موسوعة التفسير

سُورةُ الشَّمسِ
الآيات (1-10)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ

غريب الكلمات:

وَضُحَاهَا: الضُّحى: ارتِفاعُ الضَّوءِ وكَمالُه، وقيل: الضُّحى هنا: النَّهارُ كُلُّه، وأصْلُه يدُلُّ على بُروزِ الشَّيءِ [7] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/391)، ((المفردات)) للراغب (ص: 502)، ((تفسير ابن جزي)) (2/486). قال ابن عاشور: (الضُّحَى: وَقْتُ ارْتِفاعِ الشَّمْسِ عن أُفُقِ مَشْرِقِها، وظُهورِ شُعاعِها). ((تفسير ابن عاشور)) (30/366). .
تَلَاهَا: أي: تَبِعَها، يقال: تلَوْتُ زَيدًا، أي: تَبِعْتُه، وأصلُ (تلو): الاتِّباعُ [8] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 529)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/351)، ((البسيط)) للواحدي (24/50)، ((المفردات)) للراغب (ص: 167)، ((عمدة الحفاظ)) للسمين الحلبي (1/267). .
جَلَّاهَا: أي: بَيَّنَها وكشَفَها، والتَّجْلِيةُ: الإظهارُ والكَشْفُ، يقالُ: جَلَّى الأمرَ يُجَلِّيه: إذا أظهَرَه وأبرَزَه وبَيَّنَه، وأصلُ (جلو): انكِشافُ الشَّيءِ وبُروزُه [9] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/468)، ((البسيط)) للواحدي (24/52)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 455)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/378). وقال الراغب: (أصلُ الجَلْوِ: الكشفُ الظَّاهرُ). ((المفردات في غريب القرآن)) (ص: 200). .
يَغْشَاهَا: أي: يُغَطِّيها، وأصلُ (غشي): يدُلُّ على تَغطِيةِ شَيءٍ بشَيءٍ [10] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/425)، ((المفردات)) للراغب (ص: 607)، ((تفسير ابن جزي)) (2/486). .
طَحَاهَا: أي: بسَطَها ووسَّعَها، وأصلُ (طحو): يدُلُّ على البَسطِ والمَدِّ [11] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 529)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 320)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/445)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 455)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 465). .
سَوَّاهَا: أي: عَدَّل خَلْقَها، وسَوَّى أعضاءَها، والتَّسويةُ: جعلُ الشَّيءِ سَواءً، أي: مُعَدَّلًا مُقَوَّمًا، وأصْلُ (سوي): يدُلُّ على استِقامةٍ واعْتِدالٍ بيْنَ شيئَيْنِ [12] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/88)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/112)، ((البسيط)) للواحدي (24/54)، ((تفسير العليمي)) (7/347)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/368). .
فُجُورَهَا : الفُجُورُ: شَقُّ سِتْرِ الدِّيانةِ، يقال: فَجَرَ فُجُورًا، والفَجْرُ: شَقُّ الشَّيءِ شَقًّا واسِعًا، وأصلُ (فجر): التَّفَتُّحُ في الشَّيءِ، ومنه الفُجورُ، وهو الانْبِعاثُ والتَّفَتُّحُ في المَعاصي [13] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/475)، ((المفردات)) للراغب (ص: 625). .
أَفْلَحَ: أي: فاز بالمطلوبِ ونجا مِن المَرهوبِ، والفَلاحُ: الظَّفَرُ وإدراكُ البُغيةِ، والبَقاءُ، وأصلُ (فلح) هنا: يدُلُّ على فَوزٍ وبَقاءٍ [14] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/450)، ((المفردات)) للراغب (ص: 644)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص:166، 222). .
زَكَّاهَا: أي: طهَّرها مِن الكُفْرِ والمَعاصي، وأصْلَحَها بالصَّالِحاتِ مِن الأعمالِ، وأصلُ (زكي): يدُلُّ على طَهارةٍ ونَماءٍ وزِيادةٍ [15] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/443)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/17)، ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (2/307). .
خَابَ: أي: خَسِرَ وفاتَه الظَّفَرُ. والخَيْبةُ: الحِرمانُ والخُسْرانُ، وأصلُ (خيب): يدُلُّ على عَدَمِ فائدةٍ، وحِرمانٍ [16] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 212)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/232)، ((البسيط)) للواحدي (24/57)، ((المفردات)) للراغب (ص: 300)، ((النهاية)) لابن الأثير (2/90). .
دَسَّاهَا: أي: نَقَصَها وأخفاها بالفُجورِ والمعاصي، مِنَ التَّدسيسِ: وهو إخفاءُ الشَّيءِ في الشَّيءِ، وأصلُ (دسس): يدُلُّ على دُخولِ الشَّيءِ تحتَ خَفاءٍ وسِرٍّ [17] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 530)، ((تفسير ابن جرير)) (24/445)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 212)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/256)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 455)، ((تفسير الألوسي)) (15/361). .

المعنى الإجمالي:

افتَتَح اللهُ تعالى هذه السُّورةَ الكريمةَ مُقسِمًا بالشَّمسِ وبضَوئِها، وبالقَمَرِ إذا تَبِعَ الشَّمسَ، وبالنَّهارِ إذا أظهَرَ الشَّمسَ وضَوءَها، وباللَّيلِ إذا غَشِيَ الشَّمسَ، فذَهَب بضَوئِها، وبالسَّماءِ وبالَّذي بناها، وبالأرضِ وبالَّذي بسَطَها مِن كُلِّ جانبٍ.
ثمَّ أقسَمَ الله تعالى بكُلِّ نَفْسٍ وبالَّذي خلَقَها، وعدَّل خَلْقَها، فبَيَّنَ اللهُ للنَّفْسِ طريقَ الخَيرِ والشَّرِّ، والطَّاعةِ والمَعصيةِ.
 ثمَّ قال تعالى مُؤكِّدًا على أهميَّةِ تزكيةِ النَّفسِ: قد فاز مَن طهَّر نَفْسَه ونقَّاها مِنَ الشِّركِ والكُفرِ والمعاصي، ونمَّاها بالإيمانِ والعَمَلِ الصَّالحِ، وقد خَسِرَ وشَقِيَ مَن أخفى نَفْسَه وأرداها بالرَّذائِلِ والعُيوبِ والذُّنوبِ.

تفسير الآيات:

وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1).
أي: أُقسِمُ بالشَّمسِ وبضَوئِها [18] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/434، 435)، ((الوسيط)) للواحدي (4/494)، ((تفسير السعدي)) (ص: 926)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 220). ممَّن اختار القَولَ المذكورَ وأنَّ المرادَ بضُحاها ضَوْؤُها: الزَّجَّاجُ، وابنُ أبي زَمَنِينَ، والواحِديُّ، والزَّمَخشريُّ، والرَّسْعَنيُّ، والبيضاويُّ، والنَّسَفيُّ، وابنُ جُزَي، والخازِنُ، وجلالُ الدِّينِ المحلِّيُّ، والبِقاعيُّ، والعُلَيميُّ، وأبو السُّعودِ، وابنُ عُثيمين. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/331)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (5/137)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1206)، ((تفسير الزمخشري)) (4/758)، ((تفسير الرسعني)) (8/642)، ((تفسير البيضاوي)) (5/ 315)، ((تفسير النسفي)) (3/647)، ((تفسير ابن جزي)) (2/486)، ((تفسير الخازن)) (4/432)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 809)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/70)، ((تفسير العليمي)) (7/373)، ((تفسير أبي السعود)) (9/163)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 220). ومِمَّن قال بهذا القَولِ مِنَ السَّلَفِ: قَتادةُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/434)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/450). قال الزَّمخشريُّ: (ضُحاها: ضَوْؤُها إذا أشرَقَت وقام سُلطانُها). ((تفسير الزمخشري)) (4/758). وقيل: المرادُ بضُحاها: النَّهارُ. وممنَّ قال بهذا: الفَرَّاءُ، وابنُ قُتَيْبةَ، وابنُ جَريرٍ. يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/266)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 529)، ((تفسير ابن جرير)) (24/435). ومِمَّن قال بهذا القَولِ مِنَ السَّلَفِ: مجاهِدٌ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/434)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/450). قال ابنُ جريرٍ: (اختَلَف أهلُ التَّأويلِ في معنَى قولِه: وَضُحَاهَا؛ فقال بعضُهم: معنَى ذلك: والشَّمسِ والنَّهارِ، وكان يَقولُ: الضُّحَى: هو النَّهارُ كُلُّه... وقال آخَرونَ: معنَى ذلك: وضَوْئِها). ((تفسير ابن جرير)) (24/434). وقال الواحِديُّ: (القَولُ الثَّالِثُ ما ذكره مقاتِلٌ، قال: أقسَمَ اللهُ بالشَّمْسِ وحَرِّها، وهو قَولُ ابنِ عَبَّاسٍ في روايةِ عَطاءٍ). ((البسيط)) (24/44). ويُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/711). وممَّن قال بالقَولِ الثَّالِثِ مِنَ السَّلَفِ أيضًا: السُّدِّيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (4/450). .
كما قال تعالى: وَالضُّحَى [الضحى: 1] .
وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا افتَتَح بذِكرِ آيةِ النَّهارِ؛ أتْبَعَه ذِكرَ آيةِ اللَّيلِ، فقال [19] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/70). :
وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2).
أي: وأُقسِمُ بالقَمَرِ إذا تَبِعَ الشَّمسَ، فخَرَج مُضيئًا بَعْدَها [20] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/435)، ((الوسيط)) للواحدي (4/494)، ((تفسير ابن كثير)) (8/410)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 220، 221). .
وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر الآيتَينِ؛ ذَكَر ما هما آيَتاه، وبدأ بهما؛ لأنَّه لا صلاحَ للإنسانِ إلَّا بهما، كما أنَّه لا صلاحَ للبَدَنِ إلَّا بالنَّفْسِ والعَقْلِ [21] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/71). .
وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3).
أي: وأُقسِمُ بالنَّهارِ إذا أظهَرَ الشَّمسَ وضَوءَها [22] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/436)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/71). قيل: المرادُ بـ جَلَّاهَا: جَلَّى الشَّمسَ. ومِمَّن ذهب إلى هذا القَولِ: الثَّعْلبيُّ، ومكِّيٌّ، والنَّسَفيُّ، وأبو حيَّانَ، والبِقاعيُّ، والشَّوكانيُّ، والألوسيُّ، والقاسميُّ. يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (10/212)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/8290)، ((تفسير النسفي)) (3/647)، ((تفسير أبي حيان)) (10/486)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/71)، ((تفسير الشوكاني)) (5/546)، ((تفسير الألوسي)) (15/358)، ((تفسير القاسمي)) (9/480). قال البِقاعيُّ: (إِذَا جَلَّاهَا أي: جَلَّى الشَّمسَ بحِليةٍ عَظيمةٍ بَعضُها أعظَمُ مِن بعضٍ باعتبارِ الطُّولِ والقِصَرِ، والصَّحوِ والغَيمِ والضَّبابِ، والصَّفاءِ والكَدَرِ). ((نظم الدرر)) (22/71). قال أبو حيَّان: (والَّذي تَقْتَضيه الفصاحةُ أنَّ الضَّمائرَ كُلَّها إلى قولِه: يَغْشَاهَا عائِدةٌ على الشَّمسِ). ((تفسير أبي حيان)) (10/486). وقال الألوسيُّ: (والأوَّلُ أَولى [أي: عود الضَّمائِرِ على الشَّمسِ] لذِكْرِ المرجِعِ، واتِّساقِ الضَّمائرِ). ((تفسير الألوسي)) (15/358). وقيل: المرادُ: جَلَّى الظُّلمةَ. ومِمَّن ذهب إلى هذا القَولِ: ابنُ أبي زَمَنِينَ، والواحِديُّ، والبغَويُّ، والخازِنُ. يُنظر: ((تفسير ابن أبي زمنين)) (5/137)، ((الوسيط)) للواحدي (4/494)، ((تفسير البغوي)) (5/258)، ((تفسير الخازن)) (4/432). قال البغَويُّ: (يعني: إذا جَلَّى الظُّلمةَ، كنايةً عن غيرِ مذكورٍ؛ لكَونِه مَعروفًا). ((تفسير البغوي)) (5/258). وقيل: المرادُ: جَلَّى الأرضَ. وقد مال إليه وقوَّاه: ابنُ كثيرٍ، وذهب إليه: السعديُّ، وابنُ عُثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/410)، ((تفسير السعدي)) (ص: 926)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 221). .
وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر مَعدِنَ الضِّياءِ؛ ذَكَر محَلَّ الظَّلامِ [23] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/71). ، فقال:
وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4).
أي: وأُقسِمُ باللَّيلِ إذا غَشِيَ الشَّمسَ، فذَهَب بضَوئِها [24] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/437)، ((الوسيط)) للواحدي (4/495)، ((تفسير القرطبي)) (20/74)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/71، 72). .
وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر الآيتَينِ ومحَلَّ أثَرِهما؛ ذكَرَ محَلَّ الكُلِّ [25] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/72). ، فقال:
وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5).
أي: وأُقسِمُ بالسَّماءِ، وبالَّذي بناها [26] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/711)، ((تفسير ابن جرير)) (24/437)، ((تفسير الزمخشري)) (4/759)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/228، 596). ممَّن اختار القَولَ المذكورَ -أنَّ «ما» مَوصولةٌ بمعنى: الَّذي، وأنَّ الإقسامَ بالسَّماءِ وبانيها، الَّذي هو اللهُ تبارك وتعالى-: مقاتِلُ بنُ سُلَيمانَ، وأبو عُبَيْدةَ، وابنُ جريرٍ، وابنُ أبي زَمَنِين، والثَّعلبيُّ، والسَّمعانيُّ، والزَّمَخشريُّ، والرَّسْعَنيُّ، والبيضاويُّ، والنَّسَفيُّ، والخازِنُ، والعُلَيميُّ، وأبو السُّعودِ، والألوسيُّ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/711)، ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (2/300)، ((تفسير ابن جرير)) (24/437)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (5/137)، ((تفسير الثعلبي)) (10/213)، ((تفسير السمعاني)) (6/232)، ((تفسير الزمخشري)) (4/ 759)، ((تفسير الرسعني)) (8/644)، ((تفسير البيضاوي)) (5/315)، ((تفسير النسفي)) (3/648)، ((تفسير الخازن)) (4/432)، ((تفسير العليمي)) (7/374)، ((تفسير أبي السعود)) (9/163)، ((تفسير الألوسي)) (15/359). وممَّن قال به مِنَ السَّلَفِ: مجاهِدٌ، والحسَنُ، وعطاءٌ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/438)، ((تفسير الماوردي)) (6/282)، ((البسيط)) للواحدي (24/53). قال ابنُ جُزَي: (فإن قيل: لِمَ عَدَل عن «مَنْ» إلى قَولِه: «ما»، في قَولِ مَن جعلَها مَوصولةً؟ فالجوابُ: أنَّه فعَل ذلك لإرادةِ الوَصْفيَّةِ، كأنَّه قال: والقادِرِ الَّذي بناها). ((تفسير ابن جزي)) (2/486). ويُنظر ما يأتي (ص: 379). وقيل: «ما» مَصدريَّةٌ، والمعنى: وبِنائِها. وممَّن اختاره: الفَرَّاءُ، والمُبَرِّدُ، والزَّجَّاجُ، والقُرطبيُّ. يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/263)، ((المقتضب)) للمبرد (2/52)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/332)، ((تفسير القرطبي)) (20/74). وممَّن قال بهذا القَولِ مِنَ السَّلَفِ: قَتادةُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/438)، ((تفسير الماوردي)) (6/282). قال ابنُ كثيرٍ: (قَولُه: وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا يحتَمِلُ أن تكونَ «ما» هاهنا مَصدريَّةً، بمعنى: والسَّماءِ وبنائِها، وهو قَولُ قتادةَ، ويحتَمَلُ أن تكونَ بمعنى «مَن» يعني: والسَّماءِ وبانيها، وهو قَولُ مجاهِدٍ، وكِلاهما متلازِمٌ). ((تفسير ابن كثير)) (8/411). .
كما قال تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً [البقرة: 22].
وقال الله سُبحانَه وتعالى: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا [النازعات:27-28] .
وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر البِناءَ؛ ذَكَر المِهادَ [27] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/73). .
وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6).
أي: وأُقسِمُ بالأرضِ، وبالَّذي بسَطَها مِن كُلِّ جانبٍ [28] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/711)، ((تفسير ابن جرير)) (24/438)، ((الوسيط)) للواحدي (4/495)، ((تفسير القرطبي)) (20/74)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/228، 596)، ((تفسير ابن كثير)) (8/411)، ((تفسير السعدي)) (ص: 926). قال ابنُ كثيرٍ: (قال مجاهِدٌ، وقَتادةُ، والضَّحَّاكُ، والسُّدِّيُّ، والثَّوريُّ، وأبو صالحٍ، وابنُ زَيدٍ: طَحَاهَا: بسَطَها، وهذا أشهَرُ الأقوالِ، وعليه الأكثَرُ مِنَ المفَسِّرينَ، وهو المعروفُ عِندَ أهلِ اللُّغةِ). ((تفسير ابن كثير)) (8/411). .
كما قال تعالى: وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا [الحجر: 19] .
وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7).
أي: وأُقسِمُ بكُلِّ نَفْسٍ، وبالَّذي خلَقَها، وعدَّل خَلْقَها [29] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/711)، ((تفسير ابن جرير)) (24/440)، ((الوسيط)) للواحدي (4/495)، ((تفسير ابن عطية)) (5/488)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/ 596)، ((تفسير ابن كثير)) (8/411)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/368-370)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 222). قيل: المرادُ بالنَّفْسِ هنا: نفْسُ آدَمَ عليه السَّلامُ. ومِمَّن ذهب إلى هذا القَولِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/711). وقيل: المرادُ: جِنسُ نُفوسِ النَّاسِ. ومِمَّن ذهب إلى هذا القولِ: ابنُ عطيَّةَ، وابنُ جُزَي، وابنُ عاشور، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/488)، ((تفسير ابن جزي)) (2/486)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/368)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 222). قال الثعلبي: (سَوَّاهَا: عدَّل خَلْقَها). ((تفسير الثعلبي)) (10/213). وقال البغوي: (سَوَّاهَا: عدَّل خلقَها، وسوَّى أعضاءَها). ((تفسير البغوي)) (5/258). وقال ابنُ عطيَّة: (تَسويتُها: إكمالُ عَقْلِها ونَظَرِها؛ ولذلك ربطَ الكلامَ بقَولِه تعالى: فَأَلْهَمَهَا الآيةَ، فالفاءُ تُعطي أنَّ التَّسويةَ هي هذا الإلهامُ). ((تفسير ابن عطية)) (5/488). وقال ابنُ كثير: (خلَقَها سَوِيَّةً مُستقيمةً، على الفِطرةِ القَويمةِ). ((تفسير ابن كثير)) (8/411). وقال ابنُ عاشور: (التَّسويةُ: تعديلُ الخِلْقةِ، وإيجادُ القُوى الجَسَديَّةِ والعَقليَّةِ، ثمَّ تَزدادُ كيفيَّةُ القُوى، فيَحصُلُ الإلهامُ). ((تفسير ابن عاشور)) (30/369). .
فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8).
أي: فبَيَّنَ اللهُ للنَّفْسِ وعَرَّفَها طريقَ الخَيرِ والشَّرِّ والطَّاعةِ والمَعصيةِ، وجعَلَها مُهَيَّأةً ومُستَعِدَّةً لسُلوكِ الطَّريقَينِ [30] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 529)، ((تفسير ابن جرير)) (24/440)، ((معاني القرآن)) للزجاج (5/332)، ((تفسير القرطبي)) (20/75)، ((تفسير ابن كثير)) (8/411)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/77)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 222). قال ابنُ جُزَي: (أي: عرَّفها طريقَ الفُجورِ والتَّقوى، وجعل لها قوَّةً يَصِحُّ معها اكتِسابُ أحدِ الأمْرَينِ). ((تفسير ابن جزي)) (2/486). .
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9).
أي: قد فاز مَن طهَّر نَفْسَه ونقَّاها مِنَ الشِّركِ والكُفرِ، والمعاصي والخِصالِ الرَّذيلةِ، ونمَّاها بالإيمانِ والعِلمِ النَّافِعِ، والأعمالِ الصَّالحةِ والأخلاقِ الحَسَنةِ الحميدةِ [31] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/488)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/231)، ((الجواب الكافي)) لابن القيم (ص: 78)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/361)، ((تفسير السعدي)) (ص: 926)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 222، 223). قال ابنُ جُزي: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا هذا جوابُ القَسَمِ عندَ الجُمهورِ). ((تفسير ابن جزي)) (2/487). وقال الزَّمخشريُّ: (فإنْ قُلتَ: فأين جوابُ القَسَمِ؟ قلتُ: هو محذوفٌ تقديرُه: لَيُدَمْدِمَنَّ اللهُ عليهم، أي: على أهلِ مكَّةَ؛ لتَكذيبِهم رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كما دَمْدَمَ على ثَمودَ لأنَّهم كذَّبوا صالحًا. وأمَّا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا فكلامٌ تابعٌ لقَولِه: فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا على سبيلِ الاستطرادِ، وليس مِن جوابِ القَسَمِ في شَيءٍ). ((تفسير الزمخشري)) (4/760). ممَّن اختار القَولَ المذكورَ في زَكَّاهَا وأيضًا في دَسَّاهَا، وأنَّ المعنى: قد أفلح مَن زكَّى نَفْسَه، وقد خاب مَن دسَّى نَفْسَه: ابنُ قُتَيبةَ، ومَكِّيٌّ، وابنُ جُزَي، والبِقاعيُّ، والعُلَيمي، والشربيني، والشَّوكاني، والقاسمي، والسعدي، وابنُ عاشورٍ، وابنُ عُثَيمين. يُنظر: ((تأويل مُشْكِل القرآن)) لابن قتيبة (ص: 205)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 530)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/8295)، ((تفسير ابن جزي)) (2/487)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/78)، ((تفسير العليمي)) (7/375)، ((تفسير الشربيني)) (4/542)، ((تفسير الشوكاني)) (5/547)، ((تفسير القاسمي)) (9/482)، ((تفسير السعدي)) (ص: 926)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/ 370)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 222). وقيل: المعنى: قد أفلح مَن زكَّى اللهُ نَفْسَه، وقد خاب مَن دسَّى اللهُ نَفْسَه. وبه قال: مقاتِلُ بنُ سُلَيمانَ، والفَرَّاءُ، وابنُ جَريرٍ، والزَّجَّاجُ، والسَّمَرْقَنديُّ، وابنُ أبي زَمَنِينَ، والسَّمعانيُّ، والبَغَويُّ، والقُرطبيُّ، والنَّسَفيُّ، والخازِنُ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/711)، ((معاني القرآن)) للفراء (3/267)، ((تفسير ابن جرير)) (24/443)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/ 332)، ((تفسير السمرقندي)) (3/586)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (5/137)، ((تفسير السمعاني)) (6/233)، ((تفسير البغوي)) (5/260)، ((تفسير القرطبي)) (20/77)، ((تفسير النسفي)) (3/648)، ((تفسير الخازن)) (4/433). قال ابنُ كثيرٍ: (وقَولُه: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا يحتَمِلُ أن يكونَ المعنى: قد أفلح مَن زكَّى نَفْسَه، أي: بطاعةِ اللهِ -كما قال قَتادةُ- وطهَّرها مِن الأخلاقِ الدَّنيئةِ والرَّذائِلِ. ويُروى نحوُه عن مجاهِدٍ، وعِكْرِمةَ، وسعيدِ بنِ جُبَيرٍ. وكقَولِه: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [الأعلى: 14، 15]، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا أي: دسَّسَها، أي: أخمَلَها ووضَعَ منها بخِذْلانِه إيَّاها عن الهُدى، حتَّى رَكِبَ المعاصيَ، وتَرَك طاعةَ اللهِ عزَّ وجَلَّ. وقد يحتَمِلُ أن يكونَ المعنى: قد أفلح مَن زكَّى اللهُ نَفْسَه، وقد خاب مَن دسَّى اللهُ نَفْسَه، كما قال العَوفيُّ وعليُّ بنُ أبي طَلْحةَ عن ابنِ عبَّاسٍ). ((تفسير ابن كثير)) (8/412). .
قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى [الأعلى: 14].
وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10).
أي: وقد خَسِرَ وشَقِيَ مَن أخفى نَفْسَه وقَمَعَها وحقَّرها وأرداها بالكفرِ والرَّذائِلِ والعُيوبِ، ودنَّسَها بالسَّيِّئاتِ والذُّنوبِ [32] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/444)، ((الوسيط)) للواحدي (4/497)، ((الجواب الكافي)) لابن القيم (ص: 78)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/361)، ((تفسير السعدي)) (ص: 926)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/371). .

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا أنَّ اللهَ تعالى خلَقَ تلك النَّفْسَ أوَّلًا، ثمَّ سوَّاها على حالةٍ تَقبَلُ تلَقِّيَ الإلهامِ بقِسمَيه: الفُجورِ والتَّقْوى، ثمَّ تَسلُكُ أحدَ الطَّريقَينِ، فكأنَّ مجيءَ القَسَمِ بها بعدَ تلك المُسَمَّياتِ دَلالةٌ على عِظَمِ ذاتِها، وقُوَّةِ دَلالتِها على قُدرةِ خالِقِها، وَمَا سَوَّاهَا مُستَعِدَّةً قابِلةً لتلَقِّي إلهامِ اللهِ إيَّاها، وفي مجيئِها بعدَ الآياتِ الكَونيَّةِ مِن شَمسٍ وقَمَرٍ، ولَيلٍ ونهارٍ، وسماءٍ وأرضٍ: لَفتٌ إلى وُجوبِ التَّأمُّلِ في تلك المخلوقاتِ، يُستَلْهَمُ منها الدَّلالةُ على قُدرةِ خالِقِها، والاستِدلالُ على تغيُّرِ الأزمانِ، وحركةِ الأفلاكِ، وإحداثِ السَّماءِ بالبناءِ، وأنَّه لا بُدَّ لهذا العالَمِ مِن صانعٍ، ولا بُدَّ للمُحْدَثِ المتجَدِّدِ مِن فَناءٍ وعَدَمٍ، كما عَرَض إبراهيمُ عليه السَّلامُ على النُّمْرُوذِ نَماذِجَ الاستِدلالِ على الرُّبوبيَّةِ والألوهيَّةِ؛ فأشار إلى الشَّمسِ أوَّلًا، ثمَّ إلى القَمَرِ، ثمَّ انتقَلَ به إلى اللهِ سُبحانَه [33] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/540). .
2- تزكيةُ الإنسانِ نَفْسَه ضربانِ؛ أحَدُهما: بالفِعلِ، وهو محمودٌ، وإليه قَصَد بقَولِه: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى، والثَّاني: بالقَولِ، كتَزكيةِ العَدْلِ غَيْرَه، وذلك مذمومٌ أن يَفعلَه الإنسانُ بنَفْسِه، وقد نهى اللهُ تعالى عنه بقَولِه: فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ [النجم: 32] ، ونَهْيُه عن ذلك تأديبٌ لقُبحِ مَدْحِ الإنسانِ نَفْسَه عَقلًا وشَرْعًا؛ ولهذا قيل لحكيمٍ: ما الَّذي لا يَحسُنُ وإن كان حَقًّا؟ فقال: مَدْحُ الإنسانِ نَفْسَه [34] يُنظر: ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (3/133). . فلا مُعارَضةَ بيْن الآيتَينِ، فالتَّزكيةُ الَّتي يُحمَدُ عليها الإنسانُ أنْ يَعمَلَ عمَلًا صالحًا تَزْكو به نَفْسُه، والتَّزكيةُ الَّتي يُذَمُّ عليها أنْ يُدِلَّ بعَمَلِه على ربِّه ويَمدَحَ، وكأنَّه يَمُنُّ على اللهِ، يقولُ: صلَّيتُ، وتصدَّقتُ، وصُمْتُ، وحَجَجْتُ، وجاهَدْتُ، وبرَرْتُ والدي، وما أشْبَهَ ذلك! فلا يجوزُ للإنسانِ أنْ يُزَكِّيَ نَفْسَه [35] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: الحجرات - الحديد)) (ص: 237). .
3- المكَلَّفُ المخاطَبُ مِنَ الإنسانِ هو نَفْسُه، وما البَدَنُ إلَّا آلةٌ لها ومَظهَرٌ لتصَرُّفاتِها، وإنَّ صلاحَ الإنسانِ وفَسادَه إنَّما يُقاسانِ بصَلاحِ نَفْسِه وفسادِها، وإنَّما رُقِيُّه وانحطاطُه باعتِبارِ رُقِيِّ نَفْسِه وانحطاطِها، وما فَلاحُه إلَّا بزكائِها، وما خَيبتُه إلَّا بخُبثِها؛ قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [36] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 73). .
4- في قَولِه تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا أنَّ النَّفْسَ أمانةٌ عندَك، يجبُ أنْ تَرعاها حقَّ رعايتِها، وإذا عَصَيتَ ربَّك فإنَّك ظالمٌ لنَفْسِك [37] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- الفاتحة والبقرة)) (2/224). .
5- المعاصي تُصَغِّرُ النَّفْسَ وتَقْمَعُها، وتُدَسِّيها فتَنخَفِضُ، وتَصيرُ كالَّذي يُدَسُّ في التُّرابِ، وتُحَقِّرُها؛ حتَّى تكونَ أصغرَ كلِّ شيءٍ وأحقَرَه، كما أنَّ الطَّاعةَ تُنمِّيها وتُزَكِّيها وتُكَبِّرُها وتُطَهِّرُها فتَرتفِعُ، قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [38] يُنظر: ((الجواب الكافي)) لابن القيم (ص: 78)، ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (2/ 28). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ... سؤالٌ عن قَسَمِ اللهِ تعالى بهذه المخلوقاتِ، وقد نُهِينا عنِ القَسَمِ بغيرِه.
والجوابُ عنه مِن وَجهَينِ:
الأوَّلُ: أنَّ هذا مِن فِعْلِ اللهِ تعالى، واللهُ لا يُسأَلُ عمَّا يَفعَلُ، وله أنْ يُقْسِمَ سُبحانَه بما شاء مِن خَلْقِه، وهو سائلٌ غيرُ مسؤولٍ، وحاكمٌ غيرُ محكومٍ عليه.
الثاني: أنَّ قَسَمَ اللهِ بهذه الآياتِ دليلٌ على عَظَمتِه وكمالِ قُدرتِه وحِكمتِه، فيكونُ القَسَمُ بها الدَّالُّ على تعظيمِها ورَفْعِ شأنِها مُتضمِّنًا للثَّناءِ على اللهِ عزَّ وجَلَّ بما تَقتضيه مِن الدَّلالةِ على عَظَمتِه، وأمَّا نحن فلا نُقْسِمُ بغيرِ اللهِ تعالى أو صِفاتِه؛ لأنَّنا مَنهيُّونَ عن ذلك [39] يُنظر: ((القول المفيد على كتاب التوحيد)) لابن عثيمين (2/214). .
2- في قَولِه تعالى: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا لَمْ يَقُلْ سُبحانَه: «ونهارِها» ولا «ضيائِها»؛ لأنَّ الضُّحى يدُلُّ على النُّورِ والحرارةِ جميعًا، وبالأنوارِ والحرارةِ تقومُ مَصالحُ العِبادِ [40] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/229). .
3- قال تعالى: وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا في الآيةِ إشارةٌ إلى أنَّ نُورَ القمَرِ مُستفادٌ مِن نورِ الشَّمسِ -أي: مِن توَجُّهِ أشِعَّةِ الشَّمسِ إلى ما يُقابِلُ الأرضَ مِنَ القَمَرِ-، وليس نَيِّرًا بذاتِه، وهذا إعجازٌ عِلميٌّ مِن إعجازِ القُرآنِ الكريمِ [41] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/367). .
4- في قَولِه تعالى: وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا سؤالٌ: لِمَ قال: وَمَا بَنَاهَا ولم يقُلْ: «ومَن بناها»؟
الجوابُ مِن وَجهَينِ:
الأوَّلُ: أنَّ المرادَ هو الإشارةُ إلى الوَصفيَّةِ، كأنَّه قِيل: والسَّماءِ والقادرِ العَظيمِ الَّذي بَناها، ودلَّ على وُجودِه وكَمالِ قُدرتِه بِناؤُها. ونفْسٍ، والحَكيمِ الباهرِ الحِكمةِ الَّذي سَوَّاها؛ ولذلك أُفرِدَ ذِكرُه، وفي كَلامِهم: سُبحانَ ما سخَّرَكنَّ لنا.
الثَّاني: أنَّ «ما» تُستعمَلُ في موضِعِ «مَن»، كقَولِه: وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء: 22] . والاعتمادُ على الأوَّلِ [42] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/759)، ((تفسير الرازي)) (31/176). .
5- في قَولِه تعالى: وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا سؤالٌ: لِمَ ذَكَر في تعريفِ ذاتِ اللهِ تعالى هذه الأشياءَ الثَّلاثةَ، وهي: السَّماءُ، والأرضُ، والنَّفْسُ؟
الجوابُ: لأنَّ الاستدلالَ على الغائِبِ لا يمكِنُ إلَّا بالشَّاهِدِ، والشَّاهِدُ ليس إلَّا العالَمُ الجُسْمانيُّ، وهو قِسمانِ: بَسيطٌ، ومُرَكَّبٌ، والبسيطُ قِسمانِ: العُلويَّةُ، وإليه الإشارةُ بقَولِه: وَالسَّمَاءِ، والسُّفْليَّةُ، وإليه الإشارةُ بقَولِه: وَالْأَرْضِ، والمركَّبُ هو أقسامٌ، وأشرَفُها ذواتُ الأنفُسِ، وإليه الإشارةُ بقَولِه: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا [43] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/176). .
6- في قَولِه تعالى: فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا أنَّ اللهَ تعالى خلَقَ في المؤمِنِ التَّقْوى، وفي الكافِرِ الفُجورَ [44] يُنظر: ((تفسير البغوي)) (5/259)، ((تفسير الشربيني)) (4/542). ، وفيه الرَّدُّ على القَدَريَّةِ [45] يُنظر: ((الإكليل في استنباط التنزيل)) للسيوطي (ص: 290). . فالآية فيها دَلالةٌ على أنَّ اللهَ تعالى هو الَّذي يَجعَلُ الفُجورَ والتَّقوى في القلْبِ، وقد جاءت آياتٌ تدُلُّ على أنَّ فُجورَ العبْدِ وتَقواهُ باختيارِه ومَشيئتِه، كقولِه تعالَى: فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [فصلت: 17] ، وقولِه تعالى: اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى [البقرة: 16] ، ونحْوِ ذلك، وقد ضلَّ في هذه المسألةِ القَدَريَّةُ والجَبْريَّةُ؛ أمَّا القَدَريَّةُ فضَلُّوا بالتَّفريطِ، حيث زَعَموا أنَّ العبْدَ يَخلُقُ عمَلَ نفْسِه استقلالًا مِن غيرِ تأثيرٍ لقُدرةِ اللهِ فيه! وأمَّا الجَبْريَّةُ فضَلُّوا بالإفراطِ، حيث زَعَموا أنَّ العبْدَ لا عمَلَ له أصلًا حتَّى يُؤاخَذَ به! وأمَّا أهْلُ السُّنَّةِ والجَماعةِ فلم يُفرِّطوا ولم يُفرِطوا، فأثْبَتوا للعبْدِ أفعالًا اختياريَّةً -ومِن الضَّروريِّ عندَ جَميعِ العُقلاءِ أنَّ الحَرَكةَ الارتعاشيَّةَ لَيستْ كالحركةِ الاختياريَّةِ- وأثْبَتوا أنَّ اللهَ خالِقُ كلِّ شَيءٍ؛ فهو خالِقُ العبْدِ، وخالِقُ قُدرتِه وإرادتِه، وتأثيرُ قُدرةِ العبْدِ لا يكونُ إلَّا بمَشيئةِ اللهِ تعالَى، فالعبْدُ وجَميعُ أفعالِه بمَشيئةِ اللهِ تعالَى، مع أنَّ العبْدَ يَفعَلُ اختيارًا بالقُدرةِ والإرادةِ اللَّتَينِ خَلَقَهما اللهُ فيه فِعلًا اختياريًّا يُثابُ عليه ويُعاقَبُ [46] يُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب)) للشنقيطي (ص: 270). .
7- إذا كان الضَّلالُ في القَدَرِ حَصَلَ تارةً بالتَّكذيبِ بالقَدَرِ والخَلْقِ، وتارةً بالتَّكذيبِ بالشَّرعِ والوعيدِ، وتارةً بتظليمِ الرَّبِّ؛ فإنَّه في هذه السُّورةِ ردٌّ على هذه الطَّوائفِ كلِّها؛ فقولُه تعالى: فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا إثباتٌ للقَدَرِ بقَولِه: فَأَلْهَمَهَا، وإثباتٌ لفعلِ العبدِ بإضافةِ الفُجورِ والتَّقوى إلى نَفْسِه؛ لِيُعلَمَ أنَّها هي الفاجرةُ والمتَّقِيةُ؛ وإثباتٌ للتَّفريقِ بيْن الحَسَنِ والقبيحِ، والأمرِ والنَّهيِ بقَولِه: فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، وقولُه بعدَ ذلك: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا إثباتٌ لفِعلِ العبدِ والوَعدِ والوعيدِ بفلاحِ مَن زَكَّى نفْسَه، وخَيبةِ مَن دَسَّاها، وهذا صريحٌ في الرَّدِّ على القَدَرِيَّةِ المجوسيَّةِ، وعلى الجَبْريَّةِ، وأمَّا المظلِّمون للخالقِ فإنَّه قد دلَّ على عدْلِه بقَولِه: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، والتَّسويةُ: التَّعديلُ؛ فبَيَّنَ أنَّه عادِلٌ في تسويةِ النَّفْسِ الَّتي ألهَمَها فُجورَها وتَقْواها [47] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/243). .
8- في قَولِه تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا أنَّ الأعمالَ الصَّالحةَ تُسَمَّى زكاةً، فكلُّ ما تَزكو به النُّفوسُ مِن مالٍ أو عَمَلٍ فهو زكاةٌ شَرْعًا، لكنْ تُطلَقُ الزَّكاةُ أيضًا على المعنى الخاصِّ، أي: أنَّه يُرادُ بها بَعضُ معانيها كما في قَولِنا: زكاةُ المالِ [48] يُنظر: ((فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام)) لابن عثيمين (3/87). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا
- الغرَضُ مِن هذه السُّورةِ تَهديدُ المشرِكين بأنَّهم يُوشِكُ أنْ يُصِيبَهم عَذابٌ بإشراكِهِم وتَكذيبِهم برِسالةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كما أصاب ثَمودَ بإشراكِهِم وعُتُوِّهم على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الَّذي دَعاهم إلى التَّوحيدِ. وقُدِّمَ لذلك تَأكيدُ الخبَرِ بالقسَمِ بأشياءَ مُعظَّمةٍ، وذُكِرَ مِن أحوالِها ما هو دَليلٌ على بَديعِ صُنْعِ اللهِ تعالَى الَّذي لا يُشارِكُه فيه غيرُه؛ فهو دَليلٌ على أنَّه المنفرِدُ بالإلهيَّةِ، والَّذي لا يَستحِقُّ غيرُه الإلهيَّةَ، وخاصَّةً أحوالَ النُّفوسِ ومَراتِبَها في مَسالِكِ الهُدى والضَّلالِ، والسَّعادةِ والشَّقاءِ [49] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/365، 366). .
- والقسَمُ لتَأكيدِ الخبَرِ، والمقصودُ بالتَّأكيدِ هو ما في سَوقِ الخبَرِ مِن التَّعريضِ بالتَّهديدِ والوعيدِ بالاستئصالِ، وكلٌّ مِن الشَّمسِ والقمَرِ، والسَّماءِ والأرضِ، ونفْسِ الإنسانِ؛ مِن أعظَمِ مَخلوقاتِ اللهِ -ذاتًا ومعنًى- الدَّالَّةِ على بَديعِ حِكمتِه، وقَوِيِّ قُدرتِه، وكذلك كلٌّ مِن الضُّحى، وتُلُوِّ القمَرِ الشَّمسَ، والنَّهارِ، واللَّيلِ؛ مِن أدَقِّ النِّظامِ الَّذي جَعَلَه اللهُ تعالَى، ومُهِّدَ لذلك بالتَّنبيهِ على أنَّ تَزكيةَ النَّفْسِ سَببُ الفَلاحِ، وأنَّ التَّقصيرَ في إصلاحِها سَببُ الفُجورِ والخُسرانِ [50] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/366). .
- وابتُدِئَ بالشَّمسِ لمُناسَبةِ المَقامِ إيماءً للتَّنويهِ بالإسلامِ؛ لأنَّ هَدْيَه كنُورِ الشَّمسِ لا يَترُكُ للضَّلالِ مَسلَكًا. وفيه إشارةٌ إلى الوعْدِ بانتِشارِه في العالَمِ كانتشارِ نُورِ الشَّمسِ في الأُفقِ. وأُتبِعَ بالقمَرِ؛ لأنَّه يُنيرُ في الظَّلامِ كما أنارَ الإسلامُ في ابتداءِ ظُهورِه في ظُلْمةِ الشِّركِ. ثمَّ ذُكِرَ النَّهارُ واللَّيلُ معه؛ لأنَّهما مَثَلٌ لوُضوحِ الإسلامِ بعْدَ ضَلالةِ الشِّركِ، وذلك عكْسُ ما في سُورةِ اللَّيلِ [51] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/367). .
- قولُه: وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا التُّلُوُّ: التَّبَعُ، وأُريدَ به خَلْفُ ضَوئِه في اللَّيلِ ضَوءَ الشَّمسِ، أي: إذا ظَهَرَ بعْدَ مَغيبِها، فكأنَّه يَتبَعُها في مَكانِها. والقمَرُ يَتبَعُ الشَّمسَ في أحوالٍ كَثيرةٍ، وهو أيضًا يُضِيءُ في أكثَرِ لَيالي الشَّهرِ، جَعَلَه اللهُ عِوَضًا عن الشَّمسِ في عِدَّةِ لَيالٍ في الإنارةِ؛ ولذلك قُيِّدَ القسَمُ بحِينِ تُلُوِّه؛ لأنَّ تُلُوَّه للشَّمسِ حينَئذٍ تَظهَرُ منه مَظاهِرُ التُّلُوِّ للنَّاظِرينَ، فهذا الزَّمانُ مِثلُ زَمانِ الضُّحى في القسَمِ به، فكان بمَنزلةِ قسَمٍ بوَقْتِ تُلوِّه الشَّمسَ، فحَصَلَ القسَمُ بذاتِ القمَرِ وبتُلوِّه الشَّمسَ.
وأيضًا ابتُدِئَ القسَمُ بالشَّمسِ وأضوائِها الثَّلاثةِ الأصليَّةِ والمُنعكِسةِ؛ لأنَّ الشَّمسَ أعظَمُ النَّيِّراتِ الَّتي يَصِلُ نُورٌ شَديدٌ منها للأرضِ، ولِما في حالِها وحالِ أضوائِها مِن الإيماءِ إلى أنَّها مَثَلٌ لظُهورِ الإيمانِ بعْدَ الكُفْرِ، وبَثِّ التَّقْوى بعْدَ الفُجورِ؛ فإنَّ الكُفْرَ والمعاصيَ تُمثَّلُ بالظُّلمةِ، والإيمانَ والطَّاعاتِ تُمثَّلُ بالضِّياءِ؛ قال تعالَى: وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ [المائدة: 16] . وأُعقِبَ القسَمُ بالنَّهارِ بالقسَمِ باللَّيلِ؛ لأنَّ اللَّيلَ مُقابلُ وَقْتِ النَّهارِ، فهو وَقْتُ الإظلامِ [52] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/366 - 368). .
- قولُه: وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا الضَّميرُ المُؤنَّثُ في قولِه: جَلَّاهَا عائدٌ إلى الشَّمسِ، فمعْنى تَجْليةِ النَّهارِ الشَّمسَ وَقْتُ ظُهورِ الشَّمسِ، والقسَمُ إنَّما هو بالنَّهارِ؛ لأنَّه حالةٌ دالَّةٌ على دَقيقِ نِظامِ العالَمِ الأرضيِّ. وقيل: الضَّميرُ عائدٌ إلى الأرضِ، أي: أضاء الأرضَ فتَجلَّت للنَّاظِرينَ؛ لظُهورِ المقصودِ، كما يُقالُ عندَ نُزولِ المطَرِ: أرسَلَتْ، يَعْنون: أرْسَلَت السَّماءُ ماءَها، وقُيِّدَ القسَمُ بالنَّهارِ بقيْدِ وَقتِ التَّجليةِ؛ إدماجًا للمِنَّةِ في القسَمِ [53] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/367). .
- قولُه: وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا تَقييدُ القسَمِ بالظُّروفِ الثَّلاثةِ إِذَا تَلَاهَا إِذَا جَلَّاهَا إِذَا يَغْشَاهَا، أي: مُقسَمًا بكلِّ واحدٍ مِن هذه الثَّلاثةِ في الحالةِ الدَّالَّةِ على أعظَمِ أحوالِه وأشدِّها دَلالةً على عَظيمِ صُنْعِ اللهِ تعالَى، وتَقييدُ القسَمِ باللَّيلِ بَوقتِ تَغشِيَتِه تَذكيرٌ بالعِبرةِ بحُدوثِ حالةِ الظُّلمةِ بعْدَ حالةِ النُّورِ [54] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/368). .
- قيل: لَمَّا كانت الفواصلُ تَرتَّبَت على ألِفٍ وهاءِ المُؤنَّثِ، أتى وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا بالمُضارِعِ؛ لأنَّه الَّذي تَرتَّب فيه، ولو أتَى بالماضي -كالذي قبْلَه وبعْدَه- كان يكونُ التَّركيبُ: (إذا غَشِيَها)، فتَفوتُ الفاصلةُ، وهي مَقصودةٌ [55] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/486). .
- ومُناسَبةُ استِحضارِ السَّماءِ عَقِبَ ذِكرِ الشَّمسِ والقمَرِ، واستِحضارِ الأرضِ عَقِبَ ذِكرِ النَّهارِ واللَّيلِ؛ واضحةٌ. ثمَّ ذُكِرَت النَّفْسُ الإنسانيَّةُ؛ لأنَّها مَظهَرُ الهُدى والضَّلالِ، وهو المقصودُ [56] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/367). .
- قولُه: وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (ما) مَوصولةٌ، وإنَّما أُوثِرَت على (مَن)؛ لإرادةِ معْنى الوَصفيَّةِ تَفخيمًا [57] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/759)، ((تفسير البيضاوي)) (5/315)، ((تفسير أبي حيان)) (10/486)، ((تفسير أبي السعود)) (9/163). !
- قولُه: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا نُكِّرَت النَّفْسُ لوُجوهٍ؛ أحدُها: أنْ يُريدَ نفْسًا خاصَّةً مِن بيْنِ النُّفوسِ، وهي نفْسُ آدَمَ، كأنَّه قال: وَواحدةٍ مِن النُّفوسِ، والثَّاني: أنْ يُريدَ كلَّ نفْسٍ، ويُنكَّرُ للتَّكثيرِ، والثَّالثُ: نُكِّرَت للتَّعظيمِ والتَّفخيمِ، فنُكِّرَ لَفظُ (نفْس) دونَ بَقيَّةِ ما أُقسِمَ به؛ لأنَّه لا سَبيلَ إلى لامِ الجِنسِ الدَّاخلةِ لنفْسِ غيرِ الإنسانِ، مع أنَّها ليستْ مُرادةً؛ لقولِه تعالَى: فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، ولا إلى لامِ العهْدِ؛ إذ ليس المرادُ نفْسًا واحدةً مَعهودةً، وبتَقديرِ أنَّه أُريدَ بها آدَمُ، فالتَّنكيرُ أدَلُّ على التَّفخيمِ والتَّعظيمِ [58] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/759)، ((تفسير البيضاوي)) (5/315)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/460)، ((تفسير أبي حيان)) (10/488)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 613)، ((تفسير أبي السعود)) (9/164)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/368)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/496). .
2- قولُه تبارك وتعالَى: فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا
- عُطِفَ قولُه: فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا على سَوَّاهَا، فهو مُقسَمٌ به، وفِعلُ (ألْهَمَها) في تَأويلِ مَصدَرٍ؛ لأنَّه مَعطوفٌ على صِلةِ (ما) المَصدريَّةِ -على قولٍ-، وعُطِفَ بالفاءِ؛ لأنَّ الإلهامَ ناشئٌ عن التَّسويةِ [59] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/369). .
- وتَعديةُ الإلهامِ إلى الفُجورِ والتَّقْوى في هذه الآيةِ، مع أنَّ اللهَ أعلَمَ النَّاسَ بما هو فُجورٌ وما هو تَقْوى بواسطةِ الرُّسلِ؛ باعتبارِ أنَّه لولا ما أودَعَ اللهُ في النُّفوسِ مِن إدراكِ المعلوماتِ على اختلافِ مَراتبِها، لَما فَهِموا ما تَدْعوهم إليه الشَّرائعُ الإلهيَّةُ، فلولا العُقولُ لَما تَيسَّرَ إفهامُ الإنسانِ الفُجورَ والتَّقوى، والعِقابَ والثَّوابَ [60] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/370). .
- وتَقديمُ الفُجورِ على التَّقوى مُراعًى فيه أحوالُ المُخاطَبينَ بهذه السُّورةِ، وهم المشرِكون، وأكثَرُ أعمالِهم فُجورٌ ولا تَقْوى لهم، والتَّقوى صِفةُ أعمالِ المسلمينَ، وهم قليلٌ يَومَئذٍ [61] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/370). .
- قولُه: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا الجُملةُ جَوابُ القسَمِ، وحُذِفَت اللَّامُ -فلم يقلْ: (لقَدْ)-؛ لطُولِ الكلامِ، كأنَّه لَمَّا أراد به الحثَّ على تَكميلِ النَّفْسِ والمُبالَغة فيه، أقسَمَ عليه بما يَدُلُّهم على العِلمِ بوُجودِ الصانعِ، ووُجوبِ ذاتِه، وكَمالِ صِفاتِه الَّذي هو أقْصى درَجاتِ القوَّةِ النَّظريَّةِ، ويُذكِّرُهم عَظائمَ آلائِه؛ ليَحمِلَهم على الاستِغراقِ في شُكرِ نَعمائِه الَّذي هو مُنْتهى كَمالاتِ القوَّةِ العمَليَّةِ؛ فعلى هذا يكونُ قولُه: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا [الشمس: 11] ، كلامًا تابعًا على سَبيلِ الاستطرادِ لقولِه: وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا؛ فإنَّ الطُّغيانَ أعظَمُ أنواعِ التَّدسيةِ. وقِيل: هو استطرادٌ بذِكرِ بَعضِ أحوالِ النَّفْسِ، وليس مِن جَوابِ القسَمِ في شَيءٍ، والجوابُ مَحذوفٌ تَقديرُه: لَيُدَمْدِمَنَّ اللهُ على كفَّارِ مكَّةَ لتَكذيبِهم رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كما دَمْدَمَ على ثَمودَ لتَكذيبِهم صالحًا عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وعلى هذا التَّأويلِ يكونُ قولُه: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا استطرادًا لجوابِ القسَمِ على طَريقِ التَّشبيهِ [62] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/760)، ((تفسير البيضاوي)) (5/315، 316)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/464، 465)، ((تفسير أبي حيان)) (10/489)، ((تفسير أبي السعود)) (9/164)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/370)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/496، 497). .
- ويَجوزُ أنْ تكونَ جُملةً مُعترِضةً بيْن القسَمِ والجَوابِ لمُناسَبةِ ذِكرِ إلهامِ الفُجورِ والتَّقوى، أي: أفلَحَ مَن زكَّى نفْسَه واتَّبَعَ ما ألْهَمَه اللهُ مِن التَّقوى، وخاب مَن اختارَ الفُجورَ بعْدَ أنْ أُلهِمَ التَّمييزَ بيْن الأمْرَينِ بالإدراكِ والإرشادِ الإلهيِّ. وهذه الجُملةُ تَوطئةٌ لجُملةِ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا [الشمس: 11] ؛ فإنَّ ما أصاب ثَمودَ كان مِن خَيبتِهم؛ لأنَّهم دسُّوا أنفُسَهم بالطَّغوى، وقُدِّمَ الفلاحُ على الخَيبةِ لمُناسَبةِ التَّقوى، وأُردِفَ بخَيبةِ مَن دسَّى نفْسَه؛ لتَهيئةِ الانتقالِ إلى المَوعظةِ بما حَصَلَ لثَمودَ مِن عِقابٍ على ما هو أثَرُ التَّدْسيةِ [63] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/370، 371). .
- وتَكريرُ (قَدْ) في قولِه تعالَى: وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا؛ لإبرازِ كَمالِ الاعتناءِ بتَحقيقِ مَضمونِه، والإيذانِ بتَعلُّقِ القسَمِ به أيضًا أصالةً [64] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/164). .