موسوعة التفسير

سورة الزمر
الآيات (53-59)

ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ

غريب الكلمات:

أَسْرَفُوا: أي: تَجاوَزُوا الحدَّ في العِصيانِ، وأصلُه: يدُلُّ على تَعدِّي الحَدِّ [1054] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/225)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 102)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3 /153)، ((المفردات)) للراغب (ص: 407)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 131). .
تَقْنَطُوا: أي: تَيْأَسوا، والقُنوطُ: اليأسُ مِنَ الخَيرِ، وأصلُ (قنط): يدُلُّ على اليأْسِ مِن الشَّيءِ [1055] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/224)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/32)، ((المفردات)) للراغب (ص: 685)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 976). .
وَأَنِيبُوا: أي: ارجِعوا وأقْبِلوا، والإنابةُ: الرُّجوعُ إلى اللهِ بالإخلاصِ، وأصلُ (نوب): يدُلُّ على اعتيادِ مكانٍ، ورُجوعٍ إليه [1056] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/231)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/367)، ((المفردات)) للراغب (ص: 827)، ((تفسير القرطبي)) (15/269)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 202). .
بَغْتَةً: أي: فَجأةً، وأصلُ (بغت): يدُلُّ على مُفاجأةِ الشَّيءِ [1057] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 153)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 120)، ((المفردات)) للراغب (ص: 135)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 252)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/272). .
يَا حَسْرَتَا: الحسرةُ: النَّدمُ، والاغتِمامُ على ما فاتَ ولا يُمكِنُ ارتجاعُه، والتَّلهُّفُ عليه، وقيل: الحسرةُ شِدَّةُ النَّدامةِ، حتَّى يبقَى النَّادمُ كالحَسيرِ مِن الدَّوابِّ، وهو الَّذي لا مَنفعةَ فيه، وأصلُ (حسر): كشفُ الشَّيءِ، فالحسرةُ انكِشافٌ عن حالِ النَّدامةِ [1058] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/233)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 186)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/62)، ((تفسير الرازي)) (4/182)، ((تفسير القرطبي)) (15/270)، ((تفسير ابن كثير)) (6/574)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 176). قال القرطبي: (والأصلُ «يا حَسْرَتِي»، فأُبْدِل مِن الياءِ ألِفٌ؛ لأنَّها أخفُّ وأمكَنُ في الاستِغاثةِ بمدِّ الصَّوتِ، ورُبَّما ألْحَقوا بها الهاءَ). ((تفسير القرطبي)) (15/270). .
فَرَّطْتُ: أي: قَصَّرتُ، وأصلُ (فرط): يدُلُّ على إزالةِ شَيءٍ مِن مكانِه، وتَنحيتِه عنه [1059] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/76)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 361)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/490)، ((المفردات)) للراغب (ص: 631)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 248). .
جَنْبِ اللَّهِ: أي: جانِبِه تعالى، أو أمْرِه، أو حَقِّه [1060] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/553)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 365)، ((المفردات)) للراغب (ص: 205)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 332)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 363)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 355). .
كَرَّةً: أي: رَجعةً إلى الدُّنيا، والكَرُّ: الرُّجوعُ إلى الشَّيءِ [1061] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 68)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 388)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/126)، ((المفردات)) للراغب (ص: 705)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 99). .

المعنى الإجمالي:

يَنهَى اللهُ تعالى عن اليأسِ مِن رحمتِه، ويَفتحُ لعِبادِه بابَ رحمتِه، فيقولُ: قُلْ -يا مُحمَّدُ- لِعِباديَ الَّذين أسرَفوا على أنفُسِهم، وأكثَروا مِنَ السَّيِّئاتِ: لا تَيأسُوا مِن رَحمةِ اللهِ، إنَّ اللهَ يَغفِرُ الذُّنوبَ كُلَّها؛ إنَّ اللهَ وَحْدَه هو الغَفورُ الرَّحيمُ، وارجِعوا -أيُّها النَّاسُ- إلى رَبِّكم، وتُوبوا إليه، واستَسلِموا له مِن قَبلِ أن يأتيَكم عذابُ اللهِ، ثمَّ لا تُنصَرونَ.
ثمَّ يأمُرُ تعالى باتِّباعِ أوامرِ القرآنِ ونواهيه، فيقولُ: واتَّبِعوا القُرآنَ، وامتَثِلوا أوامِرَه، واجتَنِبوا نواهيَه؛ مِن قَبلِ أن يأتيَكم عذابُ اللهِ فَجأةً، وأنتم لا تَشعُرونَ؛ لئلَّا تقولَ نَفْسٌ يومَ القيامةِ تَحَسُّرًا على عدَمِ التَّوبةِ: يا حَسرتي على ما ضَيَّعتُ وقَصَّرتُ في حقِّ اللهِ، والحالُ أنَّني كنتُ مِن السَّاخِرينَ، أو تقولَ نَفْسٌ: لو أنَّ اللهَ هداني إلى الحَقِّ لَكُنتُ مِن المتَّقينَ، أو تَقولَ نَفْسٌ حينَ تَرى العذابَ في الآخِرةِ: لَيْتَ لي رَجعةً إلى الدُّنيا، فأكونَ مِن الَّذين أحسَنوا العَمَلَ.
فيَقولُ اللهُ تعالى: ليس الأمرُ كما تَقولُ؛ فقد جاءتك آياتُ القُرآنِ فكَذَّبتَ بها واستكبَرْتَ عن قَبولِها، وكُنتَ مِن الكافِرينَ بها.

تفسير الآيات:

قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53).
مناسبة الآية لما قبلها:
لَمَّا شَدَّد تعالى على الكفَّارِ وذَكَر ما أعدَّ لهم مِن العذابِ، وأنَّهم لو كان لأحدِهم ما في الأرضِ ومِثلَه معه لافْتَدى به مِن عذابِ اللهِ؛ ذَكَر ما في إحسانِه مِن غُفرانِ الذُّنوبِ إذا آمَن العبدُ ورَجَع إِلى اللهِ [1062] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/211). ، فلَمَّا أطنَبَ سُبحانَه في الوَعيدِ؛ أردَفَه بشَرحِ كَمالِ رَحمتِه وفَضلِه وإحسانِه في حَقِّ العَبيدِ [1063] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/463). ، وهذا على عادةِ هذا الكِتابِ المجيدِ مِن مُداواةِ النُّفوسِ بمَزيجِ التَّرغيبِ والتَّرهيبِ [1064] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/39). .
سبب النزول:
عن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما: ((أنَّ ناسًا مِن أهلِ الشِّركِ كانوا قد قَتَلوا وأكثَروا، وزَنَوا وأكثَروا، فأتَوا مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقالوا: إنَّ الَّذي تقولُ وتدعو إليه لَحَسَنٌ لو تُخبِرُنا أنَّ لِما عَمِلْنا كَفَّارةً، فنزَل: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ [الفرقان: 68] ، ونزَلت: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ)) [1065] رواه البخاري (4810) واللَّفظُ له، ومسلم (122). .
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ.
أي: قُلْ -يا مُحمَّدُ- مُبلِّغًا عن الله أنَّه يقولُ [1066] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 266). قال السعدي: (قُلْ يا أيُّها الرَّسولُ ومَن قام مَقامَه مِن الدُّعاةِ لدينِ الله، مُخبِرًا للعِبادِ عن ربِّهم). ((تفسير السعدي)) (ص: 727). : يا عباديَ الَّذين أكثَروا مِنَ السَّيِّئاتِ بالكُفرِ أو المعاصي، فأثقَلوا أنفُسَهم بالآثامِ: لا يَنقَطِعْ رَجاؤُكم وتَيأسُوا مِن رحمةِ اللهِ، مُعتَقدينَ أنَّ الله لن يَغفِرَ لكم ذُنوبَكم [1067] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/230)، ((تفسير ابن كثير)) (7/106، 107)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/533، 534)، ((تفسير السعدي)) (ص: 727)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/ 41، 42)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 366-369). .
عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ الله عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لو يَعلَمُ الكافِرُ ما عندَ اللهِ مِن الرَّحمةِ، ما قَنَطَ مِن جَنَّتِه أحَدٌ )) [1068] رواه مسلم (2755). .
إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا.
أي: إنَّ اللهَ يَستُرُ الذُّنوبَ كُلَّها، ويَتجاوَزُ عن المؤاخَذةِ بها [1069] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/230، 231)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّة (11/663)، ((تفسير ابن كثير)) (7/107)، ((تفسير السعدي)) (ص: 727)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/42)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 369، 370). قال البِقاعي: (سبَقَ منه القَولُ؛ أنَّه إنَّما يَغفِرُ الشِّركَ بالتَّوبةِ عنه، وأمَّا غيرُه فيَغفِرُه إن شاء بتَوبةٍ، وإن شاء بلا تَوبةٍ، ولا يَقدِرُ أحَدٌ أن يَمنَعَه مِن شَيءٍ من ذلك). ((نظم الدرر)) (16/534). وقال ابنُ عاشور: (هذه المغفِرةُ تقتَضي أسبابًا أُجمِلَت هنا، وفُصِّلَت في دلائِلَ أخرى مِن الكِتابِ والسُّنَّةِ؛ منها قَولُه تعالى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه: 82] ، وتلك الدَّلائِلُ يَجمَعُها أنَّ للغُفرانِ أسبابًا تَطرأُ على المُذنِبِ، ولولا ذلك لَكانت المؤاخَذةُ بالذُّنوبِ عَبَثًا يُنَزَّهُ عنه الحكيمُ تعالى، كيف وقد سمَّاها ذُنوبًا وتوعَّد عليها، فكان قولُه: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ دعوةً إلى تطلُّبِ أسبابِ هذه المغفرةِ، فإذا طلَبها المذنِبُ عَرَف تفصيلَها). ((تفسير ابن عاشور)) (24/42). .
كما قال تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء: 110] .
وقال الله سُبحانَه وتعالى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ [الشورى: 25] .
وعن أبي هريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((والَّذي نفْسي بيَدِه، لو لم تُذْنِبوا لَذَهَب اللهُ بكم، ولَجاءَ بقَومٍ يُذْنِبون، فيَستغفِرونَ اللهَ فيَغفِرُ لهم )) [1070] رواه مسلم (2749). .
وعن أنسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((قال اللهُ تبارك وتعالى: يا ابنَ آدَمَ إنَّك ما دَعَوْتَني ورَجَوْتَني غفَرتُ لك على ما كان فيك ولا أُبالي، يا ابنَ آدَمَ لو بلَغَتْ ذُنوبُك عَنانَ [1071] عَنانَ السَّماءِ: أي: سَحابَها وما علا منها. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (4/1620). السَّماءِ ثمَّ استَغفَرْتَني غفَرْتُ لك ولا أُبالي، يا ابنَ آدَمَ إنَّك لو أتَيْتَني بقُرابِ [1072] بقُرابِ الأرضِ: أي: بمِثْلِها وقدرِها، أو: بما يقاربُ ملأَها. يُنظر: ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (4/34)، ((مرعاة المفاتيح)) للمباركفوري (7/387). الأرضِ خَطايا ثمَّ لَقيتَني لا تُشرِكُ بي شَيئًا لَأَتَيْتُك بقُرابِها مَغفِرةً )) [1073] أخرجه الترمذي (3540) واللفظ له، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (4305)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (2/231). صحَّح الحديثَ ابنُ القيِّم في ((أعلام الموقعين)) (1/204)، والألبانيُّ في ((صحيح سنن الترمذي)) (3540)، وحسَّنه شعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((رياض الصالحين)) (442)، وقال ابن رجب في ((جامع العلوم والحِكَم)) (2/400): (إسنادُه لا بأس به). والحديثُ أخرجه من طريقٍ آخَرَ ابنُ شاهين في ((الترغيب في فضائل الأعمال)) (179)، والضياءُ في ((الأحاديث المختارة)) (4/399). وصحَّح إسنادَه الضياءُ المقدسيُّ، وصحَّحه ابنُ القيِّم في ((هداية الحيارى)) (246). .
إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
أي: إنَّ اللهَ وَحْدَه البالِغُ المَغفِرةِ لِذُنوبِ عِبادِه، العَظيمُ الرَّحمةِ بهم [1074] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/231)، ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيمية (5/274، 275)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/534، 535)، ((تفسير السعدي)) (ص: 727)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/42)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 371-373). .
وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54).
مناسبة الآية لما قبلها:
لَمَّا كانت الآيةُ السَّابقةُ فيها فُسحةٌ عَظيمةٌ للمُسرِفِ؛ أتْبَعَها بأنَّ الإنابةَ -وهي الرُّجوعُ- مَطلوبةٌ مأمورٌ بها، ثمَّ توعَّدَ مَن لم يَتُبْ بالعَذابِ؛ حتَّى لا يَبقَى المرءُ كالمُمِلِّ مِن الطَّاعةِ، والمتَّكِلِ على الغُفرانِ دونَ إنابةٍ [1075] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/212). !
وأيضًا لَمَّا فَتَح لهم بابَ الرَّجاءِ؛ أعْقَبه بالإرشادِ إلى وسيلةِ المغفرةِ [1076] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/43). .
وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ.
أي: وارجِعوا -أيُّها النَّاسُ- إلى رَبِّكم، بالتَّوبةِ إليه وطاعتِه وَحْدَه، واستَسلِموا واخضَعوا له، وانقادُوا إليه [1077] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/231)، ((تفسير القرطبي)) (15/269)، ((تفسير ابن كثير)) (7/110)، ((تفسير السعدي)) (ص: 727)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/43)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 386، 387). قال ابنُ عاشور: (هذا الخِطابُ يأخُذُ كُلُّ فَريقٍ منه بنصيبٍ؛ فنَصيبُ المُشرِكينَ الإنابةُ إلى التَّوحيدِ، واتِّباعُ دينِ الإسلامِ. ونصيبُ المؤمِنينَ منه التَّوبةُ إذا أسرَفوا على أنفُسِهم، والإكثارُ مِن الحَسَناتِ، وأمَّا الإسلامُ فحاصِلٌ لهم). ((تفسير ابن عاشور)) (24/43). .
مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ.
أي: مِن قَبلِ أن يأتيَكم عَذابُ اللهِ على كُفرِكم به، ومَعصيتِكم إيَّاه، ثمَّ لا يَنصُرُكم ناصِرٌ [1078] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/231)، ((تفسير القرطبي)) (15/269)، ((تفسير ابن كثير)) (7/110)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 389). .
كما قال تعالى: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف: 97 - 99] .
وقال سُبحانَه: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [النحل: 45 - 47] .
وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55).
مناسبة الآية لما قبلها:
لَمَّا أمَر اللهُ تعالى بالإنابةِ والإسلامِ إليه كأنَّه قيل: ما الإنابةُ والإسلامُ؟ وما جزئيَّاتُها وأعمالُها؟ فأجابَ تعالى بقولِه [1079] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 727). :
وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ.
أي: واتَّبِعوا القُرآنَ فصَدِّقوا أخبارَه، واتَّعِظوا واعتَبِروا بقَصَصِه وأمثالِه، وامتَثِلوا أوامِرَه، واجتَنِبوا نواهيَه، وكِلُوا مُتشابِهَه إلى عالِمِه [1080] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/232)، ((تفسير القرطبي)) (15/270)، ((تفسير ابن كثير)) (7/110)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/536). قيل: المرادُ بـ أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ: القرآنُ. ومِمَّن ذهب إلى هذا المعنى: الزَّجَّاجُ، وابنُ جُزَي، وأبو حيان، وابن كثير، وجلال الدين المحلي، والشوكاني، وابن عاشور. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/358)، ((تفسير ابن جزي)) (2/224)، ((تفسير أبي حيان)) (9/212)، ((تفسير ابن كثير)) (7/110)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 614)، ((تفسير الشوكاني)) (4/540)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/44). وقيل: المرادُ: الأمرُ باتِّباعِ القُرآنِ الَّذي هو أحسَنُ ما نَزَل مِن كُتُبِ اللهِ، واتِّباعِ أحاسِنِ ما فيه. وممَّن قال بهذا المعنى: البِقاعي، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/536)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 391). قال ابن عطية: (وقَولُه تعالى: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ معناه: أنَّ القُرآنَ العزيزَ تضَمَّنَ عَقائِدَ نَيِّرةً، وأوامِرَ ونَواهيَ مُنجِيةً، وعِداتٍ على الطَّاعاتِ والبِرِّ، وحُدودًا على المعاصي، ووَعيدًا على بَعضِها؛ فالأحسَنُ أن يَسلُكَ الإنسانُ طَريقَ التَّفَهُّمِ والتَّحصيلِ، وطَريقَ الطَّاعةِ والانتِهاءِ، والعَفوِ في الأُمورِ ونَحوِ ذلك، فهو أحسَنُ مِن أن يَسلُكَ طَريقَ الغَفلةِ والمَعصيةِ فيُجزَى، أو يَقَع تحتَ الوَعيدِ، فهذا المعنى هو المقصودُ بـ أَحْسَنَ). ((تفسير ابن عطية)) (4/537). وفي معنى الآيةِ أقوالٌ أخرى. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (15/270). وقد سبق ذِكرُ الخِلافِ في معنى قَولِه تعالى: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [الزمر: 18] (ص: 144). .
مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ.
أي: مِن قَبلِ أن يأتيَكم عذابُ اللهِ فَجأةً وأنتم غافِلونَ لا تَشعُرونَ بمَجيئِه [1081] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/232)، ((تفسير الزمخشري)) (4/136)، ((تفسير ابن كثير)) (7/110)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/537)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 392). .
أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56).
مناسبة الآية لما قبلها:
لَمَّا خَوَّفَهم سُبحانَه بالعَذابِ؛ بَيَّن تعالى أنَّ بتَقديرِ نُزولِ العَذابِ عليهم ماذا يَقولون؛ فحَكى اللهُ تعالى عنهم ثلاثةَ أنواعٍ مِن الكَلِماتِ [1082] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/466). .
أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ.
أي: لِئَلَّا [1083] قال الشوكاني: (قال البَصريُّونَ: أيْ: حَذَرًا أنْ تقولَ. وقال الكوفِيُّونَ: لئلَّا تقولَ. قال المُبَرِّدُ: بادِروا خَوْفَ أنْ تقولَ، أو حَذَرًا مِن أنْ تقولَ نفْسٌ. وقال الزَّجَّاجُ: خَوْفَ أنْ تَصيروا إلى حالٍ تقولونَ فيها: يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ). ((تفسير الشوكاني)) (4/540). ويُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/359)، ((الوسيط)) للواحدي (3/588). وقال القرطبي: (قوله تعالى: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا «أَنْ» في موضعِ نصبٍ، أي: كراهةَ أَنْ تَقُولَ ... وقيل: أيْ: مِن قبلِ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ؛ لأنَّه قال قبْلَ هذا: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ). ((تفسير القرطبي)) (15/270). وقال ابن جرير: (يقولُ تعالى ذِكرُه: وأنِيبوا إلى ربِّكم، وأسلِموا له؛ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ، بمعنى: لئلَّا تقولَ نفْسٌ). ((تفسير ابن جرير)) (20/233). وذكر البِقاعي أنَّ هذ الجملةَ تعليلٌ للإقبالِ على الاتِّباعِ. يُنظر: ((نظم الدرر)) (16/537). وجعل ابنُ عاشورٍ قولَه: أَنْ تَقُولَ تَعْليلًا للأوامرِ في قولِه: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ [الزمر: 54] وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ [الزمر: 55] . يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/44). تقولَ نَفْسٌ يومَ القيامةِ تَحسُّرًا على عدَمِ التَّوبةِ: يا ندامَتي على ما قصَّرتُ في حَقِّ اللهِ، وضَيَّعتُ مِن العملِ بما أمَرني به [1084] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/233، 234)، ((تفسير القرطبي)) (15/270، 271)، ((تفسير ابن كثير)) (7/110)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 614)، ((تفسير الألوسي)) (12/ 272)، ((تفسير السعدي)) (ص: 727)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/45، 46)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 397- 399). قال ابنُ تيميَّةَ: (...لا يُعرَفُ عالِمٌ مَشهورٌ عند المُسلِمينَ، ولا طائِفةٌ مَشهورةٌ مِن طوائفِ المُسلِمينَ: أثبَتوا لله جَنْبًا نظيرَ جَنبِ الإنسانِ، وهذا اللَّفظُ جاء في القُرآنِ في قَولِـه تعالى: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ، فليس في مجرَّدِ الإضافةِ ما يَستلزِمُ أنْ يكونَ المضافُ إلى الله صِفةً له... وفي القُرآنِ ما يُبَيِّنُ أنَّه ليس المرادُ بالجَنبِ ما هو نَظيرُ جَنْبِ الإنسانِ؛ فإنَّه قال: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ، والتَّفريطُ ليس في شَيءٍ مِن صِفاتِ الله عزَّ وجلَّ، والإنسانُ إذا قال: فلانٌ قد فَرَّط في جَنبِ فُلانٍ أو جانِبِه، لا يريدُ به أنَّ التَّفريطَ وقَعَ في شَيءٍ مِن نَفْسِ ذلك الشَّخصِ، بل يريدُ به أنَّه فَرَّط في جِهتِه وفي حَقِّه). ((الجواب الصحيح)) (3/145، 146). ويُنظر: ((بيان تلبيس الجهمية)) لابن تيمية (6/228، 229)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (6/14)، ((الصواعق المرسلة)) لابن القيم (1/250)، ((الاعتصام)) للشاطبي (3/263، 264)، ((صفات الله عزَّ وجلَّ الواردة في الكتاب والسنة)) للسقاف (ص: 113، 114). .
وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ.
أي: والحالُ أنَّني كُنتُ مِن السَّاخِرينَ مِن أمْرِ اللهِ وكِتابِه، ورَسولِه والمُؤمِنينَ [1085] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/235)، ((تفسير القرطبي)) (15/272)، ((تفسير ابن كثير)) (7/110)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/539)، ((تفسير السعدي)) (ص: 727)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/46)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 400، 401). قال قَتادةُ: (فلمْ يَكْفِه أنْ ضَيَّع طاعةَ اللهِ، حتَّى جعَل يَسْخَرُ بأهلِ طاعةِ اللهِ!). يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/235). .
كما قال الله تعالى: إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ [المؤمنون: 109، 110].
وقال سُبحانَه: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ [المطففين: 29 - 32].
أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57).
أي: ولِئَلَّا تَقولَ نَفْسٌ: لو أنَّ اللهَ هداني إلى الحَقِّ لَكُنتُ مِن الَّذين اتَّقَوه فأطاعوه، واجتَنَبوا الشِّركَ به، ومَعصيتَه [1086] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/235)، ((تفسير القرطبي)) (15/272)، ((تفسير الشوكاني)) (4/540)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 408، 409). قال القرطبي: (هذا القَولُ: لو أنَّ اللهَ هداني لاهتَدَيْتُ: قَولٌ صِدقٌ، وهو قريبٌ مِن احتِجاجِ المُشرِكينَ فيما أخبَرَ الرَّبُّ جلَّ وعَزَّ عنهم في قَولِه: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا [الأنعام: 148]؛ فهي كَلِمةُ حقٍّ أُريدَ بها باطِلٌ). ((تفسير القرطبي)) (15/272). وقال الألوسي: (وفسَّر غيرُ واحدٍ الهدايةَ هنا بالإرشادِ والدَّلالةِ الموصولةِ؛ بِناءً على أنَّه الأنسَبُ بالشَّرطيَّةِ، والمُطابقُ للرَّدِّ بقولِه سبحانه: بَلَى... إلخ، ... وأيًّا ما كان فالظَّاهرُ أنَّ هذه المقالةَ في الآخرةِ). ((تفسير الألوسي)) (12/273). وقال السعدي: (لَوْ في هذا الموضعِ للتَّمنِّي، أي: لَيْتَ أنَّ الله هداني فأكونَ مُتَّقيًا له، فأسْلَمَ مِن العِقابِ، وأستحِقَّ الثَّوابَ، وليست لَوْ هنا شرطيَّةً؛ لأنَّها لو كانت شرطيَّةً لَكانوا مُحتجِّينَ بالقضاءِ والقدَرِ على ضلالِهم، وهو حُجَّةٌ باطلةٌ، ويومَ القيامةِ تَضمَحِلُّ كلُّ حجَّةٍ باطلةٍ). ((تفسير السعدي)) (ص: 727). ويُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/538). .
عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((كُلُّ أهلِ النَّارِ يَرى مَقعَدَه مِن الجَنَّةِ، فيَقولُ: لو أنَّ اللهَ هداني، فيَكونُ عليه حَسْرةٌ، وكُلُّ أهلِ الجَنَّةِ يَرى مَقعَدَه مِنَ النَّارِ، فيَقولُ: لولا أنَّ اللهَ هداني، فيكونُ له شُكرٌ)) [1087] أخرجه النسائي في ((السنن الكبرى)) (11454) مختصرًا، وأحمد (10652) واللَّفظُ له. صحَّحه الحاكمُ على شرطِ الشَّيخينِ في ((المستدرك)) (2/473)، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/402): (رجالُه رجالُ الصَّحيحِ). وحسَّنه الألبانيُّ في ((صحيح الجامع)) (4514)، وصَحَّح شعيبٌ الأرناؤوطُ إسنادَه على شرط البخاريِّ في تخريج ((مسند أحمد)) (16/382). .
أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58).
مناسبة الآية لما قبلها:
لَمَّا ذكَرَ حالَ النَّفْسِ في الاعترافِ بالبُطلانِ، ثمَّ الفَزَعِ إلى الزُّورِ والبُهتانِ؛ أتْبَعَه التَّمنِّيَ الَّذي لا يُفيدُ غيرَ الخُسرانِ، فقال [1088] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/539). :
أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58).
أي: أو لِئَلَّا تَقولَ نَفْسٌ حينَ ترَى عذابَ اللهِ في الآخِرةِ: لَيْتَ لي رَجعةً إلى الدُّنيا فأكونَ مِن الَّذين أحسَنوا العَمَلَ [1089] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/235)، ((تفسير القرطبي)) (15/272)، ((تفسير ابن كثير)) (7/110)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/540)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 411-413). .
كما قال تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآَيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنعام: 27].
بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آَيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59).
أي: يَقولُ اللهُ مُكَذِّبًا له: ليس الأمرُ كما تَقولُ؛ فقد جاءتك آياتُ القُرآنِ الدَّالَّةُ على الحَقِّ، فكَذَّبْتَ بها واستكبَرْتَ عن قَبولِها واتِّباعِها، وكنتَ في الدُّنيا مِن الكافِرينَ بها؛ فلا عُذرَ لك [1090] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/237)، ((تفسير القرطبي)) (15/273)، ((تفسير ابن كثير)) (7/111)، ((تفسير السعدي)) (ص: 728)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/48). بَلَى جوابُ النَّفيِ؛ لأنَّ معنى قولِه: لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي أنَّه ما هداني! فلا جَرَمَ حَسُنَ ذِكرُ لفظةِ بَلَى بعدَه. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/359، 360)، ((تفسير الرازي)) (27/467). .

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ أنَّه لا يَحِلُّ لأحدٍ أنْ يَقْنَطَ مِن رحمةِ اللهِ -وإنْ عَظُمَتْ ذنوبُه -، ولا أنْ يُقَنِّطَ النَّاسَ مِن رحمةِ اللهِ [1091] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/19). ، فقوله: لَا تَقْنَطُوا نهيٌ، والأصلُ في النَّهيِ التَّحريمُ، والقُنوطَ مِن رحمةِ اللهِ مِن كبائرِ الذُّنوبِ؛ لأنَّه ظَنُّ ما لا يَليقُ بالله جلَّ وعلا؛ فإنَّ اللَّائقَ بالله عزَّ وجلَّ أنَّ مَن لَجَأ إليه فإنَّه أكرمُ الأكرمينَ لا يُخَيِّبُه، فإذا قَنَطْتَ مِن رحمتِه فقد اسْتَهَنْتَ بحقِّه سُبحانَه وتعالى [1092] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 379). . وهذا النَّهيُ عن القُنوطِ يَقتضي الأمرَ بالرَّجاءِ [1093] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/212). .
2- قولُه تعالى: وَأَسْلِمُوا لَهُ، وكذلك قوله: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ فيه وُجوبُ الإخلاصِ لله [1094] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 388). ، وأنَّه مِن دونِ إخلاصٍ لا تُفيدُ الأعمالُ الظَّاهرةُ والباطنةُ شيئًا [1095] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 727). .
3- قال الله تعالى: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ كلُّ هذا حَثٌّ على المُبادَرةِ وانتِهازِ الفُرصةِ [1096] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 728). ، فمتى واتَتْكَ الفرصةُ فلا تُضَيِّعْها [1097] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 402). .
4- في قولِه تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ الحذرُ مِن نزولِ العذابِ عندَ المخالَفةِ، فلا أحدَ يَأْمَنُ عذابَ اللهِ تعالى! فالإنسانُ إذا لم يتُبْ إلى اللهِ تعالى مبادرةً؛ فإنَّ العذابَ ربما يَنْزِلُ به [1098] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 388). .
5- في قَولِه تعالى: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ أنَّ المُفَرِّطَ سيَتَحَسَّرُ على تفريطِه، ويَنبني على هذه الفائدةِ: أنَّه ينبغي أنْ يكونَ الإنسانُ حازمًا ذا نشاطٍ وقوَّةٍ؛ حتَّى لا تَفوتَه الأمورُ، ثمَّ بعدَ ذلك يَنْدَمُ [1099] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 402). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ اعلَمْ أنَّ هذه الآيةَ تدُلُّ على الرَّحمةِ مِن وُجوهٍ:
الأوَّلُ: أنَّه سَمَّى المُذنِبَ بـ «العبد»، والعُبوديَّةُ مُفسَّرةٌ بالحاجةِ والذِّلَّةِ والمَسكَنةِ، واللَّائِقُ بالرَّحيمِ الكَريمِ إفاضةُ الخَيرِ والرَّحمةِ على المِسكينِ المُحتاجِ.
الثَّاني: أنَّه تعالى أضافهم إلى نَفْسِه بياءِ الإضافةِ، فقال: يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا، وشَرَفُ الإضافةِ إليه يفيدُ الأمْنَ مِنَ العذابِ.
الثَّالِثُ: أنَّه تعالى قال: أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ومعناه: أنَّ ضرَرَ تلك الذُّنوبِ ما عاد إليه، بل هو عائِدٌ إليهم، فيَكفيهم مِن تلك الذُّنوبِ عَودُ مَضارِّها إليهم، ولا حاجةَ إلى إلحاقِ ضرَرٍ آخَرَ بهم!
الرَّابعُ: أنَّه قال: لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، نَهاهم عن القُنوطِ، فيَستلزِمُ هذا أمرًا بالرَّجاءِ، والكريمُ إذا أمَرَ بالرَّجاءِ فلا يَليقُ به إلَّا الكرَمُ.
الخامِسُ: أنَّه تعالى قال أوَّلًا: يَا عِبَادِيَ، وكان المُتبادرُ أن يقولَ: «لا تقنَطوا مِن رحمتي»، لكِنَّه ترَك هذا اللَّفظَ، وقال: لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ؛ لأنَّ قَولَه: «الله» هو أعظَمُ أسماءِ اللهِ وأجَلُّها، فالرَّحمةُ المضافةُ إليه يجِبُ أن تكونَ أعظَمَ أنواعِ الرَّحمةِ والفَضلِ.
السَّادِسُ: أنَّه لَمَّا قال: لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ كان المُتبادرُ أن يقولَ: «إنَّه يغفِرُ الذُّنوبَ جميعًا»، ولكِنَّه لم يقُلْ ذلك، بل أعاد اسمَ اللهِ، وقَرَن به لَفظةَ «إنَّ» المفيدةَ لأعظَمِ وُجوهِ التَّأكيدِ، وكُلُّ ذلك يدُلُّ على المبالغةِ في الوَعدِ بالرَّحمةِ.
السَّابعُ: أنَّه لو قال: يَغْفِرُ الذُّنُوبَ لَكان المقصودُ حاصِلًا، لكِنَّه أردَفَه باللَّفظِ الدَّالِّ على التَّأكيدِ، فقال: جَمِيعًا، وهذا أيضًا مِن المؤكِّداتِ.
الثَّامِنُ: أنَّه وَصَف نَفسَه بكَونهِ غَفورًا، ولَفظُ الغَفورِ يُفيدُ المبالغةَ.
التَّاسِعُ: أنَّه وَصَف نَفْسَه بكَونِه رَحيمًا، والرَّحمةُ تفيدُ فائِدةً على المغفِرةِ؛ فكان قَولُه: إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ إشارةً إلى إزالةِ مُوجِباتِ العِقابِ، وقَولُه: الرَّحِيمُ إشارةً إلى تحصيلِ مُوجِباتِ الرَّحمةِ والثَّوابِ.
العاشِرُ: أنَّ قَولَه: إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ يُفيدُ الحَصرَ، ومعناه: أنَّه لا غَفورَ ولا رَحيمَ إلَّا هو، وذلك يُفيدُ الكَمالَ في وَصفِه سُبحانَه بالغُفرانِ والرَّحمةِ؛ فهذه الوُجوهُ العَشَرةُ مَجموعةٌ في هذه الآيةِ، وهي بأسْرِها دالَّةٌ على كَمالِ الرَّحمةِ والغُفرانِ [1100] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/464). .
2- قال جلَّ وعلا: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، في قَولِه تعالى: قُلْ عنايةُ اللهِ عزَّ وجلَّ بهذا الأمرِ -أي: بإبلاغِ عبادِه أنَّه يَغفِرُ الذُّنوبَ جميعًا-؛ حيث أمَرَ نبيَّه أمرًا خاصًّا بأنْ يُبْلِغَ النَّاسَ هذه القَضيَّةَ، فالقرآنُ كلُّه أُمِرَ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنْ يُبَلِّغَه؛ لقولِه تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [المائدة: 67] ، لكنْ هناك أشياءُ خاصَّةٌ يَنُصُّ اللهُ عليها أنْ يُبَلِّغَها، وهذا يقتضي العنايةَ بها [1101] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 375). .
3- في قَولِه تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا الأمرُ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن خالِقِ السَّمَواتِ والأرضِ بأنْ يُوَجِّهَ هذا الخِطابَ العَظيمَ لخُصوصِ المُسرِفينَ؛ ففيه دَلالةٌ على سَعةِ رَحمةِ اللهِ جَلَّ وعلا، فلم يقُل: «الَّذين آمَنوا»، ولا «الَّذين أخلَصوا»، خَصَّ به المُسِرفينَ على أنفُسِهم [1102] يُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (1/341). .
4- في قَولِه تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ... الآيةَ: الرَّدُّ على مَن قال: إنَّ الكبائِرَ لا تُغفَرُ [1103] يُنظر: ((الإكليل في استنباط التنزيل)) للسيوطي (ص: 225). !
5- في قَولِه تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ... الآيةَ: دَلالةٌ على أنَّ المُسرِفينَ ليس لهم أن يَقنَطوا مِن رحمةِ اللهِ، مع أنَّه جاءت آيةٌ تدُلُّ على خِلافِ ذلك، وهي قَولُه تعالى: وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ [غافر: 43] ؟
الجوابُ: أنَّ الإسرافَ يكونُ بالكُفرِ، ويكونُ بارتكابِ المعاصي دونَ الكُفرِ؛ فآيةُ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ في الإسرافِ الَّذي هو كُفرٌ، وآيةُ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ في الإسرافِ بالمعاصي دونَ الكُفرِ.
 ويُجابُ أيضًا بأنَّ آيةَ: وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ فيما إذا لم يَتوبوا، وأنَّ قَولَه: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا فيما إذا تابوا [1104] يُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب)) للشنقيطي (ص: 200). .
6- في قَولِه تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ... الآيةَ: دَلالةٌ على غُفرانِ جميعِ الذُّنوبِ، مع أنَّه دَلَّت آياتٌ أُخَرُ على أنَّ مِن الذُّنوبِ ما لا يُغفَرُ، وهو الشِّركُ باللهِ تعالى؟
الجوابُ: أنَّ آيةَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء: 48] مُخصِّصةٌ لهذه. وقال بَعضُ العُلَماءِ: هذه مُقَيَّدةٌ بالتَّوبةِ، بدَليلِ قَولِه تعالى: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ؛ فإنَّه عَطفٌ على قَولِه: لَا تَقْنَطُوا، وعليه فلا إشكالَ [1105] يُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب)) للشنقيطي (ص: 200). .
7- في قَولِه تعالى: أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أفهَمَ تَقييدُ الإسرافِ بأنَّه على أنفُسِهم أنَّ الإسرافَ على الغَيرِ لا يُغفَرُ إلَّا بالخُروجِ عن عُهدةِ ذلك الغَيرِ [1106] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/534). .
8- قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، ومادةُ «الغفرِ» ترجِعُ إلى السَّترِ؛ وهو يَقتَضي وُجودَ المستورِ واحتياجَه للسَّترِ؛ فدلَّ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ على أنَّ الذُّنوبَ ثابتةٌ -أي: المؤاخَذةُ بها ثابتةٌ- واللهُ يَغفِرُها، أي: يُزيلُ المؤاخَذةَ بها وقَولُه تعالى: إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ تعليلٌ لجُملةِ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، أي: لا يُعجِزُه أن يَغفِرَ جَميعَ الذُّنوبِ مهما بلغ جميعُها مِن الكَثرةِ؛ لأنَّه شديدُ الغُفرانِ، شَديدُ الرَّحمةِ؛ فبَطَل بهذه الآيةِ قَولُ المُرجِئةِ: إنَّه لا يَضُرُّ مع الإيمانِ شَيءٌ [1107] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/42). .
9- في قَولِه تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ أنَّ أحكامَ اللهِ تعالى مِن مُقتَضى أسمائِه وصِفاتِه، وأحكامُه هنا جَزائيَّةٌ؛ فلِكَونِه غَفورًا رَحيمًا كان ذا مَغفِرةٍ، فغَفَر لِمَن تابَ [1108] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 384). .
10- في قَولِه تعالى: الْغَفُورُ الرَّحِيمُ إثباتُ اسمَينِ مِن أسماءِ اللهِ تعالى عَظيمَينِ، يَقترِنانِ كَثيرًا في القُرآنِ؛ هما: «الغفور» و«الرَّحيم»، ووَجْهُ اقترانِهما: أنَّ بالأوَّلِ زَوالَ المكروهِ. وبالثَّاني: حُصولَ المطلوبِ؛ فيَتكَوَّنُ مِن اجتِماعِهما وَصْفٌ زائِدٌ على الوَصفِ عندَ انفرادِهما؛ لأنَّه إذا انفردَ «الغفورُ» استفَدْنا المغفِرةَ منه، وإنِ انفرَدَ «الرَّحيمُ» استفَدْنا الرَّحمةَ، لكِنْ إذا اجتَمَعا استفَدْنا فائِدةً جديدةً، وهي: أنَّ مَغفِرةَ اللهِ عزَّ وجلَّ مَقرونةٌ برَحمتِه، فهو جامِعٌ بيْن المَغفرةِ والرَّحمةِ [1109] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 383). .
11- قَولُه تعالى: الرَّحِيمُ فيه الإشارةُ إلى أنَّ الإنسانَ بعدَ التَّوبةِ قد يكونُ خَيرًا منه قبْلَها، وقبْلَ فِعْلِ الذَّنْبِ؛ لأنَّ الرَّحمةَ تَقتَضي عَطاءً جديدًا، وهذا هو المُشاهَدُ؛ فإنَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ ذَكَر عن آدَمَ أنَّه لَمَّا عصَى ربَّه وغَوى وتابَ، قال: ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى [طه: 122] ، وهذه المَنقَبةُ -وهي الاجتِباءُ والهِدايةُ- لم تُذكَرْ له قَبْلُ [1110] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 384). .
12- قولُه تعالى: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ فيه وُجوبُ الإنابةِ إلى اللهِ تعالى؛ لأنَّ الأصلَ في الأمرِ الوُجوبُ إلَّا بدليلٍ [1111] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 388). .
13- في قَولِه تعالى: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ دَليلٌ على أنَّ كَشْفَ العذابِ والعُقوباتِ يَكونُ بالمُسارَعةِ في الطَّاعاتِ، والمُسارَعةِ إلى التَّوبةِ والنَّداماتِ، ويَدخُلُ في هذا المعنى ما نُدِبَ إليه النَّاسُ مِن إحداثِ التَّوبةِ، والتَّقدُّمِ في الطَّاعةِ إذا أرادوا الخُروجَ إلى الاستِسقاءِ في حينِ الجَدْبِ والقَحْطِ؛ وذلك أنَّ مَنْعَ القَطْرِ لا يكونُ إلَّا بسخْطةٍ، ولا السُّقْيا إلَّا برَحمةٍ، فإذا قَدَّموا الطَّاعاتِ كانوا أقرَبَ إلى الإجاباتِ، وأجدَرَ برَفعِ العُقوباتِ [1112] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/26). .
14- قَولُه تعالى: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ فيه وُجوبُ اتِّباعِ القرآنِ، وتحريمُ اتِّباعِ غيرِه؛ لأنَّه إذا وَجَب اتِّباعُ القرآنِ؛ فضِدُّه حرامٌ، ولكنْ إذا قال قائلٌ: هل تقولون: إنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنا شرعٌ لنا؟
فالجوابُ: على القَولِ بأنَّ شَرْعَ مَن قَبْلَنا شَرْعٌ لنا ما لم يأتِ شرْعُنا بخِلافِه، فنحن نتَّبِعُه لا لأنَّه شرْعُ مَن قبْلَنا، ولكنْ لأنَّ شَرْعَنا دَلَّنا على العملِ به [1113] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 393). .
15- في قَولِه تعالى: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ الثَّناءُ على القرآنِ الكريمِ؛ لأنَّه أحسَنُ ما أُنْزِلَ إلى العِبادِ؛ في ذاتِه، وفي أخبارِه، وفي أحكامِه، وفي آثارِه؛ فلَمْ تَنَلْ أُمَّةٌ العِزَّةَ والكرامةَ كما نالَتْه هذه الأُمَّةُ بما آتاها اللهُ تعالى مِن القرآنِ [1114] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 393). .
16- قال تعالى: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ أي: عالِجوا أنفُسَكم وكلِّفوها أنْ تَتَّبِعَ أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ، ولَمَّا كان هذا شَديدًا على النَّفْسِ رَغَّب فيه بقَولِه تعالى -بمظهَرِ صِفةِ الإحسانِ مَوضِعَ الإضمارِ-: مِنْ رَبِّكُمْ، أي: الَّذي لم يَزَلْ يُحسِنُ إليكم، وأنتم تُبارِزونَه بالعظائِمِ [1115] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (3/456). !
17- قولُه تعالى: مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ فيه إثباتُ عُلُوِّ اللهِ تعالى؛ وجْهُ ذلك: أنَّ النُّزولَ لا يكونُ إلَّا مِن أعلَى [1116] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 394). .
18- في قَولِه تعالى: مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ أنَّ إنزالَ القرآنِ إلينا مِن كمالِ ربوبيَّتِه تعالى، حيثُ أضاف إنزالَه إلى نفْسِه بوصفِ الرُّبوبيَّةِ، فمِن كمالِ ربوبيَّتِه تعالى لِخَلْقِه وتربيتِه لهم أنْ نَزَّلَ إليهم هذا القرآنَ [1117] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 394). .
19- في قَولِه تعالى: مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وُجوبُ العملِ بما في القرآنِ؛ لأنَّه نَزَل مِن الرَّبِّ، والرَّبُّ له السُّلطانُ الكاملُ على خَلْقِه، ومُقتضى رُبوبيَّةِ اللهِ تعالى لنا: أنْ نعملَ بما أنزَل إلينا [1118] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 395). .
20- في قَولِه تعالى: لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أنَّ التَّقْوَى سببٌ للنَّجاةِ مِن العذابِ [1119] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 410). .
21- في قَولِه تعالى: بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آَيَاتِي إبطالُ الاحتِجاجِ بالقَدَرِ على مَعصيةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، ووجْهُه: أنَّ اللهَ تعالى جَعَلَ إرسالَ الرُّسُلِ حُجَّةً، ولو كان القَدَرُ حُجَّةً لصاحِبِه لم يَبطُلْ بإرسالِ الرُّسُلِ [1120] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 416). !

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ
- الكلامُ استِئنافٌ بَيانيٌّ؛ لأنَّ الزَّواجِرَ السَّابِقةَ تُثيرُ في نُفوسِ المُواجَهينَ بها خاطِرَ التَّساؤُلِ عن مَسالِكِ النَّجاةِ، فتَتَلاحَمُ فيها الخَواطِرُ المَلَكيَّةِ والخَواطِرُ الشَّيطانيَّةُ، إلى أنْ يُرْسِيَ التَّلاحُمُ على انتِصارِ إحدى الطَّائِفَتَينِ، فكان في إنارةِ السَّبيلِ لها ما يُسَهِّلُ خَطْوَ الحائِرينَ في ظُلُماتِ الشَّكِّ، ويَرتَفِقُ بها ويُواسِيها بعْدَ أنْ أثخَنَتْها جُروحُ التَّوبيخِ والزَّجرِ والوَعيدِ، ويُضَمِّدُ تلك الجِراحةَ، والحَليمُ يَزجُرُ ويَلينُ، وتُثيرُ في نَفْسِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خَشيةَ أنْ يُحيطَ غَضَبُ اللهِ بالَّذين دَعاهم إليه فأعرَضوا، أو حَبَّبَهم في الحَقِّ فأَبغَضوا، فلَعَلَّه لا يَفتَحُ لهم بابَ التَّوبةِ، ولا يقبَلُ منهم بعدَ إعراضِهم أَوْبةً، ولا سيَّما بعْدَ أنْ أمَرَه بتَفويضِ الأمْرِ إلى حُكمِه المُشتَمِّ منه تَرَقُّبُ قَطعِ الجِدالِ وفَصمِه، فكانَ أمْرُه لِرَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأنْ يُناديَهم بهذه الدَّعوةِ تَنفيسًا عليه، وتَفتيحًا لِبابِ الأَوْبةِ إليه. فهذا كلامٌ يَنحَلُّ إلى استئنافَينِ؛ فجُملةُ قُلْ استِئنافٌ لِبَيانِ ما تَرقَّبَه أفضلُ النَّبيِّينَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، أي: بلِّغْ عنِّي هذا القولَ. وجُملةُ يَا عِبَادِيَ استئنافٌ ابتدائيٌّ مِن خِطابِ اللهِ لهم [1121] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/39- 41). .
- وأيضًا قولُه: قُلْ يَا عِبَادِيَ فيه إقبالُه سُبحانه عليهم، وفي ذلك مُنتَهى الاطمِئنانِ لهم؛ لِمَحوِ ما سَبَقَ لهم مِن ذُنوبٍ وأوضارٍ، والإشعارِ بأنَّ أمامَهم مَندوحةٌ مِنَ الوَقتِ لِاستِدراكِ ما فَرَطَ، ورَأْبِ ما انصَدَع. وفيه نِداؤُهم، وفي ذلك مِنَ التَّودُّدِ إليهم والتَّلَطُّفِ بهم ما يُهيبُ بذَوي المُسْكةِ مِنَ العُقولِ منهم إلى المُبادَرةِ بالإنابةِ والرُّجوعِ بالتَّوبةِ. وفيه إضافتُهم إليه إضافةَ تَشريفٍ لهم، وأنَّهم خُلَقاءُ بآصِرةِ العُبوديَّةِ، يَمُتُّونَ بها إليه سُبحانَه، وذلك كافٍ لِمُقابَلَتِهم ذلك بالمِثلِ وإعلانِ التَّوبةِ؛ لِلازدِلافِ إليه بها [1122] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/436). ويُنظر أيضًا: ((تفسير أبي حيان)) (9/211)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/40)، .
- والخِطابُ بقَولِه: يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ تَمهيدٌ بإجمالٍ يأتي بَيانُه في الآياتِ بَعْدَه مِن قَولِه: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ [الزمر: 54] ، وبَعْدَ هذا؛ فعُمومُ (عِبَادِيَ) وعُمومُ صِلةِ الَّذِينَ أَسْرَفُوا يَشملُ أهْلَ المَعاصي مِنَ المُسلِمينَ، وإنْ كان المَقصودُ الأصليُّ مِنَ الخِطابِ المُشرِكينَ، على عادةِ الكَلامِ البَليغِ مِن كَثرةِ المَقاصِدِ والمعاني الَّتي تُفَرَّغُ في قَوالِبَ تَسَعُها [1123] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/40، 41). .
- ولَعَلَّ وجْهَ ثُبوتِ الياءِ في يَا عِبَادِيَ في هذه الآيةِ دُونَ نَظيرِها -وهو قَولُه: قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ [الزمر: 10] -: أنَّ الخِطابَ هنا لِلَّذين أسرَفوا، وفي مُقَدِّمَتِهمُ المُشرِكونَ، وكُلُّهم مَظِنَّةُ تَطَرُّقِ اليَأْسِ مِن رَحمةِ اللهِ إلى نُفوسِهم، فكان إثباتُ ياءِ المُتَكلِّمِ في خِطابِهم زِيادةَ تَصريحٍ بعَلامةِ التَّكَلُّمِ؛ تَقويةً لِنِسبةِ عُبودِيَّتِهم إلى اللهِ تَعالى؛ إيماءً إلى أنَّ شَأنَ الرَّبِّ الرَّحمةُ بعِبادِه [1124] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/41). .
- وفِعلُ (أسْرَفَ) الأكثَرُ أنْ يُعدَّى إلى مُتعلَّقِه بحَرْفِ (في)، وتَعديتُه هنا بـ (على)؛ لأنَّ الإكثارَ هنا مِن أعمالٍ تَتحمَّلُها النَّفْسُ وتَثقُلُ بها، وذلك مُتعارَفٌ في التَّبِعاتِ والعُدْوانِ، تقول: أكثَرْتُ على فُلانٍ؛ فمعنى أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ: أنَّهم جَلَبوا لأنفُسِهم ما تُثقِلُهم تَبِعَتُه؛ لِيَشملَ ما اقْتَرَفوه مِن شِركٍ وسيِّئاتٍ [1125] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/41، 42). .
- وإضافةُ الرَّحمةِ إلى اللهِ الْتِفاتٌ مِن ضَميرِ المُتكلِّمِ إلى الاسمِ الغائبِ؛ لأنَّ في إضافتِها تَخصيصًا للرَّحمةِ بالاسمِ الكريمِ، وبيانًا لِسَعةِ الرَّحمةِ؛ إذْ أُضِيفَتْ إلى اللهِ الَّذي هو أَعظَمُ الأسماءِ؛ لأنَّه العَلَمُ المُحتَوي على مَعاني جميعِ الأسماءِ [1126] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/212)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/436). .
- قولُه: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا تَعليلٌ للنَّهيِ عن اليأْسِ مِن رَحمةِ اللهِ [1127] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/42). .
- وأيضًا في قولِه: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا وَضْعُ اسمِ الجَلالةِ (الله) مَوضِعَ الضَّميرِ؛ لدَلالتِه على أنَّه المُستَغْني والمُنعِمُ على الإطلاقِ. وفيه التَّأكيدُ بـ (الجميعِ) [1128] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/46)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/409)، ((تفسير أبي السعود)) (7/259). .
- قولُه: إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ تعليلٌ لجُملةِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، وهو تعليلٌ على المُبالَغةِ وإفادةِ الحَصرِ [1129] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/46)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/409)، ((تفسير أبي حيان)) (9/212)، ((تفسير أبي السعود)) (7/259)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/42). .
- وإبرازُ الجُملةِ مِن قولِه إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ مُؤكَّدةً بـ (إنَّ) وبضميرِ الفَصلِ (هو) المُقتَضي -عِندَ البعضِ- الحَصرَ، وبالصِّفتَينِ المُودَعتَينِ (الغفور - الرحيم): مُبالَغة ٌفي الوعدِ بالغُفرانِ [1130] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/212)، ((تفسير أبي السعود)) (7/259، 260)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/433). .
2- قولُه تعالَى: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ
- في قولِه: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ إيذانٌ بوعيدٍ قريبٍ إنْ لم يُنِيبوا ويُسلِموا كما يُلمِحُ إليه فِعلُ يَأْتِيَكُمُ. والتَّعريفُ في الْعَذَابُ تَعريفُ الجِنسِ، وهو يَقتَضي أنَّهم إنْ لم يُنِيبوا ويُسلِموا يأتِهمُ العَذابُ [1131] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/43). .
- وفي قولِه: ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ ما يُعرَفُ في البلاغةِ بالإيضاحِ [1132] الإيضاح: هو أن يَذكُرَ المتكلِّمُ كلامًا في ظاهِرِه لَبْسٌ، ثمَّ يوضِّحَه في بقيَّةِ كلامِه، والإشكالُ الَّذي يحلُّه الإيضاحُ يكونُ في معاني البديعِ مِن الألفاظِ وفي إعرابِها. يُنظر: ((تحرير التحبير)) لابن أبي الإصبع (ص: 559)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (2/23). ؛ فلِقائلٍ أنْ يَقولَ: لِمَ لَمْ يُعطَفْ تُنْصَرُونَ على أَنْ يَأْتِيَكُمُ المنصوبِ؟ والجوابُ عن هذا الإشكالِ: أنَّه أرادَ -وهو أعلَمُ- العِدَةَ بإخبارِهم أنَّه لن يَنصُرَهم أبدًا في الاستِقبالِ ما داموا مُصِرِّينَ على عدَمِ الإنابةِ، مُحجِمينَ عن الإسلامِ [1133] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/436، 437). .
- وأَتَى بـ ثُمَّ الدَّالةِ على المُهْلةِ، يعني: مهما طَلَبْتُم مِن ناصرٍ، وطالَتْ مُدَّةُ طلبِكم للنَّاصرِ- فإنَّكم لن تَجِدوا مَن يَنصُرُكم مِن عذابِ اللهِ تعالى [1134] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 389). .
3- قولُه تعالَى: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ
- قولُه: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ لا يَتعارَضُ هذا مع كَونِ القرآنِ كلِّه حَسَنًا، فـ (أحسَنُ) اسمُ تَفضيلٍ مُستعمَلٌ في معنَى كامِلِ الحُسنِ. وإضافةُ أَحْسَنَ إلى مَا أُنْزِلَ مِن إضافةِ الصِّفةِ إلى المَوصوفِ، ومَعناهُ: أحسَنَ وَحْيٍ، وهو القرآنُ كلُّه، أو: أحسَنَ القرآنِ؛ آياتِه المُحْكَماتِ، أو آياتِه الَّتي تَضمَّنَتْ أمْرَ طاعةٍ أو إحسانٍ [1135] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/212)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 497)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/44). .
4- قولُه تعالَى: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ
- السِّرُّ في تَنكيرِ النَّفْسِ في قولِه: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ التَّقليلُ؛ لأنَّ المُرادَ بها بعضُ الأنفُسِ، وهي نفْسُ الكافِرِ، وأنَّها نفْسٌ مُتَمَيِّزةٌ مِنَ الأنفُسِ بهذه السِّمةِ مِنَ اللَّجاجِ في الكُفرِ، ورُبَّما أُريدَ بها التَّكثيرُ، كقولِ القائِلِ: رُبَّ بلدٍ قطَعْتُ، ورُبَّ بطَلٍ قارَعْتُ، وهو يَقصِدُ بلادًا وأبطالًا [1136] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/136، 137)، ((تفسير البيضاوي)) (5/46)، ((تفسير أبي حيان)) (9/213)، ((تفسير أبي السعود)) (7/260)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/45)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/437). .
- قولُه: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّه فيه تَشبيهُ الحسرةِ بالعاقلِ الَّذي يُنادَى لِيُقْبِلَ، أي: هذا وقتُكِ فاحضُري. والنِّداءُ مِن رَوادِفِ المُشَبَّهِ به المَحذوفِ، ومعنَى نداءِ الحسرةِ: أي: يا حَسرَتي احضُري؛ فأنا مُحتاجٌ إليكِ، أي: إلى التَّحسُّرِ. وشاعَ ذلك في كلامِهم حتَّى صارتْ هذه الكَلِمةُ كالمَثَلِ لشِدَّةِ التَّحسُّرِ [1137] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/213)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/45). قال الزَّجَّاجُ: (إذا قال القائلُ: ما الفائدةُ في مُناداةِ الحسرةِ، والحسرةُ ممَّا لا يُجيبُ؟ فالفائدةُ في مُناداتِها كالفائدةِ في مُناداةِ ما لا يعقلُ؛ لأنَّ النِّداءَ بابُ تنبيهٍ. إذا قلتَ: يا زَيْدُ، فإن لم تكُنْ دَعَوْتَه لِتُخاطِبَه لِغيرِ النِّداءِ فلا معنى للكلامِ، إنَّما تقولُ: يا زَيدُ، فتُنَبِّهُه بالنِّداءِ، ثمَّ تقولُ له: فعَلْتَ كذا وافعَلْ كذا، وما أحبَبْتَ ممَّا له فيه فائدةٌ، ألَا ترى أنَّك تقولُ لِمَن هو مُقْبِلٌ عليك: «يا زَيدُ، ما أحْسَنَ ما صنَعْتَ!»، ولو قلتَ له: «ما أحْسَنَ ما صنَعْتَ!» كنتَ قد بلَغْتَ في الفائدةِ ما أفهَمْتَ به، غيرَ أنَّ قولَك: «يا زَيدُ» أوْكَدُ في الكلامِ، وأبلَغُ في الإفهامِ. وكذا إذا قلتَ للمُخاطَبِ: «أنا أعجَبُ ممَّا فَعَلْتَ» فقد أفَدْتَه أنَّك مُتعجِّبٌ، ولو قلتَ: «واعَجَباه ممَّا فعلْتَ، ويا عَجَباه أتَفْعَلُ كذا وكذا!» كان دعاؤُك العجَبَ أبلَغَ في الفائدة، والمعنى: يا عَجَبُ أقْبِلْ؛ فإنَّه مِن أوقاتِك، وإنَّما نِداءُ العَجَبِ تنبيهٌ لِتمكِّن عِلم المُخاطَبِ بالتَّعجُّبِ مِن فِعلِه. وكذلك إذا قلتَ: «وَيْلٌ لِزَيدٍ، أو: وَيْلَ زَيدٍ لِمَ فعَلَ كذا وكذا؟!» كان أبلَغَ. وكذلك في كتابِ الله عزَّ وجلَّ: يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ [هود: 72] ، وكذلك: يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ، وكذلك: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ). ((معاني القرآن وإعرابه)) (4/284، 285). .
- وأيضًا في قولِه: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ تَعديةُ الحَسرةِ بحرفِ الاستِعلاءِ (على) كما هو غالِبُها؛ للدَّلالةِ على تَمكُّنِ التَّحسُّرِ مِن مَدخولِ (عَلَى) [1138] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/44). .
- قولُه: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ جنبُ اللهِ: كِنايةٌ فيها مُبالَغةٌ، والجَنْبُ: الجانِبُ، يُقالُ: أنا في جَنبِ فُلانٍ وجانِبِه وناحيتِه، وفُلانٌ لَيِّنُ الجَنبِ والجانِبِ، ثمَّ قالوا: فَرَّطَ في جَنبِه وفي جانِبِه، يُريدونُ: في حَقِّه، أي: شأنِ اللهِ وصِفاتِه ووَصاياهُ، وقيل غيرُ ذلك [1139] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/137، 138)، ((تفسير أبي حيان)) (9/214)، ((تفسير أبي السعود)) (7/260)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/46)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/436). .
- وجملةُ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ خبَرٌ مُستعمَلٌ في إنشاءِ النَّدامةِ على ما فاتَها مِن قَبولِ ما جاءَها به الرَّسولُ مِنَ الهُدى فكانتْ تَسخَرُ منه، والجُملةُ حالٌ مِن فاعِلِ فَرَّطْتُ، أي: فرَّطْتُ في جَنبِ اللهِ تَفريطَ السَّاخِرِ لا تَفريطَ الغافِلِ، وهذا إقرارٌ بصورةِ التَّفريطِ. وقيل: الجملةُ استِئنافُ إخبارٍ عن نفْسِه بما كان عليه في الدُّنيا [1140] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/214)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/46). .
وقولُه: وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أشَدُّ مُبالَغةً في الدَّلالةِ على اتِّصافِهم بالسُّخريةِ مِن أنْ يُقالَ: وإنْ كنتُ لَساخِرةً [1141] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/47). .
5- قولُه تعالَى: أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ
- في قولِه: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ إلى قولِه: أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ حُكِيَ كَلامُ النَّفْسِ في ذلك المَوقفِ على تَرتيبِه الطَّبيعيِّ في جَوَلانِه في الخاطِرِ بالابتِداءِ بالتَّحسُّرِ على ما أَوقعَتْ فيه نفْسَها، وهذا مِنَ الكِنايةِ عن التَّفجُّعِ والنَّدَمِ على ما فَرَّطَتْ فيه مِن طاعةِ اللهِ، ثمَّ بالاعتِذارِ والتَّنصُّلِ طَمَعًا أنْ يُنَجِّيَها ذلك، ثمَّ بتَمنِّي أنْ تَعودَ إلى الدُّنيا لتَعمَلَ الإحسانَ، فهذا التَّرتيبُ في النَّظمِ هو أَحْكَمُ تَرتيبٍ، ولو رُتِّب الكَلامُ على خِلافِه لَفاتَتِ الإشارةُ إلى تَوَلُّدِ هذه المعاني في الخاطِرِ حينَما يأتيهِمُ العَذابُ [1142] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/138)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/47). .
- وتَكرارُ حَرفِ (أو) في قولِه: أَنْ تَقُولَ للتَّنويعِ لِمَا تَقولُه النَّفْسُ في ذلك اليَومِ العَصيبِ، وللدَّلالةِ على أنَّ أقوالَهم لا تَخْلو منه تَحيُّرًا وتَعلُّلًا بما لا طائلَ تَحتَه، ولا يُسفِرُ عن فائدةٍ [1143] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/47)، ((تفسير أبي حيان)) (9/214)، ((تفسير أبي السعود)) (7/260)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/435). .
6- قولُه تعالَى: بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آَيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ
- قولُه: بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آَيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا حَرفُ (بَلَى) حَرفٌ لإبطالِ مَنفيٍّ أو فيه رائحةُ النَّفيِ؛ لقَصدِ إثبات ما نُفِيَ قَبْلَه؛ فتَعَيَّنَ أنْ تَكونَ هنا جوابًا لقولِ النَّفْسِ: لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [الزمر: 57] ؛ لِمَا تَقتَضيه لَوْ الَّتي استُعمِلَتْ للتَّمنِّي مِنِ انتِفاءِ ما تَمنَّاهُ، وهو أنْ يَكونَ اللهُ هَداهُ لِيَكونَ مِنَ المُتَّقينَ، أي: لم يَهْدِني اللهُ فلمْ أتَّقِ [1144] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/48). .
- وجملةُ قَدْ جَاءَتْكَ آَيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا تفصيلٌ للإبطالِ وبَيانٌ له، وهو مِثلُ الجَوابِ بالتَّسليمِ بعْدَ المَنعِ، أي: هَداكَ اللهُ [1145] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/48). .
- وقد قُوبِلَ كَلامُ النَّفْسِ بجَوابٍ يُقابِلُه على عددِ قَرائنِه -أي: فِقَرِه- [1146] القرائنُ القرآنيَّةُ: جمْعُ قرينةٍ، وهي الفقرةُ ذاتُ الفاصِلةِ. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/48). الثَّلاثِ؛ وذلك بقولِه: بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آَيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا، وهذا مُقابِلُ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [الزمر: 57] ، ثمَّ بقَولِه: وَاسْتَكْبَرْتَ، وهو مُقابِلُ قَولِها: عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [الزمر: 56] أي: ليست نِهايةُ أمْرِكَ التَّفريطَ، بلْ أَعظَمَ منه وهو الاستِكبارُ، ثمَّ بقولِه: وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ، وهذا مُقابِلُ قَولِ النَّفْسِ: لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [الزمر: 57] ؛ فهذه قَرائنُ ثلاثٌ، والمعنَى: أنَّ اللهَ هَداكَ في الدُّنيا بالإرشادِ بآياتِ القرآنِ، فقابَلْتَ الإرشادَ بالتَّكذيبِ والاستِكبارِ والكُفرِ بها؛ فلا عُذرَ لك [1147] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/214)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/48). .
- قولُه: بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آَيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا جاء الجوابُ على طَريقةِ النَّشرِ المُشَوَّشِ بعْدَ اللَّفِّ [1148] اللَّف والنَّشْر: هو ذِكرُ شيئَينِ أو أشياءَ، إمَّا تفصيلًا -بالنَّصِّ على كلِّ واحدٍ-، أو إجمالًا -بأن يُؤتَى بلفظٍ يَشتمِلُ على مُتعدِّدٍ- ثمَّ تُذكَرُ أشياءُ على عدَدِ ذلك، كلُّ واحدٍ يرجِعُ إلى واحدٍ مِن المتقدِّمِ، ويُفوَّضُ إلى عقلِ السَّامعِ ردُّ كلِّ واحدٍ إلى ما يَليقُ به. فاللَّفُّ يُشارُ به إلى المتعدِّدِ الَّذي يُؤتَى به أوَّلًا، والنَّشرُ يُشارُ به إلى المتعدِّدِ اللَّاحقِ الَّذي يَتعلَّقُ كلُّ واحدٍ منه بواحدٍ مِن السَّابقِ دونَ تعيينٍ. مثل قولِه تعالى: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة: 111] ، أي: وقالت اليهودُ: لن يَدخُلَ الجنَّةَ إلَّا اليهودُ، وقالت النَّصارى: لن يدخُلَ الجنَّةَ إلَّا النَّصارى. وهذا لَفٌّ ونَشْرٌ إجماليٌّ. واللَّفُّ المُفصَّلُ يأتي النَّشرُ اللَّاحقُ له على وجهَينِ؛ الوجهُ الأوَّلُ: أنْ يأتيَ النَّشرُ على وَفْقِ ترتيبِ اللَّفِّ، ويُسَمَّى «اللَّفَّ والنَّشرَ المُرَتَّبَ». الوجهُ الثَّاني: أنْ يأتيَ النَّشرُ على غيرِ تَرتيبِ اللَّفِّ، ويُسمَّى «اللَّفَّ والنَّشرَ غيرَ المُرتَّبِ»، وقد يُعَبَّرُ عنه بـ «اللَّفِّ والنَّشرِ المُشَوَّشِ»، أو «المعكوس». يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 425)، ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (3/320)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/403). رَعْيًا لمُقتَضى ذلك التَّشويشِ، وهو أنْ يَقَعَ ابتِداءُ النَّشرِ بإبطالِ الأهَمِّ ممَّا اشتمَلَ عليه اللَّفُّ، وهو ما ساقُوهُ على معنَى التَّنصُّلِ والاعتِذارِ مِن قَولِهم: لَوْ أَنَّ اللَّهَ [الزمر: 57] ؛ لقَصدِ المُبادَرةِ بإعلامِهم بما يَدحَضُ مَعذِرتَهم، ثمَّ عاد إلى إبطالِ قَولِهم: عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [الزمر: 56] ، فأبطَل بقَولِه: فَكَذَّبْتَ بِهَا، ثمَّ أَكمَلَ بإبطالِ قَولِهم: لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الزمر: 58] بقَولِه: وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ. ولم يأتِ جَوابٌ عن قولِ النَّفْسِ: وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ [الزمر: 56] ؛ لأنَّه إقرارٌ. ولو لم يُسلَكْ هذا الأُسلوبُ في النَّشرِ لهذا اللَّفِّ لَفاتَ التَّعجيلُ بدَحْضِ المَعذِرةِ، ولَفاتَتْ مُقابَلةُ القَرائنِ الثَّلاثِ المُجابِ عنها بقَرائنَ أمثالِها؛ لِما عَلِمتَ مِن أنَّ الإبطالَ رُوعيَ فيه قَرائنُ ثلاثٌ على وِزانِ أقوالِ النَّفْسِ، وأنَّ ترتيبَ أقوالِ النَّفْسِ كان جاريًا على التَّرتيبِ الطَّبيعيِّ، فلو لم يُشَوَّشِ النَّشرُ لَوَجَبَ أنْ يُقتَصَرَ فيه على أقَلَّ مِن عدَدِ قَرائنِ اللَّفِّ، فتَفوتَ نُكتةُ المُقابَلةِ الَّتي هي شأنُ الجِدالِ [1149] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/47)، ((تفسير أبي حيان)) (9/215)، ((تفسير أبي السعود)) (7/260، 261)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/48). .