موسوعة التفسير

سُورةُ الأعرافِ
الآيات (94-100)

ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ

غريب الكلمات :

بِالْبَأْسَاءِ: البأساءُ اسمٌ للبُؤسِ، وهو المكروهُ والضَّرَرُ والشِّدَّةُ وسُوءُ الحالِ، وقيل: البأساءُ الفَقْرُ والفاقةُ، وهو مِن البُؤسِ، وأصل (بأس): الشِّدَّةُ وما ضاهاها. وقيل: البأساءُ ضرَّاءُ مَعها خوفٌ، وأصلُها مِن البأسِ، وهو الخَوفُ؛ يُقال: لا بَأسَ عليكَ، أي: لا خوفَ عليك [1173] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 70، 81)، ((تفسير ابن جرير)) (3/89)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/328)، ((الفروق اللغوية)) للعسكري (ص: 198)، ((المفردات)) للراغب (ص: 153)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 102). .
وَالضَّرَّاءِ: أي: المرَضِ والضُّرِّ، والضَّرَّاءُ كذلك: سوءُ الحالِ، والفَقْرُ والقَحْطُ، والضُّرُّ: خِلافُ النَّفْعِ [1174] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (1/70)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/360)، ((المفردات)) للراغب (1/503، 504)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (1/26)، ((التبيان)) لابن الهائم (1/102، 129). .
عَفَوْا: أي: كَثُروا، وزَادوا، وأَصْلُ العَفْوِ: تَرْكُ الشَّيءِ [1175] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (3/692)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 170)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 333)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/56)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 114). .
مَسَّ: أي: أصابَ، والمسُّ يُقالُ في كلِّ ما يَنالُ الإنسانَ مِن أَذًى، وأَصْلُ (مسس): جَسُّ الشيءِ باليَدِ [1176] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/332)، ((المفردات)) للراغب (1/767)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 83). .
وَالسَّرَّاءُ: أي: السُّرورُ والفرَحُ ورخاءُ العَيْشِ، والسَّراءُ أيضًا لذَّةٌ في القلبِ عِند حُصولِ نفْعٍ أو توقُّعِه، أو عِند رؤيةِ أمْرٍ يُعجِبُ [1177] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/57)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 81، 129)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 508). .
بَغْتَةً: أي: فجأةً، وكلُّ ما جاءَ فجأةً فقد بَغَتَ، يقال: قد بَغَتَه الأمرُ يَبْغَتُه بغْتًا وبَغتةً، إذَا أتاه فجأةً، والبغتُ: مفاجأةُ الشَّيءِ من حيثُ لا يُحتَسَب [1178] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 153)، ((معاني القرآن)) للزجاج (2/241)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 120)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/272)، ((المفردات)) للراغب (ص: 135)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 252). .
أَهْلَ الْقُرَى: أي: سُكَّانَها؛ وأهلُ الرَّجُلِ في الأَصلِ: مَنْ يَجمعُه وإيَّاهم مَسْكَنٌ واحدٌ، والقَرْيَةُ: اسْمٌ للمَوْضِعِ الَّذي يَجتمِعُ فيه النَّاسُ، ويُقالُ للمَدينَةِ: قَرْيَةٌ؛ لاجْتِماعِ النَّاسِ فيها، مِنْ: قَرَيْتُ الماءَ، إذا جَمَعْتَه [1179] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/150)، ((المفردات)) للراغب (ص: 96)، ((تفسير القرطبي)) (7/253)، ((تفسير ابن كثير)) (3/451). .
بَأْسُنَا: أي: عذابُنا، وأَصْلُ (بأس): يدلُّ على الشِّدَّةِ وما شابهها [1180] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/328)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 108)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 252). .
بَيَاتًا: أي: ليلًا، أو وَقْتَ بَياتٍ، واشتِغالٍ بالنَّوْمِ، وأَصْلُ البَيْتِ: مَأْوى الإنسانِ باللَّيلِ؛ لأنَّه يُقالُ: باتَ، أي: أقامَ باللَّيلِ [1181] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 119)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 165)، ((المفردات)) للراغب (ص: 151)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 154)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 252). .
ضُحًى: الضُّحَى: أوَّلُ اليومِ، أو انبِساطُ الشَّمسِ وامتِدادُ النَّهارِ، وسُمِّيَ الوقْتُ به، وَأَصْلُهُ يدُلُّ على بُروزِ الشَّيءِ [1182] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/101)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/391)، ((المفردات)) للراغب (ص: 502). .
أَصَبْنَاهُمْ: أي: أَهْلَكْناهم وأخَذْناهم [1183] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/334)، ((تفسير القرطبي)) (7/254)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 131). .
وَنَطْبَعُ: أي: ونَختِمُ، والطَّبْعُ: تصويرُ الشَّيءِ بصورةٍ ما، وهو مَثَلٌ على نِهايةٍ يَنتهي إليها الشَّيءُ، حتَّى يُخْتَمَ عِندَها [1184] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 321)، ((المفردات)) للراغب (ص: 515)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/438)، ((تفسير ابن كثير)) (3/451). .

المعنى الإجمالي :

يُخبِرُ تعالى أنَّه ما أرسَلَ في قريةٍ من نبيٍّ من أنبيائِهِ، فكذَّبَهُ المُرْسَلُ إليهم، إلَّا أخَذَهم بالفَقْرِ والأمراضِ؛ كي يتضرَّعوا إليه، ويَدْعوه أنْ يَكشِفَ عنهم، فلمَّا لم يُفِدْ ذلك معهم باستمرارِهم في الطُّغيانِ، بدَّلَ اللهُ حالَهم السَّيِّئَ إلى حالٍ حَسَنٍ، فعافى أبدانَهم، وأَجْرى عليهم الأرزاقَ، حتَّى كَثُروا وكَثُرَتْ أموالُهم وأولادُهم، وقالوا: قدْ أصابَ آباءَنا الضَّرَّاءُ والسَّرَّاءُ. فأخَذَهم اللهُ فجأَةً، وَهُمْ لا يَشعُرونَ.
ثمَّ يُبيِّنُ تعالى أنَّ أهْلَ القُرى لو آمَنوا واتَّقَوْا لَفَتَحَ عليهم بركاتٍ مِن السَّماءِ والأرضِ، ولكنَّهم لم يَفعَلوا ذلك، بل كذَّبوا، فعاقَبَهم تعالى بما كسَبوا مِن كُفْرٍ، واقتَرَفوا من موبِقاتٍ؛ أَبَعْدَ ذلك يَأْمَنُ أهلُ القُرى أنْ يَحِلَّ عليهم عذابُ اللهِ الشَّديدُ ليلًا، وهُمْ نائمون؟! أو هل يأمَنونَ أنْ يأتيَهم العذابُ أوَّلَ النَّهارِ، وهم يَلعبَونَ؟! أفأمِنوا مَكْرَ اللهِ؟! فلا يأمَنُ مَكْرَهُ تعالى إلا القومُ الخاسِرونَ.
أوَلم يتبيَّنْ للَّذينَ يُستخلَفونَ في الأرضِ من بعْدِ هلاكِ أَهْلِها أنَّ اللهَ يَقْدِرُ إذا شاءَ أنْ يُهلِكَهم بسَبَبِ ذُنوبِهم، ويَخْتِمَ على قلوبِهم؛ فهم لا يَسمَعونَ؟!

تفسير الآيات :

وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94)
مناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لمَّا عرَّفَنا اللهُ تعالى أحوالَ هؤلاءِ الأنبياءِ، وأحوالَ ما جَرى على أُمَمِهم، كان مِنَ الجائزِ أنْ يُظَنَّ أنَّه تعالى ما أنزَلَ عذابَ الاستِئصالِ إلَّا في زَمَنِ هؤلاءِ الأنبياءِ فقط، فبيَّنَ في هذه الآيةِ أنَّ هذا الجِنْسَ مِنَ الهلاكِ قد فَعَلَه بغَيْرِهم، وبيَّنَ العِلَّةَ الَّتي بها يَفعَلُ ذلك [1185] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (14/320). ، فقال تعالى:
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ
أي: إذا أرسَلْنا إلى أهلِ مدينةٍ نبيًّا، يَدعوهم إلى توحيدِ اللهِ، فكذَّبوه؛ عاقَبْناهم بشِدَّةِ الفَقْرِ والأمراضِ [1186] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/328)، ((تفسير البغوي)) (2/216)، ((تفسير ابن كثير)) (3/449)، ((تفسير السعدي)) (ص: 297)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/17)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/626). .
لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ
أي: ابْتَلَيْناهم بالبأساءِ في أموالِهم، والضَّرَّاءِ في أَبْدانِهم؛ كيْ يَدْعوا ربَّهم أنْ يَكشِفَ ما حلَّ بهم مِنَ العذابِ، ويَخشَعوا له، ويُنِيبوا إليه بتَرْكِ الكفرِ به، وتَكذيبِ أنبيائِهِ [1187] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/328)، ((تفسير البغوي)) (2/216)، ((تفسير ابن كثير)) (3/449)، ((تفسير السعدي)) (ص: 297). .
كما قال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام: 42-43] .
وقال سُبحانَه: وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ [المؤمنون: 76] .
ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95)
ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا
أي: فلمَّا لم يُجْدِ معهم ذلك، واستمرَّ طُغيانُهم، حوَّلنا حالَهم مِنَ الشِّدَّةِ إلى الرَّخاءِ، فعافَيْنا أَبْدانَهم وأَجْرَيْنا عليهم الأرزاقَ، حتَّى كَثُروا، وكَثُرَتْ أموالُهم وأولادُهم [1188] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/328)، ((تفسير ابن كثير)) (3/449- 450)، ((تفسير السعدي)) (ص: 297)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/18)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/627). .
كما قال تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء: 35] .
وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ
أي: لم يتضرَّعْ أهْلُ تلك القُرى إلى اللهِ تعالى حِينَ الشِّدَّةِ، ولم يَشْكروا اللهَ حِينَ النِّعمةِ، وقالوا: هذه أحوالٌ اعتياديَّةٌ قد جَرَتْ على آبائِنا مِنْ قَبْلِنا؛ فنالَهم أحيانًا ما يَسوءُهم مِنَ الشَّدائدِ والأمراضِ، وأصابَهم في أحيانٍ أُخْرى ما يَسرُّهم مِنَ الرَّخاءِ والنِّعَمِ، فنحنُ مِثْلُهم، وليس لهذا الأمْرِ تعلُّقٌ بالموعظةِ والتَّذكيرِ والابتلاءِ، ونَحْوِ ذلك [1189] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/332)، ((تفسير القرطبي)) (7/252)، ((تفسير ابن كثير)) (3/450)، ((تفسير السعدي)) (ص: 297)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/628). .
فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ
أي: فأَخَذْنا أهلَ تلك القُرى بالهلاكِ فجأَةً، وهُمْ لا يَعلمونَ بمجيءِ العذابِ، ولم يَخْطُرْ ببالِهم [1190] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/332)، ((تفسير البغوي)) (2/216)، ((تفسير ابن كثير)) (3/450)، ((تفسير السعدي)) (ص: 298)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/20)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/629). .
كما قال تعالى: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [الأنعام: 44] .
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى في الآيةِ السَّابقةِ أنَّ الَّذينَ عَصَوْا وتَمَرَّدوا أخَذَهم اللهُ بَغْتَةً؛ بيَّنَ في هذه الآيةِ أنَّهم لو أطاعوا لَفَتَحَ اللهُ عليهم أبوابَ الخيراتِ [1191] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (14/321-322)، ((تفسير السعدي)) (ص:298). ، فقال:
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ 
أي: ولو حَصَلَ أنَّ أهلَ القُرى المُهلَكاتِ صَدَّقوا بما جاءَتْهم به الرُّسلُ مِنَ الوحيِ والدَّلالاتِ، واتَّقَوُا اللهَ بفِعْلِ الطَّاعاتِ، وتَرْكِ المُحرَّماتِ، لَفَتَحَ اللهُ عليهم مِنَ السَّماءِ والأرضِ البركاتِ؛ فأنزَلَ عليهم الأمطارَ، وأَنْبَتَ لهم الأرضُ أنواعَ الثِّمارِ والنَّباتاتِ [1192] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/451)، ((تفسير السعدي)) (ص: 298)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/21)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/629). قال ابن عاشور: (قوله: مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مرادٌ به حقيقتُهُ؛ لأنَّ ما يَنالُهُ النَّاسُ مِنَ الخيراتِ الدُّنيويَّةِ لا يَعْدو أنْ يكونَ ناشِئًا مِنَ الأرضِ، وذلك مُعْظَمُ المنافعِ، أو مِنَ السَّماءِ مثل ماءِ المطرِ وشعاعِ الشَّمسِ وضوءِ القمرِ والنُّجومِ والهواءِ والرِّياحِ الصَّالِحَةِ). ((تفسير ابن عاشور)) (9/22). .
كما قال تعالى: وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا [الجن: 16] .
وقال سُبحانَه حاكيًا قَوْلَ نُوحٍ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لقومِهِ: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [نوح: 10- 12] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [المائدة: 66] .
وقال تَبارَكَ وتعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [الطلاق: 2-3] .
وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ
أي: ولكنَّهم لم يُؤمِنوا ويتَّقوا، بل كذَّبوا رُسُلَهم وما جاؤوهم به مِنَ البراهينِ القاطِعاتِ؛ فعاقَبَهم اللهُ تعالى بأنواعِ العقوباتِ، ونَزْعِ البركاتِ؛ بسَبَبِ كُفْرِهم، واقترافِهم السَّيِّئاتِ [1193] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/451)، ((تفسير السعدي)) (ص: 298)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/630). .
كما قال تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ [الروم: 41] .
وقال سُبحانَه: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30] .
أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97)
أي: أَبَعْدَ ذلك يَظُنُّ أهلُ القُرى الكافرةِ أنَّهم آمِنونَ مِن حُلولِ عذابِنا الشَّديدِ عليهم ليلًا وهم نِيامٌ [1194] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (7/253)، ((تفسير ابن كثير)) (3/451)، ((تفسير السعدي)) (ص: 298). قال الزمخشريُّ: (المعطوفُ عليه قولُه: فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً، وقولُه: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى إلى يَكْسِبُونَ وقَعَ اعتراضًا بين المعطوفِ والمعطوفِ عليه، وإنَّما عطف بالفاء؛ لأنَّ المعنى: فعلوا وصنعوا فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً؛ أَبَعْدَ ذلك أَمِنَ أهلُ القرى أنْ يأتيَهم بأسُنا بَياتًا، وأَمِنوا أنْ يأتيَهم بأسُنا ضُحًى؟!). ((تفسير الزمخشري)) (2/134). ويُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/120). وقال الشِّنقيطيُّ: (ومعنى إنكارِهِ على أهل القرى: جَمْعُهم بين الكفرِ به وتكذيبِ رُسلِه، وعدمُ خوفِهم من بطشِه ونَكالِه، فهذا يدُلُّ على غايةِ الجهلِ باللهِ). ((العذب النمير)) (4/6). ؟!
أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98)
أي: أَوَيَظُنُّ أهلُ القُرى الكافرةِ أنَّهم في مَأْمَنٍ من أنْ يأتيَهم عذابُنا عليهم في أوَّلِ النَّهارِ وهم في لَهْوِهم وغَفْلتِهم [1195] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/451)، ((تفسير السعدي)) (ص: 298)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/7). ؟!
أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)
أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ
أي: فهل أَمِنَ أهلُ القُرى الكافرةِ أنْ يَستدرِجَهم اللهُ بنِعَمِه، كما استدرَجَ الَّذينَ مِنْ قَبْلِهم، ثمَّ يأخُذَهم بعذابِهِ بَغْتَةً في حالِ سَهْوِهم وغَفْلتِهم [1196] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/334)، ((تفسير البغوي)) (2/217)، ((تفسير ابن كثير)) (3/451)، ((تفسير السعدي)) (ص: 298). قال الشنقيطيُّ: (معنى مكرِ اللهِ: أنَّه جلَّ وعلا يستدرِجُهم ويُغدِقُ عليهم النِّعمَ والصِّحَّةَ والعافيةَ؛ حتَّى يكونوا أغفَلَ ما كانوا، ثمَّ يأخذُهم بِغْتةً، ويُهلِكُهم في غايةِ الغفلةِ). ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/8). ويُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/24). وقال عبد الرحمن بن ناصر البرَّاك: (المكرُ والكيدُ: تدبيرٌ خفيٌّ يتضمَّن إيصالَ الضَّررِ من حيث يُظنُّ النَّفعُ، فالَّذي يُريدُ أنْ يمكرَ يُظهِرُ المحبَّةَ، ويُظهِرُ الإحسانَ، وهو يتَّخذُ ذلك وسيلةً للإيقاعِ بخَصمِه وعدُوِّه، والمكرُ مِنَ النَّاسِ منه: المحمودُ، والمذمومُ، فإذا كان على وجهِ العدلِ فهو محمودٌ، وإذا كان على وجهِ الظُّلمِ والعُدوانِ فهو مذمومٌ... أمَّا مكرُ اللهِ فهو كلُّه محمودٌ، وعدلٌ، وحِكمةٌ، هو تعالى يمكر بالكافرين مكرًا حقيقيًّا، ويُدبِّر تدبيرًا خفيًّا يُوصِلُ به العِقابَ من حيث يُظَنُّ الإنعامُ). ((توضيح مقاصد العقيدة الواسطية)) (ص: 92). ويُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/7- 8)، ((صفات الله عزَّ وجلَّ الواردة في الكتاب والسنة)) لعَلَوي السَّقَّاف (ص: 324). ؟!
كما قال سُبحانَه: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال: 30] .
فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ
أي: فَلا يأمَنُ أحدٌ مكْرَ اللهِ تعالى له باستِدراجِه بنِعَمِه، مع إقامتِه على الكُفْرِ، وإصرارِهِ على المعاصي، إلَّا القومُ الهالكونَ، الَّذينَ أضاعوا عقولَهم، وأَعْرَضوا عَنِ التَّفكُّرِ بها، ففَقَدوا ما ينفَعُهم، وجَلَبوا إلى أنفسِهم ما يَضُرُّها [1197] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/334)، ((تفسير القاسمي)) (5/159)، ((تفسير السعدي)) (ص: 298)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/24). .
كما قال تعالى: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الأعراف: 182-183] .
وقال سُبحانَه: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [آل عمران: 178] .
أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا بيَّن اللهُ تعالى فيما تقدَّمَ مِنَ الآياتِ حالَ الكفَّارِ الَّذينَ أَهْلَكَهم اللهُ بالاستِئْصالِ مُجمَلًا ومُفصَّلًا- أَتْبَعَهُ ببيانِ أنَّ الغَرَضَ من ذِكْرِ هذه القَصصِ هو حُصولُ العِبْرَةِ لجميعِ المُكلَّفينَ؛ في مصالحِ أَدْيانِهم وطاعاتِهم [1198] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (14/323). .
أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ
أي: أَوَلَمْ يَتبيَّنْ ويَظهَرْ للَّذينَ يُستخلَفونَ في الأرضِ من بعْدِ هلاكِ أهلِها أنَّا نَقدِرُ- إذا شِئْنا- على إهلاكِهم؛ بسَبَبِ كُفرِهم ومعاصيهم، كما عاقَبْنا الَّذينَ من قبْلِهم ممَّنْ سار سيرَتَهم، وفعَلَ مِثْلَ صَنيعِهم [1199] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/334)، ((تفسير البغوي)) (2/217)، ((تفسير ابن عطية)) (2/433)، ((تفسير السعدي)) (ص: 298)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/27)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/27- 31). ؟!
كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ [السجدة: 26] .
وقال سُبحانَه: أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ * وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ [إبراهيم: 44-45] .
وقال عزَّ وجلَّ: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ [الأنعام: 6] .
وقال تبارَكَ وتعالى: أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ * ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ * كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ [المرسلات: 16- 18] .
وقال جلَّ جلالُهُ: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ [النحل: 61] .
وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ
أي: ونحن نَختِمُ على قلوبِهم، فيُؤدِّي ذلك بهم إلى عَدَمِ قَبولِ الهُدى، وعدمِ الاستجابةِ للحَقِّ [1200] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/334)، ((زاد المسير)) لابن الجوزي (2/141)، ((تفسير السعدي)) (ص: 298)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/31 ، 38). قال الواحديُّ: (قال الزَّجَّاجُ: هذا مُستأنَفٌ مُنقطِعٌ عمَّا قبْلَه؛ لأنَّ قولَهُ أَصَبْنَا ماضٍ، ووَنَطْبَعُ مستقبَلٌ، والمعنى: ونحن نَطبَعُ على قلوبِهم، قال ابنُ الأنباريِّ: ويجوز أنْ يكونَ معطوفًا على أَصَبْنَا إذا كان بمعنى نُصيبُ). ((التفسير الوسيط)) (2/390). وقال ابن عاشور: (وجملةُ: وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ليستْ معطوفةً على جملةِ: أَصَبْنَاهُمْ حتَّى تكونَ في حُكْمِ جوابِ لَوْ؛ لأن هذا يُفْسِدُ المعنى؛ فإنَّ هؤلاءِ الَّذينَ وَرِثوا الأرضَ من بعْدِ أهلِها قد طُبِعَ على قلوبِهم؛ فلذلك لم تُجْدِ فيهم دَعوةُ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُنْذُ بُعِثَ إلى زمنِ نُزولِ هذه السُّورةِ، فلو كان جوابًا لـ لَوْ لصارَ الطَّبعُ على قلوبِهم صِيغَ بصيغةِ المضارعِ؛ للدَّلالةِ على استمرارِ هذا الطَّبعِ، وازديادِهِ آنًا فآنًا، وإمَّا أنْ تُجْعَلَ (الواو) للاستئنافِ، والجُملة مُستأنَفة، أي: ونحن نَطْبَعُ على قلوبِهم في المستقبَلِ، كما طَبَعْنا عليها في الماضي، ويُعْرَفُ الطَّبعُ عليها في الماضي بأخبارٍ أُخْرى؛ كقولِهِ تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ... الآيةَ [البقرة: 6] ، فتكونُ الجملةُ تَذْييلًا لِتَنْهِيَةِ القِصَّةِ، ولكنَّ مَوْقِعَ الواوِ في أوَّلِ الجملةِ يُرجِّحُ الوجهَ الأوَّلَ). ((تفسير ابن عاشور)) (9/28- 29). واختار ابنُ عطيَّةَ أنَّ الواوَ في قولِه تعالى: وَنَطْبَعُ عاطفةٌ، فيكونُ الطَّبْعُ معطوفًا على المعاصي ومُتَوَعَّدًا به. قال ابنُ عطيَّةَ: (وَنَطْبَعُ عُطِفَ على المعاصي؛ إذِ المرادُ به الاستقبالُ، ويحتمِلُ أنْ يكونَ وَنَطْبَعُ مُنقطِعًا؛ إخبارًا عن وُقوعِ الطَّبْعِ لا أنَّه مُتَوَعَّدٌ به). ((تفسير ابن عطية)) (2/433). وهذا الَّذي جعَله ابنُ عطيَّةَ احتمالًا اختاره القرطبيُّ والشنقيطيُّ باعتبارِ أنَّ الواوَ استِئنافيَّةٌ، والمعنى: ونحن نَطْبَعُ. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (7/254)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/31). .
كما قال سُبحانَه: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ [النساء: 155] .
وقال تعالى: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً [المائدة: 13] .
وقال عزَّ وجلَّ: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [الصف: 5] .
وقال جلَّ جلالُهُ: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ [البقرة: 7] .
وقال تبارَكَ وتعالى: كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ [الأعراف: 101] .
وقال سُبحانَه وتعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا [الكهف: 57] .

الفوائد التربوية :

1- قال اللهُ تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ، ممَّا ثبَتَ بالتَّجارِبِ وتَقرَّرَ عِندَ علماءِ النَّفْسِ والأخلاقِ أنَّ الشَّدائِدَ ومَضايقَ الأُمورِ ممَّا يُربِّي النَّاسَ، ويُصْلِحُ من فسادِهم؛ فالمؤمنُ قد يَشْغَلُه الرَّخاءُ وهَناءُ العَيْشِ؛ فَيُنْسيهِ ضَعْفَه وحاجتَه إلى ربِّه، والشَّدائدُ تُذَكِّرُه به، والكافرُ بالنِّعَمِ قد يَعرِفُ قيمتَها بفَقْدِها، فينقَلِبُ شاكرًا بعْدَ عَوْدِها، بل الكافرُ باللهِ عزَّ وجلَّ قد تُنَبِّه الشَّدائدُ والأهوالُ مَرْكَزَ الشُّعورِ بوُجودِ الرَّبِّ الخالقِ المُدبِّرِ لأُمورِ الخَلْقِ في دِماغِهِ، وتُذكِّرُه بما أُودِعَ في فِطْرتِهِ من وُجودِ مَصْدَرٍ لنظامِ الكَوْنِ وأَقْدارِهِ، كما وقع كثيرًا، والآياتُ في هذا كثيرةٌ [1201] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (9/14-15). .
2- المعاصي تَمْحَقُ بَركةَ الدِّينِ والدُّنيا، وما مُحِقَتِ البَركةُ مِنَ الأرضِ إلَّا بمعاصي الخَلْقِ، يُبيِّنُ ذلك قولُ اللهِ تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [1202] يُنظر: ((الجواب الكافي)) لابن القيم (ص:84). .
3- إذا آمَن النَّاسُ واتَّقَوْا وأطاعُوا اللهَ تعالَى، أَغْدَقَ عليهم رِزْقَه؛ قال تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [1203] يُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/629- 630). .
4- لا ينبغي للعَبْدِ أنْ يكونَ آمِنًا على ما عِندَه مِنَ الإيمانِ، بل لا يَزالُ خائفًا وَجِلًا أنْ يُبْتَلى ببَلِيَّةٍ تَسلُبُ ما عِندَه مِنَ الإيمانِ؛ قال تعالى: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ؛ فالمؤمنُ يعمَلُ بالطَّاعاتِ وهو مُشْفِقٌ وَجِلٌ خائفٌ، والفاجِرُ يعمَلُ بالمعاصي وهو آمِنٌ، كما قال بَعضُ السَّلَف [1204] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/451)، ((تفسير السعدي)) (ص:298). ، فهذه الآيةُ الكريمةُ فيها من التخويفِ البليغ، على أنَّ العبدَ لا ينبغي له أن يكونَ آمِنًا على ما معه من الإيمانِ، بل لا يزالُ خائفًا وَجِلًا؛ أن يُبتلَى ببليَّةٍ تسلُبُ ما معه من الإيمانِ، وأنْ لا يزالُ داعيًا بِقَولِه: (يا مُقلِّبَ القلوبِ، ثَبِّتْ قلبي على دينِك) وأن يعمَلَ ويسعى في كلِّ سببٍ يخلِّصُه من الشَّرِّ، عند وقوعِ الفِتَن؛ فإنَّ العبدَ- ولو بلغَتْ به الحالُ ما بلغَتْ- فليس على يقينٍ من السَّلامةِ [1205] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 298). .
5- مَنْ أَوْضَحَ اللهُ له سُبُلَ الهُدى، وذَكَرَ له أمثالًا ممَّنْ أَهْلَكَهم تعالى بذُنوبِهم، وهو مع ذلك دائمٌ على غَيِّهِ لا يَرْعَوي، يَطْبَعِ اللهُ على قلبِهِ؛ فَيَنْبو سَمْعُه عن سَماعِ الحَقِّ؛ قال اللهُ تعالى: أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ [1206] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/121-122).

الفوائد العلمية واللطائف :

قال الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ تَخصيصُ القُرى بإرسالِ الرُّسلِ فيها دونَ البَوادي- كما أشارَتْ إليه هذه الآيةُ وغيرُها من آيِ القرآنِ، وشَهِدَ به تاريخُ الأديانِ- يُنْبِئُ أنَّ مُرادَ اللهِ تعالى من إرسالِ الرُّسلِ هو بَثُّ الصَّلاحِ لأصحابِ الحضارةِ الَّتي يَتَطَرَّقُ إليها الخَلَلُ بسَبَبِ اجتماعِ الأصنافِ المختلِفةِ [1207] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/16). .
قَوْلُ اللهِ تعالى: ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ، في لَفْظِ مَكَانَ إشعارٌ بتَمَكُّنِ البأساءِ منهم، كأنَّه صارَ للشِّدَّةِ عِندهم مكانٌ [1208] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/118). .
قولُ اللهِ تعالى: ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا، إنَّما جُعِلَ ذلك سَيِّئَةً؛ لأنَّه ممَّا يَسوءُ النَّاسَ، ولا تَسوءُهم الحَسَنَةُ، وهي الرَّخاءُ والنِّعمةُ، والسَّعةُ في المعيشةِ [1209] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/328). .
قولُ اللهِ تَعالى: ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ، الحَسَنةُ اسْمٌ اعْتُبِرَ مؤنَّثًا؛ لتأويلِهِ بالحالةِ والحادثةِ، وكذلك السَّيِّئةُ، فَهُمَا في الأصْلِ صفتانِ لموصوفٍ محذوفٍ، ثمَّ كَثُرَ حَذْفُ الموصوفِ؛ لِقِلَّةِ جَدْوى ذِكْرِهِ، فصارَتِ الصِّفتانِ كالاسمَيْنِ؛ ولذلك عُبِّرَ عَنِ الحسنةِ في بعضِ الآياتِ بما يتلمَّحُ منه معنى وَصْفِيَّتِها [1210] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/18). .
قولُ اللهِ تعالى: وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ نَصٌّ في أنَّ كَذِبَهم وكُفْرَهم هو كَسْبُهم الَّذي حَرَمَهم البركاتِ، وعليه توعَّدَهم بالعقوباتِ؛ ففيه رَدٌّ على الجَبْريةِ [1211] يُنظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية (8/498). .
قولُ الله تعالى: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا، أهلُ القُرى يُرادُ به الجِنْسُ، أي: الأُمَمُ، ويحتمِلُ أنْ يكونَ المرادُ به مَنْ ذُكِرَ حالُهم فيما تقدَّمَ؛ وضعًا للمُظْهَرِ فيه مَوْضِعَ المُضْمَرِ؛ ليدُلَّ على أنَّ مضمونَها ليس خاصًّا بأقوامٍ بأعيانِهم، بل هو قواعدُ عامَّةٌ في أحوالِ الأُمَمِ، فَيُرادُ بالاسمِ المُظْهَرِ العُنوانُ العامُّ لها، لا آحادُ ما ذُكِرَ منها [1212] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (9/24). .
قولُ اللهِ تعالى: أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ فيه تَقريعٌ لهم بنِسْبَتِهم إلى أنَّهم صِبيانُ العُقولِ، لا التِفاتَ لهم إلى غيرِ اللَّعِبِ [1213] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/13). .
قولُ اللهِ تعالى: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ فيه ذَكَرَ الله تعالى مكْرَه وَحْدَه، ولم يذْكُرْ مكْرَ عبْدِه، كما قال في موضعٍ آخرَ: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال: 30] ، فذَكَرَ مكرَهم ومكرَهُ، وهنا ذَكَرَ مكرَه وحدَه؛ فقال: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ، والمكرُ صفةٌ أطلَقَها اللهُ على نفسِهِ، ولا يجوزُ إطلاقُها على اللهِ إلَّا في الموضِعِ الَّذي يُطلِقُها هو على نفسِهِ أو رسولُهُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقد أَجْمَعَ جميعُ العلماءِ أنَّه لا يجوزُ أنْ يُشْتَقَّ له منها اسْمٌ، فلا تَقُلْ: من أسمائِهِ الماكِرُ؛ لأنَّ ذلك لا يَجوزُ إجماعًا [1214] يُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/7، 8). .
قولُ اللهِ تعالى: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ اسْتُدِلَّ به على أنَّ الأمْنَ من مَكرِ اللهِ مِنَ الكبائرِ [1215] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص:131). .

بلاغة الآيات :

قولُهُ: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ، مِنْ صِلةٌ؛ للتَّنْصيصِ على العُمومِ المُستَفادِ من وُقوعِ النَّكِرَةِ في سِيَاقِ النَّفْيِ [1216] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/16). .
قولُهُ: فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فيه تأكيدُ مَعنَى البَغتةِ بقولِه: وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ؛ فهي حالٌ مُؤكِّدةٌ لمعنَى بَغْتَةً؛ إذ مدلولُ بَغْتَةً يَقتضِي عَدمَ الشُّعورِ بأخْذِه إيَّاهم حِينَ يَقَعُ [1217] يُنظر: ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (5/390)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/463)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/20) و(25/251). .
قولُهُ: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا، التَّعريفُ في القُرى تعريفُ العَهْدِ؛ فإضافةُ أَهْل إليه تُفيدُ عُمومَه بقَدْرِ ما أُضيفَ هو إليه [1218] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/21). ، وهو تعريضٌ بإنذارِ الَّذينَ كذَّبوا مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من أهلِ مكَّةَ، وتعريضٌ ببِشارَةِ أهلِ القُرى الَّذينَ يُؤمنونَ، كأهلِ المدينةِ [1219] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/21). .
قولُهُ: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ
في قوله: أَفَأَمِنَ وقوله: أَوَأَمِنَ دَخَلَتْ الهَمْزةُ على (أَمِنَ)؛ للاستفهامِ على جِهَةِ التَّعجُّبِ، ومَحَلُّ التَّعجُّبِ هو تَواطُؤُهم على هذا الغُرورِ، أي: يَتَرَتَّبُ على حِكايَةِ تَكْذيبِهم وَأَخْذِهم اسْتِفْهامُ التَّعجُّبِ مِنْ غُرورِهم، وأَمْنِهم غَضَبَ القَادِرِ العَليمِ [1220] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/22). .
وجِيءَ بقَوْلِه: يَأْتِيَهُمْ بصِيغَةِ المُضارِعِ؛ لأَنَّ المُرادَ حِكايَةُ أَمْنِهم الَّذي مَضَى مِنْ إِتْيانِ بَأْسِ اللهِ في مُسْتَقْبَلِ ذلك الوَقْتِ [1221] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/22). .
وتكرَّرَ لَفْظُ: أَهْلُ الْقُرَى ؛ لِمَا في ذلك مِنَ التَّسميعِ والإبلاغِ والتَّهديدِ والوَعيدِ بالسَّامِعِ ما لا يكون في الضَّميرِ لو جاء: (أَوَأمِنوا)؛ فإنَّه متى قُصِدَ التَّفخيمُ والتَّعظيمُ والتَّهويلُ جِيءَ بالاسمِ الظَّاهرِ [1222] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (5/120). ، وفيه إنكارٌ بَعْدَ إنكارٍ؛ للمبالَغَةِ في التَّوبيخِ الشَّديدِ [1223] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/254). .
قولُه: وَهُمْ نَائِمُونَ وقوله: وَهُمْ يَلْعَبُونَ جاءَ نَائِمُونَ باسْمِ الفاعِلِ؛ لأنَّها حالةُ ثُبوتٍ واستِقرارٍ للبائِتينَ، وجاءَ يَلْعَبُونَ بالمُضارِعِ؛ لأنَّهم مُشتغِلونَ بأفعالٍ مُتَجَدِّدَةٍ شيئًا فشيئًا في ذلك الوَقْتِ [1224] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (5/120)، ((تفسير أبي حيان)) (5/120)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/12-13). .
وفي قولِه: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ جاءَ تَقييدُ التَّعجُّبِ من أَمْنِهم مَجيءَ البأْسِ بوَقْتَيِ البَياتِ والضُّحَى مِن بَيْنِ سائرِ الأوقاتِ، وبِحَالَيِ النَّومِ واللَّعِبِ من بَيْنِ سائِرِ الأحوالِ؛ لأنَّ الوَقْتَيْنِ أَجْدَرُ بأنْ يُحْذَرَ حُلولُ العذابِ فيهما؛ لأنَّهما وقتانِ للدَّعَةِ، فالبَياتُ للنَّومِ بعْدَ الفراغِ مِنَ الشُّغْلِ، والضُّحى لِلَّعِبِ قبِلَ استقبالِ الشُّغْلِ، فكان شأْنُ أُولي النُّهى المُعرضينَ عن دعوةِ رُسُلِ اللهِ ألَّا يَأْمَنوا عذابَه، بخاصَّةٍ في هذَيْنِ الوقتَيْنِ والحالَيْنِ، وفي هذا التَّعجُّبِ تَعريضٌ بالمشركينَ المكذِّبينَ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنْ يَحِلَّ بهم ما حَلَّ بالأُمَمِ الماضيةِ؛ فكان ذِكْرُ وقتِ البَياتِ ووقتِ اللَّعِبِ أَشَدَّ مُناسَبَةً بالمعنى التَّعريضيِّ؛ تَهديدًا لهم بأنْ يُصيبَهم العذابُ بأَفْظَعِ أحوالِهِ؛ إذ يكون حُلولُهُ بهم في ساعةِ دَعَتِهم، وساعةِ لَهْوِهِمْ؛ نِكايةً بهم [1225] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/23) . .
قولُه: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ، فيه تَكْرَار المكرِ مُضافًا إلى اللهِ؛ تحقيقًا لِوُقوعِ جزاءِ المَكْرِ بهم [1226] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/121). .
قولُه: أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ، الاستفهامُ في قولِهِ: أَوَلَمْ يَهْدِ مُستعمَلٌ في التَّعْجبِ [1227] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/26). .
وعبَّرَ عَنِ الإصابةِ بالماضي أَصَبْنَاهُمْ؛ إشارةً إلى سرعةِ الإهلاكِ، وعَنِ الطَّبْعِ بالمضارِعِ وَنَطْبَعُ؛ إيماءً إلى التَّجدُّدِ، بحيثُ لا يمُرُّ زَمَنٌ إلَّا كانوا فيه في طَبْعٍ جديدٍ [1228] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/15). ؛ فالتَّقديرُ: وطَبَعْنا على قلوبِهم، ولكنَّهُ صِيغَ بصِيغةِ المُضارِعِ؛ للدَّلالةِ على استِمرارِ هذا الطَّبْعِ، وازديادِه آنًا فَآنًا، وإمَّا أنْ تكونَ (الواو) للاستئنافِ، والجُملة مُستأنَفةً، أي: ونَحنُ نَطْبَعُ على قُلوبِهم في المستقبَلِ كما طَبَعْنا عليها في الماضِي [1229] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/29). .