موسوعة التفسير

سورةُ غافِرٍ
الآيات (15-17)

ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ

غريب الكلمات:

رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ: أي: العَلِيُّ الأعلَى، مُرتفِعُ الدَّرَجاتِ، وأصلُ (رفع): يدُلُّ على خلافِ الوضعِ. وأصلُ (درج): يدُلُّ على مُضِيِّ الشَّيءِ، والمُضِيِّ في الشَّيءِ [275] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/423، 275)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 334)، ((تفسير القرطبي)) (15/299)، ((تفسير ابن جزي)) (2/229)، ((تفسير السعدي)) (ص: 734). .
الرُّوحَ: أي: الوحْيَ، وسُمِّيَ الوحْيُ رُوحًا؛ لأنَّ حياةَ القُلوبِ والأرواحِ به، كما أنَّ حياةَ الأبدانِ بالأرواحِ، وأصلُ (روح): يدُلُّ على سَعةٍ وفُسْحةٍ واطِّرادٍ [276] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 241)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/454)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (10/6411)، ((تفسير البغوي)) (4/108)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 334)، ((هداية الحيارى)) لابن القيم (2/363). .

المعنى الإجمالي:

يَذكُرُ اللهُ تعالى مِن جلالِه وكمالِه وعَظَمتِه ما يَقْتضي إخلاصَ العبادةِ له، فيقولُ: اللهُ هو العَليُّ الأعلَى، صاحِبُ العَرشِ العَظيمِ، يُنزِّلُ الوَحيَ مِنْ أمْرِه على مَن يَشاءُ مِن عِبادِه وهم الرُّسلُ؛ لِيُخَوِّفَ النَّاسَ ويُحَذِّرَهم يومَ القيامةِ.
ثمَّ يَذكُرُ بعضَ أحوالِ النَّاسِ في هذا اليومِ، فيقولُ: وهو اليَومُ الَّذي يَبرُزُ فيه النَّاسُ بعدَ خُروجِهم مِن قُبورِهم في صَعيدٍ واحِدٍ، لا يَخفَى على اللهِ مِنَ النَّاسِ شَيءٌ.
ثمَّ يَقولُ اللهُ يومَ القيامةِ: لِمَنِ المُلكُ اليَومَ؟ فيُجيبُ نَفْسَه تعالى فيَقولُ: لله الواحِدِ الَّذي لا شَريكَ له، القَهَّارِ الَّذي قَهَر وغَلَب كُلَّ شَيءٍ، اليَومَ يُثابُ كُلُّ عاملٍ بما عَمِلَ، لا ظُلْمَ اليَومَ؛ إنَّ اللهَ سَريعٌ حِسابُه لعِبادِه.

تفسير الآيات:

رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15).
مناسبة الآية لما قبلها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا ذكَرَ مِن صِفاتِ كِبريائِه وإكرامِه كَوْنَه مُظهِرًا للآياتِ، مُنزِلًا للأرزاقِ؛ ذَكَر في هذه الآيةِ ثَلاثةً أُخرى مِن صِفاتِ الجَلالِ والعَظَمةِ، وهو قَولُه: رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ [277] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/497). .
وأيضًا لَمَّا قال تعالى في الآيةِ السَّابِقةِ: فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [غافر: 14] ؛ ذكَرَ مِن جَلالِه وكَمالِه ما يَقتَضي إخلاصَ العِبادةِ له، فقال [278] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 734). :
رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ.
أي: هو العَلِيُّ الأعلى فَوقَ السَّمَواتِ [279] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/708)، ((تفسير ابن جرير)) (20/294)، ((تفسير السعدي)) (ص: 734)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 159، 160). قال السعدي: (رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ أي: العَلِيُّ الأعلَى، الَّذي استوى على العرشِ واختصَّ به). ((تفسير السعدي)) (ص: 734). وقال ابن عثيمين: (وتفسيرُ الآيةِ المُتعيِّنُ أن نقولَ: إنَّه رفيعُ الدَّرَجاتِ، أي: هو نفْسُه عزَّ وجلَّ مُرتفِعٌ، بل رفيعُ الدَّرَجاتِ، أتى بالصِّفةَ المُشَبَّهةِ الدَّالَّةِ على الثُّبوتِ والدَّوامِ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 160). وقيل: رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ أي: رافعُ السَّمواتِ السَّبْعِ، قاله سعيدُ بنُ جُبَيرٍ، والكَلْبيُّ. وقيل: معناه: عظيمُ الصِّفاتِ، قاله ابنُ زيادٍ. وقيل: هو رَفْعُه دَرَجاتِ أوليائِه، قاله يحيى. يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (5/147). وأنكَر ابنُ عثيمينَ تفسيرَ ذلك بعظيمِ الصِّفاتِ، أو رافعِ دَرَجاتِ المؤمنينَ، وجعَله مِن تحريفِ الكَلِمِ عن مَواضِعِه. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 159). .
كما قال تعالى: مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ * تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج: 3، 4].
ذُو الْعَرْشِ.
أي: صاحِبُ العَرشِ العَظيمِ، العالي على جَميعِ المخلوقاتِ، وقد استَوى عليه استواءً يَليقُ بعَظَمتِه وجَلالِه [280] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/708)، ((تفسير ابن جرير)) (20/294)، ((تفسير القرطبي)) (15/299)، ((تفسير ابن كثير)) (7/135)، ((تفسير الشوكاني)) (4/556)، ((تفسير السعدي)) (ص: 734)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 160). .
كما قال تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5].
يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ.
أي: يُنزِّلُ اللهُ الوَحيَ مِنْ أمْرِه [281] قال السعدي: (يُلْقِي الرُّوحَ أي: الوحيَ الذي للأرواحِ والقلوبِ بمنزلةِ الأرواحِ للأجسادِ، فكما أنَّ الجسَدَ بدونِ الرُّوحِ لا يحيا ولا يعيشُ، فالرُّوحُ والقلبُ بدونِ روحِ الوَحْيِ لا يصلُحُ ولا يُفلِحُ). ((تفسير السعدي)) (ص: 734). وقال ابنُ الجوزي: (قَولُه تعالى: مِنْ أَمْرِهِ فيه ثلاثةُ أقوالٍ: أحَدُها: مِن قضائِه. قاله ابن عباس. والثاني: بأمْرِه. قاله مقاتل. والثالث: مِن قَولِه تعالى. ذَكَره الثعلبي). ((تفسير ابن الجوزي)) (4/32). قال مقاتلٌ: (بإذنه)، وفي سورةِ (النحل) في قولِه تعالى: يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ [النحل: 2] قال: (بأمرِه) وممن اختار أنَّ المرادَ: بأمرِه: ابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (2/459) و(3/708)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/107). وممَّن قال بأنَّ المرادَ بقولِه: مِنْ أَمْرِهِ أي: مِن قَولِه وكلامِه تعالى: الثعلبي، والقرطبي، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (8/270)، ((تفسير القرطبي)) (15/299)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 160-161). على مَن يَشاءُ مِن عبادِه، وهم الرُّسُلُ [282] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/294، 296)، ((تفسير الرازي)) (27/498)، ((تفسير القرطبي)) (15/299)، ((تفسير السعدي)) (ص: 734)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 160-161). .
كما قال تعالى: يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ [النحل: 2] .
وقال سُبحانَه: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى: 52] .
لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ.
أي: لِيُخَوِّفَ النَّاسَ ويُحَذِّرَهم يومَ القيامةِ [283] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/296)، ((تفسير القرطبي)) (15/300)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/26)، ((تفسير السعدي)) (ص: 734). وممَّن قال بأنَّ المُنذِرَ هو الرَّسولُ: ابن جرير، والقرطبي، والبقاعي، والسعدي. يُنظر: المصادر السابقة. وقال ابن عثيمين: (الرَّسولُ لا شَكَّ أنَّه هو المنذِرُ مُباشَرةً، ويحتَمِلُ أنَّ الفاعِلَ يعودُ على فاعلِ يُلْقِي الرُّوحَ وهو اللهُ عزَّ وجلَّ، أي: لِيُنذِرَ اللهُ. والحِكمةُ مِن عَدَمِ ذِكرِ الفاعِلِ -والله أعلمُ- لِيَصلُحَ الفِعلُ للأمرَينِ، أي: لِيَكونَ صالِحًا لأنْ يعودَ الإنذارُ إلى اللهِ، وأن يعودَ إلى الرَّسولِ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 161) بتصرف. وقال ابنُ كثير: (قال عليُّ بنُ أبي طلحةَ عن ابنِ عبَّاسٍ: يَوْمَ التَّلَاقِ اسمٌ مِن أسماءِ يومِ القيامةِ حَذَّر منه عبادَه. وقال ابنُ جريج: قال ابنُ عبَّاسٍ: يلتقي فيه آدَمُ وآخِرُ ولَدِه. وقال ابنُ زيد: يلتقي فيه العِبادُ. وقال قتادةُ والسُّدِّي، وبلالُ بنُ سعد، وسُفيانُ بن عيينة: يلتقي فيه أهلُ السَّماءِ وأهلُ الأرضِ. وقال قتادةُ أيضًا: يلتقي فيه أهلُ السَّماءِ وأهلُ الأرض، والخالِقُ والخَلْقُ. وقال ميمونُ ابنُ مِهرانَ: يلتقي فيه الظَّالمُ والمظلومُ. وقد يُقالُ: إنَّ يومَ القيامةِ هو يَشمَلُ هذا كُلَّه، ويَشمَلُ أنَّ كُلَّ عاملٍ سيلقى ما عَمِلَ مِن خيرٍ وشَرٍّ. كما قاله آخَرونَ). ((تفسير ابن كثير)) (7/135-136). وقال ابن عثيمين: (... ولو قلنا بمعنًى أعمَّ: لِتَلاقي الخلائقِ في ذلك اليومِ؛ لأنَّ كلَّ شيءٍ يُلاقيه الآخرُ حتى الوحوشَ؛ وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ فسُمِّي يومَ التلاقي؛ لِتَلاقي الخلقِ فيه، يَحشُرُ الله عزَّ وجلَّ الخلائقَ كلَّها في ذلك اليومِ فيتلاقَونَ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 162). .
كما قال تعالى: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام: 19] .
وقال سُبحانَه: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ [الانشقاق: 6] .
يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16).
يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ.
أي: يومَ يكونُ النَّاسُ بعدَ خُروجِهم مِن قُبورِهم ظاهِرينَ في صَعيدٍ واحِدٍ [284] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/297، 298)، ((تفسير ابن عطية)) (4/551)، ((تفسير القرطبي)) (15/300)، ((تفسير ابن كثير)) (7/136)، ((تفسير السعدي)) (ص: 734). .
كما قال تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [إبراهيم: 48] .
لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ.
أي: لا يَخفَى على اللهِ مِن النَّاسِ شَيءٌ مِن ذَواتِهم وأحوالِهم، وظواهِرِهم وبواطِنِهم [285] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/298)، ((تفسير القرطبي)) (15/300)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/27)، ((تفسير السعدي)) (ص: 734)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/109، 110). .
لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ.
أي: يَقولُ اللهُ تعالى يومَ القيامةِ: لِمَنِ المُلكُ اليومَ؟ فيُجيبُ نَفْسَه تعالى فيَقولُ: للهِ الواحِدِ القَهَّارِ؛ الواحِدِ الَّذي لا شَريكَ له في مُلكِه، ولا مِثْلَ له في ذاتِه وأسمائِه وصِفاتِه وأفعالِه، القَهَّارِ الَّذي قَهَر وغَلَب كُلَّ شَيءٍ؛ فكُلُّ ما سِواه خاضِعٌ له [286] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/299)، ((الوسيط)) للواحدي (4/7)، ((تفسير السمعاني)) (5/11)، ((تفسير القرطبي)) (15/300، 301)، ((تفسير السعدي)) (ص: 734)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 167). قال ابن الجوزي: (قولُه تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ اتَّفَقوا على أنَّ هذا يقولُه الله عزَّ وجلَّ بعدَ فَناءِ الخلائقِ). ((تفسير ابن الجوزي)) (4/33). وممَّن قال بأنَّ السَّائِلَ والمُجيبَ هو اللهُ تعالى: ابنُ جرير، والواحديُّ -ونسَبَه لجماعةِ المفَسِّرينَ-، والقرطبيُّ، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/299)، ((الوسيط)) للواحدي (4/7)، ((تفسير القرطبي)) (15/300، 301)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 167). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ، والحسنُ، وعَطاءٌ، وشَهْرُ بنُ حَوْشَبٍ، ومحمَّدُ ابنُ كعبٍ القُرَظيُّ. يُنظر: ((تفسير يحيى بن سلام)) (1/236)، ((الأهوال)) لابن أبي الدنيا (ص: 48)، ((تفسير الثعلبي)) (8/270)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/33)، ((تفسير ابن كثير)) (7/136). وقيل: إنَّ الخلائقَ كلَّهم يُجيبونَه فيقولونَ: لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ، قاله ابنُ جُرَيجٍ. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (4/33). وقال الرازي: (لا يَبعُدُ أن يكونَ... السَّائِلُ جَمعًا مِن الملائكةِ، والمُجيبُ جَمعًا آخَرينَ). ((تفسير الرازي)) (27/500، 501). وقال النَّحَّاس: (أصَحُّ ما قيل فيه: ما رواه أبو وائلٍ عن ابنِ مَسعودٍ، قال: يُحشَرُ النَّاسُ على أرضٍ بَيضاءَ مِثلِ الفِضَّةِ، لم يُعصَ اللهُ جَلَّ وعَزَّ عليها، فيُؤمَرُ مُنادٍ أن يُناديَ: لِمَنِ المُلكُ اليَومَ؟ فهذا قَولٌ بيِّنٌ، فأمَّا أن يكونَ هذا والخَلقُ غيرُ موجودينَ فبعيدٌ؛ لأنَّه لا فائِدةَ فيه. والقَولُ الأوَّلُ صَحيحٌ عن ابنِ مَسعودٍ، وليس هو ممَّا يُؤخَذُ بالقياسِ، ولا بالتَّأويلِ. والمعنى على قولِه: فيُنادي منادٍ يومَ القيامةِ؛ لِيُقرِّرَ النَّاسَ: لِمَنِ المُلكُ اليومَ؟ فيَقولُ العِبادُ مُؤمِنُهم وكافِرُهم: لله الواحِدِ القهَّارِ! فيَقولُ المؤمِنونَ هذا سرورًا وتَلْذاذًا، ويقولُ الكافِرونَ هذا رَغمًا وانقيادًا وخُضوعًا). ((إعراب القرآن)) (4/21، 22). ويُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (8/270)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (7/280). .
عن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((يَقبِضُ اللهُ تبارك وتعالى الأرضَ يومَ القيامةِ، ويَطوي السَّماءَ بيَمينِه، ثمَّ يقولُ: أنا المَلِكُ! أين مُلوكُ الأرضِ؟!)) [287] رواه البخاري (6519)، ومسلم (2787) واللَّفظُ له. .
الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17).
مناسبة الآية لما قبلها:
لَمَّا قرَّر الله تعالى أنَّ الملكَ لله وحدَه في ذلك اليومِ؛ عدَّد نتائجَ ذلك، وهي أنَّ كلَّ نفسٍ تجزَى ما كسَبتْ، وأنَّ الظُّلمَ مأمونٌ [288] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/157). .
وأيضًا لَمَّا شَرَح الله سُبحانَه صِفاتِ القَهرِ في ذلك اليَومِ؛ أردَفَه ببَيانِ صِفاتِ العَدلِ والفَضلِ في ذلك اليَومِ [289] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/501). .
وأيضًا لَمَّا أخبَرَ اللهُ تعالى عن إذعانِ كُلِّ نَفْسٍ بانقِطاعِ الأسبابِ؛ أخبَرَهم بما يَزيدُ رُعبَهم، ويَبعَثُ رَغَبَهم ورَهَبَهم، وهو نتيجةُ تفَرُّدِه بالمُلْكِ، فقال [290] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/28). :
الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ.
أي: اليَومَ يُثابُ كُلُّ عاملٍ بما عَمِلَه في الدُّنيا جزاءً مُناسِبًا لعَمَلِه مِن خيرٍ أو شَرٍّ [291] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/299)، ((تفسير القرطبي)) (15/301)، ((تفسير ابن كثير)) (7/136)، ((تفسير السعدي)) (ص: 735)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/112). .
كما قال تعالى: لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى [طه: 15] .
لَا ظُلْمَ.
أي: لا ظُلْمَ يومَ القيامةِ على أحَدٍ بوَجهٍ مِن الوُجوهِ؛ فلا يُعاقَبُ أحَدٌ بذَنْبِ غَيرِه، ولا يُعاقَبُ بأكثَرَ مِمَّا يَستَحِقُّ، ولا يُزادُ في سَيِّئاتِه شَيءٌ، ولا يُنقَصُ مِن حَسَناتِه شَيءٌ [292] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/299)، ((تفسير القرطبي)) (15/301)، ((تفسير ابن كثير)) (7/136)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/29)، ((تفسير السعدي)) (ص: 735). قال ابنُ عثيمين: (لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ أي: لا ظُلمَ واقِعٌ مِن الله، ولا ظُلمَ واقِعٌ مِن الخَلقِ بَعضِهم لبَعضٍ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 170). .
كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء: 40] .
وقال عزَّ وجلَّ: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 7، 8].
وعن أبي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيما رَوى عن اللهِ تبارَك وتعالى أنَّه قال: ((يا عِبادي، إنِّي حَرَّمتُ الظُّلْمَ على نفْسي، وجعَلْتُه بيْنَكم مُحَرَّمًا، فلا تَظَالَموا )) [293] رواه مسلم (2577). .
إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ.
أي: إنَّ اللهَ ذو سُرعةٍ بالِغةٍ في مُحاسَبةِ عِبادِه يومَ القيامةِ على ما عَمِلوا في الدُّنيا [294] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/299)، ((تفسير ابن عطية)) (4/551)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/29)، ((تفسير السعدي)) (ص: 735)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/112). ممَّن اختار في الجملةِ أنَّ المُرادَ: إنَّ الله ذو سرعةٍ في مُحاسَبةِ عِبادِه، وأنَّ الحسابَ لا يُبطئُ؛ لأنَّ اللهَ لا يَشغَلُه حسابٌ عن حسابٍ، فيُحاسِبُ الخَلْقَ كلَّه في وقتٍ واحدٍ كما يُحاسِبُ نفْسًا واحدةً، وهو أسرَعُ الحاسِبينَ، فلا يَحتاجُ إلى تفكُّرٍ كما يَحتاجُه غيرُه: ابنُ جرير، والزمخشري، وابن عطية، والقرطبي، وابن كثير، وأبو السعود، والشوكاني، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/300)، ((تفسير الزمخشري)) (4/157)، ((تفسير ابن عطية)) (4/551)، ((تفسير القرطبي)) (15/301)، ((تفسير ابن كثير)) (7/136)، ((تفسير أبي السعود)) (7/271)، ((تفسير الشوكاني)) (4/557)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/112). وقال السعدي: (إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ أي: لا تَستَبْطِئوا ذلك اليَومَ؛ فإنَّه آتٍ، وكلُّ آتٍ قريبٌ، وهو أيضًا سريعُ المُحاسَبةِ لعِبادِه يومَ القيامةِ؛ لإحاطةِ عِلمِه، وكمالِ قُدرتِه). ((تفسير السعدي)) (ص: 735). وقال ابنُ كثيرٍ في نظيرِ هذه الآيةِ مِن سورةِ (إبراهيمَ)، وهو قولُه تعالى: إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [إبراهيم: 51]، قال: (يحتملُ أنْ يكونَ كقولِه تعالَى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الأنبياء: 1] ، ويحتملُ أنَّه في حالِ مُحاسَبتِه لعبدِه سريعُ النَّجازِ؛ لأنَّه يَعلَمُ كلَّ شَيءٍ، ولا يَخفَى عليه خافيةٌ، وإنَّ جميعَ الخلقِ بالنِّسبةِ إلى قُدرتِه كالواحدِ مِنهم، كقولِه تعالَى: مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ [لقمان: 28] ، وهذا معنَى قولِ مُجاهِدٍ: سَرِيعُ الْحِسَابِ إحصاءً. ويحتملُ أنْ يكونَ المَعْنَيانِ مُرادَينِ، واللهُ أعلمُ). ((تفسير ابن كثير)) (4/523). واختار ابنُ عثيمين في نظيرِ هذه الآيةِ مِن سورةِ (النُّورِ)، وهو قولُه تعالى: وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [النور: 39] أنَّ المعنيَينِ مُرادانِ؛ الأوَّلُ: قُرْبُ وقتِ المُجازاةِ، فتكونُ السُّرعةُ زَمَنيَّةً، أي: أنَّ حسابَه للعِبادِ قَرُبَ، والثَّاني: إنجازُ الحسابِ، فتكونُ السُّرعةُ عمَليَّةً، أي: أنَّه في مُحاسَبتِه سريعٌ. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة النور)) (ص: 276). .

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ التَّحذيرُ مِن خِزْيِ يومِ القيامةِ؛ لأنَّه يومُ التَّلاقِ، ولا شَكَّ أنَّ العُقوبةَ إذا كانت لا يَطَّلِعُ عليها إلَّا القَليلُ أهْوَنُ مِمَّا إذا اطَّلَع عليها الكثيرُ، فكيف إذا اطَّلَع عليها الخَلقُ كُلُّهم؟! تكونُ أشَدَّ وأعظَمَ [295] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 165). !
2- في قَولِه تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ إثباتُ صِفَتينِ مِن صِفاتِ اللهِ، دَلَّ عليهما قَولُه تعالى: الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ، وهما الوَحدانيَّةُ والقَهرُ، ويَترتَّبُ على ذلك مِن النَّاحيةِ المَسلَكيَّةِ أنَّ الإنسانَ إذا اعتقَدَ أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى واحِدٌ، لم يَلتَفِتْ إلى أحَدٍ سِواه، وإذا اعتَقَد أنَّ اللهَ قَهَّارٌ خاف مِن قَهْرِه، واستعان بقَهرِه على عَدُوِّه [296] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 168). .
3- قَولُ الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ فيه تَرجيةٌ للفَريقَينِ وتَخويفٌ؛ لأنَّ الظَّالِمَ يَخشى إسراعَ الأخذِ بالعَذابِ، والمؤمِنَ يَرجو إسراعَ البَسطِ بالثَّوابِ [297] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/29، 30). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ إثباتُ عُلُوِّ الذَّاتِ؛ ذاتِ اللهِ عزَّ وجلَّ [298] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 162). .
2- قَولُ الله تعالى: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ يُشيرُ إلى أنَّ النُّبُوَّةَ غَيرُ مُكتَسَبةٍ؛ لأنَّه جيءَ بفِعلِ الإلقاءِ، وبِكَونِ الرُّوحِ مِن أمْرِه في قَولِه: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ، وبصِلةِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ؛ فآذَنَ بأنَّ ذلك بمَحضِ اختِيارِه وعِلْمِه، كما قال تعالى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [299] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/107، 108). [الأنعام: 124] ، فهي فَضْلٌ مِن اللهِ سبحانَه وتعالى على مَن يشاءُ مِن عبادِه [300] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 163). .
3- في قَولِه تعالى: لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ إثباتُ الحكمةِ للهِ تعالى؛ وأنَّ أفعالَه سبحانَه مقرونةٌ بالحكمةِ؛ لقَولِه تعالى: لِيُنْذِرَ، واللَّامُ لِلتَّعليلِ [301] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 164). .
4- قال الله تعالى: لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ذِكْرُ هذا الكَلامِ في هذا الموضِعِ لائِقٌ جِدًّا؛ لأنَّه تعالى لَمَّا بَيَّن أنَّه لا ظُلْمَ؛ بيَّنَ أنَّه سَريعُ الحِسابِ، وذلك يدُلُّ على أنَّه يَصِلُ إليهم ما يَستَحِقُّونَه في الحالِ [302] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/502). .
5- قَولُ الله تعالى: الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ في الآيةِ إيماءٌ إلى أنَّ تأخيرَ القَضاءِ بالحَقِّ بعدَ تَبيُّنِه للقاضي، بدونِ عُذرٍ: ضَربٌ مِن ضُروبِ الجَورِ؛ لأنَّ الحَقَّ إن كان حَقَّ العبادِ فتأخيرُ الحُكمِ لصاحِبِ الحَقِّ إبقاءٌ لحَقِّه بيَدِ غَيرِه، ففيه تَعطيلُ انتِفاعِه بحَقِّه بُرهةً مِن الزَّمانِ، وذلك ظُلمٌ، ولَعَلَّ صاحِبَ الحَقِّ في حاجةٍ إلى تَعجيلِ حَقِّه لِنَفعٍ مُعَطَّلٍ، أو لِدَفعِ ضُرٍّ جاثمٍ، ولَعَلَّه أن يَهلِكَ في مُدَّةِ تأخيرِ حَقِّه، فلا ينتَفِعَ به، أو لعَلَّ الشَّيءَ المحكومَ به يَتلَفُ بعارِضٍ أو قَصدٍ، فلا يَصِلُ إليه صاحِبُه بَعْدُ. وإن كان الحَقُّ حَقَّ اللهِ كان تأخيرُ القَضاءِ فيه إقرارًا للمُنكَرِ [303] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/112، 113). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ
- قولُه: رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ خَبَرانِ آخَرانِ لقولِه تعالى: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آَيَاتِهِ [غافر: 13] ، وقولُه: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ خبَرٌ آخَرُ، مُنبِئٌ عن إنزالِ الرِّزقِ الرُّوحانِيِّ -الَّذي هُو الوحيُ- بعدَ بَيانِ إنزالِ الرِّزقِ الجُسمانيِّ -الَّذي هُو المطرُ-، أي: يُنزِلُ الوحيَ الجاريَ مِن القلوبِ مَنزلةَ الرُّوحِ مِنَ الأجسادِ [304] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/53)، ((تفسير أبي السعود)) (7/270)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/108). .
- والإلقاءُ: حَقيقتُه رمْيُ الشَّيءِ مِن اليَدِ إلى الأرضِ، ويُعبَّرُ به عن الإعطاءِ إذا كان غيرَ مُترقَّبٍ، وعُبِّرَ به هنا عن الوحْيِ؛ لأنَّه يَجِيءُ فَجأةً على غيرِ تَرقُّبٍ، كإلْقاءِ الشَّيءِ إلى الأرضِ [305] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/107). .
- قولُه: لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ تَخلُّصٌ مِن ذِكرِ النُّبوَّةِ إلى النِّذارةِ بيَومِ الجزاءِ؛ لِيَعودَ وصْفُ يومِ الجزاءِ الَّذي انقطَعَ الكلامُ عليه مِن قولِه تعالى: ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ [غافر: 12] ... إلخ [306] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/108). .
- والضَّميرُ المُستتِرُ في لِيُنْذِرَ قيل: إنَّه عائدٌ إلى اسمِ الجلالةِ مِن قولِه: فَادْعُوا اللَّهَ [غافر: 14] ، وقيل: الأحسَنُ أنْ يعودَ على مَنْ المَوصولةِ مِن قولِه: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، أي: لِيُنذِرَ مَن ألْقى عليه الرُّوحَ قومَه، ولأنَّ فيه تَخلُّصًا إلى ذِكرِ الرَّسولِ الأعظَمِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الَّذي هو بصَددِ الإنذارِ دونَ الرُّسلِ الَّذين سَبَقوا؛ إذ لا تُلائمُهم صِيغةُ المضارِعِ، ولأنَّه مُرجِّحٌ لإظهارِ اسمِ الجلالةِ في قولِه: لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ [307] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/108، 109). .
- ويَوْمَ التَّلَاقِ إمَّا ظرفٌ للمفعولِ الثَّاني لـ (يُنْذِرَ)، وحُذِفَ المفعولُ الأوَّلُ لِظُهورِه، أي: لِيُنذِرَ النَّاسَ العذابَ يومَ التَّلاقِ، وهو يومُ القِيامةِ؛ لأنَّه يَتلاقَى فيهِ الأرواحُ والأجسامُ وأهلُ السَّمواتِ والأرضِ، أو هو المفعولُ الثَّاني اتِّساعًا، أوْ أصالةً؛ فإنَّه مِن شِدَّةِ هَولِه وفَظاعتِه حَقيقٌ بالإنذارِ أصالةً [308] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/54)، ((تفسير أبي السعود)) (7/271)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/109). .
2- قولُه تعالَى: يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ
- جملةُ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ استئنافٌ لِبَيانِ بُروزِهم، وتَقريرٌ له، وإزاحةٌ لِما كان يَتوهَّمُه المتوهِّمونَ في الدُّنيا مِن الاستتارِ تَوهُّمًا باطلًا؛ بأنَّهم إذا استَتَروا بالحيطانِ والحُجُبِ: أنَّ اللهَ لا يَراهم ويَخْفى عليه أعمالُهم! فهم اليومَ صائرونَ مِن البُروزِ والانكشافِ إلى حالٍ لا يَتوهَّمون فيها مِثلَ ما كانوا يَتوهَّمونَه، والمعنى: أنَّهم واضحةٌ ظَواهِرُهم وبَواطِنُهم؛ فإنَّ ذلك مُقْتضى قولِه: مِنْهُمْ شَيْءٌ [309] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/156)، ((تفسير البيضاوي)) (5/54)، ((تفسير أبي حيان)) (9/244)، ((تفسير أبي السعود)) (7/271)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/109). .
- وإظهارُ اسمِ الجَلالةِ عَلَى اللَّهِ؛ لأنَّ إظهارَه أصرَحُ؛ لِبُعدِ مَعادِه بما عَقِبَه مِن قولِه: عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، ولأنَّ ضَميرَ لِيُنْذِرَ عائدٌ إلى مَنْ يَشَاءُ [310] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/109). . وذلك على قولٍ.
- ومعنى مِنْهُمْ: مِن مَجموعِهم، أي: مِن مَجموعِ أحوالِهم وشُؤونِهم؛ ولهذا أُوثِرَ ضَميرُ الجمْعِ؛ لِما فيه مِن الإجمالِ الصَّالحِ لِتَقديرِ مُضافٍ مُناسِبٍ للمَقامِ. وأُوثِرَ أيضًا لفظُ شَيْءٌ؛ لِتَوغُّلِه في العُمومِ، ولم يقُلْ: لا يَخْفى على اللهِ منهم أحدٌ، أو لا يَخْفى على اللهِ مِن أحدٍ شَيءٌ، أي: مِن أجزاءِ جِسْمِه؛ فالمعنى: لا يَخْفى على اللهِ شَيءٌ مِن أحوالِهم؛ ظاهِرِها وباطِنِها [311] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/109، 110). .
- والاستِفهامُ في قولِه: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ إمَّا تَقريريٌّ؛ لِيَشهَدَ الطُّغاةُ مِن أهْلِ المَحشَرِ على أنفُسِهم أنَّهم كانوا في الدُّنيا مُخطِئينَ فيما يَزْعُمونَه لأنفُسِهم مِن مُلْكٍ لأصنامِهم حينَ يُضِيفونَ إليها التَّصرُّفَ في مَمالِكَ مِن الأرضِ والسَّماءِ، ويجوزُ أيضًا أنْ يكونَ الاستفهامُ كِنايةً عن التَّشويقِ إلى ما يَرِدُ بعْدَه مِن الجوابِ؛ لأنَّ الشَّأْنَ أنَّ الَّذي يَسمَعُ استِفهامًا يَترقَّبُ جَوابَه، فيَتمكَّنُ مِن نفْسِه الجوابُ عندَ سَماعِه فضْلَ تَمكُّنٍ، على أنَّ حُصولَ التَّشويقِ لا يَفوتُ على اعتبارِ الاستفهامِ للتَّقريرِ [312] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/110). .
- قولُه: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ إنَّما خُصَّ التَّقريرُ باليومِ، وإنْ كان المُلْكُ له تَعالى في ذلك اليومِ وفي غَيرِه؛ لِظُهورِ ذلك للكَفَرةِ والجَهَلةِ، ووُضوحِه يومَ القيامةِ [313] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/245). .
- وجملةُ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ يجوزُ أنْ تكونَ مِن بقيَّةِ القولِ المُقَدَّرِ الصَّادرِ مِن جانبِ اللهِ تعالى؛ بأنْ يَصدُرَ مِن ذلك الجانبِ استِفهامٌ، ويَصدُرَ منه جَوابُه؛ لأنَّه لَمَّا كان الاستِفهامُ مُستعمَلًا في التَّقريرِ أو التَّشويقِ، كان مِن الشَّأنِ أنْ يَتولَّى النَّاطقُ به الجوابَ عنه، ويجوزُ أنْ تكونَ مَقولَ قولٍ آخَرَ مَحذوفٍ، أي: فيقولُ المَسؤولونَ: للهِ الواحدِ القهَّارِ؛ إقرارًا منهم بذلك، والتَّقديرُ: فيقولُ البارزونَ: للهِ الواحدِ القهَّارِ، فتَكونَ مُعترِضةً [314] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/111). .
- وذِكْرُ الصِّفتَينِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ دونِ غَيرِهما مِن الصِّفاتِ العُلَى؛ لأنَّ لِمَعْنَيَيْهِما مَزيدَ مُناسَبةٍ بقولِه: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؛ حيثُ شُوهِدَت دَلائلُ الوَحدانيَّةِ للهِ، وقَهْرُه جميعَ الطُّغاةِ والجبَّارينَ [315] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/111). .
3- قولُه تعالَى: الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ لَمَّا تَقرَّرَ أنَّ المُلْكَ للهِ وحْدَه في ذلك اليومِ بمَجموعِ الجُملتَينِ السَّابقتَينِ؛ عُدِّدَت آثارُ التَّصرُّفِ بذلك المُلْكِ، وهي الحُكْمُ على العِبادِ بنَتائجِ أعمالِهم، وأنَّه حُكْمٌ عادلٌ لا يَشوبُه ظُلْمٌ، وأنَّه عاجلٌ لا يُبطِئُ؛ لأنَّ اللهَ لا يَشغَلُه عن إقامةِ الحقِّ شاغلٌ، ولا هو بحاجةٍ إلى التَّدبُّرِ والتَّأمُّلِ في طُرقِ قَضائِه، وعلى هذه النَّتائجِ جاء تَرتيبُ: الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ، ثمَّ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ، ثمَّ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ، وجُملةُ الْيَوْمَ تُجْزَى ... إلخ واقعةٌ مَوقِعَ البَيانِ لِما في جُملةِ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر: 16] وجَوابِها مِن إجمالٍ [316] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/157)، ((تفسير أبي حيان)) (9/245، 246)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/111، 112). .
- قولُه: الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ قيل: إنَّه كأنَّه نَتيجةٌ لِما سبَقَ، وتَحقيقُه أنَّ النُّفوسَ تَكتسِبُ بالعقائدِ والأعمالِ هَيئاتٍ تُوجِبُ لَذَّتَها وألَمَها، لكنَّها لا تَشعُرُ بها في الدُّنيا؛ لِعَوائقَ تَشغَلُها، فإذا قامتْ قِيامتُها زالَتِ العوائقُ، وأدْرَكَت لذَّتَها وألَمَها [317] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/54). . وقيل: إنَّه إمَّا مِنْ تَتمَّةِ الجَوابِ؛ لِبَيانِ حُكمِ اختصاصِ المُلكِ بهِ تعالَى ونَتيجتِه الَّتي هيَ الحُكْم السَّوِيُّ والقضاءُ الحقُّ. أوْ هو حِكايةٌ لِمَا سَيَقولُه تعالى يَومَئذٍ عَقِيبَ السُّؤالِ والجوابِ، أيْ: تُجْزى كلُّ نفْسٍ مِن النُّفوسِ البَرَّةِ والفاجرةِ بما كسَبَتْ مِن خَيرٍ أو شَرٍّ [318] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/271)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/112). .
- وقَولُه: تُجْزَى بناه للمَفعولِ؛ لأنَّ المُرغَّبَ المُرَهَّبَ نَفْسُ الجَزاءِ، ولِبَيانِ سُهولتِه عليه سُبحانَه [319] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/28). .
- وجُملةُ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ واقِعةٌ مَوقِعَ بَدَلِ الاشتِمالِ مِن جُملةِ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ، أي: جزاءً عادلًا لا ظُلْمَ فيه، أي: ليس فيه أقَلُّ شَوبٍ مِن الظُّلمِ، حسَبَما اقتضاهُ وُقوعُ النَّكِرةِ بعْدَ (لا) النَّافيةِ للجنْسِ [320] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/112). .
- وجُملةُ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ واقِعةٌ مَوقعَ التَّعليلِ لِوُقوعِ الجزاءِ في ذلك اليومِ، ولانتِفاءِ الظُّلمِ عن ذلك الجزاءِ. وتأْخيرُها عن تَينِك الجُملتَينِ مُشيرٌ إلى أنَّها عِلَّةٌ لهما؛ فحرْفُ التَّوكيدِ (إنَّ) واقعٌ مَوقِعَ فاءِ السَّببيَّةِ، كما هو شأْنُ (إنَّ) إذا جاءتْ في غيرِ مَقامِ ردِّ الإنكارِ؛ فسُرْعةُ الحِسابِ تَقْتضي سُرعةَ الحكْمِ، وسُرعةُ الحكْمِ تَقْتضي تَملُّؤَ الحاكمِ مِن العِلْمِ بالحقِّ، ومِن تَقديرِ جزاءِ كلِّ عاملٍ على عمَلِه دونَ تردُّدٍ ولا بحْثٍ؛ لأنَّ الحاكمَ علَّامُ الغُيوبِ؛ فكان قولُه: سَرِيعُ الْحِسَابِ عِلَّةً لجميعِ ما تَقدَّمَه في هذا الغرَضِ، والمعنى: أنَّ اللهَ مُحاسِبُهم حسابًا سريعًا؛ لأنَّه سريعُ الحسابِ [321] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/54)، ((تفسير أبي السعود)) (7/271)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/112)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/469). .