موسوعة التفسير

سورةُ الجِنِّ
الآيات (14-17)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ

غريب الكلمات:

الْقَاسِطُونَ: أي: الظَّالِمونَ الَّذين كفَروا، العادِلُونَ عن الحَقِّ إلى الباطِلِ، يُقالُ: قَسَط: أي: جارَ. وأقسَطَ: إذا عَدَلَ، والقَسْطُ -بفتحِ القافِ-: الجَورُ، والقُسوطُ: العُدولُ عن الحَقِّ [150] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/86)، ((تفسير ابن عطية)) (5/382)، ((تفسير القرطبي)) (19/17). .
تَحَرَّوْا: أي: تَوخَّوا وقَصَدوا، والتَّحَرِّي: القَصدُ للشَّيءِ، مِن قَولِهم: ذلك أحْرَى، أي: أحَقُّ وأقرَبُ، وأصلُه يدُلُّ على القُربِ والقَصدِ [151] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 490)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 158)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/47)، ((المفردات)) للراغب (ص: 230)، ((تفسير القرطبي)) (19/17). .
رَشَدًا: الرَّشَدُ والرُّشْدُ: نقيضُ الضَّلالِ، وهو الاهتِداءُ والدَّيمومةُ عليه، وأصلُ (رشد): يدُلُّ على استِقامةِ الطَّريقِ [152] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/398)، ((البسيط)) للواحدي (13/538)، ((المفردات)) للراغب (ص: 354)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/207). .
حَطَبًا: أي: وَقودًا للنَّارِ، وأصلُ (حطب): يدُلُّ على وَقودٍ [153] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/79)، ((المفردات)) للراغب (ص: 242)، ((تفسير القرطبي)) (19/17). .
غَدَقًا: أي: كثيرًا غَزيرًا، يُقالُ: غَدِقَت العَينُ تَغدَقُ، فهي غَدِقةٌ: إذا كَثُرَ ماؤُها، وأصلُ (غدق): يدُلُّ على غُزْرٍ وكَثرةٍ [154] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 490)، ((تفسير ابن جرير)) (23/337)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 353)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/415)، ((تفسير القرطبي)) (19/18). .
لِنَفْتِنَهُمْ: أي: لِنَختَبِرَهم، والفِتنةُ في الأصلِ: الاختِبارُ، والابتلاءُ، مأخوذةٌ مِن الفَتْنِ: وهو إدخالُ الذَّهبِ النَّارَ؛ لِتَظهَرَ جَودتُه مِن رداءَتِه [155] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 491)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/472)، ((البسيط)) للواحدي (22/312)، ((تفسير السمعاني)) (6/69)، ((المفردات)) للراغب (ص: 624)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 421). .
يَسْلُكْهُ: أي: يُدْخِلْه، والسُّلوكُ: النَّفاذُ في الطَّريقِ، يُقالُ: سَلَكْتُ الطَّريقَ أسْلُكُه. وسَلَكْتُ الشَّيءَ في الشَّيءِ: أنْفَذْتُه، وأصلُ (نفذ): يدُلُّ على نُفوذِ شيءٍ في شيءٍ [156] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/97)، ((المفردات)) للراغب (ص: 421)، ((تفسير الشوكاني)) (5/370). .
صَعَدًا: أي: شَديدًا شاقًّا، والصَّعَدُ: المشَقَّةُ، تقولُ: تصَعَّدَني الأمرُ: إذا شَقَّ عليك، وهو مَصدَرُ صَعِدَ، يُقالُ: صَعِدَ صَعَدًا وصُعودًا، فوُصِفَ به العَذابُ؛ لأنَّه يتصَعَّدُ المعَذَّبَ، أي: يَعْلوه ويَغلِبُه فلا يُطيقُه، وأصلُ (صعد): يدُلُّ على ارتفاعٍ ومشَقَّةٍ [157] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 491)، ((تفسير ابن جرير)) (23/339)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 307)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/287)، ((تفسير القرطبي)) (19/19). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى حكايةً عن الجنِّ: وأنَّا مِنَّا المُسلِمونَ المُطِيعونَ للهِ، ومِنَّا الجائِرونَ عن طريقِ الحَقِّ، فمَنْ أسلَمَ للهِ تعالى بالتَّوحيدِ، وخَضَع له بالطَّاعةِ، فأولئك قصَدُوا الحَقَّ والصَّوابَ، وأمَّا الجائِرونَ عن الإسلامِ فكانوا وَقُودًا لجهنَّمَ.
ثمَّ يبيِّنُ الله تعالى سُنَّةً مِن سُنَنِه في عبادِه، فيقولُ: وأنْ لو استقام الظَّالِمونَ على طريقةِ الحَقِّ، لَأَسْقاهم اللهُ ماءً كثيرًا غَزيرًا، وأرغَدَ لهم العَيشَ؛ لِيَختَبِرَهم اللهُ فيما وسَّعَ عليهم مِنَ الرِّزقِ، ومَن يُعرِضْ عن القُرآنِ الكريمِ يُدخِلْه اللهُ عَذابًا شَديدًا شاقًّا.

تفسير الآيات:

وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14).
وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ.
أي: وأنَّا مِنَّا المُسلِمونَ المُطِيعونَ لله، السَّائِرونَ على صِراطِه المستقيمِ، ومِنَّا الجائِرونَ العادِلونَ عن طريقِ الحَقِّ القَويمِ [158] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/333)، ((تفسير القرطبي)) (19/17)، ((تفسير ابن كثير)) (8/242)، ((تفسير السعدي)) (ص: 891)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/236). قال القرطبي: (قَولُه تعالى: وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ أي: وأنَّا بعدَ استماعِ القُرآنِ مُختَلِفونَ؛ فمِنَّا مَن أسلَمَ، ومِنَّا مَن كَفَر). ((تفسير القرطبي)) (19/17). .
فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا.
أي: فمَنْ أسلَمَ للهِ تعالى بالتَّوحيدِ، وخَضَع له بالطَّاعةِ؛ فأولئك الَّذين توَخَّوا وقصَدُوا الحَقَّ والصَّوابَ، وسَلَكوا طريقَه الموصِلَ إلى الجنَّةِ [159] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/334)، ((الوسيط)) للواحدي (4/366)، ((تفسير ابن عطية)) (5/382)، ((تفسير الرازي)) (30/671)، ((تفسير القرطبي)) (19/17)، ((تفسير ابن كثير)) (8/242)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/484، 485)، ((تفسير السعدي)) (ص: 891). ممَّن اختار أنَّ هذا مِن كلامِ الجنِّ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، ومكِّي، وابن الجوزي، وأبو حيَّان. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/464)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/7771)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/348)، ((تفسير أبي حيان)) (10/299). وممَّن اختار أنَّ هذا مِن كلامِ الله تعالى، لا الجِنِّ: ابنُ عطيَّة، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/382)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/236). .
وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15).
أي: وأمَّا الجائِرونَ عن الإسلامِ، العادِلونَ باللهِ تعالى غَيرَه؛ فكانوا وَقُودًا لجهنَّمَ، تتوقَّدُ بهم؛ جزاءً على أعمالِهم [160] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/464)، ((تفسير ابن جرير)) (23/334)، ((تفسير القرطبي)) (19/17)، ((تفسير السعدي)) (ص: 891). قال القرطبي: (قوله: فَكَانُوا أي: في عِلمِ اللهِ تعالى). ((تفسير القرطبي)) (19/17). وقال البِقاعي: (فَكَانُوا بجِبِلَّاتِهم). ((نظم الدرر)) (20/485). .
كما قال تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف: 179] .
وقال سُبحانَه: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ [الأنبياء: 98] .
وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16).
أي: وأنْ لو عَدَل الظَّالِمونَ إلى طريقِ الصَّوابِ، واستقاموا على طريقةِ الحَقِّ، لَأسْقَيْناهم ماءً كثيرًا غَزيرًا عظيمَ النَّفعِ، نُكثِّرُ به الرِّزقَ، ونُزَيِّنُ به الأرضَ، ونُرغِدُ به العَيشَ [161] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/334)، ((الوسيط)) للواحدي (4/366)، ((تفسير القرطبي)) (19/17-19)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/486، 487)، ((تفسير السعدي)) (ص: 891)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/237، 238). وممَّن قال بأنَّ المرادَ: الاستِقامةُ على طريقةِ الحَقِّ والهُدى: ابنُ جرير، والواحديُّ، والقرطبي، والبِقاعي، والسعدي، وابن عاشور. يُنظر: المصادر السابقة. وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ، ومجاهدٌ، وسعيدُ بنُ جُبَيرٍ، وقَتادةُ، والضَّحَّاكُ، وسعيدُ بنُ المُسيِّبِ، وعَطاءٌ، والحسَنُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/335)، ((تفسير الثعلبي)) (10/53). وقيل: المرادُ: طريقةُ الكُفرِ والضَّلالةِ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: الفَرَّاءُ، وابنُ قُتَيْبةَ. يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (1/335)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 490). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: أبو مِجْلَزٍ، والرَّبيعُ بنُ أنسٍ، وزَيدُ بنُ أسْلَمَ، والكلبيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/338)، ((تفسير الثعلبي)) (10/53). قال ابنُ كثير: (القَولُ الثَّاني: وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ الضَّلالةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا أي: لَأوسَعْنا عليهم الرِّزقَ؛ استِدراجًا... وله اتِّجاهُ، ويتأيَّدُ بقَولِه: لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ). ((تفسير ابن كثير)) (8/243). وقال الرَّسْعَنيُّ: (وقال مُقاتلٌ وجُمهورُ المفسِّرينَ: هذا إخبارٌ عن أهْلِ مكَّةَ. المعنى: وأنْ لو استَقاموا على طَريقةِ الهُدى. وذهَبَ قومٌ إلى أنَّ المرادَ بها: طَريقةُ الكفْرِ. وهو قولُ محمَّدِ بنِ كعْبٍ، والرَّبيعِ، والفَرَّاءِ، وابنِ قُتَيْبةَ. فعلى الأوَّلِ يكونُ المعنى: لو آمَنوا لَوسَّعْنا عليهم؛ لِنَفْتِنَهُمْ لِنَختَبِرَهم فنَنظُرَ كيف شُكْرُهم. وعلى الثَّاني يكونُ المعنى: وأنْ لو استَقاموا على طَريقتِهم في الكفْرِ لَوسَّعْنا عليهم؛ لنُوقِعَهم في الفِتنةِ). ((تفسير الرسعني)) (8/314). ويُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/464). وهذه الجملةُ مِن قولِ الله تعالى، لا الجِنِّ. وممَّن نصَّ على ذلك: مكِّيٌّ، والقرطبيُّ، والشَّوكانيُّ. يُنظر: ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/7771)، ((تفسير القرطبي)) (19/17)، ((تفسير الشوكاني)) (5/369). .
كما قال تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [المائدة: 66] .
وقال سُبحانَه: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [الأعراف: 96] .
وقال عزَّ وجلَّ: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا [هود: 112] .
وقال سُبحانَه: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [الطلاق: 2، 3].
وقال تبارك وتعالى حكايةً عن نوحٍ عليه السَّلامُ: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [نوح: 10 - 12].
وعن سُفيانَ بنِ عَبدِ اللهِ الثَّقَفيِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((قلتُ: يا رَسولَ اللهِ، قُلْ لي في الإسلامِ قَولًا لا أسألُ عنه أحدًا بَعْدَك. قال: قُلْ: آمَنْتُ باللهِ، فاستَقِمْ)) [162] رواه مسلم (38). .
لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17).
لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ.
أي: لِنَختَبِرَهم فيما وسَّعْنا عليهم مِنَ الرِّزقِ، فيَنكَشِفَ الشَّاكِرُ مِن غَيرِه، ويَظهَرَ مَن يَستَمِرُّ منهم على الهِدايةِ، ومَن يَرتَدُّ إلى الغَوايةِ [163] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/334)، ((الوسيط)) للواحدي (4/367)، ((تفسير القرطبي)) (19/18)، ((تفسير ابن كثير)) (8/243)، ((تفسير السعدي)) (ص: 891). قال ابنُ جُزَي: (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ إنْ كانت الطَّريقةُ الإيمانَ والطَّاعةَ، فمعْنى الفِتنةِ: الاختبارُ، هلْ يشكرون أمْ لا؟ وإنْ كانت الطَّريقةُ الكفْرَ، فمعْنى الفِتنةِ: الإضلالُ والاستدراجُ). ((تفسير ابن جزي)) (2/419). !
كما قال تعالى: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا * وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا [الكهف: 7، 8].
وقال عزَّ وجلَّ: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء: 35].
وقال تبارك وتعالى: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن: 15] .
وعن عَمرِو بنِ عَوفٍ البَدْريِّ رَضِيَ الله عنه: أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((واللهِ ما الفَقرَ أَخشَى عليكم، ولكِنِّي أخشَى أن تُبسَطَ عليكم الدُّنيا كما بُسِطَت على مَن كان قَبْلَكم، فتَنافَسوها كما تَنافَسوها، وتُهلِكَكم كما أهلَكَتْهُم !)) [164] رواه البخاري (4015)، ومسلم (2961). .
وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا.
أي: ومَن يُعرِضْ عن القُرآنِ -فلا يتَّبِعُه ولا يعمَلُ به-؛ يُدخِلْه اللهُ عَذابًا شَديدًا شاقًّا لا يُطيقُه [165] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/338)، ((الوسيط)) للواحدي (4/367)، ((تفسير القرطبي)) (19/19، 20)، ((تفسير ابن كثير)) (8/243)، ((تفسير السعدي)) (ص: 891). ممَّن اختار أنَّ المرادَ بقولِه تعالى: ذِكْرِ رَبِّهِ: القرآنُ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، ومكِّي، والواحدي، وابن الجوزي، وجلال الدين المحلي، والسعدي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/464)، ((تفسير ابن جرير)) (23/338)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/7772)، ((الوسيط)) للواحدي (4/367)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/348)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 772)، ((تفسير السعدي)) (ص: 891). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ، وابنُ زَيدٍ. يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (6/118)، ((البسيط)) للواحدي (22/312). ومِن المفسِّرينَ مَن قال: إنَّ المرادَ: توحيدُ ربه، كالسَّمَرْقَنْديِّ. ومنهم مَن قال: الإيمانُ بربِّه، كالسَّمْعانيِّ. ومنهم مَن قال: عبادةُ ربِّه، كالخازِنِ، والعُلَيميِّ. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/506)، ((تفسير السمعاني)) (6/70)، ((تفسير الخازن)) (4/351)، ((تفسير العليمي)) (7/186). قال الألوسي: (الذِّكرُ مصدرٌ مُضافٌ لمفعولِه تُجُوِّزَ به عن العبادةِ. أو هو بمعنى التَّذكيرِ مُضافٌ لفاعِلِه، ويُفسَّرُ بالموعظةِ. وقال بعضُهم: المرادُ بالذِّكْرِ: الوحيُ). ((تفسير الألوسي)) (15/101). ويُنظر: ((حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي)) (8/258). قال الماوَرْدي: (وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ قال ابنُ زَيدٍ: يعني: القرآنَ. وفي إعراضِه عنه وجهانِ؛ أحدُهما: عن القَبولِ، إنْ قيلَ: إنَّها في أهلِ الكُفرِ. الثَّاني: عن العَمَلِ، إنْ قيلَ: إنَّها في المؤمنينَ). ((تفسير الماوردي)) (6/118). ويُنظر: ((تفسير القرطبي)) (19/19). .
كما قال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ [السجدة: 22] .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ اللهِ تعالى: فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا فيه أنَّ مَنْ آمَنَ باللهِ فقد توخَّى سَبَبَ النَّجاةِ، وما يحصُلُ به الثَّوابُ؛ لأنَّ الرَّشَدَ سَبَبُ ذلك [166] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/236). .
2- قال اللهُ تعالى: وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا، وهذا كما قال تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [المائدة: 66] ، وقولِه: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [الأعراف: 96] ، فكُلُّها نصوصٌ على أنَّ الأمَّةَ إذا استقامت على الطَّريقةِ القويمةِ؛ شِرعةِ اللهِ، فَتَح عليهم بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ والأرضِ، ومفهومُ ذلك: أنَّ مَن لم يَستَقِمْ على الطَّريقةِ فقد يكونُ انحرافُه أو شِرْكُه مُوجِبًا لحِرمانِه مِن نعِمةِ اللهِ -تعالى- عليه [167] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/319). .
3- مَن أحَبَّ تَصفيةَ الأحوالِ، فلْيَجتَهِدْ في تصفيةِ الأعمالِ؛ قال اللهُ عزَّ وجَلَّ: وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا [168] يُنظر: ((صيد الخاطر)) لابن الجوزي (ص: 31). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا أنَّ مُؤْمِنِي الجِنِّ في الجَنَّةِ؛ فالرَّشَدُ هو الهُدى والفَلاحُ، وهو الَّذي يَهدي إليه القُرآنُ، ومَن لم يَدْخُلِ الجَنَّةَ لم يَنَلْ غايةَ الرَّشَدِ، بل لم يَحصُلْ له مِن الرَّشَدِ إلَّا مجَرَّدُ العِلمِ [169] يُنظر: ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/38). !
2- قَولُ اللهِ تعالى: وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا فيه سُؤالٌ: لِمَ ذكَرَ عِقابَ القاسِطينَ، ولم يذكُرْ ثوابَ المُسلِمينَ؟
الجوابُ: بل ذكَرَ ثوابَ المؤمِنينَ، وهو قَولُه تعالى: تَحَرَّوْا رَشَدًا [الجن: 14] ، أي: توَخَّوا رشَدًا عَظيمًا لا يَبلُغُ كُنْهَه إلَّا اللهُ تعالى، ومِثلُ هذا لا يتحَقَّقُ إلَّا في الثَّوابِ [170] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/671). .
3- في قَولِه تعالى: وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا أنَّ كافِرَ الجِنِّ في النَّارِ ككافرِ الإنسِ [171] يُنظر: ((شرح العقيدة السفارينية)) لابن عثيمين (1/494). .
4- قَولُ اللهِ تعالى: وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا فيه سؤالٌ: الجِنُّ مخلوقون مِن النَّارِ، فكيف يَكونونَ حَطَبًا للنَّارِ، وكيفَ يُعَذَّبون بها؟
الجوابُ: أنَّهم وإن خُلِقوا مِنَ النَّارِ لكِنَّهم تغَيَّروا عن تلك الهيئةِ، وصاروا خَلْقًا آخَرَ [172] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/671)، ((تفسير الخازن)) (4/351). . فالإنسانُ أصلُه الطِّينُ، وليس طينًا حقيقةً، لكنَّه كان طينًا، كذلك الجانُّ كان نارًا في الأصلِ [173] يُنظر: ((آكام المرجان في أحكام الجان)) للشبلي (ص: 31). . وأيضًا فإنَّ النَّارَ يكونُ بَعضُها أقوى مِن بَعضٍ، فالأقوى يُؤثِّرُ على الأضعَفِ، ومعلومٌ أنَّ النَّارَ طَبَقاتٌ بَعضُها أشَدُّ مِن بَعضٍ، وهذا أمرٌ مَلموسٌ؛ فقد تكونُ الآلةُ مَصنوعةً مِن حَديدٍ، وتُسَلَّطُ عليها آلةٌ مِن حديدٍ أيضًا أقوى منها فتَكسِرُها. كما قيل: (لا يَفُلُّ الحديدَ إلَّا الحديدُ)، فلا يَمنَعُ كَونُ أصلِه مِن نارٍ ألَّا يتعذَّبَ بالنَّارِ، كما أنَّ أصلَ الإنسانِ مِن طِينٍ مِن حَمَأٍ مَسنونٍ، ومِن صَلصالٍ كالفَخَّارِ، وبَعْدَ خَلْقِه فإنَّه لا يَحتَمِلُ التَّعذيبَ بالصَّلصالِ ولا بالفخَّارِ؛ فقد يُقضَى عليه بضَربةٍ مِن قِطعةٍ مِن فَخَّارٍ [174] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/231). . واللهُ تعالى قادرٌ أن يعذِّبَ النَّارَ بالنَّارِ [175] يُنظر: ((تفسير الخازن)) (4/351). .
5- قَولُ اللهِ تعالى: وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا لا يُعارِضُ قَولَه تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [المائدة: 42] ؛ لأنَّ القاسِطَ هو الجائِرُ، والمُقسِطَ هو العادِلُ، فهما ضِدَّانِ [176] يُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب)) للشنقيطي (ص: 246). .
6- مِن عُقوباتِ المعاصي: أنَّها تَمحَقُ بَرَكةَ العُمُرِ، وبَرَكةَ الرِّزقِ، وبرَكةَ العِلمِ، وبرَكةَ العمَلِ، وبَركةَ الطَّاعةِ، وبالجُملةِ فإنَّها تَمحَقُ بَركةَ الدِّينِ والدُّنيا، فلا تجِدُ أقَلَّ بَرَكةً في عُمُرِه ودِينِه ودُنياه ممَّن عصى اللهَ، وما مُحِقَت البَركةُ مِنَ الأرضِ إلَّا بمعاصي الخَلْقِ؛ قال اللهُ تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [الأعراف: 96] ، وقال تعالى: وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ، وإنَّ العَبدَ لَيُحرَمُ الرِّزقَ بالذَّنْبِ يُصيبُه [177] يُنظر: ((الجواب الكافي)) لابن القيم (ص: 84). .
7- في قَولِه تعالى: وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ أنَّ الإعطاءَ قد يكونُ فِتنةً [178] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (20/154). .
8- قَولُه تعالى: وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا هذا وَعْدٌ بالجزاءِ على الاستِقامةِ في الدِّينِ جَزاءً حَسنًا في الدُّنيا، يكونُ عُنوانًا على رِضا اللهِ تعالَى، وبِشارةً بثَوابِ الآخِرةِ [179] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/238). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا * وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا
- قولُه: وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ عطْفٌ على المَجرورِ بالباءِ في قولِه: فَآَمَنَّا بِهِ [الجن: 2] ، والمَقصودُ بالعطْفِ قولُه: فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا، وما قبْلَه تَوطئةٌ له، وهذا تَفصيلٌ لقولِهم: وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ [الجن: 11] ؛ لأنَّ فيه تَصريحًا بأنَّ دونَ ذلك هو ضِدُّ الصَّلاحِ [180] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/236). .
- وقدْ جاء هذا التَّقسيمُ وإنْ كان قدْ تقدَّمَ وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ؛ ليُذكَرَ حالُ الفريقينِ مِن النَّجاةِ والهَلَكةِ، ويُرغَّبَ مَن يَدخُلُ في الإسلامِ [181] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/299). .
- قولُه: فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا * وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا على القولِ بأنَّ هذا خارجٌ عن الكَلامِ المَحكيِّ عن الجنِّ، وأنَّه كَلامٌ مِن جانبِ اللهِ تعالَى لمَوعظةِ المشرِكينَ مِن النَّاسِ فهو في معْنى التَّذييلِ، وإنَّما قُرِنَ بالفاءِ لتَفريعِه على القِصَّةِ؛ لاستخلاصِ العِبرةِ منها، فالتَّفريعُ تَفريعُ كَلامٍ على كَلامٍ، وليس تَفريعَ معْنى الكلامِ على معْنى الكلامِ الَّذي قبْلَه [182] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/236). .
- وتَنوينُ رَشَدًا؛ للتَّعظيمِ [183] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/253)، ((تفسير أبي السعود)) (9/45)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/236). .
- وإقحامُ فِعلِ (كانوا)؛ لتَحقيقِ مَصيرِهم إلى النَّارِ، حتَّى كأنَّهم كانوا كذلك مِن زمَنٍ مَضى [184] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/237). .
2- قولُه تعالَى: وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا
- الضميرُ في قولِه: اسْتَقَامُوا يجوزُ أنْ يعودَ إلى القاسِطينَ، ويجوزُ أنْ يكونَ عائِدًا إلى غيرِ مذكورٍ في الكلامِ، ولكِنَّه معروفٌ مِن المقامِ؛ إذِ السُّورةُ مَسوقَةٌ للتَّنبيهِ على عنادِ المُشْركينَ وطَعْنِهم في القرآنِ، فضميرُ اسْتَقَامُوا عائدٌ إلى المشْرِكينَ [185] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/238). .
- الاستقامةُ على الطَّريقةِ تَمثيلٌ لهَيئةِ المُتَّصِفِ بالسُّلوكِ الصَّالحِ، والاعتقادِ الحقِّ، بهَيئةِ السَّائرِ سَيرًا مُستقيمًا على طَريقةٍ؛ ولذلك فالتَّعريفُ في الطَّريقةِ للجِنسِ لا للعهْدِ [186] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/238). .
- قولُه: لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا، أيْ: لَوسَّعْنا عليهم الرِّزقَ. وتَخصيصُ الماءِ الغَدَقِ -وهو الكثيرُ- بالذِّكرِ؛ لأنَّه أصلُ المَعاشِ والسَّعةِ، ولعِزَّةِ وُجودِه بيْن العرَبِ [187] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/629)، ((تفسير البيضاوي)) (5/253)، ((تفسير أبي حيان)) (10/300)، ((تفسير أبي السعود)) (9/45). .
وفي هذا إنذارٌ بأنَّه يُوشِكُ أنْ يُمسَكَ عن أهلِ مكَّةَ المطرُ- وذلك على قولٍ-، فيَقَعوا في القحْطِ والجُوعِ، وهو ما حَدَثَ عليهم بعْدَ هِجرةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى المدينةِ ودُعائِه عليهم بسِنينَ كسِنِي يُوسُفَ [188] أخرجه البخاري (1006)، ومسلم (675) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ؛ فإنَّه دَعا بذلك في المدينةِ في القُنوتِ، وقدْ كانوا يومَ نُزولِ هذه الآيةِ في بُحبُوحةٍ مِن العيشِ وفي نَخيلٍ وجنَّاتٍ، فكان جعْلُ تَرتُّبِ الإسقاءِ على الاستقامةِ على الطَّريقةِ -كما اقتضاهُ الشَّرطُ بحَرْفِ (لَو)- مُشيرًا إلى أنَّ المرادَ: لَأَدَمْنا عليهم الإسقاءَ بالماءِ الغَدَقِ، وإلى أنَّهم لَيسوا بسالِكِينَ سَبيلَ الاستقامةِ، فيُوشِكُ أنْ يُمسَكَ عنهم الرِّيُّ، ففي هذا إنذارٌ بأنَّهم إنِ استَمَرُّوا على اعوِجاجِ الطَّريقةِ أُمسِكَ عنهم الماءُ، وبذلك يَتناسَبُ التَّعليلُ بالإفتانِ في قولِه: لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ مع الجُملةِ السَّابقةِ؛ إذ يكونُ تَعليلًا لِما تَضمَّنَه معْنى إدامةِ الإسقاءِ؛ فإنَّه تَعليلٌ للإسقاءِ الموجودِ حِينَ نُزولِ الآيةِ، ولَيس تَعليلًا للإسقاءِ المفروضِ في جَوابِ (لَو)؛ لأنَّ جَوابَ (لَو) مُنتَفٍ، فلا يَصلُحُ لأنْ يُعلَّلَ به، وإنَّما هم مَفْتونونَ بما همْ فيه مِن النِّعمةِ، فأراد اللهُ أنْ يُوقِظَ قُلوبَهم بأنَّ استمرارَ النِّعمةِ عليهم فِتنةٌ لهم، فلا تَغُرَّنَّهم [189] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/238، 239). .
- وجُملةُ لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ إدماجٌ [190] الإدماجُ: أنْ يُدمِجَ المتكلِّمُ غرَضًا في غرَضٍ، أو بديعًا في بديعٍ، بحيثُ لا يَظهرُ في الكلامِ إلَّا أحدُ الغرَضينِ أو أحدُ البَديعَينِ؛ فهو مِن أفانينِ البَلاغةِ، ويكونُ مرادُ البليغِ غَرَضينِ فيَقرِنُ الغرضَ المَسوقَ له الكلامُ بالغرضِ الثَّاني، وفيه تَظهرُ مَقدرةُ البليغِ؛ إذ يأتي بذلك الاقترانِ بدونِ خروجٍ عن غَرَضِه المَسوقِ له الكلامُ ولا تَكلُّفٍ، بمعنى: أن يَجعلَ المتكلِّمُ الكلامَ الَّذي سِيق لِمَعنًى -مِن مَدحٍ أو غيرِه- مُتضمِّنًا معنًى آخَرَ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/298)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/339)، ((علوم البلاغة البيان المعاني البديع)) للمراغي (ص: 344)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/427). ، فهي مُعترِضةٌ بيْنَ جُملةِ وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا وبيْنَ جُملةِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا [191] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/239). .
- وأُكِّدَت الكنايةُ عن الإنذارِ المأخوذةُ مِن قولِه: وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا بصَريحِ الإنذارِ بقولِه: وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا، أي: فإنْ أعْرَضوا انقَلَبَ حالُهم إلى العذابِ، فسَلَكْنا بهم مَسالِكَ العَذابِ [192] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/239). .
- قولُه: وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا فيه العُدولُ عن الإضمارِ إلى الإظهارِ في قولِه: عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ دونَ أنْ يقولَ: (عن ذِكْرِنا)، أو (عن ذِكْري)؛ لاقتضاءِ الحالِ الإيماءَ إلى وَجْهِ بِناءِ الخبَرِ؛ فإنَّ المُعرِضَ عن ربِّه الَّذي خلَقَه وأنشَأَه ودبَّرَه حَقيقٌ بأنْ يُسلَكَ عَذابًا صَعَدًا [193] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/239، 240). .
- قولُهص: وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا على قِراءةِ نَسْلُكْه بنُونِ العظَمةِ، ففيهِ الْتفاتٌ [194] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/240). قرَأ الكوفِيُّونَ (عاصمٌ وحمزةُ والكِسائيُّ وخلَفٌ) ويعقوبُ: يَسْلُكْهُ بالياءِ، وقرأها الباقونَ بالنُّونِ. يُنظر: ((النشر في القراءات العشر)) لابن الجزري (2/392). .
- قولُه: يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا الأصلُ: يَسْلُكْه في عَذابٍ، كقولِه: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ [المدثر: 42] ، فعُدِّيَ إلى مَفعولينِ: إمَّا بحذْفِ الجارِّ وإيصالِ الفِعلِ، كقولهِ: وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ [الأعراف: 155] ، وإمَّا بتَضمينِه معْنى (نُدخِلْه) [195] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/629). ، وعلى القولِ بأنَّ عَذَابًا انتَصَبَ على نزْعِ الخافضِ، وهو حرْفُ الظَّرفيَّةِ (في)، فهي ظَرفيَّةٌ تدُلُّ على أنَّ العَذابَ إذا حلَّ به يُحيطُ به إحاطةَ الظَّرفِ بالمَظروفِ [196] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/239). .
- وقولُه: صَعَدًا، أي: شاقًّا صَعْبًا يَعلُو المُعذَّبَ ويَغلِبُه، على أنَّه مَصدرٌ وُصِفَ به مُبالَغةً [197] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/629)، ((تفسير البيضاوي)) (5/253)، ((تفسير أبي السعود)) (9/45)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/240). .
- واستُعمِلَ السَّلكُ هنا في معْنى شِدَّةِ وُقوعِ الفعلِ، والمعْنى: نُعذِّبْه عَذابًا لا مَصرِفَ عنه [198] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/239). .