موسوعة التفسير

سورةُ الفُرقانِ
الآيات (4-6)

ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ

غريب الكلمات:

إِفْكٌ: أي: كَذِبٌ، وقيل: هو أسوأُ الكذبِ؛ لأنَّه قلْبٌ للكلامِ عن الحقِّ إلى الباطلِ، وأصلُه: يدُلُّ على قَلبِ الشَّيءِ وصَرفِه عن جِهتِه [103] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 30)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (ص: 118)، ((المفردات)) للراغب (ص: 79)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 153)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/15). .
افْتَرَاهُ: أي: اختلَقَه، والافتِراءُ: الاختِلاقُ، ويُقالُ: افترَى فلانٌ على فلانٍ: إذا قذَفه بما ليسَ فيه، وأصلُه: ما عظُم مِن الكَذِبِ [104] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 31، 280)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 102)، ((المفردات)) للراغب (ص: 634)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 154). .
وَزُورًا: الزُّورُ: الباطِلُ مِن قَولٍ أو فِعلٍ، وقد غَلَب على الكَذِبِ، وقيل للكَذِبِ: زورٌ؛ لكونِه مائِلًا عن طريقةِ الحَقِّ، وأصلُ (زور): يدُلُّ على المَيلِ والعُدولِ [105] يُنظر: ((الغريبين)) للهروي (3/837)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/36)، ((المفردات)) للراغب (ص: 387)، ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/242)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 485)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/78). .
أَسَاطِيرُ: الأساطيرُ: الأباطيلُ والتُّرَّهاتُ، جمعُ أُسطورةٍ، وهي: ما سُطِرَ مِن أخبارِ الأوَّلينَ وكَذِبِهم، وأصلُ (سطر): يدُلُّ على اصطفافِ الشَّيءِ [106] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 37)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 57)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/72)، ((المفردات)) للراغب (ص: 409)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 94). .
اكْتَتَبَهَا: أي: اختَلَقها واستَنسخَها، وأصلُ (كتب): يدُلُّ على جَمعِ شَيءٍ إلى شَيءٍ [107] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/158)، ((المفردات)) للراغب (ص: 701)، ((تفسير ابن كثير)) (6/94). .
تُمْلَى: أي: تُلقَى وتُقرَأُ، مِن قَولِهم: أمليتُ عليك الكِتابَ وأملَلْتُ، وهو إلقاءُ الكلامِ لِمن يكتُبُ ألفاظَه أو يَرويها أو يحفَظُها [108] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/401)، ((المفردات)) للراغب (ص: 777)، ((تفسير القرطبي)) (13/4)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/325). .
بُكْرَةً: أي: أوَّلَ النَّهارِ، وأصلُ (بكر): يدُلُّ على أوَّلِ الشَّيءِ وبَدئِه [109] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/287)، ((المفردات)) للراغب (ص: 140)، ((تفسير القرطبي)) (19/150). .
وَأَصِيلًا: أي: آخِرَ النَّهَارِ، وما بيْن العَصرِ إلى اللَّيلِ [110] يُنظر: ((المفردات)) للراغب (ص: 78)، ((تفسير القرطبي)) (19/150)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 215). .

المعنى الإجمالي:

يَذكرُ الله تعالى بعضَ الشُّبهاتِ التي أثارها المشركونَ حوْلَ القرآنِ، فيقولُ: وقال الكافِرونَ: ما هذا القرآنُ إلَّا كَذِبٌ اختلقَه محمَّدٌ مِن عِندِه، وأعانه على اختِلاقِه قَومٌ مِن غيرِ قَومِه! فقد أتى هؤلاء الكُفَّارُ الكاذِبون بظُلمٍ وكَذِبٍ.
ثمَّ يَذكرُ تعالى شُبْهةً أُخرَى مِن شُبُهاتِهم الفاسدةِ، وهي أنَّهم قالوا: ما هذا القُرآنُ إلَّا أكاذيبُ الأوَّلينَ استنسَخها منهم محمَّدٌ، فهي تُقرأُ عليه أوَّلَ النَّهارِ وآخِرَه!
ثمَّ يأمُرُ الله تعالى نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم بالردِّ عليهم، فيقولُ: قُلْ -يا محمَّدُ- لهؤلاء الكُفَّارِ: الذي أنزَلَ القُرآنَ هو اللهُ الذي يعلَمُ غَيبَ السَّمواتِ والأرضِ، وسِرَّ مَن فيهما، إنَّه غفورٌ رَحيمٌ.

تفسير الآيات:

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ سُبحانَه وتعالى ما يعودُ إلى التَّوحيدِ؛ انتقَلَ إلى ما يعودُ إلى الرِّسالةِ؛ وذلك لأنَّ الشَّهادةَ: أشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأشهَدُ أنَّ محمَّدًا رسولُ اللهِ [111] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الفرقان)) (ص: 34). .
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ.
أي: وقال الكافِرونَ: ما هذا القرآنُ إلَّا كَذِبٌ اختلَقَه محمَّدٌ، وليس هو مِن عندِ اللهِ [112] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/397)، ((تفسير القرطبي)) (13/3)، ((تفسير ابن كثير)) (6/93)، ((تفسير السعدي)) (ص: 578)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/13). .
كما قال تعالى: وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ [ص: 4] .
وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ.
أي: وأعان محمَّدًا على اختِلاقِ هذا القُرآنِ أُناسٌ ذَوو قُدرةٍ وكفايةٍ مِن غَيرِ قَومِه [113] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/397)، ((تفسير ابن كثير)) (6/93)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/339)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/323). .
كما قال تعالى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [النحل: 103] .
فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا.
أي: فقد أتى الكُفَّارُ بظُلمٍ وكَذِبٍ ومَيْلٍ عن الحَقِّ، حينَ وصَفوا القُرآنَ بغيرِ صِفتِه، ورَمَوُا النبيَّ بالكَذِبِ على اللهِ [114] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/398)، ((تفسير ابن كثير)) (6/93، 94)، ((تفسير السعدي)) (ص: 578)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/324)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/14)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الفرقان)) (ص: 35-40). قال ابن كثير: (وهذا الكلامُ -لسخافتِه وكَذِبِه وبَهْتِه منهم- كلُّ أحدٍ يعلَمُ بُطلانَه؛ فإنَّه قد عُلِم بالتواتُرِ وبالضَّرورةِ أنَّ محمدًا رسولَ الله لم يكُنْ يعاني شيئًا مِن الكتابةِ، لا في أوَّلِ عُمُرِه ولا في آخِرِه، وقد نشأ بيْن أظهُرِهم مِن أوَّلِ مَولِدِه إلى أنْ بعَثَه اللهُ نحوًا مِن أربعين سنةً، وهم يَعرِفون مَدخَلَه ومَخرَجَه، وصِدقَه وبِرَّه وأمانتَه، ونزاهتَه مِن الكَذِبِ والفُجورِ وسائرِ الأخلاقِ الرذيلةِ، حتى إنَّهم لم يكونوا يسمُّونَه في صِغَرِه إلى أنْ بُعِث إلَّا الأمينَ؛ لِما يَعلمون مِن صِدقِه وبِرِّه. فلمَّا أكرَمَه الله بما أكرَمَه به نصَبوا له العداوةَ، ورَمَوه بهذه الأقوالِ التي يعلَمُ كُلُّ عاقلٍ براءتَه منها، وحاروا ماذا يَقذِفونَه به؛ فتارةً مِن إفكِهم يقولون: ساحِرٌ، وتارةً يقولون: شاعرٌ، وتارةً يقولون: مجنونٌ، وتارة يقولون: كذَّابٌ!). ((تفسير ابن كثير)) (6/94). .
وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا.
وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا.
أي: وقال الكُفَّارُ: هذا القُرآنُ عِبارةٌ عن أكاذيبِ الأُمَمِ الأوَّلينَ وقَصَصِهم المسطَّرةِ في كُتُبِهم، استنسَخها منهم محمَّدٌ [115] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/401)، ((تفسير ابن كثير)) (6/94)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/340)، ((تفسير السعدي)) (ص: 578)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/325)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/15). قال السمين الحلبي: (اكْتَتَبَهَا: الافتِعالُ هنا يجوز أَنْ يكونَ بمعنى أَمَر بكِتابتِها، كافتَصَد واحتَجَم، إذا أَمَر بذلك. ويجوزُ أَنْ يكونَ بمعنى كَتَبَها، وهو مِنْ جملةِ افترائِهم عليه؛ لأنَّه عليه السَّلامُ كان أمِّيًّا لا يَقرأُ ولا يَكتُبُ، ويكونَ كقَولِهم: اسْتَكَبَّه واصْطَبَّه، أي: سَكَبَه وصَبَّه. والافتِعالُ مُشْعِرٌ بالتكَلُّفِ. ويجوز أَنْ يكونَ مِنْ كَتَبَ بمعنى جَمَعَ، مِن الكَتْبِ: وهو الجَمْعُ، لا مِنَ الكتابةِ بالقلَمِ). ((الدر المصون)) (8/455). .
كما قال تعالى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الأنفال: 31] .
فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا.
أي: فهذه الأساطيرُ التي اكتَتَبها محمَّدٌ تُقرأُ عليه في أوَّلِ النَّهارِ وآخِرَه؛ ليَحفَظَها [116] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/401)، ((تفسير القرطبي)) (13/4)، ((تفسير ابن كثير)) (6/94)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/325). .
قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا.
قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.
أي: قُلْ -يا محمَّدُ- لهؤلاء الكُفَّارِ: الذي أنزَل القُرآنَ المشتَمِلَ على الأسرارِ -كالإخبارِ بالأمورِ الماضيةِ والمُستَقبَلةِ- هو اللهُ الذي يعلَمُ غَيبَ السَّمواتِ والأرضِ، وسِرَّ مَن فيهما، ولا يخفَى عليه شَيءٌ [117] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/401)، ((تفسير القرطبي)) (13/4)، ((تفسير ابن كثير)) (6/94). قال ابنُ جزي: (ويعني بالسِّرِّ: ما أسَرَّه الكُفَّارُ مِن أقوالِهم، أو يكونُ ذلك على وَجهِ التنَصُّلِ والبراءةِ مِمَّا نَسَبه الكُفَّارُ إليه مِنَ الافتراءِ، أي: أنَّ اللهَ يَعلَمُ سِرِّي، فهو العالِمُ بأنِّي ما افتَرَيتُ عليه، بل هو أنزَلَه علَيَّ). ((تفسير ابن جزي)) (2/78). .
كما قال تعالى: لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النساء: 166] .
وقال سُبحانَه: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [طه: 7] .
إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا.
مُناسَبتُها لِما قَبلَها:
لَمَّا كان مِن المعلومِ أنَّ العالِمَ بكُلِّ شَيءٍ قادِرٌ على كلِّ شَيءٍ، وكانت العادةُ جاريةً بأنَّ مَن عَلِم استِخفافَ غَيرِه به وكان قادِرًا عليه، عاجَلَه بالأخذِ- أُجيبَ مَن كأنَّه قال: فما له لا يُهلِكُ المكذِّبين له؟ بقَولِه -مرَغِّبًا لهم في التوبةِ، مشيرًا إلى قُدرتِه بالسَّترِ والإنعامِ، ومبيِّنًا لفائدةِ إنزالِه إليهم هذا الذِّكرَ مِن الرُّجوعِ عمَّا تمادت عليه أزمانُهم مِن الكُفرِ وأنواعِ المعاصي- [118] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/342). :
إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا.
أي: إنَّ اللهَ لم يَزَلْ يستُرُ ذُنوبَ عبادِه، ويتجاوَزُ عن مؤاخَذتِهم بها ويرحَمُهم، ومِن رحمتِه بهم أنَّه لم يُعاجِلْهم بالعُقوبةِ، ويَقبَلُ منهم التَّوبةَ [119] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/401)، ((تفسير ابن كثير)) (6/94)، ((تفسير السعدي)) (ص: 578). قال ابن جرير: (يقولُ: إنَّه لم يَزَلْ يصفَحُ عن خَلقِه ويرحَمُهم، فيتفضَّلُ عليهم بعَفوِه، يقول: فلأنَّ ذلك مِن عادتِه في خَلقِه يمهِلُكم أيُّها القائلونَ ما قلْتُم مِن الإفكِ، والفاعلونَ ما فعلْتُم مِن الكُفرِ). ((تفسير ابن جرير)) (17/401). وقال ابنُ كثير: (دعاءٌ لهم إلى التَّوبةِ والإنابةِ، وإخبارٌ بأنَّ رحمتَه واسعةٌ، وأنَّ حِلمَه عَظيمٌ، وأنَّ مَن تاب إليه تاب عليه). ((تفسير ابن كثير)) (6/94). وقال البِقاعي: (إِنَّهُ كَانَ أزلًا وأبَدًا غَفُورًا أي: بليغَ السَّترِ لِما يريدُ مِن ذنوبِ عبادِه؛ بألَّا يعاتِبَهم عليها، ولا يؤاخِذَهم بها. رَحِيمًا بهم في الإنعامِ عليهم بعْدَ خَلقِهم؛ برزقِهم، وتركيبِ العُقولِ فيهم، ونصْبِ الأدلَّةِ لهم، وإرسالِ الرسلِ، وإنزالِ الكتُبِ فيهم، ولإمهالِهم في تكذيبِهم، أي: فليس لإمهالِهم ووعْظِهم بما نزَّله إليهم سبَبٌ إلَّا رحمتُه وغفرانُه وعِلمُه بأنَّ كتابَه صَلاحٌ لأحوالِهم في الدارينِ). ((نظم الدرر)) (13/342). .
كما قال تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [الأنفال: 38] .
وقال سُبحانَه: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر: 53] .

الفوائد التربوية:

1- قَولُه تعالى: قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أي: أنزَلَه مَن أحاط عِلْمُه بما في السَّمَواتِ وما في الأرضِ؛ مِنَ الغَيبِ والشَّهادةِ، والجَهرِ والسِّرِّ، وذِكْرُ عِلمِه تعالى العامِّ يُنَبِّهُهم ويَحُضُّهم على تدَبُّرِ القُرآنِ، وأنَّهم لو تدَبَّروا لرَأَوا فيه مِن عِلْمِه وأحكامِه ما يدُلُّ دَلالةً قاطِعةً على أنَّه لا يكونُ إلَّا مِن عالِمِ الغَيبِ والشَّهادةِ [120] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 578). .
2- مع إنكارِهم للتَّوحيدِ والرِّسالةِ؛ مِن لُطفِ اللهِ بهم أنَّه لم يَدَعْهم وظُلْمَهم، بل دعاهم إلى التَّوبةِ والإنابةِ إليه، ووَعَدَهم بالمَغفِرةِ والرَّحمةِ إنْ هم تابوا ورَجَعوا، فقال: إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا أي: وَصْفُه المَغفِرةُ لأهلِ الجَرائِمِ والذُّنوبِ إذا فَعَلوا أسبابَ المَغفِرةِ، وهي الرُّجوعُ عن مَعاصيه، والتَّوبةُ منها. رَحِيمًا بهم؛ حيثُ لم يُعاجِلْهم بالعُقوبةِ وقد فَعَلوا مُقتَضاها، وحيثُ قَبِلَ تَوبتَهم بعْدَ المعاصي، وحيثُ مَحا ما سَلَف مِن سَيِّئاتِهم، وحيثُ قَبِلَ حَسَناتِهم، وحيثُ أعاد الرَّاجِعَ إليه بعْدَ شُرودِه، والمُقبِلَ عليه بَعدَ إعراضِه- إلى حالةِ المُطيعينَ المُنِيبينَ إليه [121] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 578). ، وفى هذا إيماءٌ إلى أنَّ هذه الذُّنوبَ مع بُلوغِها الغايةَ فى العِظَمِ مَغفورةٌ إن تابوا، وأنَّ رَحمتَه واصِلةٌ إليهم بَعْدَها؛ فلا يَيأَسوا منها بما فَرَط منهم [122] يُنظر: ((تفسير المراغي)) (18/152). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال الله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا هذا القَولُ منهم فيه عِدَّةُ عَظائمَ:
منها: رَميُهم الرَّسولَ -الذي هو أبَرُّ النَّاسِ وأصدَقُهم- بالكَذِبِ، والجُرأةُ العَظيمةُ.
ومنها: إخبارُهم عن هذا القُرآنِ -الذي هو أصدَقُ الكَلامِ وأعظَمُه وأجَلُّه- بأنَّه كَذِبٌ وافتِراءٌ.
ومنها: أنَّ في ضِمنِ ذلك أنَّهم قادِرون أن يأتوا بمِثلِه، وأن يضاهيَ المخلوقُ النَّاقِصُ مِن كُلِّ وجهٍ الخالِقَ الكامِلَ مِن كُلِّ وجهٍ، بصفةٍ مِن صِفاتِه، وهي الكلامُ.
ومنها: أنَّ الرَّسولَ قد عُلِمت حالتُه، وهم أشَدُّ النَّاسِ عِلمًا بها؛ أنَّه لا يكتُبُ ولا يجتَمِعُ بمَن يكتُبُ له، وقد زعموا ذلك [123] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 578). .
2- قَولُه تعالى: قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لأنَّ فيه مِن الأسرارِ التي لا يعلَمُها إلَّا اللهُ ما يدُلُّ على أنَّ اللهَ أنزله، فذِكرُه ذلك يُستدَلُّ به تارةً على أنَّه حَقٌّ مُنزَّلٌ مِن اللهِ؛ لِكَونِه تضمَّنَ مِن الأخبارِ عن أسرارِ السَّمَواتِ والأرضِ والدُّنيا والأوَّلينَ والآخِرينَ، وسِرِّ الغيبِ، ما لا يَعلَمُه إلَّا اللهُ. فمِن هنا نستَدِلُّ بعِلمِنا بصِدقِ أخبارِه أنَّه مِن الله، وإذا ثبَت أنَّه أنزَله بعِلمِه تعالى استدلَلْنا بذلك على أنَّ خبَرَه حَقٌّ، وإذا كان خبرًا بعِلمِ اللهِ فما فيه مِن الخبَرِ يُستدَلُّ به عن الأنبياءِ وأُممِهم، وتارةً عن يومِ القيامةِ وما فيها، والخبَرُ الذي يُستدَلُّ به لا بدَّ أن نعلمَ صِحَّتَه مِن غيرِ جِهتِه، وذلك كإخبارِه بالمستقبَلاتِ فوقعت كما أخبَرَ، وكإخباره بالأُمَمِ الماضية بما يوافِقُ ما عندَ أهلِ الكتابِ مِن غيرِ تعلُّمٍ منهم، وإخبارِه بأمورٍ هي سِرٌّ عندَ أصحابِها، كما قال: وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا [التحريم: 3] إلى قوله: نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ [التحريم: 3] ؛ فقولُه: قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ استِدلالٌ بأخبارِه [124] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (14/198). .
3- قَولُه تعالى: قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا فيه ردٌّ على ما زعَمه المشركونَ مِن اجتماعِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بمَن يكتبُ له، ووجهُ إقامةِ الحُجَّةِ عليهم أنَّ الذي أنزَله هو المحيطُ عِلمُه بكُلِّ شَيءٍ، فيَستحيلُ ويمتَنِعُ أن يقولَ مخلوقٌ ويتقَوَّلَ عليه هذا القرآنَ، ويقولَ: هو مِن عندِ الله. وما هو مِن عندِه، ويستَحِلَّ دِماءَ مَن خالفَه وأموالَهم، ويزعُمَ أنَّ الله قال له ذلك. واللهُ يعلَمُ كُلَّ شَيءٍ، ومع ذلك فهو يؤيِّدُه وينصُرُه على أعدائِه، ويمكِّنُه من رِقابِهم وبلادِهم، فلا يمكِنُ أحدًا أن ينكِرَ هذا القُرآنَ إلَّا بعْدَ إنكارِ عِلمِ اللهِ، وهذا لا تقولُ به طائِفةٌ مِن بني آدمَ سِوى الفلاسفةِ الدهريَّةِ. وأيضًا فإنَّ ذِكرَ عِلمِه تعالى العامِّ ينَبِّهُهم ويحضُّهم على تدبُّرِ القرآنِ، وأنَّهم لو تدَبَّروا لرأوا فيه مِن عِلمِه وأحكامِه ما يدُلُّ دَلالةً قاطِعةً على أنَّه لا يكونُ إلَّا مِن عالمِ الغَيبِ والشَّهادةِ [125] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 578). .

بلاغة الآيات:

1- قَولُه تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا هذا شُروعٌ في حِكايةِ أباطيلِهم المُتعلِّقةِ بالمُنزَّلِ والمُنزَّلِ عليه معًا، وإبطالِها [126] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/202). .
- قَولُه: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ فيه إظْهارٌ في مَقامِ الإضمارِ، حيثُ لم يقُلْ: (وقالوا)؛ لإفادةِ أنَّ مَضمونَ الصِّلةِ هو عِلَّةُ قولِهم هذا، أي: ما جرَّأَهم على هذا البُهتانِ إلَّا إشراكُهم وتَصلُّبُهم فيه، وليس ذلك لشُبهةٍ تَبعَثُهم على هذه المقالةِ؛ لانتفاءِ شُبهةِ ذلك، بخِلافِ ما حُكِيَ آنفًا مِن كُفْرِهم باللهِ، فإنَّهم تلقَّوهُ مِن آبائِهم؛ فالوصفُ الَّذي أُجْرِيَ عليهم هنا مُناسِبٌ لِمَقالتِهم؛ لأنَّها أصْلُ كُفرِهم، وهذه الجُملةُ مُقابِلةٌ جُملةَ: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ [الفرقان: 1] ؛ فهي المقصودُ مِن افتِتاحِ الكلامِ كما آذنَتْ بذلك فاتِحةُ السُّورةِ. وإنَّما أُخِّرَت هذه الجُملةُ الَّتي تُقابِلُ الجُملةَ الأُولى، مع أنَّ مُقْتضَى ظاهرِ المُقابَلةِ أنْ تُذكَرَ هذه الجُملةُ قبْلَ جُملةِ: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً [الفرقان: 3] ؛ اهتمامًا بإبطالِ الكُفرِ المُتعلِّقِ بصِفاتِ اللهِ [127] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/322). .
- والقصْرُ المُشتمِلُ عليه كلامُهم المُستفادُ مِن (إِنْ) النَّافيةِ و(إلَّا) قصْرُ قلْبٍ [128] قصر القلب: هو أنْ يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السامعِ، كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زَيدٌ، لِمَن يعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرَفٍ معيَّنٍ، لكنَّه يقول: ما زَيدٌ هناك بشاعرٍ. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 288). ؛ زعَموا به رَدَّ دَعوَى أنَّ القُرآنَ مُنزَّلٌ مِن عندِ اللهِ، وإسنادُ هذا القولِ إلى جميعِ الكُفَّارِ؛ لأنَّه واقعٌ بيْن ظَهرانَيْهم، وكلُّهم يَتناقَلونَه، وهذه طريقةٌ مأْلوفةٌ في نِسْبةِ أمْرٍ إلى القَبيلةِ، كما يُقالُ: بنو أسَدٍ قَتَلوا حُجْرًا [129] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/322). وحُجْرٌ هو الكِنديُّ، والدُ امرئِ القيسِ. يُنظر: ((أمثال العرب)) للمفضل الضبي (ص: 127). . وقيل: الموصولُ إمَّا عبارةٌ عن غُلاتِهم في الكُفرِ والطُّغيانِ، والجمْعُ لمُشايَعةِ الباقينَ له في ذلك. وإمَّا عن كُلِّهم، ووَضْعُ الموصولِ مَوضِعَ ضَميرِهم؛ لِذمِّهم بما في حيِّزِ الصِّلةِ، والإيذانِ بأنَّ ما تَفوَّهوا به كُفْرٌ عظيمٌ [130] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/202). .
- والقَصرُ المُستفادُ مِن قولِه: إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ مُتسلِّطٌ على كِلْتا الجُملتينِ، أي: لا يَخْلو هذا القُرآنُ -على زَعْمِهم- مِن مجموعِ الأمْرينِ؛ هما: أنْ يكونَ افْتَرى بعْضَه مِن نفْسِه، وأعانَه قومٌ على بَعضِه [131] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/323). .
- قَولُه: فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا فرَّعَ على حِكايةِ قولِهم: إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ ظُهورَ أنَّهم ارْتَكبوا بقولِهم ظُلْمًا وزُورًا؛ لأنَّهم حين قالوا ذلك ظهَرَ أنَّ قولَهم زُورٌ وظُلْمٌ؛ لأنَّه اختِلاقٌ واعتداءٌ؛ فالفاءُ لتَرتيبِ ما بعْدَها على ما قبْلَها؛ لكنْ لا على أنَّهما أمْرانِ مُتغايرانِ حقيقةً، يقَعُ أحدُهما عَقِيبَ الآخَرِ أو يَحصُلُ بسبَبِه، بلْ على أنَّ الثَّانيَ هو عينُ الأوَّلِ حقيقةً، وإنَّما التَّرتيبُ بحسَبِ التَّغايُرِ الاعتباريِّ، و(قد) لتَحقيقِ ذلك المعنى؛ فإنَّ ما جاؤوه مِن الظُّلمِ والزُّورِ هو عينُ ما حُكِيَ عنهم؛ لكنَّه لمَّا كان مُغايِرًا له في المفهومِ، وأظهَرَ منه بُطلانًا، رُتِّبَ عليه بالفاءِ تَرتيبَ اللَّازمِ على الملزومِ؛ تَهويلًا لأمْرِه [132] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/203). .
- وتَنكيرُ ظُلْمًا وَزُورًا؛ للتَّفخيمِ [133] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/202). .
2- قَولُه تعالى: وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا
- قَولُه: بُكْرَةً وَأَصِيلًا، أي: تُمْلى عليه طرفَيِ النَّهارِ، وهذا مُستعمَلٌ كِنايةً عن كثرةِ المُمارَسةِ لِتَلقِّي الأساطيرِ [134] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/325). .
3- قَولُه تعالى: قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا هذا جَوابٌ عن قولِهم: إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ، وقولِهم: أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ على الأُسلوبِ الحَكيمِ [135] الأسلوبُ الحكيمُ: هو تلقِّي المخاطَبِ بغيرِ ما يترقَّبُ بحملِ كلامِه على غيرِ مرادِه؛ تنبيهًا على أنَّه هو الأَولَى بالقصدِ، وكذلك أيضًا تلقِّي السائلِ بغيرِ ما يتطلَّبُ؛ تنبيهًا على ما هو الأولَى بحالِه وبالسؤالِ عنه، وهو مِن خلافُ مقتضَى الظاهرِ. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 327)، ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (4/42، 43)، ((مفاتيح التفسير)) للخطيب (1/132). ، أي: قُلْ يا محمَّدُ: ليس هذا مِن افتِرائي، ولا هو مُمْلًى علَيَّ، بلْ مُنزَّلٌ مِن عندِ مَن يَعلَمُ السِّرَّ في السَّمواتِ والأرضِ، وما في بواطنِكم مِن الدَّهاءِ والمَكْرِ؛ لأنَّكم تَعلَمون عِلْمًا يَقينًا أنَّ هذا ليس مِن قَبِيلِ الافتراءِ، ولا هو مِن الأساطيرِ؛ لأنَّه أعجَزَكم عن آخِرِكم بفَصاحَتِه، وأنَّه تضمَّنَ أخبارًا عن المُغيَّباتِ، وأسرارًا لا يَعلَمُها إلَّا اللهُ عَزَّ وجَلَّ، لكنَّ غرَضَكم الصَّدُّ عن سَبيلِ اللهِ، ومُجرَّدُ العِنادِ؛ ويُؤيِّدُ ذلك قولُه تعالى: فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا وإقحامُه بيْن كَلامِهم، فسُبحانَه ما أرحَمَه وما أجَلَّه؛ حيث أمهَلَكُم ولم يُعاجِلْكم بالاستئصالِ لهذه العظيمةِ! فإذَنْ في قولِه: إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا معنى التَّعجُّبِ [136] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (11/177). ، وقد ردَّ عليهم بوَصْفِه تعالى بالعِلْمِ؛ لأنَّ هذا القُرآنَ لم يكُنْ لِيَصدُرَ إلَّا مِن علَّامٍ بكلِّ المعلوماتِ؛ لِمَا احْتَوى عليه مِن إعجازِ التَّركيبِ الَّذي لا يُمكِنُ صُدورُه مِن أحدٍ ولوِ استعانَ بالعالَمِ كلِّهم، ولِاشتمالِه على مصالِحِ العالَمِ وعلى أنواعِ العُلومِ. واكْتَفى بعِلْمِ السِّرِّ؛ لأنَّ ما سِواهُ أولى أنْ يَتعلَّقَ عِلْمُه به [137] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/83). .
- وأيضًا في قولِه: أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَصْفُه تعالى بإحاطةِ عِلْمِه بجَميعِ المعلوماتِ الجَلِيَّةِ والخَفيَّةِ؛ للإيذانِ بانطواءِ ما أنزلَهُ على أسرارٍ مَطْويَّةٍ عن عُقولِ البشَرِ، مع ما فيه مِن التَّعريضِ بمُجازاتِهم بجِناياتِهم المَحْكيَّةِ الَّتي هي مِن جُملةِ مَعلوماتِه [138] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/203). .
- وفي قولِه: قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ عبَّرَ عن مُنزِلِ القُرآنِ بطَريقِ الموصولِ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ؛ لِمَا تَقْتضيهِ الصِّلةُ مِن استشهادِ الرَّسولِ اللهَ على ما في سِرِّهِ؛ لأنَّ اللهَ يعلَمُ كلَّ سِرٍّ في كلِّ مكانٍ؛ فجُملةُ الصِّلةِ مُستعمَلةٌ في لازمِ الفائدةِ، وهو كونُ المُتكلِّمِ -أي: الرَّسولِ- عالِمًا بذلك. وفي ذلك كِنايةٌ عن مُراقبَتِه اللهَ فيما يُبَلِّغُه عنه. وفي ذلك إيقاظٌ لهم بأنْ يَتدبَّروا في هذا الَّذي زعَمُوه إفْكًا أو أساطيرَ الأوَّلينَ؛ لِيَظهَرَ لهم اشتمالُه على الحقائقِ النَّاصعةِ الَّتي لا يُحِيطُ بها إلَّا اللهُ الَّذي يَعلَمُ السِّرَّ، فيُوقِنوا أنَّ القُرآنَ لا يكونُ إلَّا مِن إنزالِه، ولِيَعلموا بَراءةَ الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن الاستعانةِ بمَن زَعَمُوهم يُعينونَه [139] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/326). .
- قَولُه: إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا تَرغيبٌ لهم في الإقلاعِ عن هذه المُكابَرةِ، وفي اتِّباعِ دِينِ الحقِّ؛ لِيَغفِرَ اللهُ لهم ويَرحَمَهم، وذلك تَعريضٌ بأنَّهم إنْ لم يُقلِعوا ويَتوبوا حَقَّ عليهم الغضَبُ والنِّقمةُ. أو غفورًا رحيمًا في كونِه أمهَلَكم ولم يُعاجِلْكم على ما اسْتَوجَبْتُموه مِن العِقابِ بسبَبِ مُكابرَتِكم؛ فهو تَعليلُ ما هو المُشاهَدُ مِن تأْخيرِ العُقوبةِ. أو لمَّا تقدَّمَ ما يدُلُّ على العِقابِ أعقَبَهُ بما يدُلُّ على القُدرةِ عليه؛ لأنَّ المُتَّصِفَ بالغُفرانِ والرَّحمةِ قادرٌ على أنْ يُعاقِبَ [140] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/265)، ((تفسير أبي حيان)) (8/83)، ((تفسير أبي السعود)) (6/203)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/326). ؛ فدلَّ قولُه: غَفُورًا رَحِيمًا على القُدرةِ التَّامَّةِ الكاملةِ بالكِنايةِ. وفي إيثارِ هاتينِ الصِّفتينِ غَفُورًا رَحِيمًا: تَعييرٌ لهم، ونعْيٌ على فِعْلِهم؛ يعني: إنَّكم فيما أنتم فيه بحيث يَتصدَّى لِعَذابِكم مَن صِفَتُه الغُفرانُ والرَّحمةُ. وقيل: ذكَرَ المغفرةَ والرَّحمةَ؛ لأجْلِ أنْ يَعرِفوا أنَّ هذه الذُّنوبَ العظيمةَ المُتجاوِزةَ عن الحدِّ مَفقودةٌ إنْ تابوا، وأنَّ رَحمتَه واصلةٌ إليهم بعْدَها، وألَّا ييْأَسوا مِن رَحمتِه بما فرَطَ منهم مع إصرارِهم عليه مِن المُعاداةِ والمُخاصَمةِ الشَّديدةِ [141] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (11/176). .