موسوعة التفسير

سُورةُ السَّجْدةِ
الآيات (18-22)

ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ

غَريبُ الكَلِماتِ:

الْمَأْوَى: أي: المَثوى والمَسكَنُ، وأصْلُ (أوى) هنا: يدُلُّ على التَّجمُّعِ [258] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1 /151)، ((المفردات)) للراغب (ص: 103)، ((غريب القرآن)) لقاسم الحنفي (ص: 90). .
نُزُلًا: أي: ثَوابًا ورِزقًا، والنُّزُلُ: ما يُعَدُّ للنَّازِلِ مِنَ الزَّادِ، ويُهَيَّأُ للضَّيفِ، وأصلُ (نزل): يدُلُّ على هُبوطِ شَيءٍ ووُقوعِه [259] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 117)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/417)، ((المفردات)) للراغب (ص: 800)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 320)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 909). .

المعنى الإجماليُّ:

يقولُ تعالى مبيِّنًا عدَمَ التَّسويةِ بيْنَ المؤمنينَ والكافرين: أفمَن كان مُؤمِنًا باللهِ ورُسُلِه كمَن كان كافِرًا مُكَذِّبًا؟! لا يَستَوونَ.
ثمَّ يُفصِّلُ أحوالَ المؤمنينَ والكافرينَ يومَ القيامةِ، فيقولُ: أمَّا الَّذين آمَنوا وعَمِلوا الأعمالَ الصَّالحةَ فلَهُم عندَ رَبِّهم جنَّاتٌ يَأوُونَ إليها، ويُقيمونَ فيها أبدًا؛ ضيافةً كريمةً مُعَدَّةً لهم بسَبَبِ ما كانوا يَعمَلونَ في الدُّنيا مِن الصَّالحاتِ.
وأمَّا الَّذين خَرَجوا عن طاعةِ اللهِ بالكُفرِ والعِصيانِ فمَقَرُّهم النَّارُ، كُلَّما أرادوا أن يَخرُجوا منها أُعيدوا فيها مُكرَهينَ، وقيلَ لهم: ذوقُوا عذابَ النَّارِ الَّذي كُنتُم تُكَذِّبونَ بوُقوعِه.
ولَنُصيبَنَّ هؤلاء المكَذِّبينَ بأنواعٍ مِن العَذابِ قبْلَ يومِ القيامةِ دونَ العَذابِ الأكبَرِ في الآخِرةِ؛ لعلَّهم يَتوبونَ إلى اللهِ تعالى.
 ثمَّ يُبيِّنُ حالَ مَن يُدْعَى إلى الهُدى فيُعرضُ عنه، فيقولُ: ولا أحَدَ أظلَمُ ممَّن ذُكِّرَ بآياتِ ربِّه، ثمَّ أعرَضَ عنها استِكبارًا، إنَّا مُنتَقِمونَ مِن هؤلاءِ المُجرِمينَ!

تَفسيرُ الآياتِ:

أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى حالَ المجرِمِ والمؤمِنِ، قال للعاقِلِ: هل يَستوي الفَريقانِ؟ ثمَّ بيَّن أنَّهما لا يَستويانِ [260] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/144). .
أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا.
أي: أفمَن كان مُؤمِنًا بآياتِ اللهِ متَّبِعًا لرُسُلِه، فهو مُؤمِنٌ بوَعدِه ووَعيدِه، طائعٌ له في أمْرِه ونَهْيِه: أيَكونُ في حُكمِ اللهِ كمَن كان كافِرًا مُكَذِّبًا، خارِجًا عن دائرةِ الإيمانِ وطاعةِ الرَّحمنِ [261] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/624)، ((تفسير ابن كثير)) (6/369)، ((تفسير السعدي)) (ص: 655)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/231)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة السجدة)) (ص: 92). ؟!
كما قال تعالى: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص: 28] .
وقال سُبحانَه: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الجاثية: 21] .
لَا يَسْتَوُونَ.
أي: لا يَستوي المؤمِنونَ والفاسِقونَ عندَ اللهِ يومَ القيامةِ؛ فلِكُلٍّ جزاءٌ مُختَلِفٌ بحَسَبِ ما قدَّموه [262] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/624)، ((تفسير السمرقندي)) (3/38)، ((تفسير ابن كثير)) (6/369)، ((تفسير السعدي)) (ص: 655)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة السجدة)) (ص: 92). قال ابنُ جرير: (قال: لَا يَسْتَوُونَ فجَمَع، وإنَّما ذكَرَ قبْلَ ذلك اثنَينِ: مُؤمِنًا، وفاسِقًا؛ لأنَّه لم يُرِدْ بالمؤمِنِ مُؤمِنًا واحِدًا، وبالفاسِقِ فاسِقًا واحِدًا، وإنَّما أُريدَ به جميعُ الفُسَّاقِ، وجميعُ المؤمِنينَ باللهِ). ((تفسير ابن جرير)) (18/624، 625). .
أَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه تَفصيلٌ لِمَراتبِ الفَريقَينِ في الآخِرةِ، بعدَ ذِكرِ أحوالِهما في الدُّنيا [263] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/85). .
وأيضًا لَمَّا ذكَرَ أنَّ المؤمِنَ والفاسِقَ لا يَستويانِ بطريقِ الإجمالِ؛ بيَّنَ عَدَمَ استوائِهما على سَبيلِ التَّفصيلِ، فقال تعالى [264] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (15/487). :
أَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى.
أي: أمَّا الَّذين آمَنوا بما وجَبَ عليهم الإيمانُ به، وعَمِلوا الأعمالَ الصَّالِحةَ بإخلاصٍ للهِ تعالى ومُتابعةٍ لِشَرعِه: فلَهُم في الآخِرةِ جَنَّاتٌ يَأوُونَ إليها، فهم فيها مُقيمونَ، ومنها لا يَخرُجونَ [265] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/625)، ((تفسير ابن كثير)) (6/369)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/259)، ((تفسير السعدي)) (ص: 655)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة السجدة)) (ص: 94، 95). .
قال تعالى: وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى [النجم: 13 - 15] .
وقال سُبحانَه: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات: 40، 41].
نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ.
أي: ضِيافةً كريمةً مُهَيَّأةً لهم؛ بسَبَبِ ما كانوا يَعمَلونَ في الدُّنيا مِنَ الإيمانِ باللهِ تعالى وطاعتِه [266] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/626)، ((تفسير ابن كثير)) (6/369)، ((تفسير السعدي)) (ص: 655)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/232). قال البقاعي: (نُزُلًا أي: عِدادًا لهم أوَّلَ قُدومِهم، في قَولِ الحَسَنِ وعطاءٍ... فإذا كانت هذه الجنَّاتُ نُزُلًا، فما ظنُّك بما بعدَ ذلك؟!). ((نظم الدرر)) (15/259). وقال ابنُ عاشور: (النُّزُلُ -بضَمَّتينِ-: مُشتَقٌّ مِن النُّزولِ، فيُطلَقُ على ما يُعَدُّ للنَّزيلِ مِنَ العَطاءِ والقِرَى. قال في «الكشاف»: النُّزُلُ: عطاءُ النَّازِلِ، ثمَّ صار عامًّا، أي: يُطلَقُ على العطاءِ ولو بدُون ضيافةٍ... قلتُ: ويُطلَقُ على محَلِّ نُزولِ الضَّيفِ). ((تفسير ابن عاشور)) (21/232). .
وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20).
وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ.
أي: وأمَّا الَّذين خَرَجوا عن الإيمانِ باللهِ وطاعتِه، فكَفَروا به وعَصَوه؛ فمَسْكَنُهم ومَقَرُّهم الَّذي يأوُونَ إليه، ويُقيمونَ في الآخرةِ فيه: هو النَّارُ [267] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/626)، ((تفسير القرطبي)) (14/107)، ((تفسير ابن كثير)) (6/369)، ((تفسير الشوكاني)) (4/293)، ((تفسير السعدي)) (ص: 656). .
كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا.
أي: كلَّما أرادوا أن يَخرُجوا مِنَ النَّارِ أُعيدوا فيها مُكرَهينَ [268] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/222)، ((تفسير الشوكاني)) (4/293). قال الواحدي: (كلَّما حاولوا الخُروجَ مِن النَّارِ؛ لِما يَلحَقُهم مِن الغَمِّ والكَربِ الَّذي أخَذَ بأنفاسِهم، حتَّى ليس لها مخرجٌ- رُدُّوا إليها بالمقامِعِ. قال المفسِّرون: إنَّ جهنَّمَ لَتَجيشُ بهم فتُلقيهم إلى أعلاها، فيُريدونَ الخُروجَ، فيَرُدُّهم الخُزَّانُ فيها). ((البسيط)) (15/337). .
كما قال تعالى: وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [الحج: 21، 22].
وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ.
أي: ويُقال لهم: ذُوقوا عذابَ النَّارِ الَّذي كُنتُم في الدُّنيا تُكَذِّبونَ بوُقوعِه [269] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/626)، ((تفسير النسفي)) (3/10)، ((تفسير ابن كثير)) (6/369). .
ثم بيَّن أنَّ عذابَ الآخرةِ له مُقدِّماتٌ فى الدنيا؛ لأنَّ الذَّنْبَ مُستَوجِبٌ لنتائجِه عاجلًا وآجلًا، فقال [270] يُنظر: ((تفسير المراغي)) (21/115). :
وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21).
وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ.
أي: ولَنُصِيبَنَّ هؤلاء الفاسِقينَ المكَذِّبينَ مِن العذابِ الَّذي يكونُ قبلَ يومِ القيامةِ، دونَ العذابِ الأكبَرِ في الآخِرةِ [271] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/632)، ((تفسير ابن كثير)) (6/369)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/233). قيل: المرادُ بالعذابِ الأدنى: عذابُ الدُّنيا. وممَّن قال بذلك: ابنُ جرير، وابن كثير، والعُلَيمي، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/632)، ((تفسير ابن كثير)) (6/369)، ((تفسير العليمي)) (5/329)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/233). قيل: إنَّه ما أصابهم يومَ بَدرٍ، وهو روايةٌ عن ابنِ مسعودٍ، وقولُ قَتادةَ، والسُّدِّيِّ. وقيل: سِنُونَ أُخِذوا بها، وهو روايةٌ عن ابنِ مسعودٍ، وقولُ النَّخَعيِّ. وقيل: مصائبُ الدُّنيا، قاله أُبَيُّ بنُ كعبٍ، وابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ، وأبو العاليةِ، والحسَنُ، وقَتادةُ، والضَّحَّاكُ. وقيل: الحدودُ، وهو روايةٌ عن ابنِ عبَّاسٍ. وقيل: القتلُ والجوعُ، قاله مجاهِدٌ. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (3/442). وقيل: المرادُ: ما قبْلَ يومِ القيامةِ؛ فيَشملُ ذلك عذابَ الدُّنيا وعذابَ القبرِ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: البِقاعي. يُنظر: ((نظم الدرر)) (15/261). ويُنظر أيضًا: ((تفسير السعدي)) (ص: 656). وممَّن قال به مِن السَّلفِ: مجاهدٌ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/631). قال الشوكاني: (قال الحسَنُ، وأبو العاليةِ، والضَّحَّاكُ، والنَّخَعيُّ: هو مَصائبُ الدُّنيا وأسقامُها. وقيل: الحدودُ. وقيل: القتلُ بالسَّيفِ يومَ بدرٍ. وقيل: سِنينُ الجوعِ بمكَّةَ. وقيل: عذابُ القبرِ. ولا مانِعَ مِن الحَملِ على الجميعِ. لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ مِمَّا هم فيه مِن الشِّركِ والمعاصي بسببِ ما يَنزِلُ بهم مِن العذابِ، إلى الإيمانِ والطَّاعةِ، ويَتوبونَ عمَّا كانوا فيه. وفي هذا التَّعليلِ دليلٌ على ضَعفِ قولِ مَن قال: إنَّ العذابَ الأدنَى هو عذابُ القبرِ). ((تفسير الشوكاني)) (4/293). ويُنظر: ((تفسير القرطبي)) (14/107). وقال السعدي: (أي: ولَنُذيقَنَّ الفاسِقينَ المكَذِّبينَ نموذَجًا مِنَ العذابِ الأدنى، وهو عذابُ البَرزخِ، فنُذيقُهم طَرَفًا منه قبْلَ أن يموتوا؛ إمَّا بعذابٍ بالقتلِ ونَحوِه، كما جرَى لأهلِ بَدرٍ مِن المشركينَ، وإمَّا عندَ الموتِ، كما في قَولِه تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ [الأنعام: 93]، ثمَّ يُكمِلُ لهم العذابَ الأدنى في بَرزخِهم). ((تفسير السعدي)) (ص: 656). عن أُبَيِّ بنِ كعبٍ، في قولِه عزَّ وجلَّ: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ قال: «مصائِبُ الدُّنيا، والرُّومُ، والبَطْشةُ، أو الدُّخَانُ» شُعْبةُ الشَّاكُّ في البطشةِ أو الدُّخَانِ. أخرجه مسلم (2799). قال ابن عاشور في تفسيرِ قولِه تعالى: وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ [الطور: 47] بعدَ أن بيَّن أنَّ كلمةَ دُونَ تُطلَقُ على الأقلِّ والسَّابقِ وبمعنى «غير»، فقال: (المرادُ عذابٌ في الدُّنيا، وهو أقلُّ مِن عذابِ الآخرةِ، قال تعالَى: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ، وهو أسبقُ مِن عذابِ الآخرةِ؛ لقولِه تعالَى: دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ، وهو مُغايِرٌ له كما هو بَيِّنٌ). ((تفسير ابن عاشور)) (27/82). .
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ.
أي: لَعلَّهم يَتوبونَ إلى اللهِ مِن كُفرِهم وعِصيانِهم [272] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/633)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/233). .
كما قال تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم: 41] .
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22).
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا.
أي: ولا أحَدَ أظلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بآياتِ رَبِّه [273] قيل: المرادُ بقولِه: بِآَيَاتِ رَبِّهِ: حُجَجُه وعلاماتُه. وممَّن قال بهذا: القرطبيُّ. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (14/108). وقيل: المرادُ بها: القُرآنُ. وممَّن قال بذلك: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والسمرقنديُّ، والسمعاني، والشربيني، والسعدي، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/452)، ((تفسير السمرقندي)) (3/39)، ((تفسير السمعاني)) (4/252)، ((تفسير الشربيني)) (3/213)، ((تفسير السعدي)) (ص: 656)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/233). وقيل: المرادُ: الكُتُبُ السَّماويَّةُ، فتَشملُ القرآنَ والتَّوراةَ وغَيرَهما. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: ابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة السجدة)) (ص: 103، 104). وقال ابن جرير: (وأيُّ النَّاسِ أَظْلَمُ لِنَفْسِه مِمَّنْ وَعَظه اللهُ بحُجَجِه، وآيِ كِتابِه ورُسُلِه، ثُمَّ أعْرَض عن ذلك كلِّه). ((تفسير ابن جرير)) (18/634). ، ثمَّ أعرَضَ عنها مُستكبِرًا عن قَبولِها، مُستَنكِفًا عن الانقيادِ إليها [274] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/634)، ((تفسير القرطبي)) (14/108)، ((تفسير ابن كثير)) (6/370)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/262)، ((تفسير السعدي)) (ص: 656). .
إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ.
أي: إنَّا سنَنتَقِمُ مِنَ الَّذين أعرَضوا، وكَفَروا، وكَذَّبوا، واكتَسَبوا السَّيِّئاتِ [275] يُنظر: ((تفسير يحيى بن سلام)) (2/693)، ((تفسير ابن جرير)) (18/634)، ((تفسير القرطبي)) (14/108)، ((تفسير ابن كثير)) (6/370). .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- قَولُ الله تعالى: أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ يُنَبِّهُ العُقولَ على ما تقَرَّرَ فيها مِن عَدَمِ تَساوي المتفاوِتَينِ المتبايِنَينِ، وأنَّ حِكمَتَه تقتَضي عدَمَ تساويهما؛ فمَن قد عَمَر قَلبُه بالإيمانِ، وانقادت جوارِحُه لشرائِعِه، واقتَضى إيمانُه آثارَه ومُوجباتِه؛ مِن تَركِ مَساخِطِ اللهِ، الَّتي يضُرُّ وُجودُها بالإيمانِ: لا كمَنَ قد خَرِبَ قَلبُه، وتعطَّلَ مِن الإيمانِ، فلمْ يكُنْ فيه وازِعٌ دِينيٌّ، فأسرَعَت جوارِحُه بمُوجباتِ الجَهلِ والظُّلمِ؛ مِن كُلِّ إثمٍ ومَعصيةٍ، وخرَج بفِسقِه عن طاعةِ اللهِ [276] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 655). .
2- في قَولِه تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا أنَّ الإنسانَ يجبُ أنْ يَقْبَلَ التَّذكيرَ ممَّن يُذكِّرُه أيًّا مَن كان، فالله تعالى لم يَقُلْ: «مِمَّنْ ذَكَّرَهُ الرَّسولُ» أو: «ذَكَّرَهُ فُلانٌ أو فُلانٌ»! فإذا أتاك التَّذكيرُ مِن أيِّ جهةٍ فالواجبُ عليكَ القَبولُ [277] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة السجدة)) (ص: 107). .
3- في قَولِه تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا أنَّ الإعراضَ بعدَ العِلمِ أقبَحُ منه حالَ الجَهلِ؛ لأنَّ اللهَ تعالى جَعَلَ هذا أعظَمَ الفِسقِ: أن تُذكَّرَ ثمَّ تُعرِضَ، لكِنْ مَن أعرَضَ بدُونِ تَذَكُّرٍ فهو أهوَنُ [278] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة السجدة)) (ص: 107). .
4- المؤمِنُ مأمورٌ بلَومِ نَفْسِه على ما فَعلَتْ مِن الذُّنوبِ الَّتي وَجَد عاقِبَتَها في الدُّنيا، كما قال تعالى: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، فإذا أصابه في الدُّنيا بلاءٌ رجَع إلى نفْسِه باللَّومِ، ودعاه ذلك إلى الرُّجوعِ إلى اللهِ بالتَّوبةِ والاستِغفارِ [279] يُنظر: ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (2/53). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- في قَولِه تعالى: أَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ  أنَّ الإيمانَ لا يَتِمُّ إلَّا بالعملِ الصَّالحِ؛ فلا يكفي مجرَّدُ العقيدةِ! بل لا بُدَّ مِن عمَلٍ صالحٍ [280] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة السجدة)) (ص: 95). .
2- قَولُ الله تعالى: أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ استدَلَّ بعُمومِه مَن قال: إنَّ الفاسِقَ لا يَلي النِّكاحَ [281] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 209). ومَذهَبُ الشَّافعيَّةِ والحنابلةِ أنَّه يُشترَطُ في الوليِّ أن يكونَ عدلًا. يُنظر: ((مغني المحتاج)) للشربيني (4/255)، ((كشاف القناع)) للبُهُوتي (5/54)، ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (30/8). .
3- في قَولِه تعالى: أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ دَليلٌ على أنَّ اسمَ الفِسقِ واقِعٌ على الكُفرِ والمعصيةِ معًا [282] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقَصَّاب (3/638). .
4- في قَولِه تعالى: بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ أنَّ الجزاءَ مِن جنسِ العملِ [283] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة السجدة)) (ص: 96). .
5- قَولُ الله تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا لَمَّا كان الكُفرُ إذا جاء فلا التِفاتَ إلى الأعمالِ، لم يَقُلْ: (وأمَّا الَّذين فسَقُوا وعَمِلوا السَّيِّئاتِ)؛ لأنَّ المرادَ مِن فَسَقُوا: كَفَروا. ولو جُعِلَ العِقابُ في مُقابَلةِ الكُفرِ والعَمَلِ، لَظُنَّ أنَّ مُجرَّدَ الكُفرِ لا عِقابَ عليه [284] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/147، 148). .
6- في قَولِه تعالى: وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ أنَّ أهلَ النَّارِ يُجْمَعُ لهم بينَ العذابِ الجِسميِّ والعذابِ القلبيِّ للتَّوبيخِ [285] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة السجدة)) (ص: 100). .
7- بيانُ حِكمةِ اللهِ عزَّ وجلَّ فيما يَبتلي به مِن المصائِبِ؛ تُؤخَذُ مِن قَولِه تعالى: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ ولَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، وهذا كقَولِه تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [286] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة السجدة)) (ص: 102). [الروم: 41] .
8- في قَولِه تعالى: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ أنَّ عذابَ الدُّنيا لا يُنْسَبُ إلى عذابِ الآخرةِ؛ لِما بيْنَهما مِن الفَرقِ العظيمِ -فهذا أدنَى، وذاك أكبرُ-؛ يعني: كِلاهما في طَرَفَيْ نقيضٍ، يعني: «أدنى» اسمُ تفضيلٍ، و«أكبرُ» اسمُ تفضيلٍ، ولا يُنْسَبُ أدنَى شَيءٍ إلى أعلَى شَيءٍ [287] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة السجدة)) (ص: 102). !
9- في قَولِه تعالى: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ حُجَّةٌ على عذابِ القبرِ، فإنَّه سبحانَه أخْبَرَ أنَّ له فيهم عذابينِ «أدنى وأكبر» فأخبَرَ أنَّه يُذيقُهم بعضَ الأدنَى لِيَرجِعوا؛ فدَلَّ على أنَّه بَقِيَ لهم مِن الأدنَى بقيَّةٌ يُعَذَّبُون بها بعدَ عذابِ الدُّنيا؛ ولهذا قال: مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى، ولم يقُلْ: «ولَنُذيقَنَّهُمُ العذابَ الأدنى»! فتأمَّلْه [288] يُنظر: ((الرُّوْح)) لابن القيم (ص: 76). ويُنظر أيضًا: ((تفسير السعدي)) (ص: 656). .
10- في قَولِه تعالى: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ قَبولُ التَّوبةِ مِن الكافِرِ [289] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة السجدة)) (ص: 102). .
11- قال الله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا، قَولُه سُبحانَه بِآَيَاتِ رَبِّهِ أتَى بالرُّبوبيَّةِ المُقتَضيةِ للانقيادِ؛ لأنَّه ما دام التَّذكيرُ بآياتِ رَبٍّ لك، فأنت مَربوبٌ عَبدٌ، والمربوبُ في تدبيرِ رَبِّه [290] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة السجدة)) (ص: 104). .
12- قال الله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا مِثلُ هذه العبارةِ جاءت في غيرِ هؤلاء، فقال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [البقرة: 114] ، وقال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا [الأنعام: 21، 93] و[هود: 18] و[العنكبوت: 68] ، وفي السُّنَّةِ: ((ومَن أظلَمُ ممَّن ذهَب يَخلُقُ كخَلْقي )) [291] أخرجه البخاري (5953) واللفظ له، ومسلم (2111) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ، فكيف نجمعُ بيْنَ هذه النُّصوصِ؟
الجوابُ: أنَّ الجَمعَ بيْنَها يكونُ بأحَدِ وَجهَينِ:
الوجهُ الأوَّلُ: أنَّ هذه الأشياءَ جميعَها اشتركَتْ في المرتبةِ العُليا مِن الظُّلمِ؛ فكلُّها في مقامِ الأظلميَّةِ، فأفْعَلُ التَّفضيلِ لا يمنعُ التَّساويَ، ولكنَّه يمنعُ الزِّيادةَ. وعلى ذلك فلا مُعارَضةَ ألْبَتَّةَ بينَ النُّصوصِ؛ فهؤلاءِ المذكورونَ لا يُوجَدُ أحدٌ أظلَمُ منهم، وهم مُتساوونَ في مرتبةِ الظُّلْمِ.
والوجهُ الثَّاني: أنَّ هذه المواضعَ تتخصَّصُ بصِلاتِها، أي: أنَّ كُلَّ واحدٍ منها تُفَسِّرُه صِلةُ مَوصُولِه، فكلُّ واحدةٍ تختصُّ ببابِها، فيكونُ المعنَى: لا أحَدَ مِنَ المُفْتَرِينَ أظلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى على اللهِ كَذِبًا، ولا أحدَ مِنَ المانِعِينَ أظلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مساجدَ الله، ولا أحدَ مِنَ المُعْرِضِينَ أظلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بآياتِ رَبِّهِ فأعْرَض عنها [292] يُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (1/512، 513)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأنعام)) (ص: 122، 123)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة السجدة)) (ص: 106). .
13- في قَولِه تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ أنَّ الإعراضَ عن آياتِ اللهِ بعدَ التَّذكيرِ بها إجرامٌ [293] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة السجدة)) (ص: 107). .
14- في قَولِه تعالى: إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ جوازُ إضافةِ الانتقامِ إلى اللهِ مُقَيَّدًا، يعني: الإخبارَ عن اللهِ بأنَّه مُنتَقِمٌ، إخبارًا مُقَيَّدًا [294] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة السجدة)) (ص: 107). قال ابن عثيمين رحمه الله: (قوله تعالى: إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ مقيَّدةٌ: أي: مُنتقِمون مِنَ المجرمينَ، وبهذا نَعرِفُ أنَّ المُنتقِمَ ليس مِن أسماءِ الله؛ لأنَّ الاسمَ مِن أسماءِ الله يكونُ مُطْلَقًا دالًّا على المعنَى الأحسَنِ على كلِّ تقديرٍ؛ لقولِه تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الأعراف: 180] ، فكلُّ كلمةٍ تحتمِلُ هذا وهذا فإنَّها لا تكونُ مِن أسماءِ الله؛ لأنَّ اللهَ يقولُ: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الأعراف: 180] ، والانتقامُ لا شكَّ أنَّه حسَنٌ في محلِّه؛ وعليه فلا يَصِحُّ أن يوصَفَ اللهُ به على سبيلِ الإطلاقِ، وهو معدودٌ مِن الأسماءِ الحُسْنى المشهورةِ، لكنَّ هذه الأسماءَ الحُسْنى المشهورةَ كما قال شيخُ الإسلامِ وغيرُه مِن أهلِ التَّحقيقِ رحمهم الله: «ليست ثابتةً عن الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ»؛ لأنَّ فيها أشياءَ مِن الأسماءِ لا تصِحُّ اسمًا لله. إذَنْ: فهل يوصَفُ اللهُ بالانتقامِ مُطْلَقًا، فيُقالُ: المُنتقِمُ؟ والجوابُ: لا؛ لأنَّه ما ورَدَ إلَّا مُقَيَّدًا، وورَدَ ذُو انْتِقَامٍ [آل عمران: 4] [المائدة: 95] [إبراهيم: 47] نَكِرةً في سياقِ الإثباتِ؛ فلا تدُلُّ على العُمومِ؛ لأنَّ النَّكِرةَ في سياقِ الإثباتِ -كما هو معروفٌ- لا تُفيدُ العُمومَ، وإنَّما تفيدُ العُمومَ إذا كانت في سياقِ النَّفْيِ أو النَّهيِ أو الشَّرطِ أو الاستِفهامِ الإنكاريِّ، كما ذكره أهلُ الأصولِ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة السجدة)) (ص: 105). .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قولُه تعالى: أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ فُرِّعَ بالفاءِ على ما تَقدَّمَ مِن الآياتِ مِن الوَعدِ للمُؤمنينَ والوعيدِ للكافرينَ: استِفهامٌ بالهَمزةِ، مُستعمَلٌ في إنكارِ المُساواةِ بيْن المُؤمنِ والكافرِ، وهو إنكارٌ بتَنزيلِ السَّامعِ مَنزلةَ المُتعجِّبِ مِن البَونِ بيْنَ جَزاءِ الفَريقَينِ في ذلك اليومِ؛ فكان الإنكارُ مُوجَّهًا إلى ذلك التَّعجُّبِ في معنى الاستِئنافِ البَيانيِّ [295] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/231)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (7/582). .
- قولُه: لَا يَسْتَوُونَ التَّصريحُ بعَدمِ المُساواةِ في الشَّرفِ والمَثوبةِ، مع إفادةِ الإنكارِ لِنَفْيِ المُشابَهةِ بالمرَّةِ على أبلَغِ وَجهٍ وآكَدِه؛ لِبِناءِ التَّفصيلِ الآتي عليه [296] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/222)، ((تفسير أبي السعود)) (7/85). .
2- قولُه تعالى: أَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
- أكَّدَ كِلَا الجَزاءَينِ بذِكرِ مُرادِفٍ لِمَدلولِه، مع زِيادةِ فائدةٍ؛ فجُملةُ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى ... إلى آخِرِها، مُؤكِّدةٌ لِمَضمونِ جُملةِ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ [السجدة: 17] إلى آخِرِها [297] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/231، 232). .
- وإضافةُ جنَّاتٍ إلى المَأْوى في قولِه: جَنَّاتُ الْمَأْوَى مِن إضافةِ المَوصوفِ إلى الصِّفةِ؛ لِقَصدِ التَّخفيفِ، والمعنى: فلَهُمُ الجنَّاتُ المَأْوى لهم، أي: المَوعودونَ بها [298] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/231، 232). . وقيل: أُضِيفَت الجنَّةُ إلى المَأْوى؛ لأنَّها المَأْوى الحَقيقيُّ، وإنَّما الدُّنيا مَنزِلٌ مُرتحَلٌ عنه لا مَحالةَ. وقيل: المَأْوى جنَّةٌ مِن الجنَّاتِ، وأيًّا ما كان فلا يَبعُدُ أنْ يكونَ فيه رَمزٌ إلى ما ذُكِرَ مِن تَجافِيهم عن مَضاجِعِهم الَّتي هي مَأْواهم في الدُّنيا [299] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/85). .
3- قوله تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ
- جُملةُ فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ إلى آخِرِها، مُؤكِّدةٌ لِمَضمونِ جُملةِ فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إلى بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [300] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/231). [السجدة: 14] .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال هنا: فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ، ولم يَقُلْ: (فلَهُمْ نارُ المَأْوى) كما قال قَبْلُ في المؤمنينَ: فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى، والفارقُ: أنَّ النَّارَ كلُّ أحدٍ لا يُحِبُّ أنْ تكونَ مَأْواهُ بخِلافِ الأوَّلِ؛ فالجنَّةُ كلٌّ يُحِبُّ أنْ تكونَ هي المَأْوى، وأمَّا هذا فلا؛ فأتى في ذِكرِ الجنَّةِ بما يُفِيدُ الاختِصاصَ -تقديم الخبرِ على المُبتدأِ فَلَهُمْ-؛ تَشويقًا، وإنْ كان هذا الفَرْقُ قد يَختلِفُ في بعضِ الآياتِ، مِثلُ قولِه تعالى: فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات: 37 - 41] ، ولكنْ لكلِّ مَقامٍ مَقالٌ؛ فهنا المَقامُ مَقامُ مُعادَلةٍ ومُوازَنةٍ، فلهذا فرَّقَ بيْنَهما؛ قال: جَنَّاتُ الْمَأْوَى، وقال: فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ، أمَّا في سُورةِ (النَّازعاتِ) فليس هناك مُعادَلةٌ؛ لأنَّه لَمَّا ذكَرَ أنَّ قومًا يَدَّعون لأنفُسِهم أنَّهم على الحقِّ، فأنكَرَ اللهُ ذلك [301] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة السجدة)) (ص: 100). .
- قولُه: وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ فيه ذِكرُ النَّارِ مُظْهَرًا، ولمْ يُستَغْنَ بالضَّميرِ لِتَقدُّمِ الذِّكْرِ؛ لأنَّ سِياقَ الآيةِ للتَّهديدِ، والتَّخويفِ، وتَعظيمِ الأمْرِ، وفي ظاهرِ ذِكْرِ النَّارِ مِن ذلك ما ليس في الضَّميرِ [302] يُنظر: ((أمالي ابن الحاجب)) (1/152، 153)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/350، 351)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/232). .
- قولُه: كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا استِئنافٌ لِبَيانِ كَيفيَّةِ كَونِ النَّارِ مَأْواهم، وكَلمةُ (في)؛ للدَّلالةِ على أنَّهم مُستقِرُّون فيها، وإنَّما الإعادةُ مِن بَعضِ طَبقاتِها إلى بعضٍ [303] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/86). .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسنةٌ، حيثُ قال هنا: وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ...، فذَكَّرَ الوَصفَ والضَّميرَ، فوصَف العذابَ، وأعاد عليه الضَّميرَ، وقال في سُورةِ (سَبأ): عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ [سبأ: 42] ، فأنَّثَ الوَصفَ والضَّميرَ، فوصَف النَّارَ، وأعاد عليها الضَّميرَ.
وبيانُ ذلك مِن ثلاثةِ أوجُهٍ؛ الأوَّلُ: أنَّه خصَّ العذابَ في السَّجدةِ بالوصفِ فقال: الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ؛ اعتِناءً به لما تكرَّر ذِكرُه في قولِه: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ. والثَّاني: أنَّه قدَّم في (السَّجدةِ) ذِكرَ النَّارِ، فكان الأصلُ أن يَذكُرَها بعدَ ذلك بلفظِ الضَّميرِ، لكنَّه جعَل الظَّاهرَ مكانَ المُضْمَرِ، فكما لا يوصَفُ المُضمَرُ لم يوصَفْ ما قام مَقامَه وهو النَّارُ، ووصَفَ العذابَ ولم يَصِفِ النَّارَ. الثَّالثُ -وهو الأقوى: أنَّه امتنَع في السَّجدةِ وصْفُ النَّارِ، فوصَفَ العذابَ، وإنَّما امتنَع وصْفُها؛ لِتَقدُّمِ ذِكرِها، فإنَّك إذا ذكَرْتَ شيئًا ثمَّ كرَّرْتَ ذِكرَه لم يَجُزْ وصْفُه، كقولِك: رأيتُ رجُلًا فأكرمتُ الرَّجُلَ، فلا يجوزُ وصْفُه؛ لئلَّا يُفهَمَ أنَّه غيرُه [304] يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/143). . وقيل غيرُ ذلك [305] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (ص: 1066، 1067)، ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 205)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/351)، ((ملاك التأويل)) للغرناطي (2/404)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (1/375)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 455). .
4- قوله تعالى: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
- قولُه: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى تَعريضٌ بتَهديدِهم؛ لأنَّهم يَسمَعون هذا الكَلامَ، أو يُبلَّغُ إليهم. وهذا إنذارٌ بما لَحِقَهم بعدَ نُزولِ الآيةِ [306] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/233). .
- فإنْ قِيل: العذابُ الأدْنَى في مُقابلَتِه العذابُ الأقْصى، والعذابُ الأكبَرُ في مُقابَلتِه العذابُ الأصغَرُ؛ فما الحِكمةُ في مُقابلةِ الأدْنى بالأكبَرِ؟
فالجوابُ: أنَّه حصَلَ في عذابِ الدُّنيا أمْرانِ؛ أحدُهما: أنَّه قَريبٌ، والآخَرُ: أنَّه قليلٌ صَغيرٌ. وحصَلَ في عذابِ الآخِرةِ أيضًا أمْرانِ؛ أحدُهما: أنَّه بعيدٌ، والآخَرُ: أنَّه عظيمٌ كثيرٌ، لكنَّ القُرْبَ في عَذابِ الدُّنيا هو الَّذي يَصلُحُ للتَّخويفِ به؛ فإنَّ العَذابَ العاجلَ وإنْ كان قَليلًا قد يَحترِزُ منه بعضُ الناسِ أكثَرَ ممَّا يَحترِزُ مِن العذابِ الشَّديدِ إذا كان آجِلًا، وكذا الثَّوابُ العاجِلُ؛ قد يَرغَبُ فيه بعضُ النَّاسُ، ويَستبِعدُ الثَّوابَ العظيمَ الآجِلَ، وأمَّا في عذابِ الآخِرةِ فالَّذي يَصلُحُ للتَّخويفِ به هو العظيمُ والكبيرُ لا البَعيدُ؛ لِمَا بيَّنَّا، فقال في عذابِ الدُّنيا: الْعَذَابِ الْأَدْنَى؛ لِيَحترِزَ العاقلُ عنه، ولو قال: (لَنُذِيقَنَّهم مِن العذابِ الأصغَرِ) ما كان يَحترِزُ عنه؛ لِصِغَرِه، وعَدمِ فَهمِ كَونِه عاجِلًا، وقال في عذابِ الآخِرةِ: الْأَكْبَرِ لذلك المعنى، ولو قال: (دونَ العذابِ الأبعدِ الأقْصى) لَمَا حصَلَ التَّخويفُ به مِثلَ ما يَحصُلُ بوَصفِه بالكُبْرِ، وبالجُملةِ: فقد اختارَ اللهُ تعالى في العذابَينِ الوَصفَ الَّذي هو أصلَحُ للتَّخويفِ مِن الوَصفينِ الآخَرينِ فيهما لحِكمةٍ بالغةٍ [307] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/148، 149)، ((تفسير أبي حيان)) (4/439). .
- جُملةُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ استِئنافٌ بَيانيٌّ لِحِكمةِ إذاقتِهم العذابَ الأدْنى في الدُّنيا بأنَّه لِرَجاءِ رُجوعِهم، أي: رُجوعِهم عن الكُفرِ بالإيمانِ، والمُرادُ: رُجوعُ مَن يُمكِنُ رُجوعُه، وهمُ الأحياءُ منهم. وإسنادُ الرُّجوعِ إلى ضَميرِ جَميعِهم باعتبارِ القَبيلةِ والجَماعةِ، أي: لعلَّ جَماعتَهم تَرجِعُ [308] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/233). .
5- قوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ
- قولُه: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا بَيانٌ إجْماليٌّ لحالِ مَن قابَلَ آياتِ اللهِ تعالى بالإعراضِ، بعْدَ بَيانِ حالِ مَن قابَلَها بالسُّجودِ، والتَّسبيحِ، والتَّحميدِ [309] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/86). .
- والاستِفهامُ في قولِه: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا استِفهامٌ إنكاريٌّ [310] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/234). .
- قولُه: ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا فيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيث قالَه هنا بـ ثُمَّ، وقال في آيةٍ أُخرى: فَأَعْرَضَ عَنْهَا [الكهف: 57] ، والفرْقُ: أنَّ المعنى في آيةِ فَأَعْرَضَ: أنَّه بادَرَ بالإعراضِ، وفي الثَّانيةِ: بعْدَما فكَّرَ وقدَّرَ أعرَضَ، والنَّاسُ هكذا؛ منهم مَن يُعرِضُ لأوَّلِ وَهْلةٍ، ولا يَلتفِتُ ولا يُفكِّرُ، ومنهم مَن قد يُفَكِّرُ، ولكنْ في النِّهايةِ يُعرِضُ [311] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة السجدة)) (ص: 104). ، فتكونُ (ثمَّ) على بابِها للتَّراخي الزَّمنيِّ؛ لِيَكونَ المعنى: أنَّ مَن وقَعَ له التَّذكيرُ بها في وَقتٍ ما، فأخَذَ يَتأمَّلُ فيها، ثمَّ أعرَضَ عنها بعدَ ذلك ولو بألْفِ عامٍ؛ فهو أظلَمُ الظَّالمينَ، ويَدخُلُ فيه ما دونَ ذلك مِن بابِ الأَولى؛ لأنَّه أجدَرُ بعَدمِ النِّسيانِ؛ فهي أبلَغُ هنا مِن التَّعبيرِ بالفاءِ -كما في سُورةِ (الكهفِ)- ويكونُ عدَلَ إلى الفاءِ هناك؛ شَرحًا لِمَا يكونُ مِن حالِهم عندَ بَيانِ سُؤالِهم، الَّذي جَعَلوا بَيانَه آيةَ الصِّدقِ، والعَجزَ عنه آيةَ الكَذِبِ. وقيل: لَمَّا بلَغَتْ هذه الآياتُ مِن الوُضوحِ أقْصَى الغاياتِ؛ فكان الإعراضُ عنها مُستبعَدًا بعْدَه؛ عبَّرَ عنه بأداةِ البُعدِ لذلك (ثُم)، فقال: ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا، وذلك ضِدُّ ما عَمِله الَّذين لم يَتَمالكوا أنْ خَرُّوا سُجَّدًا؛ فالتَّعبيرُ بأداةِ التَّراخي استبعادٌ وتَعجُّبٌ مِن حالِهم [312] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/515)، ((تفسير البيضاوي)) (4/222)، ((تفسير أبي حيان)) (8/439، 440)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/262)، ((تفسير أبي السعود)) (7/86)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/233)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (7/584). .
- وجُملةُ إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ مُستأْنَفةٌ استِئنافًا بَيانيًّا، ناشئًا عن تَفظيعِ ظُلمِ الَّذي ذُكِّرَ بآياتِ ربِّه فأعرَضَ عنها؛ لأنَّ السَّامعَ يَترقَّبُ جَزاءَ ذلك الظَّالمِ [313] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/234). . والمرادُ بـ الْمُجْرِمِينَ المُشرِكونَ، والكلامُ ذَمٌّ للمُعرِضينَ، وهذا الأسلوبُ أذَمُّ لهمْ مِن ذلك؛ لأنَّه يُقرِّرُ أنَّ الكافِرَ إذا وُصِفَ بالفِسقِ والظُّلمِ والجُرْمِ، حُمِلَ على نِهايةِ كُفْرِه وغايةِ تَمرُّدِه؛ لأنَّ هذه الآيةَ كالخاتمةِ لأحوالِ المُكذِّبينَ القائلينَ: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ [314] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/357). [السجدة: 3] .
- والجُملةُ الاسميَّةُ إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ تدُلُّ على دَوامِ ذلك عليهم في الدُّنيا؛ إمَّا باطنًا بالاستِدراجِ بالنِّعَمِ، وإمَّا ظاهِرًا بإحلالِ النِّقَمِ، وفي الآخرةِ بدَوامِ العذابِ على مَرِّ الآبادِ [315] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/263). .
- وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ عبَّر في الآيةِ بقولِه: إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ بَدلًا مِن أنْ يُقالَ: (إِنَّا مَنْهُ مُنتقِمون)، أي: مِن المُجرِمِ؛ لأنَّه لَمَّا جعَلَه أظلَمَ مِن كلِّ ظالمٍ، ثمَّ تَوعَّدَ المُجرِمينَ عامَّةً بالانتقامِ منهم؛ فقد دلَّ على إصابةِ الأظلَمِ النَّصيبَ الأوفَرَ مِن الانتقامِ، ولو قالَه بالضَّميرِ لمْ يُفِدْ هذه الفائدةَ. وقِيل: عدَلَ عن ذِكرِ ضَميرِ المُجرِمينَ، فلمْ يَقُلْ: (إنَّا منهم مُنتقِمون)؛ لزِيادةِ تَسجيلِ فَظاعةِ حالِهم بأنَّهم مُجرِمون مع أنَّهم ظالِمون، وقد يُقالُ: إنَّ (المُجرمينَ) أعَمُّ مِن (الظَّالمينَ)؛ فيكونُ دُخولُهم في الانتقامِ مِن المُجرمينَ أُخْرويًّا، وتَصيرُ جُملةُ إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ تَذْييلًا [316] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/515)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/234). . فقولُه: إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ دون أن يقالَ: (إِنَّا مَنْهُ مُنتقِمون)، أفاد أنَّ هذا مُجْرِمٌ، وأنَّ الحُكْمَ يَعُمُّه وغيرَه مِن المجرمينَ [317] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة السجدة)) (ص: 107). .
- قَولُه: إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ عبَّرَ بصِيغةِ العَظَمةِ؛ تنبيهًا على أنَّ الَّذي يحصُلُ لهم مِنَ العذابِ: لا يَدخُلُ تحتَ الوَصفِ على مُجَرَّدِ العِدادِ في الظَّالِمينَ، فكيف وقد كانوا أظلَمَ الظَّالِمينَ [318] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/263). ؟!