موسوعة التفسير

سورةُ القَلَمِ
الآيات (34-41)

ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ

غريب الكلمات:

زَعِيمٌ: أي: كَفيلٌ وضَمينٌ، وأصْلُ (زعم): يدُلُّ على تكفُّلٍ بالشَّيءِ [242] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 220)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 252)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/10)، ((المفردات)) للراغب (ص: 380)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 174). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ الله تعالى مبيِّنًا حُسنَ عاقبةِ المؤمنينَ: إنَّ للمتَّقينَ عِندَ رَبِّهم جنَّاتِ النَّعيمِ الدَّائمِ الَّذي لا يَنقَضي.
ثمَّ يسألُ المشركينَ السُّؤالَ تلوَ السُّؤالِ؛ إلزامًا لهم بالحجةِ، وتقريعًا لهم على غفلتِهم: أفنُساوي بيْنَ المُسلِمينَ الَّذين خَضَعوا لله تعالى وانقادُوا لأمْرِه، والمجرِمينَ الَّذي اكتَسَبوا الذُّنوبَ؟! ما لَكم -أيُّها المُشرِكونَ- كيف تَحكُمونَ بمُساواةِ المسلمينَ والمُجرِمينَ؟
أَلكم كِتابٌ منزَّلٌ مِن عندِ اللهِ تَقرَؤونَ فيه أنَّ لكم فيه ما تختارونَه مِن أحكامٍ؟!
أمْ لكم -أيُّها المُشرِكونَ- عُهودٌ ومواثيقُ مُؤبَّدةٌ مُستَمِرَّةٌ إلى يومِ القيامةِ بأنَّ لكم حُكمَكم الَّذي تَختارونَه؟!
سَلْ -يا محمَّدُ- مُشرِكي قَومِك: مَن الضَّامِنُ المتكَفِّلُ بصِحَّةَ ذلك؟
أمْ للكُفَّارِ شُرَكاءُ لله في استِحقاقِ العبادةِ؟ فلْيَأتوا بهم إن كانوا صادِقينَ!

تفسير الآيات:

إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكر اللهُ تعالى حالَ أهلِ الجنَّةِ الدُّنيويَّةِ، وما أصابهم فيها مِن النِّقمةِ حينَ عصَوُا اللهَ عزَّ وجلَّ وخالَفوا أمْرَه؛ بيَّن أنَّ لِمَنِ اتَّقاه وأطاعه في الدَّارِ الآخرةِ جنَّاتِ النَّعيمِ الَّتي لا تَبِيدُ ولا تفرغُ ولا يَنقضي نعيمُها [243] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/198). .
وأيضًا لَمَّا فَرَغ سبحانَه مِن ذِكرِ حالِ الكفَّارِ، وتشبيهِ ابتلائِهم بابتلاءِ أصحابِ الجنَّةِ المذكورةِ؛ ذَكَر حالَ المتَّقينَ، وما أعدَّه لهم مِن الخيرِ، فقال [244] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (5/327). ويُنظر أيضًا: ((تفسير أبي حيان)) (10/245). :
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34).
أي: إنَّ الذين اتَّقَوُا اللهَ تعالى بامتِثالِ أوامِرِه واجتِنابِ نَواهيه: لهم في الآخِرةِ عِندَ رَبِّهم جنَّاتُ النَّعيمِ الدَّائمِ الَّذي لا يَبِيدُ ولا يَنقَضي، الخالي مِن كُلِّ ما يُنغِّصُه ويُكَدِّرُه [245] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/184)، ((تفسير القرطبي)) (18/246)، ((تفسير ابن كثير)) (8/198)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/317)، ((تفسير السعدي)) (ص: 880)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/91). .
أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35).
أي: أفنُساوي بيْنَ المُسلِمينَ الَّذين خَضَعوا لله تعالى، وانقادُوا لأمْرِه، واجتَنَبوا نَهْيَه، وذَلُّوا بالطَّاعةِ والعُبوديَّةِ له وَحْدَه، والمجرِمينَ الَّذي اكتَسَبوا الذُّنوبَ، ورَكِبوا المعاصيَ، وخالَفوا أمْرَ اللهِ ونَهْيَه؟! كَلَّا؛ فإنَّما يُثيبُ اللهُ المسلِمينَ، ويُعَذِّبُ المُجرِمينَ، كما تَقتَضيه حِكمتُه سُبحانَه [246] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/184)، ((منهاج السنة)) لابن تيمية (3/88، 89)، ((تفسير ابن كثير)) (8/198)، ((تفسير السعدي)) (ص: 881)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/92). .
كما قال تعالى: أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ * أَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ [السجدة: 18 - 20] .
وقال سُبحانَه: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص: 28] .
وقال عزَّ وجَلَّ: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الجاثية: 21] .
وقال تبارك وتعالى: لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ [الحشر: 20] .
مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36).
أي: أيُّ شيءٍ حصَل لكم مِن خللِ الفكرِ وفسادِ الرَّأيِ، كيف تَحكُمونَ هذا الحُكمَ الجائرَ، كأنَّ أمرَ الجزاءِ في الآخرةِ مفوَّضٌ إليكم، تَحكمونَ فيه بما شِئْتُم [247] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/592)، ((تفسير القرطبي)) (18/246)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/319)، ((تفسير الشوكاني)) (5/327)، ((تفسير الألوسي)) (15/38). قال البقاعي: (كَيْفَ تَحْكُمُونَ أي: أيُّ عَقلٍ دعاكم إلى هذا الحُكمِ الَّذي يتضَمَّنُ التَّسويةَ مِنَ السَّيِّدِ بيْنَ المحسِنِ مِن عبيدِه والمُسيءِ؟!). ((نظم الدرر)) (20/319). !
أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38).
أي: أَلكم كتابٌ منزَّلٌ مِن عندِ اللهِ تَقرَؤونَ فيه مِرارًا حتَّى تَحفَظوا أنَّ لكم فيه ما تختارونَه مِن أحكامٍ حتَّى تُساووا بيْنَ المسلمينَ والمُجرِمينَ [248] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/185)، ((تفسير السمرقندي)) (3/484)، ((الوسيط)) للواحدي (4/338)، ((تفسير القرطبي)) (18/246، 247)، ((تفسير ابن كثير)) (8/198)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/319، 320)، ((تفسير السعدي)) (ص: 881)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/93، 94). قال ابن عطية: (قوله تعالى: إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ قال بعضُ المتأوِّلينَ: هذا استئنافُ قولٍ، على معنَى: إن كان لكم كتابٌ، فلَكم فيه مُتخَيَّرٌ. وقال آخَرون: «إنَّ» معمولةٌ لـ تَدْرُسُونَ، أي: تَدرُسونَ في الكتابِ إنَّ لكم ما تَختارونَ مِن النَّعيمِ، وكُسِرت الألِفُ مِن «إِنَّ» لِدُخولِ اللَّامِ في الخبَرِ، وهي في معنَى «أَنَّ» بفتحِ الألِفِ). ((تفسير ابن عطية)) (5/351). ؟!
كما قال تعالى: أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا [فاطر: 40] .
وقال الله سُبحانَه وتعالى: أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ * فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الصافات: 156، 157].
أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39).
أي: أمْ لكم -أيُّها المُشرِكونَ- عُهودٌ ومواثيقُ مُؤكَّدةٌ قد أقسَمْنا عليها، وهي مُؤبَّدةٌ مُستَمِرَّةٌ إلى يومِ القيامةِ، بأنَّ لكم حُكمَكم الَّذي تَختارونَه [249] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/185)، ((الوسيط)) للواحدي (4/338)، ((تفسير القرطبي)) (18/247)، ((تفسير ابن كثير)) (8/198)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/320، 321)، ((تفسير السعدي)) (ص: 881)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/94، 95). قال الزمخشري: (إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ جوابُ القسَمِ؛ لأنَّ معنى أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا: أمْ أقْسَمْنا لكم). ((تفسير الزمخشري)) (4/593). وقال الشوكاني: (أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ أي: عهودٌ مؤكَّدةٌ موثَّقةٌ مُتناهيةٌ، والمعنى: أمْ لكم أيْمانٌ على الله استَوثَقْتُم بها في أنْ يُدخِلَكم الجنَّةَ، ... وجوابُ القسَمِ قولُه: إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ؛ لأنَّ معنى أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ أي: أمْ أقْسَمْنا لكم. قال الرازي: والمعنى: أمْ ضَمِنَّا لكم وأقسَمْنا لكم بأيْمانٍ مُغَلَّظةٍ مُتناهيةٍ في التَّوكيدِ. وقيل: قد تمَّ الكلامُ عندَ قولِه: إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثمَّ ابتدأ فقال: إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ، أي: ليس الأمرُ كذلك). ((تفسير الشوكاني)) (5/327). ويُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/612). ؟!
سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40).
أي: قُلْ -يا محمَّدُ- لمُشرِكي قَومِك هؤلاء: مَن الضَّامِنُ المتكَفِّلُ الملتَزِمُ بادِّعائِه صِحَّةَ ذلك [250] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/185)، ((الوسيط)) للواحدي (4/338)، ((تفسير ابن عطية)) (5/352)، ((تفسير القرطبي)) (18/247)، ((تفسير ابن كثير)) (8/198)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/321)، ((تفسير السعدي)) (ص: 881). قال السعدي: (أي: أيُّهم الكفيلُ بهذه الدَّعوى الفاسِدةِ؛ فإنَّه لا يمكِنُ التَّصَدُّرُ بها، ولا الزَّعامةُ فيها؟!). ((تفسير السعدي)) (ص: 881). ؟
أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا نَفى اللهُ تعالى أن يكونَ للمُجرِمينَ مِنه في تَسويتِهم بالمُسلِمينَ دَليلٌ عَقليٌّ أو نقليٌّ أو عَهدٌ وَثيقٌ على هذا التَّرتيبِ المحكَمِ، والمِنهاجِ الأقوَمِ؛ أتْبَعَه ما يكونُ مِن عندِ غَيرِه إن كان ثَمَّ غَيرٌ على ما ادَّعَوا [251] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/322). !
أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41).
أي: أم للكُفَّارِ شُرَكاءُ لله في استِحقاقِ العبادةِ؟ فلْيَأتوا بهم إذَن ليَجعَلوا لهم نصيبًا مِن ثوابِ اللهِ تعالى أو يَجعلوهم مِثلَ المسلمينَ في الآخرةِ، إن كانوا صادِقينَ في زَعْمِهم أنَّهم شُرَكاءُ للهِ سُبحانَه [252] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/186)، ((الوسيط)) للواحدي (4/338)، ((تفسير ابن كثير)) (8/198)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/96). وممَّن ذهب إلى أنَّ معنى الشُّرَكاءِ هنا: الشُّرَكاءُ لله تعالى في العبادةِ بحَسَبِ زَعمِ عابِدِيها: الواحديُّ، وابن كثير، والبِقاعي، وابن عاشور. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/338)، ((تفسير ابن كثير)) (8/198)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/322)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/96). وقيل: شُرَكاءُ، أي: شُهداءُ مِن غَيرِهم يَشهَدونَ لهم بما يَدَّعونَ. وممَّن ذهب إلى هذا القولِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والسمرقنديُّ، والقرطبي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/408)، ((تفسير السمرقندي)) (3/484)، ((تفسير القرطبي)) (18/248). وقيل: المرادُ: ناسٌ يُشارِكونَهم في هذا القَولِ، ويوافِقونَهم عليه، ويَذهَبونَ مَذهَبَهم فيه. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: الزمخشري، والبيضاوي، والنسفي، وأبو السعود، والشوكاني، والألوسي. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/593)، ((تفسير البيضاوي)) (5/236)، ((تفسير النسفي)) (3/524)، ((تفسير أبي السعود)) (9/18)، ((تفسير الشوكاني)) (5/327)، ((تفسير الألوسي)) (15/39). !

الفوائد التربوية:

في قَولِه تعالى: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أنَّ مِن السَّفَهِ ومِن الخَطَأِ في الحُكْمِ أنْ نَجعَلَ المسلِمَ كالمجرمِ، أوِ الفاسِقَ كالمؤمِنِ [253] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة السجدة)) (ص: 92). ! فاللهُ تعالى يُخبِرُ أنَّ حِكمتَه لا تَقتَضي أن يَجعَلَ المُسلِمينَ القانِتينَ لرَبِّهم، المُنقادِينَ لأوامِرِه، المتَّبِعينَ لمَراضِيه؛ كالمجرِمينَ الَّذين أسرَعوا في مَعاصيه، والكُفرِ بآياتِه، ومُعانَدةِ رُسُلِه، ومُحارَبةِ أوليائِه، وأنَّ مَن ظَنَّ أنَّه يُسَوِّيهم في الثَّوابِ فإنَّه قد أساء الحُكمَ، وأنَّ حُكمَه حُكمٌ باطِلٌ، ورأيَه فاسِدٌ [254] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 880). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ أضاف جَنَّاتِ إلى النَّعِيمِ؛ لأنَّ النَّعيمَ لا يُفارِقُها، إذ ليس فيها إلَّا هو، فلا يَشوبُه كَدَرٌ كما يَشوبُ جَنَّاتِ الدُّنيا [255] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/245). .
2- في قَولِه تعالى: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ بيانُ أنَّه لا يَجوزُ لأحدٍ أنْ يُعارِضَ كِتابَ اللهِ بغيرِ كِتابٍ، فمَن عارَضَ كتابَ اللهِ، وجادَلَ فيه بما يُسمِّيه مَعقولاتٍ وبَراهينَ وأقْيِسةً، أو ما يُسمِّيه مُكاشَفاتٍ [256] الكشفُ عندَ الصوفيَّةِ: هو الاطِّلاعُ على ما وراءَ الحِجابِ مِن المعاني الغَيبيَّةِ، والأمورِ الحقيقيَّةِ وُجودًا وشُهودًا. يُنظر: ((التعريفات)) للجرجاني (ص: 184)، ((التوقيف على مهمات التعاريف)) للمُناوي (ص: 282)، ((جامع العلوم في اصطلاحات الفنون)) للتهانوي (3/89). ومَواجيدَ [257] الوجْدُ عندَ الصوفيَّةِ: ما يُصادِفُ القلبَ ويَرِدُ عليه بلا تكلُّفٍ وتصَنُّعٍ. يُنظر: ((التعريفات)) للجرجاني (ص: 250)، ((التوقيف)) للمُناوي (ص: 334)، ((جامع العلوم)) للتهانوي (3/310). وأذواقًا [258] الذَّوقُ عندَ الصُّوفيَّةِ: عبارةٌ عن نورٍ عرفانيٍّ يَقذِفُه الحقُّ بتجلِّيه في قلوبِ أوليائِه، يُفرِّقونَ به بيْن الحقِّ والباطلِ، مِن غيرِ أن يَنقُلوا ذلك مِن كتابٍ ولا غيرِه. يُنظر: ((التعريفات)) للجرجاني (ص: 107)، ((التوقيف)) للمناوي (ص: 172). ، مِن غيرِ أنْ يأتيَ على ما يقولُه بكتابٍ مُنَزَّلٍ- فقد جادَلَ في آياتِ اللهِ بغَيرِ سُلطانٍ. هذه حالُ الكُفَّارِ الَّذين قال اللهُ فيهم: مَا يُجَادِلُ فِي آَيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا [غافر: 4] ، فهذه حالُ مَن يُجادِلُ في آياتِ اللهِ مُطلقًا [259] يُنظر: ((الاستقامة)) لابن تيمية (1/22). .
3- يُبَيِّنُ الله تعالى الحَقائقَ بالمَقاييسِ العَقليَّةِ والأمثالِ المَضروبةِ، ويُبَيِّنُ طُرُقَ التَّسويةِ بيْن المتماثِلَينِ، والفَرْقِ بيْن المختلِفَينِ، ويُنكِرُ على مَن يَخرُجُ عن ذلك؛ كما في قولِه تعالى: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ، أي: هذا حُكمٌ جائرٌ لا عادلٌ؛ فإنَّ فيه تسويةً بيْنَ المختلِفَينِ. ففيه التَّنبيهُ أنَّ الميزانَ العَقليَّ حقٌّ كما ذَكَر اللهُ تعالى في كتابِه، وليس هو مختصًّا بمنطقِ اليُونانِ، بل هي الأقيِسةُ الصَّحيحةُ المتضَمِّنةُ للتَّسويةِ بيْن المتماثلَينِ، والفَرقِ بيْن المختلِفَينِ، سواءٌ صِيغَ ذلك بصيغةِ قياسِ الشُّمولِ، أو بصيغةِ قياسِ التَّمثيلِ [260] قياسُ التَّمثيلِ: هو: حَملُ جُزئيٍّ على جُزئيٍّ آخَرَ في حُكمِه؛ لاشتِراكِهما في عِلَّةِ الحُكمِ؛ لأنَّ ذلك الحُكمَ يلزمُ المُشتَرَكَ الكُلِّيَّ، مثلُ: النَّبيذُ حرامٌ؛ قياسًا على الخَمرِ، بجامِعِ الإسكارِ في كلٍّ منهما. وقياسُ التَّمثيلِ: هو القياسُ الأُصوليُّ (إلحاقُ فَرعٍ بأصلٍ في حُكمٍ؛ لِعِلَّةٍ جامعةٍ بيْنَهما). يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (9/120)، ((آداب البحث والمناظرة)) للشنقيطي (2/291، 292). ، وصِيَغُ التَّمثيلِ هي الأصلُ، وهي أكمَلُ، والميزانُ هو القَدْرُ المُشتَرَكُ، وهو الجامِعُ [261] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (9/243). .
4- قَولُ اللهِ تعالى: سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ أصلٌ في مَشروعيَّةِ الضَّمانِ [262] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 272). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ استِئنافٌ بَيانيٌّ؛ لأنَّ مِن شأْنِ ما ذُكِرَ مِن عذابِ الآخِرةِ للمُجرمينَ أنْ يَنشَأَ عنه سُؤالٌ في نفْسِ السَّامعِ يقولُ: فما جَزاءُ المتَّقينَ؟ وهو كَلامٌ مُعترِضٌ بيْنَ أجزاءِ الوَعيدِ والتَّهديدِ، وبيْن قولِه: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ [القلم: 16] ، وقولِه: كَذَلِكَ الْعَذَابُ [القلم: 33] ، وقد أشعَرَ بتَوقُّعِ هذا السُّؤالِ قولُه بعْدَه: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ [القلم: 35] [263] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/90). ؛ فالجُملةُ مُستأنَفةٌ مَسوقةٌ لبَيانِ ما أعدَّ اللهُ للمتَّقينَ يومَ القيامةِ، وللرَّدِّ على صَناديدِ قُريشٍ الَّذين كانوا يَقولون: إنْ صحَّ أنَّا نُبعَثُ لم تكُنْ حالُنا وحالُ المؤمنينَ إلَّا مِثلَ ما هي في الدُّنيا [264] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/179). .
- وتَقديمُ المُسنَدِ لِلْمُتَّقِينَ على المُسنَدِ إليه جَنَّاتِ النَّعِيمِ للاهتِمامِ بشأْنِ المُتَّقينَ؛ ليَسبِقَ ذِكرُ صِفتِهم العَظيمةِ ذِكرَ جَزائِها، واللَّامُ للاستحقاقِ، و(عِندَ) ظرْفٌ مُتعلِّقٌ بمعْنى الكَونِ الَّذي يَقْتضيهِ حرْفُ الجرِّ، ولذلك قُدِّمَ مُتعلَّقُه معه على المُسنَدِ إليه؛ مِن أجْلِ ذلك الاهتمامِ، وقد حصَلَ مِن تَقديمِ المسنَدِ بما معه طُولٌ يُثيرُ تَشويقَ السَّامعِ إلى المُسنَدِ إليه [265] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/90). .
- وإضافةُ جنَّاتٍ إلى النَّعيمِ تُفيدُ أنَّها عُرِفَت به، فيُشارُ بذلك إلى مُلازَمةِ النَّعيمِ لها؛ لأنَّ أصلَ الإضافةِ أنَّها بتَقديرِ لامِ الاستِحقاقِ، فـ جَنَّاتِ النَّعِيمِ مُفيدٌ أنَّها استَحقَّها النَّعيمُ؛ لأنَّها ليس في أحوالِها إلَّا حالُ نَعيمِ أهلِها، وأنَّ النَّعيمَ لا يُفارِقُها، فلا يكونُ فيها ما يكونُ في جنَّاتِ الدُّنيا مِن المتاعِبِ، مِثل الحرِّ في بَعضِ الأوقاتِ، أو شِدَّةِ البرْدِ، أو مِثل الحشراتِ والزَّنانيرِ، أو ما يُؤذي، مِثلُ شَوكِ الأزهارِ والأشجارِ، ورَوَثِ الدَّوابِّ، وذَرْقِ الطَّيرِ [266] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/592)، ((تفسير البيضاوي)) (5/236)، ((تفسير أبي حيان)) (10/245)، ((تفسير أبي السعود)) (9/17)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/91). .
فأفاد التَّركيبُ اختصاصَ الجنَّاتِ بالتَّنعُّمِ الخالصِ؛ إذ ليس فيها إلَّا هو، فلا يَشوبُه كَدَرٌ كما يشوبُ جنَّاتِ الدُّنيا، وجاء هذا التَّخصيصُ مِن جانبِ المقامِ التَّعريضيِّ؛ مِن تَقديمِ الخبَرِ -لِلْمُتَّقِينَ- على المبتدَأِ، ومَجيءِ الآيةِ بعْدَ ذِكرِ أصحابِ الجنَّةِ وأحوالِ قُريشٍ، وإردافِه بقولِه: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ [267] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/591). .
2- قولُه تعالَى: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ فاءُ التَّفريعِ في أَفَنَجْعَلُ تَقْتضي أنَّ هذا الكلامَ مُتفرِّعٌ على ما قبْلَه مِن استحقاقِ المتَّقينَ جنَّاتِ النَّعيمِ، ومُقابَلتِه بتَهديدِ المشركينَ بعَذابِ الدُّنيا والآخرةِ، ولكنَّ ذلك غيرُ مُصرَّحٍ فيه بما يُناسِبُ أنْ يَتفرَّعَ عليه هذا الإنكارُ والتَّوبيخُ، فتَعيَّنَ تَقديرُ إنكارٍ مِن المُعرَّضِ بهم؛ ليَتوجَّهَ إليهم هذا الاستفهامُ المُفرَّعُ [268] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/91). .
وقيل: جُملةُ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَعطوفةٌ على مُقدَّرٍ يَقْتضيهِ السِّياقُ، أي: أنَحِيفُ في الحكْمِ فنَجعَلُ المسلمين كالكافرينَ [269] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/592)، ((تفسير أبي السعود)) (9/17)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/179). ؟! وهي تَقريرٌ لِما قبْلَه مِن فَوزِ المُتَّقينَ بجنَّاتِ النَّعيمِ، ورَدٌّ لِما يَقولُه الكَفَرةُ عندَ سَماعِهم بحديثِ الآخرةِ وما وَعَدَ اللهُ المسلمينَ فيهَا؛ فإنَّهم كانُوا يقولونَ: إنْ صحَّ أنَّا نُبعَثُ كما يَزعُمُ محمَّدٌ ومَنْ معَه، لم يكُنْ حالُنَا وحالُهُم إلَّا مِثلَ ما هيَ في الدُّنيا، وإلَّا لم يَزِيدُوا علينَا ولم يَفضُلونَا، وأقْصى أمْرِهِم أنْ يُساوونَا [270] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/592)، ((تفسير البيضاوي)) (5/236)، ((تفسير أبي حيان)) (10/245)، ((تفسير أبي السعود)) (9/17). .
- وقولُه: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ قيل: هو كَلامٌ مُوجَّهٌ إلى المشرِكين، وهم المقصودُ بالمُجرِمين، عُبِّرَ عنهم بطَريقِ الإظهارِ دونَ ضَميرِ الخِطابِ؛ لِما في وصْفِ المجرمينَ مِن المُقابَلةِ؛ ليَكونَ في الوصفَينِ إيماءٌ إلى سَببِ نفْيِ المُماثَلةِ بيْنَ الفريقينِ، فلذلك لم يكُنْ ضَميرُ الخِطابِ في قولِه: مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ الْتفاتًا عن ضَمائرِ الغَيبةِ مِن قولِه: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [القلم: 9] ، وقولِه: إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ [271] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/92). [القلم: 17] .
- والهمزةُ في أَفَنَجْعَلُ للاستِفهامِ الإنكاريِّ التَّقريعيِّ؛ فُرِّعَ إنكارُ التَّساوي بيْنَ المسلِمينَ والكافرينَ على ما سَبَق مِن اختلافِ جَزاءِ الفَريقينِ؛ فالإنكارُ مُتسلِّطٌ على ما دارَ بيْنَ المشرِكينَ مِن القولِ عندَ نُزولِ الآيةِ السَّابقةِ، أو عندَ نُزولِ ما سَبَقَها مِن آيِ القُرآنِ الَّتي قابَلَت بيْن جَزاءِ المؤمنينَ وجَزاءِ المشرِكين، كما يَقتضيهِ صَريحًا قولُه: مَا لَكُمْ، إلى قولِه: إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ [القلم: 39] ، والاستِفهامُ وما بعْدَه مِن التَّوبيخِ، والتَّخطئةِ، والتَّهكُّمِ على إدْلالِهم الكاذبِ؛ مُؤذِنٌ بأنَّ ما أُنكِرَ عليهم ووُبِّخوا عليه وسُفِّهوا على اعتقادِه، كان حَديثًا قدْ جَرى في نَوادِيهم، أو استَسْخَروا به على المسلِمينَ في مَعرضِ جُحودِ أنْ يكونَ بَعثٌ، وفرْضِهم أنَّه على تَقديرِ وُقوعِ البعثِ والجزاءِ لا يكونُ للمُسلِمينَ مَزيةٌ وفضْلٌ عندَ وُقوعِه [272] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/236)، ((تفسير أبي حيان)) (10/245)، ((تفسير أبي السعود)) (9/17)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/91)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/181). .
- وإنكارُ جَعْلِ الفَريقينِ مُتشابهَينِ كِنايةٌ عن إعطاءِ المسلمينَ جَزاءَ الخَيرِ في الآخرةِ، وحِرمانِ المشرِكين منه؛ لأنَّ نفْيَ التَّساوي واردٌ في معْنى التَّضادِّ في الخيرِ والشَّرِّ في القرآنِ وكَلامِ العرَبِ، وإذا انْتَفَى أنْ يكونَ للمشركينَ حظٌّ في جَزاءِ الخَيرِ انْتَفى ما قالُوه مِن أنَّهم أفضَلُ حظًّا في الآخرةِ مِن المسلمينَ كما هو حالُهم في الدُّنيا، بطَريقِ فَحوى الخِطابِ [273] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/92). فحْوَى الخطابِ: ويُسمَّى تنبيهَ الخطابِ، ومفهومَ الموافقةِ، وهو إثباتُ حكمِ المنطوقِ به للمَسكوتِ عنه بطريقِ الأَولى، كقولِه تعالى: فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [الإسراء: 23] ، فيه تنبيهٌ على النَّهيِ عن ضربِهما وسَبِّهما؛ لأنَّ الضَّربَ والسَّبَّ أعظمُ مِن التَّأْفيفِ، وكذلك قولُه تعالَى: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ [آل عمران: 75] ، فيه تنبيهٌ على أنَّه يُؤدِّي ما كانَ دونَ القنطارِ، ففي هذه الآيةِ نَبَّه بالأعلَى على الأدنَى، وفي الآيةِ الأولى نَبَّه بالأدنَى على الأعلَى. يُنظر: ((الفقيه والمتفقه)) للخطيب البغدادي (1/233)، ((تقريب الوصول إلي علم الأصول)) لابن جُزَي (ص: 163). .
3- قولُه تعالَى: مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ
- قولُه: مَا لَكُمْ استِفهامٌ إنكاريٌّ لحالةِ حُكْمِهم، وكَيْفَ تَحْكُمُونَ استِفهامٌ إنكاريٌّ ثانٍ في مَوضعِ الحالِ مِن ضَميرِ لَكُمْ، أي: انْتَفى أنْ يكونَ لكم شَيءٌ في حالِ حُكْمِكم، أي: فإنْ ثَبَتَ لهم كان مُنكَرًا باعتبارِ حالةِ حُكْمِهم، والمعْنى: لا تَحكُمون أنَّكم مُساوُونَ للمسلمينَ في جَزاءِ الآخرةِ، أو مُفضَّلون عليهم [274] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/592)، ((تفسير البيضاوي)) (5/236)، ((تفسير أبي حيان)) (10/245)، ((تفسير أبي السعود)) (9/17)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/92). .
- قيل: الالْتفاتُ مِن الغائبِ كَالْمُجْرِمِينَ إلى الخِطابِ في قولِه: مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ فيه تَعجُّبٌ مِن حُكْمِهم، واستبعادٌ له، وإشعارٌ بأنَّه صادرٌ مِن اختلالِ فِكرٍ، واعوجاجِ رأْيٍ [275] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/592)، ((تفسير البيضاوي)) (5/236)، ((تفسير أبي حيان)) (10/245)، ((تفسير أبي السعود)) (9/17). .
4- قولُه تعالى: أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ إضرابُ انتقالٍ مِن تَوبيخٍ إلى احتجاجٍ على كَذِبِهم، والاستفهامُ المُقدَّرُ مع (أَمْ) إنكارٌ لأنْ يكونَ لهم كتابٌ إنكارًا مَبنيًّا على الفرْضِ، وإنْ كانوا لم يَدَّعوه، وحاصلُ هذا الانتقالِ والانتقالاتِ الثَّلاثةِ بعْدَه -وهي أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا ... [القلم: 39] إلخ، سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ [القلم: 40] ، أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ ... [القلم: 41] إلخ- أنَّ حُكْمَكم هذا لا يَخلو مِن أنْ يكونَ سَنَدُه كتابًا سَماويًّا نزَلَ مِن لَدُنَّا، وإمَّا أنْ يكونَ سَنَدُه عهْدًا منَّا بأنَّا نُعطِيكم ما تَقترِحون، وإمَّا أنْ يكونَ لكمْ كَفيلٌ علينا، وإمَّا أنْ يكونَ تَعويلًا على نصْرِ شُركائِكم [276] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/245)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/93)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/179، 180). .
- وضَميرُ فِيهِ عائدٌ إلى الحُكْمِ المُفادِ مِن قولِه: كَيْفَ تَحْكُمُونَ [القلم: 36] ، أي: كِتابٌ في الحكْمِ. و(في) للتَّعليلِ أو الظَّرفيةِ، كما تقولُ: وَرَدَ كتابٌ في الأمْرِ بكذا، أو في النَّهيِ عن كذا، فيَكونُ فِيهِ ظَرفًا مُستقَرًّا [277] الظَّرْفُ المُستقَرُّ -بفتحِ القافِ-: سُمِّيَ بذلك؛ لاستِقرارِ الضَّميرِ فيه بَعْدَ حذْفِ عامِلِه، وهو الفِعلُ (استقرَّ)، ولأنَّه حينَ يصيرُ خبرًا مثلًا يَنتقِلُ إليه الضَّميرُ مِن عامِلِه المحذوفِ ويَستقِرُّ فيه؛ وبسببِ هذَينِ الأمْرَينِ استحقَّ عاملُه الحذفَ وُجوبًا. فإذا أُلغِيَ الضَّميرُ فيه سُمِّي ظرفًا لَغوًا؛ لأنَّه فَضلةٌ لا يُهتَمُّ به، وسُمِّيَ أيضًا «اللَّغوُ» لغوًا؛ لأنَّ وُجودَه ضئيلٌ. فقولك: كان في الدَّارِ زَيدٌ، أي: كان مُستقِرًّا في الدَّارِ زيدٌ؛ فالظَّرفُ مُستقَرٌّ فيه، ثمَّ حُذِف الجارُّ، كما يُقالُ: المحصولُ للمَحصولِ عليه، ولم يُستحسَنْ تقديمُ الظَّرفِ اللَّغوِ، وهو ما ناصِبُه ظاهِرٌ؛ لأنَّه -إذَنْ- فَضلةٌ؛ فلا يُهتمُّ به، نحو: كان زيدٌ جالسًا عندَك. يُنظر: ((شرح الرضي على الكافية)) (4/210)، ((موصل الطلاب إلى قواعد الإعراب)) لخالد الأزهري (ص: 82)، ((النحو الوافي)) لعباس حسن (2/446، 447). صِفةً لـ كِتَابٌ. ويجوزُ أنْ يكونَ الضَّميرُ عائدًا إلى كِتَابٌ، ويَتعلَّقُ المجرورُ بفِعلِ تَدْرُسُونَ؛ جُعِلَت الدِّراسةُ العميقةُ بمَزيدِ التَّبصُّرِ في ما يَتضمَّنُه الكتابُ بمَنزلةِ الشَّيءِ المظروفِ في الكتابِ، كما تقولُ: لنا درْسٌ في كِتابِ سِيبويْهِ. وفي هذا إدماجٌ بالتَّعريضِ بأنَّهم أُمِّيُّونَ لَيسوا أهلَ كتابٍ، وأنَّهم لَمَّا جاءهم كتابٌ لهَدْيِهم وإلْحاقِهم بالأُمَمِ ذاتِ الكتابِ، كَفَروا نِعمتَه وكذَّبوه [278] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/93). .
5- قولُه تعالَى: إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ في مَوضعِ مَفعولِ تَدْرُسُونَ، على أنَّها مَحكيٌّ لَفْظُها، أي: تَدرُسونَ هذه العبارةَ، أي: تَدرُسون جُملةَ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ، ويكونُ فِيهِ تَوكيدًا لفظيًّا لنَظيرِها مِن قولِه: فِيهِ تَدْرُسُونَ، قُصِدَ مِن إعادتِها مَزيدُ ربْطِ الجُملةِ بالَّتي قبْلَها [279] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/93، 94). .
- وتَخَيَّرُونَ أصْلُه تَتخيَّرون بتاءينِ، حُذِفَت إحداهما تَخفيفًا [280] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/94). .
6- قولُه تعالَى: أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ
- قولُه: أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ (أم) للانتقالِ إلى دَليلٍ آخَرَ، وهو نفْيُ أنْ يكونَ مُستنَدُ زَعْمِهم عهْدًا أخَذوه على اللهِ لأنفُسِهم؛ أنْ يُعامِلَهم يومَ القيامةِ بما يَحكُمونَ به لأنفُسِهم، فالاستفهامُ اللَّازمُ تَقديرُه بعْدَ (أَمْ) إنكاريٌّ تَقريعيٌّ [281] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/94)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/180). .
- وقولُه: عَلَيْنَا صِفةٌ ثانيةٌ لـ أَيْمَانٌ، أي: أقَسَمْناها لكم لإثباتِ حقِّكم علينا؟ وإِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ صِفةٌ ثالثةٌ لـ أَيْمَانٌ، أي: أيْمانٌ مُؤبَّدةٌ لا تَحِلَّةَ منها؛ فحَصَل مِن الوصفينِ أنَّها عُهودٌ مُؤكَّدةٌ ومُستمرَّةٌ طولَ الدَّهرِ، فليس يومُ القيامةِ مُنْتهى الأخْذِ بتلك الأيْمانِ، بلْ هو تَنصيصٌ على التَّأبيدِ [282] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/94). .
7- قولُه تعالى: سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ استئنافٌ بَيانيٌّ عن جُملةِ أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ [القلم: 39] ؛ لأنَّ الأيْمانَ -وهي العهودُ- تَقْتضي الكُفلاءَ عادةً، فلمَّا ذُكِرَ إنكارُ أنْ يكونَ لهم عُهودٌ، كُمِّلَ ذلك بأنْ يُطلَبَ منهم أنْ يُعَيِّنوا مَن هم الزُّعماءُ بتلك الأيْمانِ [283] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/95). .
- وفي سَلْهُمْ تَلوينٌ للخِطابِ، وتَوجيهٌ لهُ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بإسقاطِهم عن رُتبةِ الخِطابِ [284] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/18). .
- قولُه: أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ الاستِفهامُ مُستعمَلٌ في التَّهكُّمِ؛ زِيادةً على الإنكارِ عليهم، والزَّعيمُ: الكفيلُ، وقد جُعِلَ الزَّعيمُ أحدًا منهم زِيادةً في التَّهكُّمِ [285] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/95). .
8- قولُه تعالَى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ
- (أم) إضرابٌ انتقاليٌّ ثالثٌ إلى إبطالِ مُستنَدٍ آخَرَ مَفروضٍ لهم في سَنَدِ قولِهم: إنَّا نُعطى مِثلَ ما يُعطى المسلِمونَ، أو خيرًا ممَّا يُعطَونه، وهو أنْ يُفرَضَ أنَّ أصنامَهم تَنصُرُهم، وتَجعَلُ لهم حظًّا مِن جَزاءِ الخَيرِ في الآخرةِ، والمعْنى: بلْ أثبَتَتْ لهم -أي: مِن أجْلِهم ونفْعِهم- شُركاءُ، أي: شُركاءُ لنا في الإلهيَّةِ في زَعْمِهم! فحُذِفَ مُتعلَّقُ شُرَكَاءُ لشُهرتِه عِندهم، فصار شُرَكَاءُ بمَنزلةِ اللَّقَبِ، أي: أمْ آلِهَتُهم لهم؟! فلْيَأتوا بهم ليَنفَعوهم يومَ القيامةِ، واللَّامُ في لَهُمْ لامُ الأجْلِ، أي: لأجْلِهم بتَقديرِ مُضافٍ، أي: لأجْلِ نَصْرِهم [286] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/96). .
- وتَنكيرُ شُرَكَاءُ في حيِّزِ الاستِفهامِ المُستعمَلِ في الإنكارِ يُفيدُ انتفاءَ أنْ يكونَ أحدٌ مِن الشُّركاءِ -أي: الأصنامِ- لهم، أي: لنَفْعِهم، فيَعُمُّ أصنامَ جَميعِ قَبائلِ العرَبِ: المُشترَكَ في عِبادتِها بيْن القبائلِ، والمَخصوصةَ ببَعضِ القبائلِ [287] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/96). .
- وقد نُقِلَ أُسلوبُ الكلامِ مِن الخِطابِ إلى الغَيبةِ؛ لمُناسَبةِ وُقوعِه بعْدَ: سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ [القلم: 40] ؛ لأنَّ أخصَّ النَّاسِ بمَعرفةِ أحقِّيَّةِ هذا الإبطالِ هو النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وذلك يَستتبِعُ تَوجيهَ هذا الإبطالِ إليهم بطَريقةِ التَّعريضِ [288] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/96). .
- والتَّفريعُ في قولِه: فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ تَفريعٌ على نفْيِ أنْ تَنفَعَهم آلهتُهم؛ فتَعيَّنَ أنَّ أمْرَ فَلْيَأْتُوا أمْرُ تَعجيزٍ [289] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/96). .
- وإضافةُ (شُركاء) إلى ضَميرِهم لإبطالِ صِفةِ الشَّرِكةِ في الإلهيَّةِ عنهم، أي: لَيسوا شُركاءَ في الإلهيَّةِ إلَّا عندَ هؤلاء؛ فإنَّ الإلهيَّةَ الحقَّ لا تكونُ نِسبيَّةً بالنِّسبةِ إلى فَريقٍ أو قَبيلةٍ [290] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/96). .
- قولُه: إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (إنْ) شَرطيَّةٌ، والجوابُ مَحذوفٌ دلَّ عليه ما تَقدَّمَ، أي: فلْيَأتوا بشُركائِهم [291] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/181). .
- مِن قولِه: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ إلى قولِه: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ الاستِفهاماتُ الَّتي وَرَدَت في هذه الآياتِ سَبْعةٌ، وقد خَرَجَت عن معْناها الأصليِّ إلى الإنكارِ والتَّوبيخِ والتَّقريعِ على ما أرْجَفُوا به مِن زَعْمِهم أنَّ اللهَ فضَّلنا عليكم في الدُّنيا، فلا بُدَّ مِن أنْ يُفضِّلَنا عليكم في الآخرةِ، أو على الأقلِّ إنْ لم يَحصُلِ التَّفضيلُ فلا أقلَّ مِن المُساواةِ؛ ففنَّد اللهُ مَزاعِمَهم مُقرِّعًا وموبِّخًا، وجاءت مُتعاقِبةً: أوَّلُها أَفَنَجْعَلُ، والثَّاني مَا لَكُمْ، والثَّالثُ كَيْفَ تَحْكُمُونَ، والرَّابعُ أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ، والخامسُ أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ، والسَّادسُ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ، والسَّابعُ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ، وقد انتَظَمَت في سِلكٍ مِن الفصاحةِ والبَيانِ يَعْنو له كلُّ بَيانٍ [292] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/181، 182). .
- مِن قولِه: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ إلى قولِه: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ نَبَّه سُبحانه وتَعالى في هذه الآياتِ على نفْيِ جَميعِ ما يُمكِنُ أنْ يَتشبَّثوا به مِن عقْلٍ -بقولِه تعالى: مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ- أو نقْلٍ -بقولِه سبحانَه: أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ ... إلخ- أو وعْدٍ -بقولِه سبحانَه: أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا ... إلخ-، أو مَحضِ تَقليدٍ -بقولِه عزَّ وجلَّ: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ؛ على القولِ بأنَّ المرادَ مَن شارَكهم في هذه المقالةِ، وسبَقهم لها، فنبَّه على مَراتبِ النَّظرِ، وزيف ما لا سَنَدَ له [293] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/236، 237)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/594)، ((تفسير الألوسي)) (15/39). .