موسوعة التفسير

سُورةُ الجاثيةِ
الآيات (21-23)

ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ

غَريبُ الكَلِماتِ:

اجْتَرَحُوا: أي: اكتَسَبوا وعَمِلوا، ومِنه الجارِحةُ للأعضاءِ الَّتي يُكتَسَبُ بها كالأيدي، وأصلُ (جرح): يدُلُّ على كَسْبٍ [233] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 405)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/451)، ((تفسير القرطبي)) (16/165)، ((تفسير ابن كثير)) (7/267)، ((تفسير الألوسي)) (13/147). .
وَخَتَمَ: أي: طبَعَ وربَطَ، وأصلُ (ختم): يدُلُّ على التَّغطيةِ على الشَّيءِ، والاستيثاقِ منه، بألَّا يَدخُلَه شَيءٌ، ولا يَخرُجَ منه شَيءٌ [234] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 40)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 204)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/245)، ((البسيط)) للواحدي (2/112)، ((المفردات)) للراغب (ص: 275، 276)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 48). .
غِشَاوَةً: أي: غِطاءً وساترًا، وأصلُ (غشي): يدُلُّ على التَّغطيةِ [235] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 40)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 75)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/425)، ((المفردات)) للراغب (ص: 607)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 49). .

مُشكِلُ الإعرابِ :

قَولُه تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ
أَمْ مُنقَطِعةٌ بمعنى: «بلْ» وهمزةِ الاستِفهامِ الإنكاريِّ، أي: بل أَحَسِبَ...، أو تُقَدَّرُ بـ «بل» وَحْدَها، أي: بل حَسِبَ...، أو تُقَدَّرُ بالهَمزةِ وَحْدَها، أي: أَحَسِبَ الَّذين... [236] قال ابنُ القيِّمِ في تفسيرِ أَمْ المُنقطِعةِ: (الحقُّ أن يُقالَ: إنَّها على بابِها وأصلِها الأوَّلِ مِن المُعادَلةِ والاستِفهامِ حيث وقعتْ، وإن لم يكُنْ قبْلَها أداةُ استِفهامٍ في اللَّفظِ، وتقديرُها بـ «بَلْ» والهمزةِ خارجٌ عن أُصولِ اللُّغةِ العربيَّةِ). ((بدائع الفوائد)) (1/206، 207). ويُنظر: ((نتائج الفكر في النحو)) للسهيلي (ص: 205، 206). .
قَولُه: نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ الجَعلُ هنا بمعنى التَّصييرِ، و(هم) مَفعولُه الأوَّلُ. كَالَّذِينَ: جارٌّ ومَجرورٌ مُتعَلِّقٌ بمَحذوفٍ في محَلِّ نَصبٍ مَفعولٌ به ثانٍ لـ (نَجعَل)، أي: أحَسِبوا أَنْ نجعلَهم كائِنينَ كالَّذين آمَنوا. والمصدَرُ المؤوَّلُ أَنْ نَجْعَلَهُمْ ... سَدَّ مَسَدَّ مَفعولَي حَسِبَ.
قولُه: سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ: قُرِئَ سَوَاءً بالنَّصبِ والرَّفعِ [237] يُنظر ما سيأتي في القراءات ذاتِ الأثر في التَّفسير (ص: 90). ؛ فأمَّا النَّصبُ ففيه أوجُهٌ:
 الأوَّلُ: أنَّه حالٌ مِن الضَّميرِ المُستَتِرِ في مُتعَلَّقِ الجارِّ والمجرورِ كَالَّذِينَ آَمَنُوا، أو مِن الضَّميرِ المنصوبِ في نَجْعَلَهُمْ، والتَّقديرُ: أحَسِبوا أن نجعَلَهم مِثلَهم في حالِ استِواءِ محياهم ومماتِهم؟ ليس الأمرُ كذلك. ويكونُ المفعولُ الثَّاني للجَعْلِ كَالَّذِينَ آَمَنُوا كما تقَدَّمَ.
الثَّاني: أن يكونَ سَوَاءً هو المفعولَ الثَّانيَ للجَعْلِ، وكَالَّذِينَ آَمَنُوا في محَلِّ نَصبٍ على الحالِ، أي: أن نجعَلَهم حالَ كَونِهم مِثلَهم سواءً.
الثَّالثُ: أن يكونَ سَوَاءً مَفعولًا بعدَ مَفعولِ الجَعْلِ، فيَكونَ كَالَّذِينَ، وسَوَاءً كِلاهما في حَيِّزِ المَفعولِ الثَّانيِ للجَعْلِ وفي دَرَجةٍ واحدةٍ باعتِبارِ المفعوليَّةِ الثَّانيةِ، كما تقولُ: جعَلْتُ زيدًا عالِمًا كريمًا، فـ (عالِمًا كريمًا) وشِبهُه ولو تعَدَّدَت آلافًا: مَفعولٌ ثانٍ؛ لأنَّ الجَميعَ في معنًى واحِدٍ باعتِبارِ تعَلُّقِ الجَعلِ به، وهي كأخبارِ المبتدَأِ إذا تعَدَّدَت، فيَكونَ التَّقديرُ: أَحَسِبَ المُجتَرِحونَ أن نجعَلَهم مُماثِلِينَ مُستَوِينَ في الحياةِ والمَماتِ؟! أي: هذا ليس بكائِنٍ.
الرَّابِعُ: أن يكونَ سَوَاءً بدَلًا مِن الكافِ في كَالَّذِينَ آَمَنُوا، بِناءً على أنَّها اسمٌ بمعنى (مِثْل).
مَحْيَاهُمْ: فاعِلٌ بـ سَوَاءً؛ لأنَّه مَصدَرٌ وُصِفَ به، فهو في قُوَّةِ اسمِ الفاعِلِ المُشتَقِّ (مُسْتَوٍ)، وَمَمَاتُهُمْ: معطوفٌ على مَحْيَاهُمْ مَرفوعٌ مِثلُه.
وأمَّا الرَّفعُ فعلى أنَّ سَوَاءٌ خبَرٌ مُقَدَّمٌ. ومَحْيَاهُمْ مُبتدَأٌ مُؤخَّرٌ، وفي محَلِّ هذه الجُملةِ الاسميَّةِ أوجُهٌ من الإعرابِ؛ أحدُها: أنَّها استِئنافيَّةٌ لا محَلَّ لها مِنَ الإعرابِ. الثَّاني: أنَّها في محَلِّ نَصبٍ حالٌ، والتَّقديرُ: أمْ حَسِبَ الكُفَّارُ أَنْ نُصَيِّرَهم مِثلَ المؤمِنينَ في حالِ استواءِ محياهم ومماتِهم؟! لَيْسوا كذلك، بل هم مُفْتَرِقونَ. الثَّالثُ: أنَّها بدَلٌ مِن الكافِ في كَالَّذِينَ عندَ مَن جَوَّز إبدالَ الجُملةِ مِن المُفرَدِ [238] يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (20/144)، ((تفسير الزمخشري)) (2/355)، ((أمالي ابن الحاجب)) (1/173)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (9/647)، ((تفسير الألوسي)) (13/147). .

المعنى الإجماليُّ:

يقولُ الله تعالى مفرِّقًا بيْنَ حالِ الَّذين يَكتَسِبونَ السَّيِّئاتِ، وحالِ المؤمنينَ الَّذين يَعمَلونَ الصَّالحاتِ: أمْ ظَنَّ الَّذين اكتَسَبوا السَّيِّئاتِ أن نجعَلَ حياتَهم ومَوتَهم كحياةِ الَّذين آمَنوا وعَمِلوا الصَّالحاتِ ومَوتِهم؟! كلَّا، لا يَستوي الفَريقانِ حياةً ولا مَوتًا، بِئسَ حُكمًا هذا الحُكمُ!
ثمَّ يؤكِّدُ سبحانَه على عدَمِ المُساواةِ بيْنَ الفريقَينِ، فيقولُ: وخَلَق اللهُ السَّمَواتِ والأرضَ بالعَدلِ والحِكمةِ، ولِيُجزَى كُلُّ عامِلٍ بعَمَلِه مِن خَيرٍ أو شَرٍّ، وهم لا يُظلَمونَ.
ثمَّ يقولُ تعالى مسلِّيًا نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم: أفرَأَيْتَ -يا محمَّدُ- مَنِ اتَّخَذ ما يَهواه مَعبودًا له مِن دونِ اللهِ تعالى، وأضلَّه اللهُ على عِلمٍ منه سُبحانَه بأنَّه مِن أهلِ الضَّلالِ، وطَبَع على سَمْعِه وقَلبِه؛ فليس له طريقٌ إلى الهُدى بحالٍ، وجَعَل اللهُ على بَصَرِه غِطاءً يَمنَعُه مِن رُؤيةِ الحَقِّ، فمَن يَهدي هذا الضَّالَّ إلى طريقِ الحَقِّ واتِّباعِه بعدَ أنْ أضَلَّه اللهُ؟! أفلا تَتذَكَّرونَ -أيُّها النَّاسُ؟!

تَفسيرُ الآياتِ:

أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا بَيَّنَ اللهُ تعالى الفَرْقَ بيْنَ الظَّالِمينَ وبيْنَ المتَّقينَ مِن الوَجهِ الَّذي تقَدَّمَ في قَولِه: وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ [الجاثية: 19] ؛ بيَّنَ الفَرقَ بيْنَهما مِن وَجهٍ آخَرَ [239] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/675، 676). .
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
في قولِه تعالى: سَوَاءً قِراءتانِ:
1- قِراءةُ: سَوَاءً بالنَّصبِ، على معنى: أمْ حَسِبَ الَّذين اجتَرَحوا السَّيِّئاتِ أن نجعَلَ حياتَهم وموتَهم كحياةِ الَّذين آمَنوا وعَمِلوا الصَّالحاتِ ومَوتِهم؟! كلَّا، لا يَستوي الفَريقانِ حياةً ولا مَوتًا [240] قرأ بها حفصٌ عن عاصمٍ، وحمزةُ، والكِسائيُّ، وخلَفٌ. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/372). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((معاني القراءات)) للأزهري (2/376، 377)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 661)، ((الدر المصون)) للسمين (9/648). .
2- قِراءةُ: سَوَاءٌ بالرَّفعِ. قيل: هي جُملةٌ استِئنافيَّةٌ معناها: أنَّ مَحْيا المؤمِنِ ومَماتَه سواءٌ؛ فيَحيا مؤمِنًا، ويموتُ كذلك على الإيمانِ، ويُبعَثُ عليه، ومَحْيا الكافِرِ ومَماتَه سواءٌ؛ فيَحيا كافِرًا، ويموتُ كذلك على الكُفرِ، ويُبعَثُ عليه. وقيل: هي داخِلةٌ في حيِّزِ الجُملةِ الاستِفهاميَّةِ السَّابِقةِ، ومعناها يَرجِعُ للقِراءةِ الأُولى [241] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/372). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((معاني القراءات)) للأزهري (2/377)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 661)، ((الوسيط)) للواحدي (4/98)، ((الدر المصون)) للسمين (9/649، 650). .
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ.
أي: أمْ ظَنَّ الَّذين عَمِلوا السَّيِّئاتِ في الدُّنيا واكتَسَبوها أن نُساوِيَهم في حياتِهم ومَوتِهم بالَّذين آمَنوا وعَمِلوا الأعمالَ الصَّالحةَ؟! كلَّا؛ فليس المُؤمِنونَ سَواءً مع الكفَّارِ، لا في المحْيا ولا في المماتِ [242] يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/98)، ((تفسير ابن كثير)) (7/267)، ((تفسير السعدي)) (ص: 777)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/353، 355). قال الشوكاني: (أَمْ هي المُنقَطِعةُ المُقَدَّرةُ بـ «بلْ والهمزةِ»، وما فيها مِن معنى «بل» للانتِقالِ مِن البَيانِ الأوَّلِ إلى الثَّاني، والهَمزةُ لإنكارِ الحِسْبانِ). ((تفسير الشوكاني)) (5/10). وقال الرازي: (أَمْ كَلِمةٌ وُضِعَت للاستِفهامِ عن شَيءٍ حالَ كَونِه مَعطوفًا على شَيءٍ آخَرَ، سواءٌ كان ذلك المعطوفُ مذكورًا أو مُضمَرًا، والتَّقديرُ هاهنا: أفيَعلَمُ المُشرِكونَ هذا، أم يَحسَبونَ أنَّا نَتَولَّاهم كما نَتولَّى المُتَّقينَ؟). ((تفسير الرازي)) (27/676). وقال ابنُ القَيِّم: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ أي: أَحَسِبوا هذا فهُم مُغتَرُّونَ، أم لم يَحسَبوه فما لهم مقيمون على السَّيِّئاتِ؟ وعلى هذا سائِرُ ما يَرِدُ عليك مِن هذا البابِ، وتأمَّلْ كيف يَذكُرُ سُبحانَه القِسْمَ الَّذي يَظُنُّونَه ويَزعُمونَه فيُنكِرُه عليهم، وأنَّه مِمَّا لا يَنبغي أن يكونَ، وَيتُركُ ذِكرَ القِسمِ الآخَرِ الَّذي لا يَذهَبونَ إليه، فترَدَّدَ الكَلامُ بيْنَ قِسمَينِ، فيُصَرِّحُ بإنكارِ أحَدِهما، وهو الَّذي سِيقَ الكلامُ لإنكارِه، ويكتفي منه بذِكرِ الآخَرِ، وهذه طريقةٌ بَديعةٌ عَجيبةٌ في القُرآنِ). ((بدائع الفوائد)) (1/208). وقال ابن جُزَي: (المرادُ بالَّذين اجتَرَحوا السَّيِّئاتِ: الكُفَّارُ؛ لِمُقابَلتِه بالَّذين آمَنوا، ولأنَّ الآيةَ مَكِّيَّةٌ، وقد يَتناوَلُ لَفظُها المُذنِبينَ مِن المؤمِنينَ). ((تفسير ابن جزي)) (2/271). وقال ابن عاشور: (واعْلَمْ أنَّ هذه الآيةَ وإنْ كان مَورِدُها في تَخالُفِ حالَيِ المُشرِكينَ والمُؤمِنينَ، فإنَّ نَوْطَ الحُكمِ فيها بصِلةِ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ يَجعَلُ منها إيماءً إلى تَفاوُتِ حالَيِ المُسيئينَ والمُحسِنينَ مِن أهلِ الإيمانِ وإنْ لم يَحسَبْ أحدٌ مِن المُؤمِنينَ ذلك). ((تفسير ابن عاشور)) (25/355). وقال ابنُ جُزَي في تفسيرِ الآيةِ: (ومعناها: إنكارُ ما حَسِبَه الكُفَّارُ مِن أن يَكونوا هم والمؤمِنونَ سَواءً في المحيا والمماتِ، وفي تأويلِها مع ذلك قَولانِ: أحَدُهما: أنَّ المرادَ: ليس المؤمنونَ سَواءً مع الكُفَّارِ، لا في المحيا ولا في المماتِ؛ فإنَّ المؤمِنينَ عاشوا على التَّقوى والطَّاعةِ، والكُفَّارَ عاشوا على الكُفرِ والمعصيةِ، وكذلك مماتُهم ليس سَواءً. والقَولُ الآخَرُ: أنَّهم استَوَوا في المحيا في أمورِ الدُّنيا مِن الصِّحَّةِ والرِّزقِ، فلا يَستَوونَ في المماتِ، بل يَسعَدُ المُؤمِنونَ ويَشقى الكافِرونَ، فالمرادُ بها إثباتُ الجَزاءِ في الآخرةِ، وتَفضيلُ المؤمِنينَ على الكافِرينَ في الآخرةِ، وهذا المعنى هو الأظهَرُ والأرجَحُ، فيكونُ معنى الآيةِ كقَولِه: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ [القلم: 35] ، وكقَولِه: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص: 28] ). ((تفسير ابن جزي)) (2/271). ممَّن اختار في الجُملةِ أنَّ المرادَ: الإعلامُ بنَفيِ المُساواةِ بيْنَهما في المحيا والمماتِ، والدُّنيا والآخرةِ: البَغَويُّ، والرَّسْعَنيُّ، وابنُ كثير، والعُلَيمي، والشوكاني، والسعدي. يُنظر: ((تفسير البغوي)) (4/186)، ((تفسير الرسعني)) (7/194)، ((تفسير ابن كثير)) (7/267)، ((تفسير العليمي)) (6/270)، ((تفسير الشوكاني)) (5/10)، ((تفسير السعدي)) (ص: 777). قال الزمخشري: (المعنى: إنكارُ أن يَستويَ المُسيئُونَ والمُحسِنونَ مَحْيًا، وأن يَستوُوا مَماتًا؛ لافتِراقِ أحوالِهم أحياءً؛ حيثُ عاش هؤلاء على القيامِ بالطَّاعاتِ، وأولئك على رُكوبِ المعاصي، ومماتًا؛ حيث مات هؤلاءِ على البُشرى بالرَّحمةِ، والوُصولِ إلى ثوابِ اللهِ ورِضوانِه، وأولئك على اليأسِ مِن رَحمةِ اللهِ، والوُصولِ إلى هَولِ ما أُعِدَّ لهم). ((تفسير الزمخشري)) (4/290). وقال القاسمي: (عاش هؤلاءِ على الهدى، والعِلمِ باللهِ، وسَنَنِ الرَّشادِ، وطُمأنينةِ القَلبِ، وأولئك على الضَّلالِ والجَهلِ، والعَبَثِ والفَسادِ، واضطِرابِ القَلبِ، وضِيقِ الصَّدرِ). ((تفسير القاسمي)) (8/430). وقال ابن جرير: (يقولُ تعالى ذِكرُه: أمْ ظَنَّ الَّذين اجتَرَحوا السَّيِّئاتِ مِن الأعمالِ في الدُّنيا، وكَذَّبوا رُسُلَ اللهِ، وخالَفوا أمْرَ رَبِّهم، وعَبَدوا غَيْرَه: أنْ نَجعَلَهم في الآخرةِ كالَّذينَ آمَنوا باللهِ وصَدَّقوا رُسُلَه وعَمِلوا الصَّالحاتِ، فأطاعوا اللهَ، وأخلَصوا له العبادةَ دونَ ما سِواه مِن الأندادِ والآلهةِ؟! كَلَّا. ما كان اللهُ لِيَفعَلَ ذلك، لقد مَيَّزَ بيْنَ الفَريقَينِ، فجَعَل حِزبَ الإيمانِ في الجنَّةِ، وحِزبَ الكُفرِ في السَّعيرِ). ((تفسير ابن جرير)) (21/87، 88). .
كما قال تعالى: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص: 28] .
وعن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: سَمِعتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((يُبعَثُ كُلُّ عَبدٍ على ما مات عليه )) [243] رواه مسلم (2878). .
سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ.
أي: بِئسَ هذا الحُكمُ الَّذي حَسِبَه المُشرِكونَ؛ أنَّ اللهَ يُساوِي بيْنَ الَّذين عَمِلوا السَّيِّئاتِ والَّذين آمَنوا وعَمِلوا الصَّالحاتِ في مَحياهم ومماتِهم [244] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/91)، ((الوسيط)) للواحدي (4/98)، ((تفسير ابن عطية)) (5/86)، ((تفسير ابن كثير)) (7/267)، ((تفسير السعدي)) (ص: 777). قال السعدي: (فإنَّه حُكمٌ يُخالِفُ حِكمةَ أحكَمِ الحاكِمينَ، وخَيرِ العادِلينَ، ويُناقِضُ العُقولَ السَّليمةَ، والفِطَرَ المُستقيمةَ، ويُضادُّ ما نَزَلت به الكُتُبُ، وأخبَرَت به الرُّسُلُ). ((تفسير السعدي)) (ص: 777). !
وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أنكَرَ اللهُ تعالى التَّسويةَ بيْنَ المؤمِنِ والكافِرِ، وذَمَّهم على الحُكمِ بها؛ أتْبَعَ ذلك الدَّليلَ القَطعيَّ على أنَّ الفَريقَينِ لا يَستويانِ، وإلَّا لَمَا كان الخالِقُ لهذا الوُجودِ عَزيزًا ولا حَكيمًا [245] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/91). .
وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ.
أي: وخَلَق اللهُ السَّمَواتِ والأرضَ بالعَدلِ والحِكمةِ [246] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/839)، ((تفسير ابن جرير)) (21/91)، ((تفسير ابن كثير)) (7/268)، ((تفسير السعدي)) (ص: 777). .
كما قال تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ [الدخان: 38، 39].
وقال سُبحانَه: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران: 191].
وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ.
أي: ولِيُثيبَ اللهُ كُلَّ عامِلٍ بما عَمِلَه مِن خَيرٍ أو شَرٍّ، وبما يَستَحِقُّه مِن ثوابٍ أو عِقابٍ [247] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/91)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (10/6786)، ((تفسير ابن عطية)) (5/86)، ((تفسير السعدي)) (ص: 777). قال البِقاعي: (لَمَّا كان التَّقديرُ: لِيَكونَ كُلُّ مُسَبَّبٍ مُطابِقًا لأسبابِه، عَطَف عليه قَولَه: وَلِتُجْزَى). ((نظم الدرر)) (18/92). .
كما قال تعالى: الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ [غافر: 17] .
وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ.
أي: ولا يَظلِمُ اللهُ النَّاسَ شَيئًا مِن جزاءِ أعمالِهم؛ بنَقصِ ثَوابِهم، أو زيادةِ عِقابِهم [248] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/91)، ((تفسير البيضاوي)) (5/108)، ((تفسير الشوكاني)) (5/10). .
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى عاد إلى شَرحِ أحوالِ الكُفَّارِ وقبائِحِ طَوائِفِهم [249] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/677). .
وأيضًا لَمَّا بَيَّنَ اللهُ تعالى غايةَ البَيانِ أنَّه الإلهُ وَحْدَه، بما له مِنَ الإحاطةِ بجَميعِ صِفاتِ الكَمالِ، وأنَّه لا بُدَّ مِن جَمْعِه الخلائِقَ لِيَومِ الفَصلِ؛ للحُكمِ بيْنَهم بما له مِنَ الحِكمةِ والقُدرةِ؛ وحَقَّرَ الهوى ونهَى عن اتِّباعِه، وكان المُشرِكونَ قد عَظَّموه بحيثُ جَعَلوه مَعبودًا، فلَزِمَ مِن ذلك تحقيرُهم الإلهَ، ولم يَرجِعوا عن ضَلالِهم- تَسَبَّبَ عن ذلك التَّعجيبُ مِمَّن يَظُنُّ أنَّه يَقدِرُ على رَدِّ أحَدٍ مِنهم عن غَيِّه بشَيءٍ مِن الأشياءِ [250] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/93، 94). .
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ.
أي: أفرأَيتَ -يا محمَّدُ- الَّذي جَعَل مَعبودَه ما يَهواه، فيَعبُدُ ويُطيعُ ما هَوِيَه دونَ اللهِ المُستَحِقِّ للعِبادةِ وَحْدَه [251] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/93)، ((تفسير ابن عطية)) (5/86)، ((تفسير أبي حيان)) (9/422)، ((تفسير ابن كثير)) (7/268)، ((تفسير السعدي)) (ص: 777)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/357، 358). قال ابنُ عاشور: (الخِطابُ للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، والمقصودُ مَنْ مَعه مِنَ المُسلِمينَ، أو الخِطابُ لِغَيرِ مُعَيَّنٍ، أي: تناهَت حالُهم في الظُّهورِ، فلا يختَصُّ بها مُخاطَبٌ). ((تفسير ابن عاشور)) (25/357). وقال ابن عطيَّة: (هذه الآيةُ وإن كانت نزَلَت في هوى الكُفرِ، فهي مُتناوِلةٌ جميعَ هوى النَّفْسِ الأمَّارةِ). ((تفسير ابن عطية)) (5/86). ؟!
كما قال تعالى: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا [الفرقان: 43] .
وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ.
أي: وأضلَّ اللهُ ذلك المُتَّبِعَ هواه عن طَريقِ الحَقِّ، على عِلمٍ مِن الله سبَق أنَّه يَضِلُّ ولا يَهتَدي [252] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/93)، ((تفسير القرطبي)) (16/169)، ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 30)، ((تفسير السعدي)) (ص: 777). ممَّن ذهب إلى المعنى المذكورِ: ابنُ جرير، والزَّجَّاجُ، والواحدي، والسمعاني، وابنُ القيِّمِ -ونَسَبه إلى جُمهورِ المُفَسِّرينَ-، والشوكانيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/93)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/433)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 991)، ((تفسير السمعاني)) (5/141)، ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 30)، ((تفسير الشوكاني)) (5/12). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/93)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (7/426). قال ابنُ القيِّم: (فالمعنى: أضلَّه اللهُ عالِمًا به وبأقوالِه، وما يُناسِبُه ويَليقُ به ولا يَصلُحُ له غَيرُه قبْلَ خَلْقِه وبَعْدَه، وأنَّه أهلٌ للضَّلالِ، وليس أهلًا أن يُهدى، وأنَّه لو هُدِيَ لَكان قد وَضَع الهُدى في غيرِ مَحَلِّه وعندَ مَن لا يَستَحِقُّه، والرَّبُّ تعالى حكيمٌ إنَّما يَضَعُ الأشياءَ في مَحالِّها اللَّائِقةِ بها؛ فانتَظَمَت الآيةُ على هذا القَولِ في إثباتِ القَدَرِ والحِكمةِ الَّتي لأجْلِها قُدِّرَ عليه الضَّلالُ، وذُكِرَ العِلمُ؛ إذ هو الكاشِفُ المُبِينُ لحقائقِ الأمورِ، ووَضْعِ الشَّيءِ في مَواضِعِه، وإعطاءِ الخَيرِ مَن يَستَحِقُّه، ومَنْعِه مَن لا يَستَحِقُّه؛ فإنَّ هذا لا يَحصُلُ بدونِ العِلمِ؛ فهو سبحانَه أضَلَّه على عِلْمِه بأحوالِه الَّتي تُناسِبُ ضَلالَه وتَقتَضيه وتَستَدعيه). ((شفاء العليل)) (ص: 30). وقال القرطبي: (قولُه تعالى: وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ أي: على عِلمٍ قد عَلِمَه منه. وقيل: أضلَّه عن الثَّوابِ على عِلمٍ منه بأنَّه لا يَستَحِقُّه. وقال ابنُ عبَّاسٍ: أي: على عِلمٍ قد سَبَق عِندَه أنَّه سيَضِلُّ. مِقاتلٌ: على عِلمٍ منه أنَّه ضالٌّ. والمعنى مُتقارِبٌ). ((تفسير القرطبي)) (16/169). ويُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/839). وقال ابنُ عطية: (وقالت فِرقةٌ: أي: على عِلمٍ مِن هذا الضَّلالِ؛ فإنَّ الحَقَّ هو الَّذي يُترَكُ ويُعرَضُ عنه، فتكونُ الآيةُ على هذا مِن آياتِ العِنادِ، نَحو قَولِه تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ [النمل: 14] ). ((تفسير ابن عطية)) (5/86). وقال ابن عاشور: (ومعنى عَلَى عِلْمٍ أنَّهم أحاطت بهم أسبابُ الضَّلالةِ مع أنَّهم أهلُ عِلمٍ، أي: عُقولٍ سَليمةٍ، أو مع أنَّهم بَلَغَهم العِلمُ بما يَهديهم، وذلك بالقُرآنِ ودَعوةِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم إلى الإسلامِ... والمعنى: أنَّه ضالٌّ مع ما له مِن صِفةِ العِلمِ، فالعِلمُ هنا مِنْ وَصفِ مَنِ اتَّخَذ إلهَه هواه، وهو مُتمَكِّنٌ مِن العِلمِ لو خَلَع عن نَفْسِه المُكابَرةَ، والمَيلَ إلى الهَوى). ((تفسير ابن عاشور)) (25/358). وقال ابنُ كثير: (وقولُه: وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ يَحتَمِلُ قَولَينِ؛ أحَدُها: وأضَلَّه اللهُ؛ لعِلْمِه أنَّه يَستَحِقُّ ذلك. والآخَرُ: وأضَلَّه اللهُ بعدَ بُلوغِ العِلمِ إليه، وقيامِ الحُجَّةِ عليه. والثَّاني يَستلزِمُ الأوَّلَ، ولا يَنعَكِسُ). ((تفسير ابن كثير)) (7/268). .
وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ.
أي: وطَبَع اللهُ على سَمْعِه، فلا يَنتَفِعُ بسَماعِ الحَقِّ، وطَبَع على قَلبِه فلا يَعقِلُ به الحَقَّ؛ فليس له طريقٌ إلى الهُدى بسَمعِه ولا قَلبِه [253] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/94)، ((تفسير القرطبي)) (16/169)، ((تفسير ابن كثير)) (7/268)، ((تفسير السعدي)) (ص: 777). .
كما قال تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة: 7] .
وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً.
أي: وجَعَل اللهُ على بَصَرِه غِطاءً يَمنَعُه مِن رُؤيةِ الحَقِّ، فهو لا يَنتَفِعُ ببَصَرِه لِمَعرفةِ الحَقِّ واتِّباعِه [254] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/94)، ((تفسير القرطبي)) (16/169)، ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 96)، ((تفسير ابن كثير)) (7/268)، ((تفسير السعدي)) (ص: 777). .
فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ.
أي: لا أحَدَ يَهديه إلى طريقِ الحَقِّ واتِّباعِه بعدَ أن أضَلَّه اللهُ [255] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/94)، ((الوسيط)) للواحدي (4/100)، ((تفسير القرطبي)) (16/169)، ((تفسير ابن كثير)) (7/268)، ((تفسير السعدي)) (ص: 777). !
أَفَلَا تَذَكَّرُونَ.
أي: أفلا تَتذَكَّرونَ -أيُّها النَّاسُ- فتَعلَموا أنَّ مَن كان هذا حالَه فلنْ يَهتديَ أبدًا، ولا سبيلَ لأحدٍ إلى هِدايتِه [256] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/94)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/97، 98). وممَّن ذهب إلى هذا المعنى المذكورِ: ابنُ جرير، والبِقاعي. يُنظر: المصدران السابقان. وقال السَّمرقندي: (أَفَلَا تَذَكَّرُونَ أنَّ مَن لا يُقبِلُ إلى دينِ اللهِ، ولا يَرغَبُ في طاعتِه: لا يُكرِمُه بالهُدى والتَّوحيدِ). ((تفسير السمرقندي)) (3/280). وقال الشوكاني: (أَفَلَا تَذَكَّرُونَ تذَكُّرَ اعتِبارٍ، حتَّى تَعلَموا حَقيقةَ الحالِ). ((تفسير الشوكاني)) (5/11). وقال مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ: (أَفَلَا يعني: أفهلَّا تَذَكَّرُونَ فتَعتَبِروا في صُنعِ الله، فتُوحِّدوه). ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/840). وقيل: المعنى: أَفَلَا تَذَكَّرُونَ فتَعرِفوا قُدْرتَه على ما يَشاءُ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: الواحديُّ، وابنُ الجوزي، والقرطبي. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/100)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/100)، ((تفسير القرطبي)) (16/169). وقيل: المعنى: أفلا تَذَكَّرونَ ما يَنفَعُكم فتَسلُكوه، وما يَضُرُّكم فتَجتَنِبوه. قاله السعدي. يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 777). ؟!

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- قَولُ الله تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ يُستنبَطُ مِن هذه الآيةِ تَبايُنُ حالِ المؤمِنِ العاصي مِن حالِ الطَّائِعِ، وإن كانت في الكُفَّارِ [257] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/421). .
2- قال تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ عن مَسروقٍ قال: (قال لي رَجُلٌ مِن أهلِ مَكَّةَ: هذا مَقامُ أخيك تميمٍ الدَّاريِّ، لقد رأيتُه ذاتَ لَيلةٍ حتَّى أصبَحَ، أو كَرَبَ [258] كَرَب: أي: كادَ وأوشَكَ. يُنظر: ((مختار الصحاح)) لأبي عبد الله الرازي (ص: 267). أن يُصبِحَ يَقرَأُ آيةً مِن كِتابِ اللهِ، يَركَعُ ويَسجُدُ ويَبكي: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ ... الآيةَ) [259] أخرجه النسائي في الكبرى (11833). قال العَيْني في ((نخب الافكار)) (5/457): (رجالُه ثقاتٌ)، وقال شعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((سير أعلام النبلاء)) (2/445): (رجالُه ثقاتٌ). .
وقال بَشيرٌ: (بِتُّ عندَ الرَّبيعِ بنِ خُثَيمٍ ذاتَ لَيلةٍ، فقام يُصَلِّي، فمَرَّ بهذه الآيةِ فمَكَث ليلَه حتَّى أصبَحَ لم يَعْدُها، ببكاءٍ شَديدٍ)!
وقال إبراهيمُ بنُ الأشعَثِ: (كثيرًا ما رأيتُ الفُضَيلَ بنَ عِياضٍ يُرَدِّدُ مِن أوَّلِ اللَّيلِ إلى آخِرِه هذه الآيةَ ونَظيرَها، ثمَّ يقولُ: لَيْتَ شِعْري مِن أيِّ الفريقَينِ أنتَ؟!)، وكانت هذه الآيةُ تُسَمَّى مَبكاةَ العابِدينَ [260] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (16/166). !
3- قال الله تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ إذا تأمَّلْتَ حالَ عُشَّاقِ الصُّوَرِ المُتيَّمينَ فيها، وجَدْتَ هذه الآيةَ مُنطَبِقةً عليهم، مُخبِرةً عن حالِهم [261] يُنظر: ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (2/152). .
4- مُخالَفةُ ما تهوى الأنفُسُ شاقٌّ عليها، وصَعبٌ خُروجُها عنه؛ ولذلك بلَغَ أهلُ الهوى في مُساعدتِه مَبالِغَ لا يَبلُغُها غَيرُهم، وكفى شاهِدًا على ذلك حالُ المحِبِّينَ، وحالُ مَن بُعِثَ إليهم رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم مِن المُشرِكينَ وأهلِ الكِتابِ وغَيرِهم، ممَّن صَمَّم على ما هو عليه، حتَّى رَضُوا بإهلاكِ النُّفوسِ والأموالِ، ولم يَرضَوا بمُخالَفةِ الهوى! حتَّى قال تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ، وقال: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ [النجم: 23] ، وقال: أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ [محمد: 14] [262] يُنظر: ((الموافقات)) للشاطبي (2/264). ؛ فأصلُ الشَّرِّ مُتابَعةُ الهَوى، والخَيرُ كُلُّه في مُخالَفتِه؛ فنِعْمَ ما قال الشاعِرُ:
إذا طالَبَتْك النَّفْسُ يَومًا بشَهوةٍ           وكان إليها للخِلافِ طَريقُ
فدَعْها وخالِفْ ما هَوِيتَ فإنَّما            هواكَ عَدُوٌّ والخِلافُ صَديقُ [263] يُنظر: ((تفسير النسفي)) (3/303). والبيتان منسوبانِ لأبي الفتحِ البُسْتي. يُنظر: ((مجاني الأدب في حدائق العرب)) لرزق الله بن يوسف (2/52)، والقسم الرابع من مجلة المورد العراقية (34/102). ونسبهما القرطبيُّ لابنِ دُرَيدٍ. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (16/168). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الثعلبي)) (8/363)، ((ذم الهوى)) لابن الجوزي (ص: 52، 53).
5- قوله: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ الآيةُ دليلٌ واضِحٌ على أنَّ العِلمَ مع الخِذلانِ غيرُ نافِعٍ، وبَعثٌ على الاسِتهداءِ مِن عندِ اللهِ، وطَرحِ الكَيفِ بيْنَ يَدَيه، والتَّبَرُّؤِ مِن الحَولِ والقُوَّةِ إليه [264] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/140). ، وذلك على قولٍ في تفسيرِ الآيةِ.
6- قَولُ الله تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ هذه الآيةُ أصلٌ في التَّحذيرِ مِن أن يكونَ الهوى هو الباعِثَ للمُؤمِنينَ على أعمالِهم، ويَترُكوا اتِّباعَ أدِلَّةِ الحَقِّ، فإذا كان الحَقُّ مَحبوبًا لأحدٍ فذلك مِن التَّخَلُّقِ بمَحبَّةِ الحَقِّ تَبَعًا للدَّليلِ، مِثلُ ما يهوى المؤمِنُ الصَّلاةَ والجَماعةَ، وقيامَ رَمَضانَ وتِلاوةَ القُرآنِ؛ وأمَّا اتِّباعُ الأمرِ المحبوبِ لإرضاءِ النَّفْسِ دونَ نَظَرٍ في صَلاحِه أو فَسادِه فذلك سَبَبُ الضَّلالِ وسُوءِ السِّيرةِ [265] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/359، 360). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- المذنبُ إنْ عُفِي عنه بغيرِ سببٍ مِن الأسبابِ المكفِّرةِ ونحوِها، فإنَّه لابدَّ أن تلحقَه عقوباتٌ كثيرةٌ، منها ما فاتَه مِن ثوابِ المحسنين؛ فإنَّ اللهَ تعالى وإنْ عَفَا عنِ المُذنِبِ فلا يَجعلُه كالَّذين آمَنوا وعَمِلوا الصَّالحاتِ، كما قال تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [266] يُنظر: ((مجموع رسائل ابن رجب)) (2/797). .
2- اللهُ تعالى قائِمٌ بالقِسطِ، ولا يَظلِمُ النَّاسَ شيئًا؛ فلا يَضَعُ شَيئًا في غيرِ مَوضِعِه، ولا يُسَوِّي بيْنَ مُختَلِفَينِ، ولا يُفَرِّقُ بيْنَ مُتماثِلَينِ، كما قال تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [267] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (4/192). .
3- مَن أحَبَّ شَيئًا وأطاعه، وأحَبَّ عليه وأبغَضَ عليه: فهو إلهُه؛ فمَن كان لا يُحِبُّ ولا يُبغِضُ إلَّا لله، ولا يُوالي ولا يُعادي إلَّا له: فاللهُ إلهُه حَقًّا، ومَن أحَبَّ لِهَواه وأبغَضَ له، ووالى عليه وعادى عليه: فإلهُه هَواه، كما قال تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [268] يُنظر: ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (1/524). .
4- إذا أمَرَ اللهُ على ألسِنةِ رُسُلِه بشَيءٍ، فعدَلَ عنه العبدُ إلى ما يُحِبُّه هو؛ كان عابدًا لِهَواه لا عابِدًا لله؛ قال تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [269] يُنظر: ((نظرية العقد)) لابن تيمية (1/7). !
5- قَولُ الله تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ليس يَبقى للقَدَريَّةِ مع هذه الآيةِ عُذرٌ ولا حِيلةٌ؛ لأنَّ اللهَ تعالى صَرَّح بمَنعِه إيَّاهم عن الهدَى حينَ أخبَرَ أنَّه خَتَم على قَلبِ هذا الكافِرِ وسَمعِه [270] يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (20/149). .
6- قَولُه تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ عن الحَسَنِ قال: (هو المنافِقُ لا يَهوى شَيئًا إلَّا رَكِبَه) [271] أخرجه أبو بكرٍ الفِرْيابي في ((صفة النفاق وذم المنافقين)) (43)، ومن طريقه ابن الجوزي في ((ذم الهوى)) (ص: 17). وقد ورد معناه عن غير واحد من السلف. يُنظر: ((تفسير عبد الرزاق)) (3/191)، ((تفسير ابن جرير)) (21/93)، ((البسيط)) للواحدي (20/148)، ((تفسير البغوي)) (4/187). !
7- في قَولِه تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ إطلاقُ الإلهِ على الهوى المتَّبَعِ [272] يُنظر: ((مجموع رسائل ابن رجب)) (3/56). .
8- تحقيقُ التَّوحيدِ يستلزِمُ اجتِنابَ المعاصي؛ لأنَّ المعاصيَ صادِرةٌ عن الهوَى، وهذا نوعٌ مِن الشِّركِ، قال تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ، فالمعاصي مِن حيثُ المعنى العامُّ، أو الجِنسُ العامُّ يُمكِنُ أنْ نَعتبِرَها مِن الشِّركِ [273] يُنظر: ((القول المفيد على كتاب التوحيد)) لابن عثيمين (1/48، 65). .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قولُه تعالَى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ
- الآيةُ انتِقالٌ مِن وَصْفِ تَكذيبِهم بالآياتِ واسْتِهزائِهم بها، ثمَّ مِن أمْرِ المُؤمِنينَ بالصَّفْحِ عنهم، وإيكالِ جَزاءِ صَنائعِهم إلى اللهِ، ثمَّ مِن التَّثبيتِ على مُلازَمةِ الشَّريعةِ الإسلاميَّةِ إلى وَصْفِ صِنفٍ آخَرَ مِن ضَلالِهم واسْتِهزائِهم بالوعْدِ والوعيدِ، وإحالَتِهم الحياةَ بعْدَ الموتِ، والجَزاءَ على الأعمالِ، وتَخْييلِهم للنَّاسِ أنَّهم يَصِيرُون في الآخرةِ على الحالِ الَّتي كانوا عليها في الدُّنيا؛ عَظيمُهم في الدُّنيا عَظيمُهم في الآخرةِ، وضَعيفُهم في الدُّنيا ضَعيفُهم في الآخرةِ، وهذا الانتِقالُ رُجوعٌ إلى بَيانِ قولِه: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ [274] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/351). [الجاثية: 15] .
-قولُه: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ... كَلامٌ مُستأنَفٌ مَسوقٌ لِبَيانِ تَغايُرِ حالَيِ المُسيئينَ والمُحسِنينَ، إثْرَ بَيانِ تَبايُنِ حالَيِ الظَّالِمينَ والمُتَّقينَ [275] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/72)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/152). .
- وحَرْفُ (أَمْ) في قولِه: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ... للإضرابِ الانتِقاليِّ، والاستِفهامُ لإنكارِ حِسبانِ أنْ يَسْتويَ المُسِيئون والمُحسِنون مَحيًا، وأنْ يَسْتوُوا مَماتًا؛ لِافتراقِ أحْوالِهم أحياءً، ومَماتًا. فعلَى هذا يكون قولُه: سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ مِن الحِسبانِ المنكورِ. وقيلَ: سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ كلامٌ مُستأنَفٌ على معنَى: أنَّ محيَا المسيئين ومماتَهم سواءٌ، وكذلك محيا المحسنين ومماتُهم: كلٌّ يموتُ على حسَبِ ما عاشَ عليه. أو ذلك أنَّه حِينَ أنْكَر حِسبانَ أنْ يَستوِيَ الكافرُ والمُؤمِنُ، قِيل: فإذَنْ كيف الحالُ؟ فأُجِيبَ: أنَّ المُؤمِنَ يَعيشُ حَميدًا ويَموتُ سَعيدًا؛ يَعِيشُ في طاعةِ الرَّحمنِ، ثمَّ المَرجِعُ إلى الرِّضوانِ، والكافرُ يَعيشُ في طاعةِ الشَّيطانِ، والمآبُ إلى النِّيرانِ، فأنَّى يَستويانِ [276] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/290)، ((تفسير البيضاوي)) (5/107)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/251)، ((تفسير أبي حيان)) (9/419)، ((تفسير أبي السعود)) (8/72)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/351 - 354)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/152). قال ابن عاشور: (ومِن خِلافِ ظاهِرِ التَّركيبِ ما قيلَ: إنَّ مَدلولَ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ليس مِن حِسبانِ المُشرِكينَ المنكورِ، ولكِنَّه كلامٌ مُستأنَفٌ). ((تفسير ابن عاشور)) (25/354). ؟!
- ونِسبةُ حِسبانِ التَّساوي إلى الَّذين اجْتَرَحوا السَّيِّئاتِ في خِضَمِّ الإنكارِ التَّوبيخيِّ، مع أنَّهم بمَعْزِلٍ منه جازِمونَ بفَضْلِهم على المُؤمِنينَ؛ للمُبالَغةِ في الإنكارِ، والتَّشديدِ في التَّوبيخِ؛ فإنَّ إنْكارَ حِسْبانِ التَّساوي والتَّوبيخَ عليه إنْكارٌ لِحِسبانِ الجزْمِ بالفضْلِ وتَوبيخٌ عليهِ على أبلَغِ وَجْهٍ وآكَدِه [277] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/72). .
- والاجتِراحُ: الاكْتِسابُ، وصِيغةُ الافتِعالِ للمُبالَغةِ، وهو مُشتَقٌّ مِن الجُرْحِ [278] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/352). .
- والَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ همُ المُشرِكون، وإنَّما عُبِّرَ عنهم بهذا العُنوانِ؛ لِمَا في الصِّلةِ مِن تَعليلِ إنكارِ المُشابَهةِ والمُساواةِ بيْنَهم وبيْنَ الَّذين آمَنوا وعَمِلوا الصَّالحاتِ عِندَ اللهِ في عالَمِ الخُلْدِ، ولأنَّ اكتِسابَ السَّيِّئاتِ مِن شِعارِ أهْلِ الشِّركِ؛ إذ لَيس لهم دِينٌ وازِعٌ يَزَعُهم عن السَّيِّئاتِ، ولا همْ مُؤمِنونَ بالبَعثِ والجزاءِ فيَكونَ إيمانُهم به مُرغِّبًا في الجَزاءِ [279] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/351، 352). .
- ومَوقِعُ التَّشبيهِ في قولِه: أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ الإيماءُ إلى أنَّ اللهَ قدَّرَ للمُؤمِنينَ حُسنَ الحالِ بعْدَ المماتِ، حتَّى صار ذلك المُقدَّرُ مَضرِبَ الأمثالِ ومَناطَ التَّشبيهِ، وإلى أنَّ حِسبانَ المُشرِكين أنفُسَهم في الآخِرةِ على حالةٍ حَسنةٍ باطلٌ، فعُبِّرَ عن حِسبانِهم الباطِلِ بأنَّهم أثْبَتوا لِأنفُسِهم في الآخِرةِ الحالَ الَّتي هي حالُ المُؤمِنينَ، أي: حسِبَ المُشرِكون بزَعْمِهم أنْ يَكونوا بعْدَ الموتِ في حالةٍ إذا أراد الواصفُ أنْ يَصِفَها وَصَفَها بمُشابَهةِ حالِ المُؤمِنينَ عندَ اللهِ وفي نفْسِ الأمْرِ. فقُصِد هنا التَّنويهُ بالمُؤمِنينَ، والعِنايةُ بزُلْفاهم عِندَ اللهِ، فكأنَّه قيل: أحَسِبوا أنْ نَجعَلَهم في حالةٍ حَسَنةٍ؟ ولكنَّ هذا المأمولَ في حِسبانِهم هو في نَفْسِ الأمْرِ حالُ المُؤمِنينَ لا حالُهم، فأُوجِزَ الكلامُ، وفَهْمُ السَّامعِ يَبسُطُه. والمُواجَهُ بهذا الكلامِ همُ النَّبيُّ والمُؤمِنونَ؛ تَكمِلةً للغرَضِ المُبتدَأِ به في قولِه: قُلْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [280] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/353، 354). [الجاثية: 14] .
- وقولُه: كَالَّذِينَ آَمَنُوا يَجوزُ أنْ يكونَ مُعترِضًا بيْنَ مَفعولَيْ (نَجعَلُ)، وهُما ضَميرَا الغائبينَ، وجُملةُ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ، أو ولَفْظُ سَوَاءً -في قِراءةِ نَصْبِه [281] يُنظر ما تقدَّم في القراءات ذاتِ الأثرِ في التَّفسير. - فلا يكونَ مُرادًا إدْخالُه في حِسبانِ المُشرِكينَ؛ فيكونَ قولُه: كَالَّذِينَ آَمَنُوا تَهكُّمًا على المُشرِكينَ في حِسبانِهم؛ تأْكيدًا للإنكارِ عليهم [282] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/354). .
- وجُملةُ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ تَذييلٌ لِمَا قبْلَها مِن إنكارِ حِسبانِهم وما اتَّصَلَ بذلك الإنكارِ مِن المعاني [283] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/355). .
2- قولُه تعالَى: وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ
- قولُه: وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُمكِنُ أنْ يكونَ الكلامُ مَعطوفًا على ما تَقدَّمَ؛ لِيَكونَ كالدَّليلِ على نفْيِ الاستِواءِ بيْنَ الفريقَينِ. ويُمكِنُ أنْ يكونَ استِئنافًا مُقرِّرًا لِمَا سبَقَ مِن الحُكْمِ؛ فإنَّ خلْقَ اللهِ تعالى لَهُما ولِما فيهما بالحقِّ المُقتضِي للعَدْلِ، يَسْتدعِي -لا مَحالةَ- تَفضيلَ المُحْسنِ على المُسيءِ في المَحْيا والمَماتِ، وانْتِصارَ المظلومِ مِن الظَّالمِ، وإذا لم يَطَّرِدْ ذلك في المَحيا فهُو بعْدَ المماتِ حَتْمًا [284] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/108)، ((تفسير أبي السعود)) (8/72)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/154). .
أو الجُملة مُعترِضةٌ، والواوُ اعتراضيَّةٌ، وهو اعتِراضٌ بيْنَ الكلامِ المُتقدِّمِ وبيْنَ ما فُرِّعَ عليه مِن قولِه: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الجاثية: 23] ، هو كالدَّليلِ على انتِفاءِ أنْ يكونَ الَّذين اجْتَرَحوا السَّيِّئاتِ الَّذين همْ في بُحْبوحةِ عَيشٍ مُدَّةَ حَياتِهم؛ أنْ يَكونوا في نَعيمٍ بعْدَ مَماتِهم كالَّذين آمَنوا وعَمِلوا الصَّالحاتِ مُدَّةَ حَياتِهم؛ فكان جَزاؤُهم النَّعيمَ بعْدَ مَماتِهم -أي: بعْدَ حَياتِهم الثَّانيةِ- بأنَّ خلْقَ السَّمواتِ والأرضِ بالعدْلِ يَسْتدعي التَّفاوُتَ بيْنَ المُسيءِ والمُحسِنِ، والانتِصافَ للمُعْتدَى عليه مِن المُعْتدِي [285] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/355، 356). قال ابن عاشور: (ووَجهُ الاسْتِدلالِ في الآيةِ: أنَّ خلْقَ السَّمواتِ والأرضِ تَبيَّنَ كَونُه في تَمامِ الإتقانِ والنِّظامِ، بحيث إنَّ دَلائلَ إرادةِ العدْلِ في تَصاريفِها قائمةٌ، وما أودَعه الخالِقُ في المَخلوقاتِ مِن القُوى مُناسِبٌ لِتَحصيلِ ذلك النِّظامِ الَّذي فيه صَلاحُهم، فإذا استَعْمَلوها في الإفسادِ والإساءةِ، كان مِن إتْمامِ إقامةِ النِّظامِ أنْ يُعاقَبوا على تلك الإساءةِ، والمُشاهَدُ أنَّ المُسِيءَ كثيرًا ما عكَفَ على إساءتِه حتَّى المَماتِ، فلو لم يكُنِ الجَزاءُ بعْدَ الموتِ، حصَلَ اخْتِلالٌ في نِظامِ خلْقِ المَخلوقاتِ، وخلْقِ القُوى الصَّادرِ عنها الإحسانُ والإساءةُ، وهذا المعنى تَكرَّرَ في آياتٍ كَثيرةٍ، وكُلَّما ذُكِرَ شَيءٌ منه أُتْبِعَ بذِكْرِ الجَزاءِ). ((تفسير ابن عاشور)) (25/356). .
- والحقُّ: اسمٌ جامعٌ لِما شأْنُه أنْ يُحَقَّ ويُثْبَتَ، ومِن شأْنِ الحِكمةِ والحكيمِ أنْ يُقِيمَه، ولذلك أُشِيرَ بقَولِه: وَخَلَقَ اللَّهُ؛ فإنَّ اسمَ الجَلالةِ جامعٌ لِصِفاتِ الكَمالِ، وتَصرُّفاتِ الحِكمةِ [286] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/356). .
- وعُطِفَ قولُه: وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ على بِالْحَقِّ؛ لأنَّ المعطوفَ عليه المَجرورَ بالباءِ فيه مَعنى التَّعليلِ، وهذا تَفصيلٌ بعْدَ إجمالٍ؛ فإنَّ الجَزاءَ على الفِعلِ بما يُناسِبُه هو مِن الحقِّ، ولأنَّ تَعليلَ الخلْقِ بعِلَّةِ الجزاءِ مِن تَفصيلِ معنى الحقِّ، وآثارِ كَونِ الحقِّ سَببًا لِخَلْقِ السَّمواتِ والأرضِ، أو مُلابِسًا لِأحوالِ خلْقِهما؛ فظَهَرَت المُناسَبةُ بيْنَ الباءِ في المعطوفِ عليه واللَّامِ في المعطوفِ. أو هو مَعطوفٌ على مُعلَّلٍ مَحذوفٍ، تَقديرُه: لِيَدُلَّ بها على قُدْرتِه، ولِتُجْزَى كلُّ نفْسٍ [287] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/290)، ((تفسير البيضاوي)) (5/107)، ((تفسير أبي حيان)) (9/421، 422)، ((تفسير أبي السعود)) (8/72، 73)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/356). .
- والباءُ في بِمَا كَسَبَتْ للتَّعويضِ، وما كسَبَتْه النَّفْسُ لا تُجْزى به، بلْ تُجازى بمِثْلِه وما يُناسِبُه؛ فالكلامُ على حَذْفِ مُضافٍ، أي: بمِثلِ ما كسَبَتْه، وهذه المُماثَلةُ مُماثَلةٌ في النَّوعِ، وأمَّا تَقديرُ تلك المُماثَلةِ فذلك مَوكولٌ إلى اللهِ تَعالى، ومُراعًى فيه عَظَمةُ عالَمِ الجزاءِ في الخَيرِ والشَّرِّ، ومِقدارُ تَمرُّدِ المُسيءِ وامْتثالِ المُحسِنِ، بخِلافِ الحُدودِ والزَّواجِرِ؛ فإنَّها مُقدَّرةٌ بما يُناسِبُ عالَمَ الدُّنيا مِن الضَّعفِ؛ ولهذا أعقَبَه بقولِه: وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ؛ فضَميرُ وَهُمْ عائدٌ إلى كلِّ نفْسٍ؛ فإنَّ ذلك الجَزاءَ ممَّا اقْتَضاهُ العدْلُ الَّذي جُعِلَ سَببًا أو مُلابِسًا لِخلْقِ السَّمواتِ والأرضِ وما فيهما، فهو عدْلٌ، فليس مِن الظُّلمِ في شَيءٍ؛ فالمُجازى غيرُ مَظلومٍ، وبالجزاءِ أيضًا يَنْتفي أثَرُ ظُلْمِ الظَّالمِ عن المَظلومِ؛ إذْ لو تُرِكَ الجَزاءُ لَاستمَرَّ المَظلومُ مَظلومًا [288] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/356، 357). .
3- قولُه تعالَى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ
- قوله: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ لَمَّا كان الَّذين حَسِبوا أنْ يَكونوا في الآخِرةِ في نِعمةٍ وعِزَّةٍ كما كانوا في الدُّنيا، قالوا ذلك عن غَيرِ دَليلٍ ولا نَظَرٍ، ولكنْ عن اتِّباعِ ما يَشْتَهونَ لِأنفُسِهم مِن دَوامِ الحالِ الحَسَنِ؛ تَفرَّعَ على حِسبانِهم التَّعْجيبُ مِن حالِهم؛ فعُطِفَ بالفاءِ الاستِفهامُ المُستعمَلُ في التَّعجيبِ، وجُعِلَ استِفهامًا عن رُؤيةِ حالِهم؛ للإشارةِ إلى بُلوغِ حالِهم مِن الظُّهورِ إلى حدِّ أنْ تَكونَ مَرْئيَّةً [289] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/357). .
وقيل: الهمزةُ للاستِفهامِ المَقصودِ به الأمْرُ، أي: أخْبِرْني، وهو للتَّعجيبِ مِن حالِ مَنْ تَرَكَ مُتابَعةَ الهُدى إلى مُطاوَعةِ الهوَى، فكأنَّه عَبَدَه، والمعنى -على قَولٍ في التَّفسيرِ-: أضلَّه اللهُ وهو عالِمٌ بالحقِّ؛ لأنَّ المُبالَغةَ فيه أشدُّ، والتَّشنيعَ والتَّنديدَ به أكثَرُ [290] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/73)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/154). .
- وقولُه: اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ يجوزُ أنْ يكونَ أُطلِقَ على ما يُلازِمُ طاعتَه حتَّى كأنَّه مَعبودٌ؛ فيَكونَ هذا الإطلاقُ بطَريقةِ التَّشبيهِ البليغِ، أي: اتَّخَذَ هواهُ كإلهٍ له لا يُخالِفُ له أمْرًا. ويَجوزُ أنْ يَبْقى إِلَهَهُ على الحَقيقةِ، ويَكونَ هَوَاهُ بمَعنى مَهْوِيِّه، أي: عبَدَ إلَهًا؛ لأنَّه يُحِبُّ أنْ يَعبُدَه، يعني الَّذين اتَّخَذوا الأصنامَ آلهةً لا يُقلِعون عن عِبادتِها؛ لأنَّهم أحَبُّوها [291] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/358). .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال تعالَى هنا: وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً، وقال في سُورةِ (البَقرةِ): خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ [البقرة: 7] ؛ فهنا قدَّمَ ذِكرَ السَّمْعِ على القَلْبِ، وفي سُورةِ (البقرةِ) قَدَّمَ القلْبَ على السَّمعِ؛ ووَجْهُ ذلك: أنَّ المُخبَرَ عنهم هنا لَمَّا أخبَرَ عنهم بأنَّهم اتَّخَذوا إلَهَهم هَواهم، فقدْ تَقرَّرَ أنَّهم عَقَدوا قُلوبَهم على الهَوى؛ فكان ذلك العَقدُ صارِفًا السَّمْعَ عن تَلقِّي الآياتِ؛ فقُدِّمَ لإفادةِ أنَّهم كالمَخْتومِ على سَمْعِهم، ثمَّ عُطِفَ عليه وَقَلْبِهِ تَكميلًا وتَذْكيرًا بذلك العَقْدِ الصَّارفِ للسَّمْعِ، ثمَّ ذَكَرَ ما على بَصَرِه مِن شِبْهِ الغِشاوةِ؛ لأنَّ ما عَقَدَ عليه قَلْبَه صَرَفه عن النَّظرِ في أدلَّةِ الكائناتِ. وأمَّا آيةُ سُورةِ (البقرةِ)؛ فإنَّ المُتحدَّثَ عنْهم همْ هؤلاء أنفُسُهم، ولكنَّ الحديثَ عنهم ابتُدِئَ بتَساوي الإنذارِ وعَدَمِه في جانِبِهم بقَولِه: سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [البقرة: 6] ؛ فلمَّا أُرِيدَ تَفصيلُه قُدِّمَ الخَتْمُ على قُلوبِهم؛ لأنَّه الأصْلُ، كما كان اتِّخاذُ الهَوى كالإلهِ أصْلًا في وَصْفِ حالِهم في آيةِ سُورةِ (الجاثيةِ)، فحالةُ القُلوبِ هي الأصْلُ في الانْصِرافِ عن التَّلقِّي والنَّظرِ في الآيتَينِ، ولكنَّ نَظْمَ هذه الآيةِ كان على حسَبِ ما يَقْتضيهِ الذِّكرُ مِن التَّرتيبِ، ونَظْمَ آيةِ (البقرةِ) كان على حَسَبِ ما يَقْتضيهِ الطَّبْعُ [292] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/360). . وقيل غيرُ ذلك [293] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/678). .
- والاستِفهامُ في قولِه: فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ استِفهامٌ إنكاريٌّ أنْ يكونَ غيرُ اللهِ يَسْتطيعُ أنْ يَهْديَهم، والمُرادُ به تَسليةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لِشِدَّةِ أسَفِه لِإعْراضِهم وبَقائِهم في الضَّلالةِ [294] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/359). .
- وقولُه: أَفَلَا تَذَكَّرُونَ مُفرَّعٌ على الاستِفهامِ الَّذي قبْلَه، وهو هنا استِفهامٌ عن عَدَمِ تَذكُّرِ المُخاطَبينَ لهذه الحقيقةِ، أي: كيف نَسُوها حتَّى ألَحُّوا في الطَّمَعِ بهِدايةِ أولئك الضَّالِّينَ، وأَسِفوا لِعَدمِ جَدْوى الحُجَّةِ لَدَيهم؟! وهو اسْتِفهامٌ إنكاريٌّ [295] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/359). .