موسوعة التفسير

سورةُ الأنْبياءِ
الآيات (1-5)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ

غريب الكلمات:

مُحْدَثٍ: أي: مُجَدَّدٍ إنزالُه، والمُحدَثُ: ما أُوجِدَ بعدَ أنْ لم يكُنْ، وذلك إمَّا في ذاتِه، أو إحداثِه عندَ مَن حَصَلَ عندَه، وأصلُ (حدث): يدلُّ على كَونِ الشَّيءِ لم يكُنْ [9] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/36)، ((المفردات)) للراغب (ص: 222)، ((تفسير ابن كثير)) (5/332)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 884). .
لَاهِيَةً: أي: غافِلةً وساهيةً، وأصل (لهو): يدُلُّ على شُغلٍ عن شَيءٍ [10] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 498)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/213)، ((المفردات)) للراغب (ص: 749)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 236). .
النَّجْوَى: أي: السِّرارَ والمُناجاةَ، وأصلُ (نجو) هنا: يدلُّ على سَترٍ وإخفاءٍ [11] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 457)، ((تفسير ابن جرير)) (16/96)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/397)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 393). .
أَضْغَاثُ: أي: أخلاطُ، وأضغاثُ الأحلامِ: هي ما لا تأويلَ له مِنَ الرُّؤيا، كأنَّه جماعاتٌ تُجمَعُ مِن الرُّؤيا كما يُجمَعُ الحَشيشُ، وأصلُ (ضغث): يدُلُّ على التباسِ الشَّيءِ بَعضِه ببَعضٍ [12] يُنظر: ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (1/312)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 217)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 65)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/363)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 172)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 245). .

مشكل الإعراب:

قولُه تعالى: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ
في محلِّ الَّذِينَ أوجهٌ، منها:
الوجهُ الأول: الرفعُ، وذلك على أنَّه بدلٌ مِن واوِ (أَسَرُّوا). أو أن يكونَ (الذين) مبتدأً، و(أَسَرُّوا) جملةَ الخبرِ، قُدِّمَتْ على المبتدأ. أو أنَّه خبرُ مبتدأٍ مضمَرٍ، تقديرُه: هم الذين ظلموا.
الوجهُ الثاني: النَّصبُ على الذمِّ. أو على إضمارِ (أعني). وقيل غير ذلك.
قولُه: هَلْ هَذَا جملةٌ في محلِّ نصبٍ بدَلٌ من النَّجْوَى؛ لأنَّه في الواقِعِ هو الكلامُ الذي تناجَوا به. أو في محلِّ نصبٍ بإضمار القَولِ. أو في محلِّ نصبٍ على أنها محكيَّةٌ بالنجوى؛ لأنَّها في معنى القَولِ، أو لا محلَّ لها تفسيريَّةٌ للنَّجوى [13] يُنظر: ((مشكل إعراب القرآن)) لمكِّي (2/477)، ((الدر المصون)) للسمين (8/132)، ((الجدول في إعراب القرآن)) لصافي (17/4). .

المعنى الإجمالي:

يقول الله تعالى: قَرُبَ وَقتُ حِسابِ النَّاسِ على ما قدَّموا مِن عَمَلٍ، والحالُ أنَّهم لاهُونَ غافِلونَ مُعرِضونَ عن هذا الإنذارِ؛ وذلك أنَّهم ما مِن شَيءٍ يُستحدَثُ نُزولُه مِن القُرآنِ إلَّا كان سَماعُهم له سَماعَ لَعِبٍ واستِهزاءٍ، وقلوبُهم غافِلةٌ عن القُرآنِ الكريمِ، مَشغولةٌ بالدُّنيا وشَهواتِها. وأسَرَّ مُشرِكو قُريشٍ المناجاةَ فيما بينهم، قائلًا بعضُهم لبعضٍ: هل هذا الذي يَزعُمُ أنَّه رَسولٌ مِن اللهِ إليكم إلَّا بَشَرٌ مِثلُكم، وما القُرآنُ الذي جاء به إلَّا سِحرٌ، فكيف تجيئونَ إليه وتتَّبِعونَه مع عِلمِكم وإدراكِكم أنَّه سِحرٌ؟!
فردَّ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على الكُفَّارِ المكَذِّبينَ، فقال: ربِّي يعلَمُ كلَّ قَولٍ في السَّماءِ والأرضِ، ويعلَمُ ما أسرَرْتُموه وما أعلَنتُموه، وهو السَّميعُ العَليمُ.
بل جحَدَ الكُفَّارُ القُرآنَ، وقالوا: إنَّه أخلاطُ أحلامٍ لا حَقيقةَ لها، بل هو اختِلاقٌ وكَذِبٌ مفترًى، بل إنَّ مُحمَّدًا شاعرٌ، جاءَكم بشِعرٍ، فلْيَجِئْنا بمُعجِزةٍ مَحسوسةٍ -كناقةِ صالحٍ، وعصا موسى- إنْ أراد منَّا أن نُصَدِّقَه ونؤمِنَ به.

تفسير الآيات:

اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1).
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ.
أي: قَرُبَ [14] قال الواحدي: (معنى الاقترابِ هاهنا: قِصَرُ المدَّةِ التي بينَهم وبينَ الحسابِ). ((البسيط)) (15/7). وقتُ حِسابِ النَّاسِ [15] ممن اختار أنَّ المرادَ بالنَّاسِ: العمومُ: ابنُ جريرٍ، وابنُ جزي، وابنُ كثير، والبقاعي، والشوكاني، والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/221)، ((تفسير ابن جزي)) (2/18)، ((تفسير ابن كثير)) (5/331)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/379)، ((تفسير الشوكاني)) (3/468). ((تفسير السعدي)) (ص: 518). قال ابن عطية: (وقوله تعالى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ عامٌّ في جميعِ الناسِ، وإن كان المشارُ إليه في ذلك الوقتِ كفارَ قريشٍ، ويدلُّ على ذلك ما بعدُ مِن الآياتِ. وقولُه: وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ يريدُ: الكفارَ). ((تفسير ابن عطية)) (4/73). وقيل: المرادُ بالناسِ: كُفَّارُ مَكَّةَ. وممن اختار هذا القولَ: الواحدي، وأبو حيان. يُنظر: ((الوجيز)) للواحدي (ص 710)، ((تفسير أبي حيان)) (7/406). وقيل: المرادُ بالناسِ: المشركونَ مطلقًا، دونَ المؤمنينَ. يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (3/367). ((تفسير الشوكاني)) (3/468). قال ابن عاشور: (والمرادُ بالنَّاسِ المشركونَ؛ لأنَّهم المقصودُ بهذا الكلامِ كما يَدُلُّ عليه ما بعدَه). ((تفسير ابن عاشور)) (17/10). يومَ القيامةِ على أعمالِهم التي عَمِلوها في دُنياهم [16] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/221)، ((تفسير ابن كثير)) (5/331)، ((تفسير السعدي)) (ص: 518). قال السعدي: (وفي معنى قولِه: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ قولان: أحدُهما: أنَّ هذه الأمَّةَ هي آخِرُ الأُمَمِ، ورسولُها آخِرُ الرسُلِ، وعلى أمَّتِه تقومُ الساعةُ، فقد قَرُب الحسابُ منها بالنسبةِ لِما قبلَها من الأمَمِ... والقولُ الثاني: أنَّ المرادَ بقُربِ الحِسابِ: الموتُ، وأنَّ مَن مات قامَت قيامتُه، ودخَل في دارِ الجزاءِ على الأعمالِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 518). .
وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ.
أي: والحالُ أنَّهم [17] قال ابنُ عطيةَ: (قولُه: وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ يريدُ الكُفَّارَ، ويتَّجِهُ من هذه الألفاظِ على العُصاةِ من المؤمنينَ قِسطُهم). ((تفسير ابن عطية)) (4/73). في غفلةٍ في الدُّنيا عن اقترابِ حِسابِهم، وعمَّا يَفعَلُ اللهُ بهم في ذلك اليومِ، وقد أعرَضوا عن التفكُّرِ في الآخرةِ، وما ينتظرُهم فيها مِن الحسابِ، ولم يستعِدُّوا لها بالأعمالِ الصَّالحةِ [18] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/221)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/184)، ((تفسير الرازي)) (22/119)، ((تفسير الرسعني)) (4/590). !
مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا أخبَرَ اللهُ سُبحانَه عن غَفلةِ الكافرينَ وإعراضِهم، عَلَّلَ ذلك بقَولِه [19] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/382). :
مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2).
أي: ما يأتيهم [20] قال ابن كثير: (والخطابُ مع قُرَيشٍ ومَن شابَهَهم مِن الكفَّارِ). ((تفسير ابن كثير)) (5/332). مِن وَحيٍ من اللهِ حَديثِ النُّزولِ [21] قال ابن تيميَّة: (لَمَّا قالَ: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ عُلِم أنَّ الذِّكْرَ منه مُحْدَثٌ ومنه ما ليسَ بِمُحْدَثِ؛ لأنَّ النَّكرةَ إذا وُصِفَتْ مُيِّز بها بينَ الموصوفِ وغيرِه، كما لو قالَ: ما يأتيني مِن رجلٍ مسلمٍ إلَّا أكْرَمتُه، وما آكُلُ إلَّا طعامًا حلالًا ونحوَ ذلك، ويُعلَمُ أنَّ المحدَثَ في الآيةِ ليسَ هو المخلوقَ الَّذي يقولُه الجهميُّ، ولكنَّه الَّذي أُنزِل جديدًا، فإنَّ الله كان يُنَزِّلُ الْقرآنَ شيئًا بعدَ شيءٍ، فالمنزَّلُ أوَّلًا هو قديمٌ بالنِّسبةِ إلى المنزَّلِ آخِرًا. وكلُّ ما تقدَّم على غيرِه فهو قديمٌ في لُغةِ العربِ). ((مجموع الفتاوى)) (12/522). -لِتَذكيرِهم ومَوعِظتِهم- إلَّا استَمَعوه سَماعَ لَعِبٍ واستِهزاءٍ به، فلا يَعتَبِرونَ، ولا يتَّعظُونَ به [22] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/222)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 710)، ((تفسير الرازي)) (22/120)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّة (12/522)، ((تفسير ابن كثير)) (5/332)، ((تفسير السعدي)) (ص: 518). .
كما قال تعالى: أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ [النجم: 59 - 61] .
لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3).
لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ.
أي: غارِقةً قُلوبُهم في اللَّهوِ والغَفلةِ عن القرآنِ، مُتشاغِلةً بدُنياها وشَهَواتِها عن التأمُّلِ والتفَهُّمِ لِمَعانيه، فلا يتدَبَّرونَ حِكَمَه، ولا يتفَكَّرونَ فيما أودَعَ اللهُ فيه مِن الحُجَجِ والبراهينِ [23] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/222)، ((الوسيط)) للواحدي (3/229)، ((تفسير القرطبي)) (11/268)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/382). .
وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ.
أي: وبالَغَ مُشرِكو قُرَيشٍ في إخفاءِ المناجاةِ [24] وممَّن ذهَب إلى أنَّ الإسرارَ هنا بمعنى الإخفاءِ: تاج القراء الكرماني، وابنُ عطية، والرسعني، وابنُ كثير، والشنقيطي. يُنظر: ((غرائب التفسير)) للكرماني (2/733)، ((تفسير ابن عطية)) (4/74)، ((تفسير الرسعني)) (4/590)، ((تفسير ابن كثير)) (5/332)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/133). قال الرسعني: (والصَّحيحُ عندي: ما هو المتبادِرُ إلى الأفهامِ. فإن قيل: النَّجوى لا تكونُ إلَّا خُفْيةً، فما معنى قوله: وَأَسَرُّوا؟ قُلتُ: المبالغةُ في إخفاءِ ما تناجَوا به. فإنْ قيلَ: ما الذي حمَلَهم على المبالغةِ في إخفائِه، وهم أشَدُّ شَكيمةً وأحدُّ شَوكةً؟ قلتُ: حمَلَهم عليه الخَوفُ مِن نَقضِ ما أبرَموه من المكايدِ لهَدمِ الإسلامِ، وإطفاءِ نورِ النبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، على تقديرِ اطِّلاعِه عليه، على ما أُلِفَ وعُرِفَ من شأنِ ذوي الشَّأنِ). ((تفسير الرسعني)) (4/590). وقيل: الإسرارُ هنا بمعنى الإظهارِ، فهو مِن الأضدادِ. وممن ذهب إلى ذلك: أبو عبيدةَ، وابنُ جريرٍ. يُنظر: ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (2/34)، ((تفسير ابن جرير)) (16/223). فيما بيْنهم، فقال بعضُهم لِبَعضٍ: هل هذا الذي يَزعُمُ أنَّه رَسولٌ من اللهِ إليكم إلَّا إنسانٌ مِثلُكم في صُوَرِكم وخَلْقِكم، واحتياجِه للطعامِ والشَّرابِ وغَيرِ ذلك [25] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/74)، ((تفسير القرطبي)) (11/268، 269)، ((تفسير ابن كثير)) (5/332)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/383)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/133). ؟!
كما قال تعالى: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا [الإسراء: 94] .
أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ.
أي: أفتَقبَلونَ مِن محمَّدٍ القُرآنَ، وتصَدِّقونَ به وتتَّبِعونَه، وأنتم تَعلَمونَ وتُدرِكونَ أنَّه سِحرٌ [26] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/223)، ((تفسير ابن عطية)) (4/74)، ((تفسير القرطبي)) (11/269)، ((تفسير ابن كثير)) (5/332)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/14). وقال ابن عاشور: (يجوزُ أن يُرادَ بالإتيانِ هنا حُضورُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لِسَماعِ دَعوتِه، فجعلوه إتيانًا؛ لأنَّ غالِبَ حُضورِ المجالِسِ أن يكونَ بإتيانٍ إليها، وجعلوا كلامَه سِحرًا، فنَهَوا مَن ناجَوهم عن الاستِماعِ إليه. وهذا كقَولِه تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت: 26] ). ((تفسير ابن عاشور)) (17/14). ؟!
كما قال تعالى: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا * انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا [الإسراء: 47، 48].
قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّ الله تعالى لما أورَدَ هذا الكلامَ عَقِيبَ ما حكَى عن الكافرينَ؛ وجَب أن يكونَ كالجوابِ لِما قالوه، فكأنَّه قال: إنَّكم وإنْ أخفيتُم قَولَكم وطَعْنَكم، فإنَّ ربِّي عالمٌ بذلك، وإنَّه مِن وَراءِ عقوبتِه، فتُوُعِّدوا بذلك؛ لكي لا يعودوا إلى مِثلِه [27] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (22/121). .
وأيضًا لَمَّا كان اللهُ تعالى لا يُقِرُّ مَن كَذَبَ عليه، فضلًا عن أن يصَدِّقَه ويؤيِّدَه، ولا يخفَى عليه كيدٌ حتى يلزَمَ منه نَقصُ ما أرادَه؛ قال دالًّا لهم على صِدقِه، منبِّهًا على مَوضِعِ الحجَّةِ في أمرِه [28] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/384). :
قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قراءةُ: قَالَ على الخبَرِ، أي: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم أجاب الكُفَّارَ بهذا القَولِ [29] قرأ بها حفصٌ عن عاصمٍ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخَلفٌ. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/323). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((معاني القراءات)) للأزهري (2/163)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 465). .
2- قراءةُ: قُلْ على الأمرِ، أي: أنَّ اللهَ أمرَ نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم أن يُجيبَ الكُفَّارَ بهذا القَولِ [30] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/293). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((معاني القراءات)) للأزهري (2/163)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 465). .
قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.
أي: قال محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للكفَّارِ الذين يكذِّبونَه: ربِّي يعلَمُ كلَّ قولٍ في السَّماءِ والأرضِ سِرًّا كان أو جَهرًا، لا يخفَى عليه شَيءٌ ممَّا يُقالُ فيهما، وهو الذي أنزَل هذا القُرآنَ المُشتَمِلَ على خبَرِ الأوَّلينَ والآخِرينَ، الذي لا يستطيعُ أحدٌ أن يأتيَ بمِثلِه إلَّا الذي يعلَمُ السرَّ في السَّمواتِ والأرضِ [31] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/224)، ((تفسير القرطبي)) (11/270)، ((تفسير ابن كثير)) (5/332)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/385). .
كما قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا * وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الفرقان: 4 - 6].
وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.
أي: واللهُ هو السَّميعُ لكلِّ قولٍ في السَّماءِ والأرضِ، العليمُ بكُلِّ شَيءٍ، ومِن ذلك عِلمُه بأحوالِنا وما في قُلوبنا، وبالصَّادِقِ والكاذِبِ منَّا [32] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/224)، ((تفسير ابن كثير)) (5/332)، ((تفسير السعدي)) (ص: 518). .
بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآَيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّه لَمَّا ذكر اللهُ تعالى عن الكافرينَ أنَّهم قالوا: إنَّ ما أتَى به سِحرٌ؛ ذكَرَ اضطرابَهم في مقالاتِهم، فذكَر أنَّهم أضرَبوا عن نسبةِ السِّحرِ إليه، وقالوا: ما يأتي به إنَّما هو أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ، ثمَّ أضرَبوا عن هذا فقالوا: بَلِ افْتَرَاهُ، أي: اختَلَقَه وليس مِن عندِ الله، ثمَّ أضرَبوا عن هذا فقالوا: بَلْ هُوَ شَاعِرٌ، وهكذا المبطِلُ لا يَثبُتُ على قَولٍ، بل يبقى متحَيِّرًا [33] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/409). .
وأيضًا فإنَّه لَمَّا كان وَصْفُهم له بأنَّه سِحرٌ مِمَّا يَهولُ السَّامِعَ، ويَعلَمُ منه أنَّه مُعجِزٌ، فرُبَّما أدَّى إلى الاستِبصارِ في أمرِه؛ أخبَرَ أنَّهم نزَلوا به عن رُتبةِ السِّحرِ على سَبيلِ الإضرابِ، فقال [34] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/386). :
بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ.
أي: بل [35] قيل: (بل) هنا للإضرابِ الانتقاليِّ وليس الإبطاليَّ؛ فمرةً يقولونَ كذا، ومرةً يقولونَ كذا، متحيرينَ لا يستقِرُّونَ على رأيٍ. وممن قال بذلك: الواحدي، والقرطبي، والشنقيطي. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (3/230)، ((تفسير القرطبي)) (11/270)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/135). وقيل: بل قال بعضُهم بكذا، وقال بعضهم بكذا، فكلُّ فريقٍ منهم يقولُ بشيءٍ من ذلك. وممَّن قال بهذا المعنى: ابن جرير، وابن الجوزي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/225)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/185). قال الكافِرونَ: القرآنُ أشياءُ مُختَلِطةٌ رآها محمَّدٌ في منامِه ولا حقيقةَ لها، بل هو كذِبٌ افتراه محمَّدٌ مِن قِبَلِ نفْسِه، بل محمَّدٌ شاعِرٌ جاءكم بشِعرٍ، وزعم أنَّه مِن عندِ ربِّه [36] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/225)، ((الوسيط)) للواحدي (3/230)، ((تفسير القرطبي)) (11/270)، ((تفسير ابن كثير)) (5/332)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/135، 136). !
فَلْيَأْتِنَا بِآَيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ.
أي: قال الكافرونَ: فَلْيَأْتِنَا محمَّدٌ بمُعجِزةٍ حِسِّيَّةٍ تدُلُّ على صِدقِه، كما أيَدَّ اللهُ رُسُلَه السَّابقينَ بالمُعجِزاتِ؛ كناقةِ صالحٍ، وعصا موسى، ومعجزاتِ عيسى، وغيرِ ذلك من المعجزاتِ التي لا يَقدِرُ عليها إلَّا اللهُ، ولا يأتي بها إلَّا الأنبياءُ والرُّسُلُ عليهم السَّلامُ [37] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/225)، ((تفسير القرطبي)) (11/271)، ((تفسير ابن كثير)) (5/332)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/136). .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ الله تعالى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ ذكَرَ تعالى هذا الاقترابَ؛ لِما فيه مِن المصلحةِ للمُكَلَّفينَ، فيكونُ أقرَبَ إلى تلافي الذُّنوبِ، والتحَرُّزِ عنها خوفًا من ذلك [38] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (22/119). ، فمَن عَلِمَ اقترابَ الساعةِ قَصُرَ أمَلُه، وطابت نفسُه بالتَّوبةِ، ولم يركَنْ إلى الدُّنيا، فكأنَّ ما كان لم يكُنْ إذا ذهب، وكلُّ آتٍ قَريبٌ، والموتُ لا محالةَ آتٍ، وموتُ كلِّ إنسانٍ قِيامُ ساعتِه، والقيامةُ أيضًا قريبةٌ بالإضافةِ إلى ما مضَى من الزَّمانِ، فما بقِي مِن الدُّنيا أقلُّ مِمَّا مضَى [39] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (11/267). .
2- قَولُ الله تعالى: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ ذلك ذَمٌّ للكُفَّارِ، وزَجرٌ لِغَيرِهم عن مِثلِه؛ لأنَّ الانتفاعَ بما يُسمَعُ لا يكونُ إلَّا بما يَرجِعُ إلى القَلبِ مِن تدَبُّرٍ وتفَكُّرٍ، وإذا كانوا عندَ استماعِه لاعبينَ حَصَلوا على مجَرَّدِ الاستِماعِ الذي قد تُشارِكُ البهيمةُ فيه الإنسانَ [40] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (22/120). !

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ الله تعالى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ إن قيل: ما وجهُ وصفِه بالاقتراب وقد مضَى لهذا الوعيدِ مئاتُ السنينَ ولم يقَعْ؟
فالجوابُ عنه بعدةِ أجوبةٍ:
أحدها: لقلةِ ما بقيَ بالإضافةِ إلى ما مضَى.
الثاني: لأنَّه آتٍ، وكلُّ آتٍ قريبٌ، وإنْ طالَتْ مُدَّتُه.
الثالث: أنَّه قريبٌ عندَ الله، وإن كان بعيدًا بالنسبةِ إلى غيرِه، قال الله تعالى: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا [41]  يُنظر: ((تفسير الرسعني)) (4/588). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الرازي)) (22/118)، ((تفسير النسفي)) (2/393). [المعارج:6، 7].
2- قَولُ الله تعالى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ لم يعَيِّنِ الوقتَ؛ لأجْلِ أنَّ كِتمانَه أصلَحُ، كما أنَّ كِتمانَ وَقتِ المَوتِ أصلَحُ [42] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (22/119). .
3- قَولُ الله تعالى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ الفائِدةُ في تَسميةِ يَومِ القيامةِ بـ (يوم الحساب): أنَّ الحِسابَ هو الكاشِفُ عن حالِ المرءِ؛ فالخَوفُ مِن ذِكرِه أعظَمُ [43] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (22/119). .
4- قوله تعالى: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ استدلَّ المعتزلةُ بوَصْفِ الذِّكْرِ بكونِه مُحْدَثًا على أَنَّ القرآنَ مُحْدَثٌ أي: مخلوقٌ؛ لأَنَّ الذِّكْرَ هنا هو القرآنُ.
والجواب: أنَّ المرادَ محدَثٌ تنزيلُه، والحدوثُ في لغةِ العربِ العامَّةِ ليس هو الحدوثَ في اصطلاحِ أهلِ الكلامِ؛ فإنَّ العربَ يُسمُّون ما تجدَّد حادِثًا [44] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (3/367). ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيميَّة (1/374)، ((تفسير الشوكاني)) (3/469). .
5- وفي قولِه: وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ أخبَرَ عنهم بخَبرينِ ظاهِرُهما التَّنافي؛ لأنَّ الغفلةَ عن الشَّيءِ والإعراضَ عنه مُتنافيانِ، لكنْ يُجْمَعُ بينَهما باختلافِ حالينِ: أخبَرَ عنهم أوَّلًا أنَّهم لا يتفكَّرونَ في عاقبةٍ، بل هم غافِلونَ عمَّا يَؤولُ إليه أمْرُهم، ثمَّ أخبَرَ عنهم ثانيًا أنَّهم إذا نُبِّهوا من سِنَةِ الغفلةِ، وذُكِّروا بما يَؤولُ إليه أمْرُ المُحسِنِ والمُسيءِ، أعْرَضوا عنه، ولم يُبالوا بذلك [45] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/101)، ((تفسير أبي حيان)) (7/407). .
6- قَولُ الله تعالى: بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ لَمَّا كان المُشرِكونَ يَصِفونَ القُرآنَ بجَميعِ هذه الأوصافِ جُملةً، يقولونَ لكُلِّ شَخصٍ ما رأَوه أنسَبَ له منها؛ نَبَّه اللهُ سُبحانَه كلَّ مَن له لُبٌّ على بُطلانِها كُلِّها بتناقُضِها بحَرفِ الإضرابِ؛ إشارةً إلى أنَّه كان يجِبُ على مَن قالها على قِلَّةِ عَقْلِه وعَدَمِ حَيائِه ألَّا يَنتَقِلَ إلى قَولٍ منها إلَّا بعد الإعراضِ عن الذي قَبلَه، وأنَّه مِمَّا يُضرَبُ عنه؛ لِكَونِه غَلَطًا، ما قيل إلَّا عن سَبْقِ لِسانٍ وعَدَمِ تأمُّلٍ؛ سَترًا لعِنادِه، وتَدليسًا لِفُجورِه! ولو فعل ذلك لكانت جَديرةً بانكشافِ بُطلانِها بمُجَرَّدِ الانتِقالِ، فكيف عند اجتِماعِها؟ ولَمَّا كانت نِسبتُه إلى الشِّعرِ أضعَفَها شأنًا، وأوضَحَها بُطلانًا؛ لم يحتَجْ إلى إضرابٍ عنه [46] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/386-387). .
7- في قولِهم: كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ دَلالةٌ على مَعرفتِهم بإتيانِ الرُّسلِ [47] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/410). .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ

- قولُه: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ أُسلوبٌ بديعٌ في الافتتاحِ؛ لِمَا فيه من غَرابةِ الأسلوبِ، وإدخالِ الرَّوعِ على المُنذَرينَ؛ فإنَّ المُرادَ بالنَّاسِ مُشْرِكو مكَّةَ -على قولٍ في التفسيرِ-، واقْتَرَبَ فيه مُبالَغةٌ في القُرْبِ، فصِيغَةُ الافتعالِ الموضوعةُ للمُطاوَعةِ مُستعمَلةٌ في تَحقُّقِ الفعلِ، أي: اشتَدَّ قُرْبُ وُقوعِه بهم [48] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/8). .
- وفي قولِه: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ أسنَدَ الاقترابَ إلى الحسابِ لا إلى السَّاعةِ، مع استتباعِها له ولسائرِ ما فيها من الأحوالِ والأهوالِ الفظيعةِ؛ لانسياقِ الكلامِ إلى بَيانِ غفْلتِهم عنه، وإعراضِهم عمَّا يُذكِّرُهم ذلك. واللَّامُ في لِلنَّاسِ مُتعلِّقةٌ بالفعْلِ، وتَقديمُها على الفاعلِ؛ للمُسارَعةِ إلى إدخالِ الرَّوعةِ؛ فإنَّ نِسْبةَ الاقترابِ إليهم مِن أوَّلِ الأمْرِ ممَّا يَسوؤُهم ويُورِثُهم رَهْبةً وانزِعاجًا من المُقترِبِ. وفي إسنادِ الاقترابِ المُنْبِئِ عن التَّوجُّهِ نحْوَهم إلى الحسابِ -مع إمكانِ العكْسِ بأنْ يُعتبرَ التَّوجُّهُ والإقبالُ من جِهَتِهم نحْوَه- من تَفخيمِ شأْنِه، وتَهويلِ أمْرِه ما لا يَخْفى؛ لِمَا فيه من تَصويرِه بصُورةِ شَيءٍ مُقبِلٍ عليهم، لا يَزالُ يُطالِبُهم ويُصيبُهم لا مَحالةَ [49] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/53). .
- قولُه: لِلنَّاسِ المُرادُ به المُشرِكونَ -على قولٍ في التفسيرِ-؛ فيكونُ هذا من إطلاقِ اسمِ الجنْسِ على بعْضِه للدَّليلِ القائمِ، وهو ما يَتْلوه من صِفاتِ المُشرِكين [50] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/101)، ((تفسير البيضاوي)) (4/45)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/10). .
- والضَّميرُ في قولِه: حِسَابُهُمْ عائدٌ إلى النَّاسِ؛ فصار قولُه: لِلنَّاسِ مُساوِيًا للضَّميرِ الَّذي أُضِيفَ إليه (حِساب)، فكأنَّه قيل: اقترَبَ حِسابٌ للنَّاسِ لهم؛ فكان تأْكيدًا لفظيًّا، وأصْلُ النَّظمِ: اقترَبَ للنَّاسِ الحسابُ. وإنَّما نُظِمَ التَّركيبُ على هذا النَّظمِ بأنْ قُدِّمَ ما يدُلُّ على المُضافِ إليه، وعُرِّفَ النَّاسُ تَعريفَ الجنْسِ؛ ليَحصُلَ ضَرْبٌ من الإبهامِ، ثمَّ يقَعَ بعْدَه التَّبيينُ. ولِمَا في تَقديمِ الجارِّ والمجرورِ من الاهتمامِ بأنَّ الاقترابَ للنَّاسِ؛ لِيَعْلمَ السَّامِعُ أنَّ المُرادَ تَهديدُ المُشرِكينَ -على قولٍ في التفسيرِ-؛ لأنَّهم الَّذين يُكنى عنهم بالنَّاسِ كثيرًا في القُرآنِ، وعند التَّقديمِ احتِيجَ إلى تَقديرِ مُضافٍ، فصار مثْلَ: اقترَبَ حِسابٌ للنَّاسِ الحساب، وحُذِفَ المُضافُ؛ لدَلالةِ مُفسِّرِه عليه، ولمَّا كان الحِسابُ حِسابَ النَّاسِ المذكورينَ، جِيءَ بضَميرِ النَّاسِ؛ ليَعودَ إلى لفْظِ النَّاسِ، فيَحْصُلَ تأكيدٌ آخرُ، وهذا نمَطٌ بديعٌ من نسْجِ الكلامِ [51] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (10/282، 283)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/9، 10). .
- ودلَّتْ (في) في قولِه: وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ على الظَّرفيَّةِ الَّتي هي شِدَّةُ تَمكُّنِ الوصْفِ منهم، أي: وهم غافِلونَ أشَدَّ الغَفْلةِ، حتَّى كأنَّهم مُنْغمِسون فيها، أو مَظْروفونَ في مُحيطِها؛ ذلك أنَّ غفْلَتَهم عن يومِ الحسابِ مُتأصِّلةٌ فيهم؛ بسَببِ سابِقِ كُفْرِهم [52] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/10). .
2- قوله تعالى: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ
- جُملةُ: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ ... مُبيِّنةٌ لجُملةِ: وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ؛ لبَيانِ تَمكُّنِ الغَفْلةِ منهم وإعراضِهم، بأنَّهم إذا سَمِعوا في القُرآنِ تَذكيرًا لهم بالنَّظرِ والاستِدلالِ، اشْتَغلوا عنه باللَّعبِ واللَّهوِ، فلمْ يَفْقهوا معانِيَه، وكان حَظُّهم منه سَماعَ ألْفاظِه [53] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/101)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/11). .
- والذِّكرُ: القُرآنُ؛ أُطْلِقَ عليه اسْمُ الذِّكرِ الَّذي هو مصدرٌ؛ لإفادةِ قُوَّةِ وصْفِه بالتَّذكيرِ [54] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/11). .
- و(مِن) في قولِه: مِنْ رَبِّهِمْ لابتداءِ الغايةِ مُتعلِّقةٌ بـ يَأْتِيهِمْ، أو بمَحذوفٍ هو صِفَةٌ لـ ذِكْرٍ، وفي ذلك دَلالةٌ على فضْلِه وشَرفِه، وكَمالِ شَناعةِ ما فَعَلوا به. والتَّعرُّضُ لعُنوانِ الرُّبوبيَّةِ؛ لتَشديدِ التَّشنيعِ [55] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/54). .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ؛ حيث قال هنا: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ، وقال في (الشُّعراءِ): وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ [الشعراء: 5] ، فخُصَّتْ هذه السُّورة بقولِه: مِنْ رَبِّهِمْ بالإضافةِ؛ ووجْهُه: أنَّ هذينِ الاسمينِ العَظيمينِ -(الرَّب) و(الرَّحمن)- توارَدَا في الكتابِ العزيزِ كثيرًا، ثمَّ إنَّ اسْمَه سُبحانه (الرَّحمنَ) يَغلِبُ وُرودُه حيث يُرادُ الإشارةُ إلى العفْوِ والإحسانِ والرِّفقِ بالعبادِ والتَّلطُّفِ والتَّأنيسِ. وأمَّا اسْمُه (الرَّبُّ) فيَعُمُّ وُرودُه طَرفَيِ التَّرغيبِ والتَّرهيبِ؛ أمَّا التَّرغيبُ فبَيِّنٌ، وأمَّا التَّرهيبُ فحيث يَرِدُ معنى مِلْكيَّتِه سُبحانه لهم، وانفرادِه بإيجادِهم، وإدرارِ أرزاقِهم، وبَيانِ انفرادِه تعالى بذلك وهم على كُفرِهم. ولمَّا تقدَّمَ قبْلَ آيةِ (الأنبياءِ) مِن الأخبارِ ما طَيُّه وعيدٌ وترهيبٌ معَ تَلطُّفِه سُبحانه بهم بتَذكيرِهم، لم يكُنْ لِيُناسِبَ ذلك وُرودُ اسْمِه (الرَّحمنِ). أمَّا آيةُ (الشُّعراءِ) فمَبْنيَّةٌ على تأْنيسِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وإعلامِه أنَّ توقُّفَ قومِه عن الإيمانِ إنَّما هو بقُدرتِه تعالى عليهم، ولو شاء لأراهم آيةً تُبْهِرُهم، ثمَّ رجَعَ الكلامُ إلى تَعنيفِ المُكذِّبينَ، فلمَّا كان بِناءُ الآيةِ على التَّأنيسِ والتَّلطُّفِ بِنَبيِّنا صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وإعلامِه بأنَّ تأْخيرَ العذابِ عنهم إنَّما هو إبقاءٌ منه تعالى؛ ليَسْتجيبَ مَن قُدِّرَ له الإيمانُ منهم، فأشار إلى هذا، وناسبَهُ اسْمُه (الرَّحمنُ)؛ فوضَحَ وُرودُ كلٍّ من الآيتينِ في مَوضعِه على يُناسِبُ [56] يُنظر: ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (2/345، 346). . وقيل غيرُ ذلك [57] يُنظر: ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 176، 177)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 372). .
- قولُه: مُحْدَثٍ فيه كِنايةٌ عن عدَمِ انتفاعِهم بالذِّكْرِ كلَّما جاءهم، بحيث لا يَزالونَ بحاجةٍ إلى إعادةِ التَّذكيرِ وإحداثِه، مع قطْعِ مَعذرتِهم؛ لأنَّه لو كانوا سَمِعوا ذِكْرًا واحدًا، فلم يَعْبؤوا به، لَانتَحَلوا لأنفُسِهم عُذرًا أنَّهم كانوا ساعتَئذٍ في غَفلةٍ، فلمَّا تكرَّرَ حَدثانُ إتيانِهِ تبيَّنَ لكلِّ مُنصِفٍ أنَّهم مُعرِضون عنه صَدًّا [58] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/11). .
- وجُملةُ: اسْتَمَعُوهُ حالٌ من ضَميرِ النَّصبِ في يَأْتِيهِمْ، وجُملةُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ حالٌ لازمةٌ من ضَميرِ الرَّفعِ في اسْتَمَعُوهُ مُقيِّدةٌ لجُملةِ اسْتَمَعُوهُ؛ لأنَّ جُملةَ اسْتَمَعُوهُ حالٌ باعتبارِ أنَّها مُقيَّدةٌ بحالٍ أُخرى هي المقصودةُ من التَّقييدِ، وإلَّا لصارَ الكلامُ ثَناءً عليهم. وفائدةُ هذا التَّرتيبِ بين الجُملتينِ الحاليَّتينِ: الزِّيادةُ لقطْعِ مَعذرتِهم المُستفادِ من قولِه: مُحْدَثٍ [59] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/12). .
- وقوله: وَهُمْ يَلْعَبُونَ ذُكِرَ (اللَّعِبُ) مُقَدَّمًا على (اللَّهوِ) في قوله : لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ كما في قولِه تعالى: إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ [مُحمَّد: 36]؛ تنبيهًا على أنَّ اشتِغالَهم باللَّعِبِ -الذي معناه السُّخريةُ والاستِهزاءُ- معلَّلٌ باللَّهوِ، الذي معناه الذُّهولُ والغَفلةُ؛ فإنَّهم أقدَموا على اللَّعِبِ لِلَهْوِهم وُذهولِهم عن الحقِّ [60] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (22/120). .
3- قوله تعالى: لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ
- قولُه: لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ احتراسٌ لجُملةِ اسْتَمَعُوهُ، أي: استماعًا لا وعْيَ معه [61] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/12). ، وأفاد قولُه: لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ أنَّهم ذاهِلونَ غافِلونَ عن ذلك؛ فنَفى آخِرُ الكلامِ ما أثبَتَهُ أوَّلًا على سَبيلِ التَّوكيدِ؛ ليُؤْذِنَ بأنَّهم لمَّا لم يَنْتفِعوا بذلك الاستِماعِ والتَّفطُّنِ، حيث اسْتَهزؤوا بالذِّكْرِ، كأنَّهم لم يَفْطَنوا أصْلًا، وثَبَتوا على رأْسِ غَفلتِهم [62] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (10/286). .
- قولُه: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى ... كَلامٌ مُستأْنَفٌ مَسوقٌ لبَيانِ جِناياتِهم خاصَّةً إثْرَ حِكايةِ جِناياتِهم المُعتادةِ [63] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/54). ، ويجوزُ أنْ تكونَ عطْفًا على جُملةِ: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ؛ لأنَّ كِلْتا الجُملتينِ مَسوقةٌ لذِكْرِ أحوالِ تلقِّي المُشركينَ لدَعوةِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالتَّكذيبِ والبُهتانِ والتَّآمُرِ على رفْضِها [64] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/12). .
- وفي قولِه: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا عبَّرَ بقولِه: وَأَسَرُّوا، مع أنَّ النَّجوى الَّتي هي التَّناجي لا تكونُ إلَّا خُفْيةً ومُسارَّةً؛ وذلك لأنَّهم بالَغوا في إخفاءِ المُسارَّةِ، أو جَعَلوها بحيث لا يَفْطَنُ أحدٌ لتَناجِيهم، ولا يعلَمُ أنَّهم مُتناجُونَ. وعلى وجهِ إبدالِ الَّذِينَ ظَلَمُوا من واوِ وَأَسَرُّوا؛ فيكونُ ذلك إشْعارًا بأنَّهم المَوسومونَ بالظُّلمِ الفاحشِ فيما أسَرُّوا به، ولزيادةِ تَقريرِ أنَّهم المقصودُ من النَّجوى، ولِمَا في الموصولِ الَّذِينَ ظَلَمُوا من الإيماءِ إلى سبَبِ تَناجيهم بما ذُكِرَ، وأنَّ سبَبَ ذلك كُفْرُهم وظُلْمُهم أنفُسَهم، وللنِّداءِ على قُبْحِ ما هم مُتَّصِفون به. وعلى وجْهِ أنَّه مُبتدأٌ خبَرُه وَأَسَرُّوا النَّجْوَى فيكونُ قُدِّمَ عليه اهْتِمامًا به، أي: وهؤلاء أسَرُّوا النَّجوى؛ فوضَعَ المُظْهَرَ مَوضِعَ المُضمَرِ؛ تَسجيلًا على فِعْلِهم بأنَّه ظُلْمٌ [65] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/102)، ((تفسير أبي حيان)) (7/408)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/383)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 372)، ((تفسير أبي السعود)) (6/54)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/13). .
- قولُه: هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ مفعولٌ لقولٍ مُضْمَرٍ هو جوابٌ عن سُؤالٍ نشَأَ عمَّا قبْلَه؛ كأنَّه قِيلَ: ماذا قالوا في نَجْواهم؟ فقيل: قالوا: هَلْ هَذَا... [66] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/54). ، وهو استفهامٌ معناهُ التَّعجُّبُ والإنكارُ يَقْتضي أنَّهم خاطَبوا مَن قارَبَ أنْ يُصدِّقَ بنُبوَّةِ محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، أي: فكيفَ تُؤمِنون بنُبوَّتِه وهو أحدٌ منكم؟! وإنكارُهم وتَعجُّبُهم مِن حيثُ كانوا يَرَون أنَّ اللهَ لا يُرسِلُ إلَّا مَلَكًا [67] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/408)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/13). .
- قولُه: أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ استفهامٌ معناه الإنكارُ والتَّوبيخُ، والفاءُ للعطْفِ على مُقدَّرٍ يَقْتضيهِ المَقامُ [68] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/101، 102)، ((تفسير أبي حيان)) (7/408)، ((تفسير أبي السعود)) (6/54)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/14). .
- قولُه: وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ أي: تأْتونَ السِّحرَ وبصَرُكم سليمٌ، وأرادوا به العِلْمَ البَديهيَّ، فعبَّروا عنه بالبصَرِ؛ لأنَّ المُبْصَراتِ لا يَحتاجُ إدراكُها إلى تَفكيرٍ [69] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/14). . وهذه الجُملةُ حالٌ من فاعلِ (تَأْتُونَ)، مُقرِّرةٌ للإنكارِ، ومُؤكِّدةٌ للاستبعادِ [70] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/54). .
4- قوله تعالى: قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
- في قولِه: قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ لم يقُلْ: (يَعلَمُ السِّرَّ) مُوافقةً لقولِه: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى، وإنَّما أُوثِرَ القولُ المُنتظِمُ للسِّرِّ والجهْرِ على السِّرِّ؛ لإثباتِ عِلْمِه تعالى بالسِّرِّ على النَّهجِ البُرهانيِّ، مع ما فيه مِن الإيذانِ بأنَّ عِلْمَه تعالى بالسِّرِّ والجهْرِ على وَتيرةٍ واحدةٍ، لا تفاوُتَ بينهما بالجَلاءِ والخفاءِ قطْعًا كما في عُلومِ الخلْقِ، ولأنَّ القولَ عامٌّ يَشمَلُ السِّرَّ والجهْرَ، فكانَ في الإخبارِ بعلمِه القولَ عِلمُ السِّرِّ وزيادةٌ، وكان آكَدَ في الاطِّلاعِ على نَجواهُم مِن أنْ يقولَ: (يعلَمُ سِرَّهم)، ثمَّ بيَّنَ ذلك بأنَّه السَّميعُ العليمُ؛ فكيف تَخْفى عليه خافيةٌ؟! وقد تُرِكَ هذا الآكَدُ في سُورةِ (الفُرقانِ) في قولِه: قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الفرقان: 6] ؛ لأنَّه ليس بواجبٍ أنْ يَجِيءَ بالآكَدِ في كلِّ مَوضِعٍ، ولكنْ يَجِيءُ بالوكيدِ تارَةً وبالآكَدِ أُخْرى، كما يَجِيءُ بالحسَنِ في مَوضعٍ وبالأحْسنِ في غيرِه؛ لِيَفْتَنَّ في الكلامِ افْتِنانًا، وتُجْمَعَ الغايةُ وما دُونَها، على أنَّ أُسلوبَ تلك الآيةِ خِلافُ أُسلوبِ هذه، مِن قِبَلِ أنَّه قدَّمَ هاهنا أنَّهم أسَرُّوا النَّجوى، فكأنَّه أراد أنْ يقولَ: إنَّ ربِّي يَعلَمُ ما أسَرُّوهُ، فوضَعَ القولَ مَوضِعَ ذلك للمُبالَغةِ، وهناك في (الفُرقانِ) قصَدَ وصْفَ ذاتِه بأنْ أنزَلَه الَّذي يعلَمُ السِّرَّ في السَّمواتِ والأرضِ، فهو كقولِه: عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ [71] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/103)، ((تفسير البيضاوي)) (4/46)، ((تفسير أبي حيان)) (7/409)، ((تفسير أبي السعود)) (6/55)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/15). [سبأ: 3] . وقيل: لم يقُل: (يعلمُ السِّرَّ)؛ لمراعاةِ العِلمِ بأنَّ الذي قالوه مِن قَبيلِ السِّرِّ، وأنَّ إثباتَ عِلمِه بكلِّ قَولٍ يقتضي إثباتَ عِلمِه بالسِّرِّ وغَيرِه، بناءً على متعارَفِ النَّاسِ، وأمَّا قَولُه في سورة (الفرقان): قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الفرقان: 6] فلم يتقَدَّمْ قَبلَه ذِكرٌ للإسرارِ، وكان قَولُ الذين كفروا: إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ [الفرقان: 4] صادِرًا منهم تارةً جهرًا وتارةً سِرًّا، فأعلمهم اللهُ باطِّلاعِه على سِرِّهم، ويُعلَمُ منه أنَّه مطَّلِعٌ على جَهرِهم بطريقةِ الفَحوى [72] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/15). .
- و(أل) في الْقَوْلَ للاستغراقِ، أي: يَعلَمُ كلَّ قولٍ في السَّماءِ والأرضِ من جَهْرٍ أو سِرٍّ؛ وبذلك كان هذا تَذييلًا [73] يُنظر:  ((تفسير ابن عاشور)) (17/14). .
- وقولُه: وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ اعتراضٌ تَذييليٌّ مُقرِّرٌ لمَضمونِ ما قبْلَه، مُتضمِّنٌ للوعيدِ [74] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/55). .
5- قولُه تعالى: بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآَيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ
- قولُه: فَلْيَأْتِنَا بِآَيَةٍ جوابُ شَرْطٍ مَحذوفٍ، يُفصِحُ عنه السِّياقُ؛ كأنَّه قيلَ: وإنْ لم يكُنْ كما قُلْنا، بل كان رَسولًا مِنَ اللهِ تعالى، فلْيأتِنا بآيةٍ. ودخلَتْ لامُ الأمْرِ على فِعْلِ الغائبِ؛ لمَعْنى إبلاغِ الأمْرِ إليه، أي: فقُولوا له: ائتِنَا بآيةٍ [75] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/55). .
- والتَّشبيهُ في قولِه: كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ في مَوضعِ الحالِ من ضَميرِ فَلْيَأْتِنَا، أي: حالةُ كونِ هذا البشَرِ حين يأْتي بالآيةِ يُشبِهُ رِسالتُه رِسالةَ الأوَّلينَ، والمُشبَّهُ ذاتٌ والمُشبَّهُ به معنى الرِّسالةِ، وذلك واسعٌ في كَلامِ العربِ، وصِحَّةُ التشبيهِ مِن حيثُ إنَّ الإرسالَ يَتضمَّنُ الإتيانَ بالآيةِ. ويجوزُ أنْ يُحمَلَ النَّظمُ الكريمُ على أنَّه أُرِيدَ كلُّ واحدٍ من الإتيانِ والإرسالِ في كلِّ واحدٍ من طَرفَيِ التَّشبيهِ، لكنَّه تُرِكَ في جانبِ المُشبَّهِ ذِكْرُ الإرسالِ، وتُرِكَ في جانبِ المُشبَّهِ به ذِكْرُ الإتيانِ؛ اكتفاءً بما ذُكِرَ في كلِّ مَوطنٍ عمَّا تُرِكَ في الموطنِ الآخَرِ [76] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/103، 104)، ((تفسير البيضاوي)) (4/46)، ((تفسير أبي حيان)) (7/410)، ((تفسير أبي السعود)) (6/55)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/16، 17). .
- وقيل: التعبيرُ في حقِّه بالإتيانِ، والعدولُ عن الظاهرِ فيما بعدَه إيماءٌ إلى أنَّ ما أتَى به مِن عندِه، وما أتَى به الأوَّلونَ مِن الله؛ ففيه تعريضٌ مناسبٌ لِما قبلَه مِن الافتراءِ [77]  يُنظر: ((حاشية الشهاب على البيضاوي)) (6/242). .