موسوعة التفسير

سورةُ النُّورِ
الآيتان (39-40)

ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ

غريب الكلمات:

كَسَرَابٍ: السَّرابُ: ما رأيتَ مِن الشَّمسِ كالماءِ نِصفَ النَّهارِ، وأصلُ (سرب): يدُلُّ على الاتِّساعِ والذَّهابِ في الأرضِ [1029] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/326)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/155)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 258)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 312). .
بِقِيعَةٍ: القِيعَةُ جمعُ قاعٍ، وهو المُستَوي مِن الأرضِ، وأصلُ (قوع): يدُلُّ على تبسُّطٍ في مكانٍ [1030] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 305)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 386)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/42)، ((المفردات)) للراغب (ص: 688)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 312)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 739). .
لُجِّيٍّ: أي: عَميقٍ لا يُدرَكُ قَعرُه، وأصلُ (لجج): يدُلُّ على تردُّدِ الشَّيءِ بَعضِه على بعضٍ، وترديدِ الشَّيءِ [1031] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/331)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/201)، ((تفسير القرطبي)) (12/284)، ((تفسير ابن كثير)) (6/71). .

المعنى الإجمالي:

يضرِبُ الله تعالى مَثليْنِ لأعمالِ الكفَّارِ، فيذكرُ المثلَ الأولَ، فيقولُ تعالى: والذين كفَروا برَبِّهم وكذَّبوا رسُلَه، أعمالُهم التي عَمِلوها ظنًّا منهم أنَّها تنفَعُهم، لا ثوابَ لها، مِثلُ السَّرابِ في أرضٍ مُنبَسِطةٍ خاليةٍ مِن البناءِ والشَّجَرِ والنَّباتِ، يراه العَطشانُ فيظُنُّه ماءً، فإذا أتاه لم يجِدْه ماءً، وكذا الكافِرُ يظُنُّ أنَّ أعمالَه تنفَعُه، حتَّى إذا مات وبُعِثَ لم يجِدْ ثَوابَها، ووجدَ رَبَّه عندَه بالمرصادِ، فوفَّاه حِسابَ عَمَلِه كاملًا، واللهُ سَريعُ الحِسابِ.
ثمَّ يذكَرُ الله تعالى المثلَ الثاني، وما هم فيه مِن ضَلالٍ وجَهلٍ لا يتبيَّنونَ فيه الهُدى والحَقَّ، فيقولُ: أو أعمالُهم مِثلُ ظُلُماتٍ في بحرٍ عَميقٍ يَعلوه موجٌ، مِن فَوقِ ذلك الموجِ مَوجٌ آخَرُ، مِن فَوقِه سَحابٌ، ظُلُماتٌ مُتراكِمٌ بَعضُها فوقَ بَعضٍ، إذا أخرجَ مَن وقَع في هذه الظُّلُماتِ يَدَه لم يُقارِبْ رُؤيتَها؛ مِن شِدِّةِ الظُّلُماتِ، ومَن لم يَهْدِه اللهُ للإيمانِ وينَوِّرْ قَلبَه بنورِ الإسلامِ، فما له مِن هادٍ.

تفسير الآيتين:

وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالى فيما تقَدَّمَ حالةَ الإيمانِ والمُؤمِنينَ، وتَنويرَه قُلوبَهم؛ عَقَّب ذلك بذِكرِ الكَفَرةِ وأعمالِهم [1032] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/187). .
وأيضًا لَمَّا بيَّن اللهُ سُبحانَه حالَ المؤمِنِ، وأنَّه في الدُّنيا يكونُ في النُّورِ، وبسَبَبِه يكونُ متمَسِّكًا بالعمَلِ الصَّالحِ، ثمَّ بيَّن أنَّه في الآخرةِ يكونُ فائزًا بالنَّعيمِ المقيمِ والثَّوابِ العظيمِ- أتبعَ ذلك بأنْ بيَّن أنَّ الكافِرَ يكونُ في الآخرةِ في أشَدِّ الخُسرانِ، وفي الدُّنيا في أعظَمِ الظُّلُماتِ، وضرَبَ لكلِّ واحدٍ منهما مثَلًا [1033] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (24/399). ، فقال تعالى: 
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ.
أي: ومَثَلُ أعمالِ الذين كفَروا مَثَلُ سَرابٍ في أرضٍ مُنبَسِطةٍ خاليةٍ مِن البناءِ والشَّجَرِ والنَّباتِ وغيرِها مِن المعالِمِ [1034] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/326)، ((تفسير السمرقندي)) (2/515)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّة (4/75)، ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/120)، ((تفسير السعدي)) (ص: 569). قال ابنُ كثير: (هذان مَثَلانِ ضَرَبهما اللهُ تعالى لنَوعَيِ الكُفَّارِ... فأمَّا الأوَّلُ مِن هذَينِ المَثَلينِ فهو للكُفَّارِ الدُّعاةِ إلى كُفرِهم، الذين يَحسَبونَ أنَّهم على شَيءٍ مِنَ الأعمالِ والاعتقاداتِ، وليسوا في نفْسِ الأمرِ على شَيءٍ؛ فمَثَلُهم في ذلك كالسَّرابِ الذي يُرى في القِيعانِ مِنَ الأرضِ عن بُعدٍ كأنَّه بَحرٌ). ((تفسير ابن كثير)) (6/70، 71). ويُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّة (4/75) و (7/278) و (10/101). وقال ابنُ القيم: (ذكَرَ سُبحانَه للكافِرينَ مَثَلينِ: مَثَلًا بالسَّرابِ، ومَثَلًا بالظُّلماتِ المتراكِمةِ؛ وذلك لأنَّ المُعرِضينَ عن الهُدى والحَقِّ نوعان؛ أحَدُهما: مَن يَظُنُّ أنَّه على شَيءٍ، فيتبَيَّنُ له عندَ انكِشافِ الحقائِقِ خِلافُ ما كان يظُنُّه، وهذه حالُ أهلِ الجَهلِ وأهلِ البِدَعِ والأهواءِ الذين يظنُّونَ أنَّهم على هُدًى وعِلمٍ، فإذا انكشَفَت الحقائِقُ تبَيَّنَ لهم أنَّهم لم يكونوا على شَيءٍ، وأنَّ عقائِدَهم وأعمالَهم التي ترتَّبَت عليها كانت كسَرابٍ بقِيعةٍ يُرى في عينِ النَّاظِرِ ماءً، ولا حقيقةَ له! وهكذا الأعمالُ التي لغيرِ اللهِ وعلى غيرِ أمْرِه، يَحسَبُها العامِلُ نافِعةً له، وليست كذلك!... وتأمَّلْ جَعْلَ اللهِ سُبحانَه السَّرابَ بالقِيعةِ -وهي الأرضُ القَفرُ الخاليةُ مِنَ البناءِ والشَّجَرِ والنَّباتِ والمعالمِ- فمَحَلُّ السَّرابِ أرضٌ قَفرٌ لا شَيءَ بها، والسَّرابُ لا حقيقةَ له، وذلك مُطابِقٌ لأعمالِهم وقُلوبِهم التي أقفَرَت مِنَ الإيمانِ والهُدى!... فهذا مَثَلُ الضَّالَّ الذي يَحسَبُ أنَّه على هُدًى). ((إعلام الموقعين)) (1/120، 121). .
يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا.
أي: يظُنُّ العَطشانُ ذلك السَّرابَ ماءً، حتى إذا جاء إلى موضِعِه يلتَمِسُ الماءَ، لم يجِدِ السَّرابَ شَيئًا مِمَّا كان يظُنُّه؛ فيَهلِكُ، وكذلك الكافِرونَ: يظُنُّونَ اعتقاداتِهم وأعمالَهم تنفَعُهم، فإذا جاؤوا يومَ القيامةِ وجَدوها غيرَ مَقبولةٍ عندَ اللهِ؛ فلا ينتَفِعونَ بها [1035] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/326، 327)، ((تفسير السمعاني)) (3/536)، ((تفسير القرطبي)) (12/282، 283)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (10/101)، ((تفسير ابن كثير)) (6/71)، ((تفسير السعدي)) (ص: 569)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/253). .
كما قال تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ [إبراهيم: 18] .
وقال سُبحانَه: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان: 23] .
وقال عزَّ وجلَّ: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا [فاطر: 8] .
وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ.
أي: ووجَدَ الكافِرُ ربَّه عندَه بالمرصادِ [1036]  قال الشوكاني: (وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ أي: وَجَد اللهَ بالمرصادِ فوَفَّاه حِسابَه... وقيلَ: وَجَد وَعْدَ اللهِ بالجَزاءِ على عَمَلِه. وقيلَ: وَجَد أمرَ اللهَ عندَ حَشرِه. وقيلَ: وَجَد حُكمَه وقضاءَه عندَ المجيءِ. وقيلَ: عندَ العَمَلِ. والمعنى مُتقارِبٌ). ((تفسير الشوكاني)) (4/46). مِمَّن اختار أنَّ المعنى: وَجَد اللهَ بالمِرصادِ: ابنُ جرير، والبغوي، والقرطبي، والنسفي، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/326)، ((تفسير البغوي)) (3/421)، ((تفسير القرطبي)) (12/283)، ((تفسير النسفي)) (2/509)، ((تفسير الشوكاني)) (4/46). قال القاسمي: (وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ أي: وَجَد عِقابَ اللهِ وجَزاءَه عندَ السَّرابِ، أو العَمَلِ... وقيل: المعنى: وَجَده مُحاسِبًا إيَّاه؛ فالعِنْديَّةُ بمعنى الحِسابِ على طريقِ الكِنايةِ؛ لذِكرِ التَّوفيةِ بَعْدَه. قيل: هذه الجُملةُ مَعطوفةٌ على لَمْ يَجِدْهُ، ولا حاجةَ إلى عَطْفِه على ما يُفيدُه مِن نَحوِ: لم يجِدْ ما عَمِلَه نافِعًا. وقال الشِّهابُ: ويحتَمِلُ أن يكونَ بيانًا لحالِ المُشَبَّهِ به الكافِرِ، فيُعطَفَ بحَسَبِ المعنى على التَّمثيلِ بتَمامِه. ولو قيلَ على الأوَّلِ: إنَّه مِن تَتِمَّةِ وَصفِ السَّرابِ. والمعنى: وَجَد مَقدورَه تعالى من الهَلاكِ بالظَّمَأِ عند السَّرابِ، فوَفَّاه ما كُتِبَ له مَن لا يؤخِّرُ الحِسابَ- كان الكَلامُ مُتناسِبًا. واختار الثَّاني أبو السعود). ((تفسير القاسمي)) (7/392). ويُنظر: ((حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي)) (6/388). ومِمَّن اختار أنَّ الضَّميرَ في قَولِه: عِنْدَهُ يعودُ إلى العملِ: مقاتلُ بن سليمان، والفرَّاء، والسمرقندي، والسمعاني، والبغوي، وابن جزي، والعليمي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/202)، ((معاني القرآن)) للفراء (2/254)، ((تفسير السمرقندي)) (2/515)، ((تفسير السمعاني)) (3/536)، ((تفسير البغوي)) (3/421)، ((تفسير ابن جزي)) (2/72)، ((تفسير العليمي)) (4/544). قال السمعاني: (وقَولُه: وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ أي: عِندَ عَمَلِه، ومعناهُ: أنَّه لَقِيَ اللهَ في الآخِرةِ). ((تفسير السمعاني)) (3/536). وقال ابنُ جزي: (وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ ضميرُ الفاعِلِ في «وَجَدَ» للكافِرِ، والضَّميرُ في عِنْدَهُ لعمَلِه، والمعنى: وَجَد اللهَ عندَه بالجزاءِ، أو وجَدَ زَبانِيَةَ اللهِ). ((تفسير ابن جزي)) (2/72). وقال النسفي: (عِنْدَهُ عندَ الكافرِ). يُنظر: ((تفسير النسفي)) (2/509). وقال ابن جرير: (عندَ هلاكِه). يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/326). ، فيُجازيه يومَ القيامةِ على جميعِ أعمالِه التي عَمِلَها في الدُّنيا بما يَستَحِقُّه مِن العذابِ جزاءً وافيًا [1037] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/326، 328)، ((تفسير القرطبي)) (12/283)، ((تفسير السعدي)) (ص: 569)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/253). .
وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ.
أي: واللهُ سريعُ المحاسَبةِ لعِبادِه، لا يخفَى عليه شَيءٌ مِن أعمالِهم، ولا يَشغَلُه حِسابٌ عن حِسابٍ [1038] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/327)، ((تفسير البيضاوي)) (4/109)، ((تفسير النسفي)) (2/509). قال السعدي: (وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ فلا يَستبطئِ الجاهلونَ ذلك الوعدَ؛ فإنَّه لا بدَّ مِن إتيانِه). ((تفسير السعدي)) (ص: 569). وقال ابن عثيمين: (ما المرادُ بالسُّرعةِ هنا؟ هل المرادُ قُربُ وقتِ المجازاةِ،  فتكونَ السُّرعةُ زَمنيةً؟ أو المرادُ إنجازُ الحِسابِ فتكونَ السُّرعةُ عَمَليَّةً؟ أو كلاهما؟ هل المعنى أنَّه في محاسَبتِه سريعٌ، أو المعنى حسابُه للعبادِ قريبٌ، أو كلاهما؟ الجواب: كلاهما). ((تفسير ابن عثيمين - سورة النور)) (ص: 276). .
أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا بيَّن اللهُ تعالى بالمثالِ السَّابِقِ أنَّ الكافرينَ لم يَصِلوا إلى شيءٍ غيرِ التَّعَبِ المُثمِرِ للعَطَبِ، وكان هذا لا يفعَلُه بنَفْسِه عاقِلٌ- ضرَب مثالًا آخَرَ بيَّن الحامِلَ لهم على الوقوعِ في ذلك، وهو السَّيرُ بغيرِ دليلٍ، الموقِعُ في خَبطِ العَشواءِ، كالماشي في الظَّلامِ [1039] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/285، 286). .
أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ.
أي: أو مَثَلُ أعمالِ الكافرينَ [1040] قال الرسعني: (قولُه تعالى: أَوْ كَظُلُمَاتٍ قال أكثرُ المفسِّرينَ: هذا المَثَلُ لأعمالِ الكفَّارِ أيضًا). ((تفسير الرسعني)) (5/264). في ضَلالِهم وجَهلِهم الذي لا يتبيَّنونَ فيه الهُدى والحَقَّ، مَثَلُ ظُلُماتٍ في بحرٍ عَميقٍ [1041] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/329)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/278)، ((تفسير ابن كثير)) (6/71). وممَّن قال بهذا المعنى المذكور: ابنُ تيميَّةَ، وابنُ كثيرٍ. قال ابنُ تيميَّةَ: (ذَكَر سُبحانَه مَثَلينِ:... والمَثَلُ الثَّاني: مَثَلُ الكُفرِ والجَهلِ البَسيطِ الذي لا يَتبيَّنُ فيه صاحِبُه حَقًّا، ولا يَرى فيه هُدًى، والكُفرُ المُرَكَّبُ مُستلزِمٌ للبَسيطِ، وكُلُّ كُفرٍ فلا بُدَّ فيه مِن جَهلٍ مُرَكَّبٍ؛ فضَرَب اللهُ سُبحانَه المَثَلينِ بذلك؛ ليُبَيِّنَ حالَ الاعتقادِ الفاسِدِ، ويُبَيِّنَ حالَ عدَمِ مَعرفةِ الحقِّ، وهو يُشبِهُ حالَ المغضوبِ عليهم والضَّالِّينَ، حالَ المُصَمِّمِ على الباطِلِ حتى يَحُلَّ به العذابُ، وحالَ الضَّالِّ الذي لا يرى طريقَ الهُدى). ((مجموع الفتاوى)) (4/75). وقال ابنُ كثير: (وهذا المِثالُ مِثالٌ لِذَوي الجَهلِ المُرَكَّبِ، فأمَّا أصحابُ الجَهلِ البَسيطِ، وهم... المقَلِّدونَ لأئمَّةِ الكُفرِ، الصُّمُّ البُكمُ الذين لا يَعقِلونَ... فهذا مَثَلُ قَلبِ الكافِرِ الجاهِلِ البَسيطِ المقَلِّدِ الذي لا يَدري أين يَذهَبُ، ولا هو يَعرِفُ حالَ مَن يَقودُه، بل كما يُقالُ في المَثَلِ للجاهِلِ: أين تذهَبُ؟ قال: معهم. قيل: فإلى أينَ يَذهَبون؟ قال: لا أدري!). ((تفسير ابن كثير)) (6/71). وقال ابنُ القيِّم: (النوع الثَّاني: أصحابُ مثَلِ الظُّلُماتِ المُتراكِمةِ، وهُمُ الذين عرَفوا الحقَّ والهُدى، وآثَروا عليه ظُلُماتِ الباطِلِ والضَّلالِ، فتراكمَتْ عليهم ظُلْمةُ الطَّبعِ، وظُلمةُ النفوسِ، وظُلمةُ الجهلِ حيث لم يَعمَلوا بعِلمِهم فصاروا جاهِلين، وظُلمةُ اتِّباعِ الغَيِّ والهَوى، فحالُهم كحالِ مَن كان في بحرٍ لُجِّيٍّ لا ساحلَ له، وقد غَشِيَه مَوجٌ، ومِن فَوقِ ذلك المَوجِ مَوجٌ، ومِن فَوقِه سَحابٌ مُظْلِمٌ؛ فهو في ظُلمةِ البحرِ، وظُلمةِ المَوجِ، وظُلمةِ السَّحابِ، وهذا نَظيرُ ما هو فيه مِنَ الظُّلُماتِ التي لم يُخرِجْهُ الله منها إلى نورِ الإيمانِ... فكذلك الكفَّارُ في هذَينِ المثَلَينِ؛ حَظُّهم مِنَ الماءِ السَّرابُ الذي يَغُرُّ الناظِرَ ولا حقيقةَ له، وحَظُّهمُ الظُّلُماتُ المُتراكِمةُ. وهذا يَجوزُ أن يَكونَ المرادُ به حالَ كلِّ طائفةٍ مِن طوائفِ الكفَّارِ، وأنَّهم عَدِموا مادَّةَ الحياةِ والإضاءةِ بإعراضِهم عن الوَحيِ؛ فيَكونَ المَثَلانِ صِفَتَينِ لمَوصوفٍ واحدٍ. ويَجوزُ أن يَكونَ المرادُ به تنويعَ أحوالِ الكفَّارِ، وأنَّ أصحابَ المَثَلِ الأوَّلِ هُمُ الذين عمِلوا على غَيرِ عِلمٍ ولا بصيرةٍ، بل على جهلٍ وحُسنِ ظَنٍّ بالأسلافِ، فكانوا يَحسَبونَ أنَّهم يُحسِنونَ صُنْعًا، وأصحابَ المَثَلِ الثَّاني هم الذين استَحَبُّوا الضَّلالةَ على الهُدى، وآثَروا الباطلَ على الحقِّ، وعَمُوا عنه بعْدَ أن أبصَروه، وجَحَدوه بعْدَ أن عرَفوه، فهذا حالُ المغضوبِ عليهم، والأوَّلُ حالُ الضَّالِّينَ... فالمَثَلُ الأوَّلُ مِنَ المَثَلينِ لأصحابِ العملِ الباطلِ الذي لا يَنفَعُ، والمثَلُ الثَّاني لأصحابِ العِلمِ الذي لا يَنفَعُ والاعتِقاداتِ الباطِلةِ، وكِلاهما مُضادٌّ للهُدى ودينِ الحقِّ؛ ولهذا مثَّلَ حالَ الفريقِ الثَّاني في تلاطُمِ أمواجِ الشُّكوكِ والشُّبُهاتِ والعلومِ الفاسدةِ في قلوبِهم بتلاطُمِ أمواجِ البحرِ فيه، وأنَّها أمواجٌ مُتراكِمةٌ مِن فَوقِها سَحابٌ مُظْلِمٌ، وهكذا أمواجُ الشُّكوكِ والشُّبَهِ في قلوبِهم المُظْلِمةِ التي قد تراكمتْ عليها سُحُبُ الغَيِّ والهوى والباطِلِ. فلْيَتدبَّرِ اللَّبيبُ أحوالَ الفريقَينِ، ولْيُطابِقْ بيْنهما وبيْن المَثَلينِ؛ يَعرِفْ عَظَمةَ القرآنِ وجَلالَتَه، وأنَّه تَنزيلٌ مِن حكيمٍ حميدٍ). ((إعلام الموقعين)) (1/121، 122). وقال السعدي: (يحتمِلُ أنَّ هذَينِ المِثالَينِ لأعمالِ جميعِ الكفَّارِ، كلٌّ منهما مُنطبِقٌ عليها، وعدَّدهما لتعدُّدِ الأوصافِ. ويحتمِلُ أنَّ كلَّ مثالٍ لطائفةٍ وفِرقةٍ؛ فالأوَّلُ للمتبوعينَ، والثَّاني للتابِعينَ، واللهُ أعلَمُ). ((تفسير السعدي)) (ص: 569). وقال ابن عثيمين: (أَوْ للتَّنويعِ في قَولِه: أَوْ كَظُلُمَاتٍ، يعني: أو أعمالُهم كظُلُماتِ... إلى آخِرِه... وهذا التقسيمُ للتَّنويعِ كما تقدَّم؛ فالأوَّلُ -والله أعلمُ- في حالِ الكافِرِ المجتَهِدِ الذي عندَه فَهمٌ واجتِهادٌ، الذي يظُنُّ أنَّ عَمَله يَنفَعُه، والثاني: في حالِ المقَلِّدِ الذي لا يَدري وعِندَه جَهلٌ وضَلالٌ، فهو في ظُلمةٍ، يسيرُ مع الكُفَّارِ وهو لا يَدري). ((تفسير ابن عثيمين - سورة النور)) (ص: 277، 278). .
يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ: 
1- قراءةُ (سَحَابٌ ظُلُمَاتٍ): برفعِ (سَحَابٌ) منَوَّنًا، و(ظُلُمَاتٍ) بالخفضِ بدلًا مِن قَولِه: أَوْ كَظُلُمَاتٍ [1042] قرأ بها قنبل عن ابن كثير. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/332). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((الحجة)) لابن خالويه (ص: 263)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (2/973). .
2- قراءة (سَحَابُ ظُلُمَاتٍ): برفعِ (سَحَابُ) مِن غيرِ تنوينٍ، و(ظُلُمَاتٍ) بالخفضِ، جعلَ الموجَ المتراكِمَ بمنزلةِ السَّحابِ، كما يُقالُ: سَحابةُ رحمةٍ، فأضافَ (سَحَابُ) إلى (ظُلُمَاتٍ) ليبيِّنَ في أيِّ شَيءٍ هو [1043] قرأ بها البزِّي عن ابن كثير. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/332). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 502)، ((الكشف)) لمكِّي (2/140)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (2/973). .
3- قراءةُ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ: برفعِهما جميعًا وتنوينِهما، و(ظُلُمَاتٌ) تبيينٌ لِقَولِه: مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ، فهذه ثلاثُ ظُلُماتٍ [1044] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/332). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((الحجة)) لابن خالويه (ص: 263)، ((الدر المصون)) للحلبي (8/415). .
يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ.
أي: يَعلو ذلك البَحرَ اللُّجِّيَّ مَوجٌ، ومِن فوقِ الموجِ مَوجٌ آخَرُ يَعلوه، ومِن فَوقِ الموجِ الثَّاني سَحابٌ مُظلِمٌ [1045] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/329)، ((الوسيط)) للواحدي (3/322)، ((تفسير القرطبي)) (12/284)، ((اجتماع الجيوش الإسلامية)) لابن القيم (2/59)، ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/121). قال ابن القيم: (تصويرٌ لحال هذا المُعرِضِ عن وَحْيِه، فشَبَّه تلاطُمَ أمواجِ الشُّبَهِ والباطِلِ في صدرِه بتلاطُمِ أمواجِ ذلك البحرِ، وأنَّها أمواجٌ بعضُها فوقَ بَعضٍ). ((اجتماع الجيوش الإسلامية)) (2/58). وقال ابنُ عثيمين: (قَولُه: يَغْشَاهُ مَوْجٌ بمعنى: يغطِّي هذا الكافِرَ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ أيضًا؛ أمواجٌ عاليةٌ، لكنْ ما حَدُّ الموجِ الثاني مِن الأوَّلِ؟ يعني: ما الذي يميِّزُ الموجَ الثَّانيَ عن الموجِ الأوَّلِ؟ الجوابُ: إمَّا أن يقالَ بالاتِّجاهِ، يعني: الأمواج تتلاقى؛ موجٌ يأتي مِن هنا، والثَّاني أعلى منه، أتى مِن جهةٍ ثانيةٍ؛ مِن أجْلِ أن يتبيَّنَ عُلوُّ هذا على ذاك، أو أنَّها أمواجٌ مُتلاحِقةٌ، مثلًا مَوجٌ مُقبِلٌ كارتفاعِ الجبَلِ، ووراءَه موجٌ آخَرُ أعلى منه، فإذا لَحِقَه صار مَوجًا مِن فَوقِه مَوجٌ، وأمَّا أنَّه موجٌ واحِدٌ فلا يمكِنُ أن يُفصَلَ بَعضُه عن بعضٍ، ومَن شاهَد البحرَ وجد الأمرَ كذلك؛ تجِدُ أمواجًا متلاحِقةً، أحيانًا إذا انعكس الهواءُ تتقابَلُ، وأحيانًا تتلاحَقُ). ((تفسير ابن عثيمين - سورة النور)) (ص: 278). قال الشوكاني: (يجتمِعُ حينئذٍ عليهم خوفُ البحرِ وأمواجِه، والسحابِ المرتفعِ فوقَه. وقيلَ إِنَّ المعنَى: يَغشاهُ موجٌ مِن بعدِ موجٌ، فيكونُ الموجُ يَتْبَعُ بعضُه بعضًا حتَّى كأنَّه بعضَه فوقَ بعضٍ، والبحرُ أخوفُ ما يكونُ إذا توالَتْ أمواجُه، فإذا انْضَمَّ إلى ذلك وجودُ السَّحابِ مِن فوقِه، زادَ الخوفُ شِدَّةً، لأنَّها تَسْتُرُ النُّجومَ الَّتي يَهْتَدي بها مَن في البحرِ، ثمَّ إذا أمطَرت تلك السحبُ وَهَبَّتِ الرِّيحُ المعتادَةُ في الغالبِ عندَ نُزولِ المطرِ، تكاثَفَتِ الهمومُ، وترادَفَتِ الغمومُ، وبَلَغ الأمرُ إلى الغايةِ الَّتي ليسَ وراءَها غايةٌ). ((تفسير الشوكاني)) (4/46). .
ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ.
أي: ظُلمةُ البَحرِ، وظُلمةُ المَوجِ، وظُلمةُ السَّحابِ؛ هي ظُلُماتٌ مُتراكِمةٌ، بَعضُها فوقَ بعضٍ [1046] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/330)، ((اجتماع الجيوش الإسلامية)) لابن القيم (2/59)، ((تفسير السعدي)) (ص: 569)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/256). قال ابنُ جرير: (فجعَلَ الظُّلُماتِ مَثَلًا لأعمالِهم، والبَحرَ اللُّجِّيَّ مَثلًا لقَلبِ الكافِرِ، يقولُ: عَمَلُه بنيَّةِ قَلبٍ قد غمَره الجَهلُ، وتغَشَّتْه الضَّلالةُ والحَيرةُ، كما يَغشى هذا البَحرَ اللُّجِّيَّ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ، فكذلك قَلبُ هذا الكافِرِ الذي مَثَلُ عَمَلِه مَثَلُ هذه الظُّلُماتِ؛ يغشاه الجَهلُ بالله، بأنَّ اللهَ ختَمَ عليه فلا يَعقِلُ عن الله، وعلى سَمعِه فلا يَسمَعُ موَاعِظَ الله، وجعَلَ على بصَرِه غِشاوةً فلا يُبصِرُ به حُجَجَ الله، فتلك ظُلُماتٌ بَعضُها فوقَ بَعضٍ). ((تفسير ابن جرير)) (17/329،330). وقال السعدي: (كذلك الكُفَّارُ؛ تراكمت على قلوبِهم الظُّلُماتُ: ظُلمةُ الطبيعة التي لا خيرَ فيها، وفوقَها ظلمةُ الكُفرِ، وفوقَ ذلك ظُلمةُ الجَهلِ، وفوقَ ذلك ظُلمةُ الأعمالِ الصَّادرة عمَّا ذُكر، فبقُوا في الظلمةِ متحيِّرين، وفي غمرتِهم يَعْمَهون، وعن الصراطِ المُستقيمِ مُدْبِرين، وفي طرُقِ الغَيِّ والضَّلالِ يترَدَّدون؛ وهذا لأنَّ الله تعالى خذَلهم، فلمْ يُعطِهم مِن نورِه). ((تفسير السعدي)) (ص: 569). .
إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا.
أي: إذا أخرجَ مَن كان في هذه الظُّلُماتِ يَدَه لِيَنظُرَ إليها، لم يقارِبْ رُؤيتَها؛ مِن شِدَّةِ الظَّلامِ، فلا يراها مُطلقًا [1047] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/331)، ((تفسير القرطبي)) (12/285)، ((اجتماع الجيوش الإسلامية)) لابن القيم (2/61، 62)، ((تفسير ابن كثير)) (6/71)، ((تفسير السعدي)) (ص: 569). قال ابن جُزي: (المعنى: مُبالَغةٌ في وَصفِ الظُّلمةِ، والضَّميرُ في أَخْرَجَ وما بعْدَه للرَّجُلِ الذي وَقَع في الظُّلُماتِ الموصوفةِ. واختُلِفَ في تأويلِ الكلامِ؛ فقيل: المعنى: إذا أخرَج يَدَه لم يُقارِبْ رُؤيتَها، فنفى الرُّؤيةَ ومُقارَبتَها. وقيل: بل رآها بعْدَ عُسرٍ وشِدَّةٍ؛ لأنَّ «كاد» إذا نُفِيَت تقتضي الإيجابَ، وإذا أُوجِبَت تقتضي النَّفيَ. وقال ابنُ عطيةَ: إنَّما ذلك إذا دخل حَرفُ النَّفيِ على الفِعلِ الذي بَعْدَها، فأمَّا إذا دَخَل حَرفُ النَّفيِ على كاد، كقَولِه: «لم يَكَدْ»، فإنَّه يحتَمِلُ النَّفيَ والإيجابَ). ((تفسير ابن جزي)) (ص: 1239). ويُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/188). مِمَّن اختار القَولَ الأوَّلَ، وهو نفيُ الرُّؤيةِ، وأنَّ معنى لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا أي: لم يَرَها، أو نَفيُ مُقاربتِها، والمعنى: لم يُقارِبْ رُؤيتهَا، وهذا يقتَضي نفيَ الرُّؤيةِ جُملةً؛ لأنَّه إذا كان لا يُقارِبُ رُؤيتَها، فكيف يراها؟ مِمَّن اختار هذا القَولَ في الجُملةِ: مقاتلُ بن سليمان، وابن جرير، والنحاس، والثعلبي، والواحدي، والسمعاني، والبيضاوي، والنسفي، والخازن، وابن كثير، وجلال الدين المحلي، والقاسمي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/202)، ((تفسير ابن جرير)) (17/332)، ((معاني القرآن)) للنحاس (4/542)، ((تفسير الثعلبي)) (7/111)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 766)، ((تفسير السمعاني)) (3/537)، ((تفسير البيضاوي)) (4/109)، ((تفسير النسفي)) (2/510)، ((تفسير الخازن)) (3/300)، ((تفسير ابن كثير)) (6/71)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 465)، ((تفسير القاسمي)) (7/397). ومِمَّن اختار القَولَ الثَّاني: أي: أنَّه رآها بَعدَ جَهدٍ وتَعَبٍ: مكِّي، والغزنوي. يُنظر: ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (8/5126)، ((باهر البرهان)) للغزنوي (2/1004). .
وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ.
أي: ومَنْ لم يَهدِه اللهُ في الدُّنيا لنورِ القُرآنِ ويُوفِّقْه للإيمانِ، فلا هِدايةَ له مِن أيِّ أحَدٍ كائنًا مَن كان [1048] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/332، 333)، ((تفسير ابن عطية)) (4/188)، ((تفسير البيضاوي)) (4/109، 110)، ((تفسير أبي السعود)) (6/182). .
كما قال تعالى: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا [الكهف: 17] .
وقال سُبحانَه: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [غافر: 33] .

الفوائد التربوية:

1- قَولُه تعالى: وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ فيه إثباتُ الحِسابِ، وأنَّ الإنسانَ سوف يُحاسَبُ على عمَلِه؛ إنْ خَيرًا فخَيرٌ، وإنْ شَرًّا فشَرٌّ، فيَنبَغي للعاقِلِ أن يُحاسِبَ نفْسَه قبْلَ أنْ يُحاسَبَ، كما قال أميرُ المؤمِنينَ عُمرُ بنُ الخَطَّابِ رضي اللهُ عنه: (حاسِبوا أنفُسَكم قبْلَ أن تُحاسَبوا) [1049] أخرجه أبو نعيم في ((الحلية)) (1/52) والآجري في ((أدب النفوس)) (ص: 269). . فكَوْنُ الإنسانِ يُحاسِبُ نفْسَه لِيُصلِحَ ما عَساهُ فسَدَ، أَوْلى مِن سُكوتِه وإهمالِه وعدَمِ حسابِ نفْسِه؛ لأنَّ الذُّنوبَ تَتراكَمُ عليه ثمَّ يَهلِكُ [1050] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة آل عمران)) (1/130) و(2/598). .
2- قال الله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ هذه الآيةُ تدُلُّ على أنَّه يجبُ على المرءِ أنْ يلجأَ إلى اللهِ دائمًا، فيسألَه أنْ يُنَوِّرَ قلبَه؛ لأنَّ قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ هذا منطوقُ الآيةِ، ومفهومُ الآيةِ: مَن جَعَل اللهُ له نورًا فلا أحدَ يَحْجُبُ عنه نورَ اللهِ عزَّ وجلَّ [1051] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة النور))  (ص: 283). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ الله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا فيه سؤالٌ: قولُه: حَتَّى إِذَا جَاءَهُ يدُلُّ على كونِه شيئًا. وقولُه: لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا قد يُفهَمُ منه التَّعارضُ؟
الجواب مِن وجوهٍ ثلاثةٍ:
الأول: أنَّ المرادَ معناه: أنَّه لم يَجِدْه شيئًا نافعًا، كما يُقالُ: (فلانٌ ما عمِل شيئًا)، وإن كان قد اجتَهد.
الثاني: أنَّ حَتَّى إِذَا جَاءَهُ أي: جاء موضعَ السرابِ، لم يَجِدِ السرابَ شيئًا؛ فاكتفَى بذكرِ السرابِ عن ذكرِ موضعِه.
الثالث: الكنايةُ للسرابِ؛ لأنَّ السرابَ يُرى مِن بعيدٍ بسببِ الكثافةِ كأنَّه ضبابٌ وهباءٌ، وإذا قرُب منه رقَّ وانتثر، وصار كالهواءِ، فالمرادُ: جاء الشيءَ الذي تخيَّلَ أنَّه ماءٌ [1052] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (24/399). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن جرير)) (17/327)، ((دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب)) للشنقيطي (ص: 169)، ((تفسير سورة النور)) للشنقيطي (ص: 150). .
2- في قَولِه تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا دَلالةٌ على أنَّ السَّرابَ مَعدومٌ، وأنَّ المعدومَ ليس شيئًا، وأنَّ الجبالَ يومَ القيامةِ تصيرُ إلى لا شَيءٍ؛ لأنَّ اللهَ تعالى قال في شأنِها: وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا [1053] يُنظر: ((تفسير سورة النور)) للشنقيطي (ص: 150). [النبأ: 20] .
3- في قَولِه تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ حُجَّةٌ في أنَّ الكُفَّارَ يُحاسَبونَ [1054] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (1/630). قال ابنُ تيميَّةَ جوابًا عن سُؤالٍ: هل الكُفَّارُ يُحاسَبونَ يومَ القيامةِ أم لا؟: (هذه المسألةُ تنازَعَ فيها المتأخِّرون من أصحابِ أحمدَ وغيرِهم... وفَصْلُ الخِطابِ: أنَّ الحِسابَ يُرادُ به عَرضُ أعمالِهم عليهم وتَوبيخُهم عليها، ويرادُ بالحِسابِ مُوازَنةُ الحَسَناتِ بالسَّيِّئاتِ؛ فإنْ أُريدَ بالِحسابِ المعنى الأوَّلُ فلا رَيبَ أنَّهم يُحاسَبونَ بهذا الاعتِبارِ، وإن أُريدَ المعنى الثاني: فإنْ قَصَد بذلك أنَّ الكُفَّارَ تَبقى لهم حَسَناتٌ يَستَحِقُّونَ بها الجنَّةَ، فهذا خطَأٌ ظاهِرٌ، وإنْ أُريدَ أنَّهم يَتفاوتونَ في العِقابِ، فعِقابُ مَن كَثُرت سيِّئاتُه أعظَمُ من عقابِ مَن قَلَّتْ سيِّئاتُه، ومَن كان له حَسَناتٌ خُفِّفَ عنه العذابُ، كما أنَّ أبا طالبٍ أخَفُّ عذابًا مِن أبي لهَبٍ، وقال تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ [النحل: 88] ، وقال تعالى: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ [التوبة: 37] ، والنَّارُ دَرَكاتٌ؛ فإذا كان بَعضُ الكُفَّارِ عَذابُه أشَدُّ عَذابًا مِن بَعضٍ -لكَثرةِ سَيِّئاتِه، وقِلَّةِ حَسَناتِه- كان الحِسابُ لبَيانِ مراتِبِ العذابِ، لا لأجْلِ دُخولِهم الجنَّةَ). ((مجموع الفتاوى)) (4/305). .
4- لا رَيْبَ أنَّ الاعتِقاداتِ الفاسِدةَ -مِثلَ اعتِقادِ الكُفَّارِ في ربِّهم- وما يَتبَعُها مِنَ الإراداتِ هي خَيالاتٌ وأَوْهامٌ باطِلةٌ؛ كما قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور: 39-40] ، هذا بعْدَ قَولِه: اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ إلى قَولِه: نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [النور: 35] ، وقال تعالى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [1055] يُنظر: ((بيان تلبيس الجهمية)) لابن تيمية (1/321). [الأنعام: 122] .
5- قَولُ الله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ فيه تنبيهٌ على أنَّ الله تعالى متصَرِّفٌ بالإعطاءِ والمَنعِ، على حَسَبِ إرادتِه وحِكمتِه، وما سبَقَ مِن نِظامِ تَدبيرِه [1056] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/257). .

بلاغة الآيتين:

1- قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ
- قولُه: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً ... عطْفُ حالِ أعمالِ الكافرينَ عطْفَ القصَّةِ على القصَّةِ، على عادةِ القُرآنِ في إردافِ البِشارةِ بالنِّذارةِ. والجُملةُ مُستأنَفةٌ استِئنافًا ابتِدائيًّا، وجُعِلَ المُسنَدُ إليه ما يدُلُّ على ذواتِ الكافرينَ، ثمَّ بُنِيَ عليه مُسنَدٌ إليه آخَرُ وهو أَعْمَالُهُمْ، ولم يُجعَلِ المُسنَدُ إليه أعمالَ الَّذين كَفروا مِن أوَّلِ وهْلةٍ؛ لِمَا في الافتتاحِ بذِكْرِ (الَّذين كفروا) مِن التَّشويقِ إلى مَعرفةِ ما سيُذكَرُ مِن شُؤونِهم؛ ليَتقرَّرَ في النفْسِ كَمالُ التَّقرُّرِ، وليَظهَرَ أنَّ للَّذينَ كَفروا حظًّا في التَّمثيلِ، بحيث لا يكونُ المُشبَّهُ أعمالَهم خاصَّةً، وفي الإتيانِ بالموصولِ وصِلَتِه إشارةٌ إلى وجْهِ بِناءِ الخبَرِ، وهو أنَّه مِن جَزاءِ كُفْرِهم باللهِ. على أنَّه قد يكونُ عنوانُ الَّذِينَ كَفَرُوا قد غلَبَ على المُشركين مِن أهلِ مكَّةَ؛ فيكونُ افتِتاحُ الكلامِ بهذا الوصفِ إشارةً إلى أنَّه إبطالٌ لشيءٍ اعتقدَهُ الَّذين كفروا؛ فتَشبيهُ الكافرينَ وأعمالِهم تَشبيهٌ تَمثيليٌّ؛ شُبِّهَت حالةُ كَدِّهِم في الأعمالِ وحِرْصِهم على الاستكثارِ منها، مع ظَنِّهم أنَّها تُقرِّبُهم إلى رِضا اللهِ، ثمَّ تبيَّنَ أنَّها لا تُجْدِيهم، بلْ يَلْقَون العذابَ في وقتِ ظنِّهم الفوزَ: شبَّهَ ذلك بحالةِ ظمآنٍ يَرى السَّرابَ، فيَحسَبُه ماءً، فيَسْعى إليه، فإذا بلَغَ المسافةَ الَّتي خالَ -أي: ظَنَّ- أنَّها مَوقعُ الماءِ لم يجِدْ ماءً، ووجَدَ هُنالك غَريمًا يأسِرُه ويُحاسِبُه على ما سلَفَ مِن أعمالِه السَّيِّئةِ. والحالةُ المُشبَّهةُ مُركَّبةٌ مِن مَحسوسٍ ومَعقولٍ، والحالةُ المُشبَّهُ بها حالةٌ مَحسوسةٌ، أي: داخلةٌ تحتَ إدراكِ الحواسِّ [1057] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/180)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/250، 251). .
- وفي قولِه: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً  ... شبَّهَ أعمالَهم في اضْمِحلالِها وفُقدانِ ثَمرتِها بسَرابٍ في مكانٍ مُنخفضٍ ظنَّه العطشانُ ماءً، فقصَدَه وأتعَبَ نفْسَه في الوُصولِ إليه، حتَّى إذا جاء مَوضِعَه الَّذي تخيَّلَه فيه، لم يجِدْه شيئًا، أي: فقَدَهُ؛ لأنَّه مع الدُّنوِّ لا يَرى شيئًا. كذلك الكافِرُ يظُنُّ أنَّ عمَلَه في الدُّنيا نافِعُه، حتَّى إذا أفْضى إلى الآخرةِ لم يَنفَعْه عمَلُه، بل صار وَبالًا عليه. ويَحتمِلُ أنْ يعودَ الضَّميرُ في جَاءَهُ على السَّرابِ، ثمَّ في الكلامِ مَتروكٌ كثيرٌ يدُلُّ عليه الظَّاهرُ، تقديرُه: وكذلك الكافرُ يومَ القيامةِ يظُنُّ عملَهُ نافعًا، حتَّى إذا جاءهُ لم يجِدْه شيئًا. ويَحتمِلُ الضَّميرُ أنْ يعودَ على العمَلِ الَّذي يدُلُّ عليه قولُه: أَعْمَالَهُمْ، ويكونُ تَمامُ المثَلِ في قولِه: مَاءً، ويَسْتغني الكلامُ عن مَتروكٍ على هذا التَّأويلِ، لكنْ يكونُ في المثَلِ إيجازٌ واقتِضابٌ؛ لوُضوحِ المعنى المُرادِ به [1058] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/187)، ((تفسير أبي حيان)) (8/52). .
- قولُه: يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً فيه تَخصيصُ الحُسبانِ بالظَّمآنِ، مع شُمولِه لكلِّ مَن يراهُ كائنًا مَن كان مِن العطشانِ والرَّيَّانِ؛ لتَكميلِ التَّشبيهِ بتَحقيقِ شَرِكةِ طرفَيهِ في وَجهِ الشَّبهِ الَّذي هو المُطلعُ المُطْمِعُ، والمُقطِعُ المُوئِسُ [1059] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/109)، ((تفسير أبي السعود)) (6/181). . وأيضًا يُفِيدُ قولُه: يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً وجْهَ الشَّبهِ، ويتضمَّنُ أحدَ أركانِ التَّمثيلِ؛ وهو العطشانُ، وهو مُشابهُ الكافرِ صاحبِ العمَلِ؛ ضُرِبَ ذلك مثلًا لقُربِ زمَنِ إفضاءِ الكافرِ إلى عمَلِه وقتَ مَوتِه حينَ يَرى مَقعدَه، أو في وقتِ الحشْرِ. وقولُه: وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ مِن تَمامِ التَّمثيلِ، أي: لم يجِدِ الماءَ، ووجَدَ في مَظِنَّةِ الماءِ الَّذي ينتفِعُ به، وجَدَ مَن إنْ أخَذَ بناصيتِه لم يُفلِتْه [1060] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/253). .
- وأيضًا قولُه: يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا فيه تَشبيهٌ مُرسَلٌ [1061] التَّشبيهُ: هو إلحاقُ شَيءٍ بذِي وصْفٍ في وَصْفِه. وقيل: هو إثباتُ حُكمٍ مِن أحكامٍ المُشبَّهِ به للمُشبَّهِ. وقد اتَّفقَ الأُدباءُ على شَرفِه في أنواعِ البَلاغةِ، وأنَّه إذا جاء في أعقابِ المعاني أفادَها كمَالًا، وكساها حُلَّةً وجَمالًا، وهو جارٍ في كلامِ العَربِ، بلْ هو أكثرُ كلامِهم. ويَنقسمُ التشبيهُ عِدَّةَ تَقسيماتٍ باعتباراتٍ عِدَّة؛ فمنه: التَّشبيهُ المُفرَد. ومنه: التشبيهُ المُركَّبُ: وهو الذي يكونُ وجهُ الشَّبهِ فيه مُنتزَعًا مِن مُتعدِّدٍ، أو مِن أمورٍ مجموعٍ بعضُها إلى بعضٍ، كقولِه تعالى: كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا [الجمعة: 5] ؛ فالتشبيهُ هنا مُركَّبٌ من أحوالِ الحِمارِ. وخَصَّ البيانيُّونَ لفْظَ «التمثيل» بالتشبيهِ المركَّبِ. ومنه: التشبيهُ البليغُ: وهو ما كانتْ أداةُ التشبيهِ فيه مَحذوفةً. وينقسمُ التشبيهُ باعتبارٍ آخَرَ إلى مُؤكَّدٍ: وهو ما حُذفتْ فيه الأداةُ، نحو: وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ [النمل: 88] ، أي: مِثلَ مرِّ السحابِ. ومُرْسَل: وهو ما لم تُحذَفْ فيه الأداةُ. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 332 وما بعدها)، ((البرهان)) للزركشي (3/414، 422)، ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (3/146)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (1/66)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/161). ؛ فقد أخرَجَ ما لا تقَعُ عليه الحاسَّةُ إلى ما تقَعُ عليه الحاسَّةُ، ولو قِيلَ: (يَحسَبُه الرَّائي ماءً) لكان بَليغًا، وأبلَغُ منه لفظُ القُرآنِ؛ لأنَّ الظَّمآنَ أشدُّ حِرصًا عليه، وأكثَرُ تعلُّقَ قلْبٍ به. وتَشبيهُ أعمالِ الكفَّارِ بالسَّرابِ مِن أحسَنِ التَّشبيهِ وأبلَغِه؛ فكيف وقد تضمَّنَ مع ذلك حُسنَ النَّظمِ، وعُذوبةَ الألفاظِ، وصِحَّةَ الدَّلالةِ، وصِدْقَ التَّمثيلِ [1062] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (6/618). ؟!
- وفي قولِه: وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ تَشبيهٌ تَمثيليٌّ، أي: وجَدَ عِقابَه وزَبانيةَ عذابِه -على قولٍ في التفسيرِ- ووجْهُ التَّشبيهِ: أنَّ الَّذي يأْتي به الكافرُ من أعمالِ البِرِّ، ويعتقِدُ أنَّ له ثوابًا عندَ اللهِ تعالى وليس كذلك، فإذا وافَى عَرَصاتِ القيامةِ لم يجِدِ الثَّوابَ الَّذي كان يظُنُّه، بلْ وجَدَ العِقابَ العظيمَ، والعذابَ الأليمَ؛ فعظُمَت حَسرتُه، وتَناهى غمُّه؛ فشُبِّهَ حالُه بحالِ الظَّمآنِ الَّذي اشتدَّتْ حاجتُه إلى الماءِ، فإذا شاهَدَ السَّرابَ في البَرِّ تعلَّقَ قلْبُه، فإذا جاءهُ لم يجِدْه شيئًا، فكذلك حالُ الكافرِ يَحسَبُ أنَّ عمَلَه نافِعُه، فإذا احتاج إلى عمَلِه لم يجِدْه أغْنى عنه شيئًا [1063] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (6/619). .
- قولُه: وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فيه إيجازٌ بالحذْفِ؛ فالجُملةُ عطْفٌ على مُقدَّرٍ، وليست معطوفةً على لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا، بلْ على ما يُفهَمُ منه بطريقِ التَّمثيلِ، مِن عدَمِ وُجدانِ الكفرةِ مِن أعمالِهم المذكورةِ عَيْنًا ولا أثرًا، كأنَّه قيل: حتَّى إذا جاء الكفرةُ يومَ القيامةِ أعمالَهم الَّتي كانوا في الدُّنيا يَحسَبونها نافعةً لهم في الآخرةِ، لم يجِدُوها شيئًا، ووَجَدوا حُكْمَ اللهِ وقضاءَه -على قولٍ في التفسيرِ- لهم بالمِرصادِ [1064] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (6/619). .
- قولُه: وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ بَيانٌ لبقيَّةِ أحوالِهم العارضةِ لهم بعدَ ذلك بطريقِ التَّكملةِ؛ لئلَّا يُتوهَّمَ أنَّ قُصارى أمْرِهم هو الخَيبةُ والقُنوطُ فقطْ كما هو شأْنُ الظَّمآنِ [1065] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/181). .
- وإفرادُ الضَّميرينِ (فوجَدَ - فوفَّاه) الرَّاجعَينِ إلى الَّذين كَفروا؛ إمَّا لإرادةِ الجنْسِ كالضَّمانِ الواقعِ في التَّمثيلِ، وإمَّا للحمْلِ على كلِّ واحدٍ منهم، وكذا إفرادُ ما يَرجِعُ إلى أعمالِهم [1066] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/52)، ((تفسير أبي السعود)) (6/181). .
- وجُملةُ: وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ تذييلٌ؛ فالمُرادُ أنَّه لا يُماطِلُ الحِسابَ ولا يُؤخِّرُه عندَ حُلولِ مُقْتضيه؛ فهو عامٌّ في حسابِ الخيرِ والشَّرِّ [1067] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/254). .
2- قولُه تعالى: أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ هذا هو التَّشبيهُ الثَّاني لأعمالِهم؛ فالأوَّلُ فيما يَؤولُ إليه أعمالُهم في الآخرةِ -على قولٍ-، وهذا الثَّاني فيما هُم عليه في حالِ الدُّنيا -على قولٍ-. وبدَأَ بالتَّشبيهِ الأوَّلِ؛ لأنَّه آكَدُ في الإخبارِ؛ لِمَا فيه مِن ذِكْرِ ما يَؤولُ إليه أمْرُهم مِن العقابِ الدَّائمِ، والعذابِ السَّرْمَديِّ. ثمَّ أتبَعَهُ بهذا التَّمثيلِ الَّذي نبَّهَهم على ما هي أعمالُهم عليه؛ لعلَّهم يرجِعون إلى الإيمانِ، ويُفكِّرون في نُورِ اللهِ الَّذي جاء به الرَّسولُ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ [1068] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/52، 53). . وقد شبَّهَ أعمالَهم أوَّلًا في فَواتِ نفْعِها وحُضورِ ضرَرِها بسَرابٍ لم يجِدْه مَن خدَعَه مِن بعيدٍ شيئًا، ولم يَكْفِه خَيبةً وكَمَدًا أنْ لم يجِدْ شيئًا كغيرِه مِن السَّرابِ، حتَّى وجَدَ عندَه الزَّبانيةَ -على قولٍ في التفسيرِ- تَعتِلُه إلى النَّارِ، ولا يقتُلُ ظمأَهُ بالماءِ. وشبَّهها ثانيًا في ظُلْمتِها وسَوادِها لكونِها باطلةً، وفي خُلوِّها عن نورِ الحقِّ بظُلُماتٍ مُتراكمةٍ مِن لُجِّ البحرِ والأمواجِ والسَّحابِ [1069] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/244)، ((تفسير أبي حيان)) (8/54). .
- قولُه: أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا قِيل: تَقديرُ أَوْ كَظُلُمَاتٍ: أو كَذِي ظُلماتٍ، ودلَّ على هذا المُضافِ قولُه: إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ؛ فالكِنايةُ تعودُ إلى المُضافِ المحذوفِ؛ فالتَّشبيهُ وقَعَ للكافرِ لا للأعمالِ -وهو خلافُ الظَّاهرِ-، ويكونُ التَّقديرُ: أو هُم كذي ظُلماتٍ؛ فيكونُ التَّشبيهُ الأوَّلُ لأعمالِهم، والثَّاني لهم في حالِ ضَلالِهم. وقيل: الآيةُ الأُولى في ذِكْرِ أعمالِ الكفَّارِ، والثَّانيةُ في ذِكْرِ كُفْرِهم، ونسَقَ الكُفرَ على أعمالِهم؛ لأنَّ الكُفرَ أيضًا مِن أعمالِهم، وقد قال تعالى: يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [البقرة: 257] مِن الكُفرِ إلى الإيمانِ، فيكونُ التَّمثيلُ قد وقَعَ لأعمالِهم بكُفرِ الكافرِ، وأعمالُهم منها كُفْرُهم؛ فيكونُ قد شبَّهَ أعمالَهم بالظُّلماتِ [1070] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/53). .
- وأيضًا هذا التَّمثيلُ صالحٌ لاعتِبارِ التَّفريقِ في تَشبيهِ أجزاءِ الهيئةِ المُشبَّهةِ بأجزاءِ الهيئةِ المُشبَّهِ بها؛ فالضَّلالاتُ تُشبِهُ الظُّلماتِ، والأعمالُ الَّتي اقتحَمَها الكافرُ لقصْدِ التَّقرُّبِ بها تُشْبِهُ البحْرَ، وما يُخالِطُ أعمالَه الحَسنةَ مِن الأعمالِ الباطلةِ كالبَحيرةِ والسَّائبةِ، يُشبِهُ الموجَ في تَخليطِه العمَلَ الحَسنَ وتخلُّلِه فيه، وهو الموجُ الأوَّلُ. وما يَرِدُ على ذلك مِن أعمالِ الكُفرِ كالذَّبحِ للأصنامِ، يُشبِهُ الموجَ الغامِرَ الآتيَ على جميعِ ذلك بالتَّخلُّلِ والإفسادِ، وهو الموجُ الثَّاني، وما يحُفُّ اعتقادَهُ مِن الحَيرةِ في تَمييزِ الحسَنِ مِن العبَثِ ومِن القبيحِ، يُشبِهُ السَّحابَ الَّذي يَغْشى ما بقِيَ في السَّماءِ مِن بَصيصِ أنوارِ النُّجومِ، وتَطلُّبُه الانتفاعَ مِن عمَلِه يُشبِهُ إخراجَ الماخِرِ [1071] الماخِرِ: أي: مُجْرِي السَّفينةِ. يُنظر: ((مختار الصحاح)) للرازي (ص: 291). يدَهُ لإصلاحِ أمْرِ سَفينتِه أو تناوُلِ ما يحتاجُه، فلا يَرى يدَهُ، بلْهَ الشَّيءَ الَّذي يُرِيدُ تناوُلَه [1072] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/257). .
- وقولُه: أَوْ كَظُلُمَاتٍ عطْفٌ على كَسَرَابٍ، وكلمةُ (أو) للتَّنويعِ إثْرَ ما مُثِّلتْ أعمالُهم الَّتي كانُوا يعتمِدونَ عليها أقوى اعتمادٍ، ويفتخِرون بها في كلِّ وادٍ ونادٍ، بما ذُكِرَ مِن حالِ السَّرابِ مع زِيادةِ حِسابٍ وعِقابٍ: مُثِّلتْ أعمالُهم القَبيحةُ الَّتي ليس فيها شائبةُ خَيريَّةٍ يَغتَرُّ بها المُغترُّون بظُلُماتٍ [1073] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/181). . وقيل: (أَو) للتَّخييرِ؛ فإنَّ أعمالَهم لكونِها لاغيةً لا مَنفعةَ لها كالسَّرابِ، ولكونِها خاليةً عن نُورِ الحقِّ كالظُّلماتِ المُتراكمةِ مِن لُجِّ البحرِ والأمواجِ والسَّحابِ. أو للتَّنويعِ؛ فإنَّ أعمالَهم إنْ كانت حَسنةً فكالسَّرابِ، وإنْ كانت قَبيحةً فكالظُّلماتِ. أو للتَّقسيمِ باعتبارِ وقْتينِ؛ فإنَّها كالظُّلماتِ في الدُّنيا، وكالسَّرابِ في الآخرةِ [1074] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/109)، ((تفسير أبي حيان)) (8/53). .
- (أو) إذا جاءت في عطْفِ التَّشبيهاتِ تدُلُّ على تَخييرِ السَّامعِ أنْ يُشَبِّهَ بما قبْلَها وبما بعْدَها مع اتِّحادِ وجْهِ الشَّبهِ. فالمعنى تَمثيلُ الَّذين كَفروا في أعمالِهم الَّتي يَظنُّون أنَّهم يتقرَّبون بها إلى اللهِ، بحالِ ظُلماتِ ليلٍ غَشِيَت ماخِرًا في بحرٍ شديدِ المَوجِ، قدِ اقتحَمَ ذلك البحرَ ليصِلَ إلى غايةٍ مطلوبةٍ؛ فحالُهم في أعمالِهم تُشبِهُ حالَ سابحٍ في ظُلماتِ ليلٍ في بَحرٍ عميقٍ، يَغشاهُ مُوجٌ يركَبُ بعضُه بعضًا لشدَّةِ تَعاقُبِه، وإنَّما يكونُ ذلك عندَ اشتدادِ الرِّياحِ، حتَّى لا يكادُ يَرى يدَهُ الَّتي هي أقرَبُ شيءٍ إليه، وأوضَحُه في رُؤيتِه؛ فكيف يَرْجو النَّجاةَ؟! وإنْ كان الكلامُ جاريًا على التَّخييرِ في التَّشبيهِ مع اختلافِ وَجْهِ الشَّبهِ، كان المعنى تَمثيلَ حالِ الَّذين كَفَروا في أعمالِهم الَّتي يعْمَلونها وهم غيرُ مُؤمنينَ، بحالِ مَن ركِبَ البحرَ يَرْجو بُلوغَ غايةٍ، فإذا هو في ظُلماتٍ لا يَهْتدي معها طريقًا؛ فوجْهُ الشَّبهِ هو ما حَفَّ بأعمالِهم مِن ضَلالِ الكُفرِ الحائلِ دونَ حُصولِ مُبْتغاهم. ويُرجِّحُ هذا الوجهَ تَذييلُ التَّمثيلِ بقولِه: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ. وهذا التَّمثيلُ مِن قَبيلِ تَشبيهِ حالةٍ مَعقولةٍ بحالةٍ مَحسوسةٍ، كما يُقال: شاهدتُ سوادَ الكُفرِ في وجْهِ فُلانٍ [1075] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/254، 255). .
- والجمْعُ في قولِه: كَظُلُمَاتٍ مُستعمَلٌ في لازمِ الكثرةِ، وهو الشِّدَّةُ؛ فالجمْعُ كِنايةٌ؛ لأنَّ شِدَّةَ الظُّلمةِ يحصُلُ مِن تظاهُرِ عِدَّةِ ظُلماتٍ [1076] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/255). .
- قولُه: مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ فيه إيماءٌ إلى غايةِ تَراكُمِ الأمواجِ وتَضاعيفِها حتَّى كأنَّها بلغَتِ السَّحابَ [1077] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/181، 182). .
- قولُه: بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، أي: مُتكاثِفةٌ مُتراكِمةٌ، وهذا بَيانٌ لكَمالِ شدَّةِ الظُّلماتِ [1078] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/182). .
- قولُه: إِذَا أَخْرَجَ، أي: مَنِ ابتُليَ بها، وإضمارُه مِن غيرِ ذِكْرِه؛ لدَلالةِ المَعْنى عليه دَلالةً واضحةً [1079] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/182). .
- قولُه: لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا مُبالغةٌ في (لم يَرَها)، أي: لم يَقرُبْ أنْ يراها، فضْلًا عن أنْ يَراها [1080] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/244)، ((تفسير أبي حيان)) (8/54)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (6/619، 620). ، على أحدِ القولينِ في التفسيرِ.
- قولُه: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ اعتِراضٌ تَذييليٌّ؛ جِيءَ به لتَقريرِ ما أفادهُ التَّمثيلُ مِن كونِ أعمالِ الكَفَرةِ كما فُصِّلَ، وتحقيقِ أنَّ ذلك لعدَمِ هِدايتِه تعالى إيَّاهم لنُورِه. وإيرادُ الموصولِ؛ للإشارةِ بما في حيِّزِ الصِّلةِ إلى عِلَّةِ الحُكْمِ، وأنَّهم ممَّن لم يَشَأِ اللهُ تعالى هِدايتَهم [1081] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (11/113)، ((تفسير أبي السعود)) (6/182)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/257). .