهَ إليهم استفهامُ الإنكارِ على طَريقةِ التَّعريضِ بتَنزيلِهم مَنزِلةَ مَن يزعُمُ أنَّهم خالِدونَ، والمرادُ إنكارُ شَماتَتِهم بمَوتِه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ فإنَّ الشَّماتةَ بما يَعْتريه أيضًا ممَّا لا يَنْبغي أنْ تَصدُرَ عن العاقلِ، كأنَّه قيل: أفإِنْ مِتَّ فهم الخالِدونَ حتَّى يَشْمتوا بمَوتِك [419] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/51)، ((تفسير أبي السعود)) (6/66)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/62، 63). ؟!

- قولُه: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ تَذييلٌ؛ فإنَّ معنى الآيةِ مُستوفًى في الإخبارِ بأنَّه سُبحانه لم يَجعَلْ لبَشرٍ قبْلَ نَبيِّه الخُلْدَ، ثمَّ ذيَّلَ ذلك الإخبارَ بما أخرَجَه مُخْرَجَ تَجاهُلِ العارفِ [420] تَجاهُل العارِف: له عِدَّةُ تعريفاتٍ، وتَرجِعُ كلُّها إلى: سَوْق المعلومِ مَساقَ غيرِه لنُكتةٍ؛ فمِن تعريفاتِه أنَّه: سؤالُ المتكلِّم عمَّا يَعلمُه حقيقةً تجاهلًا؛ لنُكتةٍ بلاغيَّة. ومنها أنَّه: إخراجُ ما يَعرِفُ صِحَّتَه مَخرجَ ما يَشُكُّ فيه؛ ليَزيدَ بذلك تأكيدًا. وقيل: هو إخراجُ الكلامِ مخرجَ الشكِّ في اللفظِ دون الحقيقةِ؛ لضربٍ مِن المسامحةِ وحسْم العنادِ.  يُنظر: ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (3/409)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/94)، ((مفاتيح التفسير)) للخطيب (1/242، 243). ، وهو قولُه: أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ، ثمَّ ذيَّلَ هذا التَّذييلَ بما أخرَجه مُخْرَجَ المثَلِ السَّائرِ، حيث قال: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [421] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (6/311). .
2- قولُه تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ استئنافٌ مَسوقٌ للتَّدليلِ على عدَمِ الخُلودِ [422] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (6/308). ؛ فمَضمونُ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ مُؤكِّدٌ لمَضمونِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ، ووجْهُ إعادتِها اختلافُ القصْدِ؛ فإنَّ الأُولى للرَّدِّ على المُشرِكينَ، وهذه لتَعليمِ المُؤمِنين [423] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/66). .
- قولُه: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً الخِطابُ إمَّا للنَّاسِ كافَّةً بطَريقِ التَّلوينِ، أو للكَفرةِ بطَريقِ الالْتِفاتِ [424] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/66). .
- وتَقديمُ المَجْرورِ في بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ؛ للرِّعايةِ على الفاصلةِ، وإفادةِ تَقوِّي الخبَرِ، وليست للقصْرِ [425] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/66)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/65). . وقَدَّم الشَّرَّ؛ لأنَّ الابتلاءَ به أكثرُ، ولأنَّ العربَ تُقدِّمُ الأقلَّ والأردأَ [426] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/428). .
3- قولُه تعالى: وَإِذَا رَآَكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آَلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ استئنافٌ مَسوقٌ لتَقريرِ مَوقفِهم من النَّبيِّ محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ [427] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (6/308). .
- والقصْرُ المُستفادُ من قولِه: إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا هو قَصْرُ مُعامَلتِهم معه عليه السَّلامُ على اتِّخاذِهم إيَّاهُ هُزوًا، لا على معنى قَصْرِ اتِّخاذِهم على كونِه هُزوًا؛ كأنَّه قيل: ما يَفْعلون بك إلَّا اتِّخاذَك هُزوًا [428] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/66). .
- وفيه إخبارٌ بالمصدرِ هُزُوًا؛ للمُبالَغةِ، أو هو مَصدرٌ بمعنى المفعولِ [429] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/65، 66). .
- وفيه مُناسبةٌ حَسَنةٌ؛ حيث قال هنا: وَإِذَا رَآَكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا، وقال في سُورةِ (الفُرقانِ): وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا [الفرقان: 41] ، فأظهَرَ الفاعِلينَ في: رَآَكَ الَّذِينَ كَفَرُوا، وأضْمَرَهم في سُورةِ (الفُرقانِ)؛ ووجْهُه: أَنَّ آيةَ سورةِ (الأنبياءِ) ليس فى الآيةِ التى تقدَّمَتْها ذِكرُ الكفَّارِ؛ فصرَّح باسمِهم، وأما فى سورةِ (الفرقان) فقد سَبَق ذكرُ الكفَّار، فخُصَّ الإِظهارُ بآيةِ سورةِ (الأنبياءِ)، والكنايةُ يآيةِ سورةِ (الفرقان) [430] يُنظر: ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (1/320). ويُنظر أيضًا: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (ص: 901، 902)، ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 178)، (ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (2/346، 347). .
- ومِن المُناسَبةِ أيضًا قولُه: أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آَلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ، وفي سُورةِ (الفرقانِ): أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا * إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آَلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا [الفرقان: 41- 42] ، فاختلَفَ التَّعقيبُ في الآيتينِ؛ ووجْهُه: أنَّه لمَّا تقدَّمَ في سُورةِ (الأنبياءِ) قولُه تعالى: أَمِ اتَّخَذُوا آَلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ [الأنبياء: 21] ، وقولُه: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء: 22] ، وقولُه: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً [الأنبياء: 24] ؛ فتكرَّرَ ذِكْرُ مُرتكَبِهم في اتِّخاذِهم مَعبوداتٍ لا تُغْني عنهم، ناسَبَهُ قولُهم: أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آَلِهَتَكُمْ  [الأنبياء: 36] . أمَّا آيةُ (الفُرْقانِ) فقد تقدَّمَها قولُه: مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ [الفرقان: 7] ، فأنْكَروا كونَ الرَّسولِ منَ البشَرِ؛ فجَرى مع ذلك وناسَبَهُ قولُهم: أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا [الفرقان: 41] ؛ تَعجُّبًا واستبعادًا أنْ يكونَ الرُّسلُ منَ البشَرِ، وقد رَدَّ ذلك عليهم بقولِه: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ [الفرقان: 20] ؛ فوضَحَ التَّناسُبُ فيها [431] يُنظر: ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (2/347). .
- قولُه: أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آَلِهَتَكُمْ استفهامٌ فيه إنْكارٌ وتعجيبٌ [432] قال الشنقيطي بعد أن ذكَر القولَ بأنَّ الاستفهامَ للإنكارِ والتعجيبِ: (والذي يظهرُ لي أنهم يريدون بالاستفهامِ المذكورِ التحقيرَ بالنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، كما تدلُّ عليه قرينةُ قولِه: إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا. وقد تقرَّر في فنِّ المعاني أنَّ مِن الأغراضِ التي تؤدَّى بالاستفهامِ التحقيرَ). ((أضواء البيان)) (4/148). ، واسمُ الإشارةِ (هذا) مُسْتعمَلٌ في التَّحقيرِ بقَرينةِ الاستهزاءِ [433] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/430)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/66). .
- وأيضًا قولُه: أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آَلِهَتَكُمْ جُملةٌ مُبيِّنةٌ لجُملةِ: إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا؛ فهي في معنى قَولٍ مَحذوفٍ دَلَّ عليه إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا؛ لأنَّ الاستهزاءَ يكونُ بالكلامِ [434] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/66). .
- وضَميرُ الفصْلِ في قولِه: هُمْ كَافِرُونَ يجوزُ أنْ يُفيدَ الحصْرَ، أي: هم كافِرونَ بالقُرآنِ دونَ غَيرِهم ممَّن أسلَمَ مِن أهْلِ مكَّةَ وغَيرِهم منَ العرَبِ؛ لإفادةِ أنَّ هؤلاء باقونَ على كُفْرِهم مع توفُّرِ الآياتِ والنُّذُرِ. ويجوزُ أنْ يكونَ الفصْلُ لمُجرَّدِ التَّأكيدِ؛ تَحقيقًا لدَوامِ كُفْرِهم مع ظُهورِ ما شأْنُه أنْ يُقلِعَهم عن الكُفْرِ [435] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/51)، ((تفسير أبي حيان)) (7/430)، ((تفسير أبي السعود)) (6/66)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/67). .
- وفي تَكريرِ (هم) وتَقديمُ الجارِّ والمجرورِ -بِذِكْرِ- على عامِلِه: شأْنٌ في الإنكارِ، وتَوبيخٌ عظيمٌ [436] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (10/345). .
- وفيه إيجازٌ بالحذْفِ، وذلك في حِذْفِ مَفعولِ يَذْكُرُ، والذِّكْرُ يكونُ بالخيرِ والشَّرِّ؛ فإذا دلَّتِ الحالُ على أحَدِهما، أُطْلِقَ ولم يُقيَّدْ، كقولِك للرَّجلِ: سمِعْتُ فُلانًا يذكُرُك؛ فإنْ كان الذَّاكِرُ صَديقًا فهو ثَناءٌ، وإنْ كان عدُوًّا فذَمٌّ. ومِن جِهَةٍ ثانيةٍ لم يَقُولوا: أهذا الَّذي يَذكُرُ آلِهَتَكم بكلِّ سُوءٍ؛ لأنَّهم استَفْظعوا حِكايةَ ما يقولُه النَّبيُّ مِن القدْحِ في آلِهَتِهم، رمْيًا بأنَّها لا تَسمَعُ ولا تُبْصِرُ، ولا تَنفَعُ ولا تضُرُّ، وحاشَوْها مِن نَقْلِ ذَمِّها تَفصيلًا وتَصريحًا، فنَقَلوه إجْمالًا وتلْميحًا، بلْ أوْمَؤوا إليه بالإشارةِ المذكورةِ، فسُبحانَ مَن أضَلَّهم حتَّى تأدَّبُوا مع الأوثانِ، وأساؤوا الأدَبَ على الرَّحمنِ [437] يُنظر: ((تفسير الزمخشري - مع حاشية ابن المنير)) (3/116)، ((تفسير البيضاوي)) (4/51)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (10/345)، ((تفسير أبي حيان)) (7/430)، ((تفسير أبي السعود)) (6/66)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/66)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (6/312). !
4- قولُه تعالى: خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ قدَّمَ أوَّلًا ذَمَّ الإنسانَ على إفراطِ العَجلةِ وأنَّه مَطبوعٌ عليها، ثمَّ نهاهُم وزجَرَهم، كأنَّه قال: ليس ببِدْعٍ ولا يَبعُدُ منكم أنْ تَستعجِلوا؛ فإنَّكم مَجْبولون على ذلك، وهو طبْعُكم وسَجِيَّتُكم [438] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/117)، ((تفسير أبي حيان)) (7/430). .
- قولُه: خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ يُرادُ بالإنسانِ هنا اسْمُ الجنْسِ؛ جُعِلَ لفَرْطِ استعجالِه وقِلَّةِ صَبْرِه كأنَّه مَخلوقٌ منه؛ تَنزيلًا لِما طُبِعَ عليه من الأخلاقِ مَنزِلةَ ما طُبِعَ منه من الأركانِ؛ إيذانًا بغايةِ لُزومِه له وعدَمِ انفكاكِه عنه [439] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/117)، ((تفسير البيضاوي)) (4/51)، ((تفسير أبي حيان)) (7/430)، ((تفسير أبي السعود)) (6/67). ، وكأنَّه سبحانه نبَّه بهذا على أنَّ تركَ الاستعجالِ حالةٌ شريفةٌ عاليةٌ مرغوبٌ فيها؛ لأنَّ العائقَ كلَّما كان أشدَّ، كانت القدرةُ على مخالفتِه أكملَ [440] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (22/144). .
- وجُملةُ: خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ مُعترِضةٌ بين جُملةِ وَإِذَا رَآَكَ الَّذِينَ كَفَرُوا وبين جُملةِ سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي، جُعِلَتْ مُقدِّمةً لجُملةِ سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي [441] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/67). ، وهي مُستأنَفةٌ مَسوقةٌ للرَّدِّ على استعجالِهم العذابَ [442] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (6/309). .
- قولُه: سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي مُعترِضةٌ بينَ جُملةِ وَإِذَا رَآَكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا [الأنبياء: 36] وبين جُملةِ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ [الأنبياء: 38] ؛ لأنَّ قولَه تعالى: وَإِذَا رَآَكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا [الأنبياء: 36] يُثِيرُ في نُفوسِ المُسلِمينَ تَساؤُلًا عن مَدى إمهالِ المُشرِكينَ، فكان قولُه تعالى: سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ استئنافًا بَيانيًّا جاء مُعترِضًا بينَ الجُمَلِ الَّتي تَحْكي أقوالَ المُشرِكينَ وما تفرَّعَ عليها [443] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/67)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (6/309). .
- قولُه: سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي فيه تَلْوينٌ للخِطابِ وصَرْفٌ له عن رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى المُستعجِلينَ بطَريقِ التَّهديدِ والوعيدِ [444] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/67). .
- قولُه: فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ تفريعٌ على قوله: سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي؛ فتَفرَّع على هذا الوعدِ نهيٌ عن طَلبِ التعجيلِ [445] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/68). .
5- قولُه تعالى: وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ الواوُ استئنافيَّةٌ، والجُملةُ مُستأْنفةٌ مَسوقةٌ لإيرادِ نمَطٍ مِن استعجالِهم المذمومِ [446] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (6/309). .
- والاستفهامُ في قولِه: مَتَى هَذَا الْوَعْدُ قالوهُ استِعجالًا لمَجيئِه بطَريقِ الاستهزاءِ والإنكارِ، واستبطاءً منهم للموعودِ [447] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/431)، ((تفسير أبي السعود)) (6/67)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/69). .
- وفي قولِه: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ حُذِفَ جَوابُ الشَّرطِ؛ ثِقَةً بدَلالةِ ما قبلَه عليه؛ كأنَّه قِيلَ: فلْيأتِنا بسُرعةٍ إنْ كنتُمْ صادِقينَ [448] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/67). .
6- قوله تعالى: لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ
- قولُه: لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا استئنافٌ مَسوقٌ لبَيانِ شِدَّةِ هَوْلِ ما يَستعجِلونَه، وفَظاعةِ ما فيه من العذابِ. وإيثارُ صِيغَةِ المُضارِعِ في الشَّرطِ -وإنْ كان المعنى على المُضِيِّ- لإفادةِ استمرارِ عدَمِ العِلْمِ. ووضْعُ الموصولِ مَوضِعَ الضَّميرِ؛ للتَّنبيهِ بما في حَيِّزِ الصِّلةِ على عِلَّةِ استعجالِهم [449] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/67). .
- وحُذِفَ جوابُ (لو) في لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا، ونُكتَتُه: تَهويلُ جِنْسِه، فتَذهَبُ نَفْسُ السَّامِعِ كلَّ مَذْهَبٍ [450] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/431)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/70). .
- وضَميرُ يَكُفُّونَ قيل: إذا كان عائِدًا إلى الملائكةِ، أي: حين لا يُمسِكُ الملائكةُ اللَّفحَ بالنَّارِ عن وُجوهِ المُشرِكينَ، فذِكْرُ الوُجوهِ والأدبارِ للتَّنكيلِ بهم وتَخويفِهم؛ لأنَّ الوُجوهَ أعَزُّ الأعضاءِ على النَّاسِ، ولأنَّ الأدبارَ يأْنَفُ النَّاسُ مِن ضَرْبِها؛ لأنَّ ضربَها إهانةٌ وخِزْيٌ. وإذا كان الضَّميرُ عائدًا إلى الَّذين كَفَروا، أي: حين لا يَستطيعونَ أنْ يدفَعوا النَّارَ عن وُجوهِهم بأيديهم ولا عن ظُهورِهم. فذِكْرُ الظُّهورِ بعْدَ ذِكْرِ الوُجوهِ على هذا الاحتمالِ احتراسٌ لدَفْعِ تَوهُّمِ أنَّهم قد يَكفُّونَها عنْ ظُهورِهم إنْ لم تَشتغِلْ أيديهم بكَفِّها عن وُجوهِهم [451] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/70، 71). .
- وفي قولِه: عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ خَصَّ الوجوهَ والظُّهورَ بالذِّكرِ بمعنى القُدَّامِ والخلْفِ؛ لكونِهما أشهَرَ الجوانبِ، واستلزامِ الإحاطةِ بهما الإحاطةَ بالكلِّ، بحيث لا يَقدِرون على دَفْعِها بأنفُسِهم من جانبٍ من جَوانبِهم [452] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/432)، ((تفسير أبي السعود)) (6/68). . وقيل: لأنَّ مسَّ العذابِ لهما أعظمُ موقعًا، ولكثرةِ ما يُستعملُ ذكرُهما في دفعِ المضرةِ عن النفْسِ [453] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (22/146). .
- قولُه: حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ مفعولُ يَعْلَمُ، وهو عبارةٌ عن الوقْتِ الموعودِ الَّذي كانوا يَستعجِلونَه، وإضافتُه إلى الجُملةِ الجاريةِ مَجرى الصِّفةِ الَّتي حَقُّها أنْ تكونَ مَعلومةَ الانتسابِ إلى الموصوفِ عندَ المُخاطَبِ أيضًا مع إنكارِ الكَفرةِ لذلك؛ للإيذانِ بأنَّه مِنَ الظُّهورِ بحيثُ لا حاجةَ له إلى الإخبارِ به، وإنَّما حَقُّه الانتظامُ في سِلْكِ المُسلَّماتِ المفروغِ عنها. ويجوزُ أنْ يكونَ يَعْلَمُ مَتروكَ المفعولِ مُنَزَّلًا مَنزِلَةَ اللَّازمِ، أي: لو كان لهم عِلْمٌ لَما فَعَلوهُ. وقولُه تعالى: حِينَ ... إلخ، استئنافٌ مُقرِّرٌ لجَهْلِهم، ومَبيِّنٌ لاستمرارِه إلى ذلك الوقْتِ؛ كأنَّه قِيلَ: حين يَرَونَ ما يرَوْن يَعْلمون حَقيقةَ الحالِ. أو أنْ يكونَ مفعولُ يَعْلَمُ محذوفًا؛ لدَلالةِ ما قبْلَه، أي: لو يَعلَمُ الَّذين كَفَروا مَجِيءَ الموعودِ الَّذي سَأَلوا عنه واسْتَبطؤوهُ [454] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/118)، ((تفسير البيضاوي)) (4/51، 52)، ((تفسير أبي حيان)) (7/432)، ((تفسير أبي السعود)) (6/68). .
7- قوله تعالى: بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ
- قولُه: بَلْ تَأْتِيهِمْ استدراكٌ مُقدَّرٌ قبْلَه نَفْيٌ؛ تَقديرُه: إنَّ الآياتِ لا تأْتي بحسَبِ اقتراحِهم [455] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/432). .
- و(بَل) في قولِه: بَلْ تَأْتِيهِمْ للإضرابِ الانتقاليِّ مِن تَهويلِ ما أُعِدَّ لهم، إلى التَّهديدِ بأنَّ ذلك يَحُلُّ بهم بَغْتةً وفجأَةً، وهو أشَدُّ على النُّفوسِ؛ لعَدمِ التَّهيُّؤِ له، والتَّوطُّنِ عليه [456] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/71). .
- قولُه: فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ مُفرَّعٌ على قولِه: فَتَبْهَتُهُمْ؛ فالبَهتُ: الغَلبُ المفاجِئُ المُعْجِز عن المُدافَعةِ [457] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/72). .