موسوعة التفسير

سورةُ النَّحلِ
الآيات (1-4)

ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ

غريب الكلمات:

بِالرُّوحِ: أي: بِالوَحْيِ، وسُمِّيَ رُوحًا؛ لأنَّه حَياةٌ مِن مَوتِ الكُفرِ، فصار يحيا به النَّاسُ كالرُّوحِ الذي يحيا به الجَسدُ، أو: لأنَّ الوحيَ به حياةُ الأرواحِ [7] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 241)، ((البسيط)) للواحدي (13/10)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 208)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/328). .
نُطْفَةٍ: النُّطفةُ: المنيُّ [8] قال الشنقيطي: (النُّطْفة مختلِطةٌ مِنْ ماءِ الرَّجلِ وماءِ المرأةِ، خلافًا لمنْ زَعَم أنَّها مِنْ ماءِ الرَّجلِ وحدَه). ((أضواء البيان)) (4/266). وذكَر الدليلَ على ذلك، فقال: (بدليلِ قولِه تعالَى: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ [الإنسان: 2] ، أي: أخلاطٍ مِنْ ماءِ الرَّجلِ وماءِ المرأةِ). ((أضواء البيان)) (2/330). ، وقيل: الماءُ الصَّافي قلَّ أو كَثُر، وقيل: الماءُ القليلُ، وأصلُ (نطف): يدُلُّ على نَدوةٍ وبَلَلٍ [9] يُنظر: ((العين)) للخليل (7/436)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/440)، ((أساس البلاغة)) للزمخشري (2/281)، ((مختار الصحاح)) للرازي (ص: 313)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 236). .
خَصِيمٌ: أي: مُخاصِمٌ، جَدِلٌ بِالباطِلِ، وأصلُ (خصم): يدُلُّ على المُنازَعةِ [10] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/187)، ((المفردات)) للراغب (ص: 284)، ((تفسير القرطبي)) (10/68)، ((تفسير البغوي)) (5/9). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ الله تعالى: قَرُبَ قيامُ السَّاعةِ، وقَضاءُ اللهِ بعَذابِكم- أيُّها الكُفَّارُ- فلا تَستَعجِلوا العذابَ استهزاءً بوعيدِ الرَّسولِ لكم، تنزَّهُ اللهُ عن أن يكونَ له شريكٌ، وعمَّا يَصِفُه به المُشرِكونَ، ينزِّلُ- سُبحانَه- الملائكةَ بالوَحيِ مِن أمْرِه على مَن يشاءُ مِن عبادِه المُصطَفَين للرِّسالةِ: بأنْ أنذِروا- أيُّها الرُّسُلُ- النَّاسَ مِن عاقبةِ الشِّركِ؛ فإنَّه لا مَعبودَ بحَقٍّ إلَّا أنا، فاتَّقونِ. خلقَ اللهُ السَّمَواتِ والأرضَ بالعدلِ، لا للعبثِ؛ ليُعبدَ وحدَه، تعاظَمَ- سُبحانَه- عن شِركِ المشركين، خَلَق الإنسانَ مِن منيِّ الرجلِ ومنيِّ المرأةِ، فإذا به يصيرُ شَديدَ الخُصومةِ والجدالِ لرَبِّه الذي خلَقَه وسوَّاه!

تفسير الآيات :

أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1).
أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ.
أي: قَرُبَ مجيءُ يومِ القيامةِ بأهوالِه، وقَضاءُ اللهِ بعَذابِكم- أيُّها الكُفَّارُ- فلا تَستعجِلوا ذلك؛ فإنَّه آتٍ لا مَحالةَ [11] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/158)، ((تفسير ابن كثير)) (4/555)، ((تفسير السعدي)) (ص: 435)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/326). قال ابن جرير: (هو تهديدٌ مِن الله أهلَ الكفرِ به وبرسولِه، وإعلامٌ منه لهم قُربَ العذابِ منهم، والهلاكِ). ((تفسير ابن جرير)) (14/159). ويُنظر: ((تفسير القرطبي)) (10/65). وقال ابنُ عاشور: (الخطابُ للمشركين ابتداءً؛ لأنَّ استعجالَ العذابِ مِن خصالهم؛ قال تعالى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ [الحج: 47] ، ويجوز أن يكونَ شاملًا للمؤمنين؛ لأنَّ عذابَ الله وإن كان الكافِرونَ يستعجِلونَ به تهكُّمًا؛ لظَنِّهم أنَّه غيرُ آتٍ، فإنَّ المؤمنينَ يُضمِرونَ في نفوسِهم استبطاءَه، ويُحبُّونَ تعجيلَه للكافرينَ). ((تفسير ابن عاشور)) (14/97). .
كما قال تعالى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الأنبياء: 1] .
وقال تبارك وتعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر: 1].
وقال سُبحانه: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ [العنكبوت: 53-54] .
وقال عزَّ وجلَّ: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ [الشورى: 18] .
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ.
مُناسَبتُها لِما قَبلَها:
لَمَّا كان الجَزمُ بالأمورِ المُستقبَلةِ لا يليقُ إلَّا عند نفوذِ الأمرِ، ولا نفوذَ إلَّا لِمن لا كفُؤَ له، وكانت العجَلةُ- وهي الإتيانُ بالشَّيءِ قبلَ حينِه الأَولى به- نقصًا ظاهرًا، وكان التأخيرُ لا يكونُ إلَّا عن مُنازِعٍ مُشارِكٍ- نزَّه نفسَه سُبحانَه تنزيهًا مُطلَقًا جامِعًا، بقَولِه تعالى [12] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي(11/102). :
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ.
أي: تنزَّهَ اللهُ عن أن يكونَ له شريكٌ، وعمَّا يَصِفُه به المُشرِكونَ ممَّا لا يليقُ به تعالى، ومِن ذلك وصفُهم له بعدمِ القدرةِ على بَعثِ الأمواتِ [13] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/160)، ((تفسير القرطبي)) (10/66)، ((تفسير ابن كثير)) (4/556)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/97). .
يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّه لَمَّا تقَرَّرَ- بما سبَقَ- تنَزُّهُه تعالى عن كلِّ نَقصٍ؛ شِركٍ وغَيرِه- شرَعَ يصِفُ نفسَه سُبحانَه بصفاتِ الكَمالِ مِن الأمرِ والخَلقِ [14] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/103). .
وأيضًا فإنَّه لَمَّا كان استِعجالُ المُشرِكينَ بالعذابِ استهزاءً بالرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وتكذيبًا له، وكان ناشِئًا عن عقيدةِ الإشراكِ التي مِن أصولِها استحالةُ إرسالِ الرُّسُلِ مِن البشَرِ، وأُتبِعَ تحقيقُ مَجيءِ العذابِ بتَنزيهِ اللهِ عن الشَّريكِ؛ قفِّيَ ذلك بتبرئةِ الرَّسولِ- عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- من الكَذِبِ فيما يبَلِّغُه عن رَبِّه، ووصَفَ لهم الإرسالَ وصفًا مُوجَزًا، وهذا اعتراضٌ في أثناءِ الاستدلالِ على التوحيدِ [15] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/98). .
يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ.
أي: يُنزِّلُ اللهُ جبريلَ [16] قولُه: الْمَلَائِكَةَ المرادُ به هنا: جبريلُ وحدَه، وهذا قولُ الجمهورِ. يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/503). وتسميةُ الواحدِ باسمِ الجمعِ- إذا كان ذلك الواحدُ رئيسًا مقدَّمًا- جائزٌ. يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (13/9)، ((تفسير الرازي)) (19/169)، ((تفسير القرطبي)) (4/74). بالوَحيِ- الذي هو كَلامُه- مِنْ أمْرِه [17] قيل: مِنْ هنا: للتبعيضِ، أو لبيان الجنس. يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/504)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/328). وقيل: مِنْ أَمْرِهِ أي: بأمْرِه. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (2/550)، ((تفسير القرطبي)) (10/67). ، على من يَشاءُ مِن عِبادِه الذين اختارهم للنبُوَّةِ [18] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/161، 162)، ((تفسير القرطبي)) (10/67)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (12/248)، ((تفسير ابن كثير)) (4/556)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/328).
كما قال تعالى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [الحج: 75] .
وقال سُبحانه: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ [غافر: 15] .
وقال تبارك وتعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى: 52] .
  أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ.
أي: بأن أنذِروا- أيُّها الرُّسُلُ- الناسَ عذابي إن أشرَكوا بي؛ فإنَّه لا يستحِقُّ العبادةَ غَيري، فاحذَروني- أيُّها النَّاسُ- بإخلاصِ العبادةِ لي، وامتثالِ أوامِري، واجتنابِ نواهِيَّ؛ لتَنْجوا مِن عذابي [19] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/162)، ((تفسير القرطبي)) (10/67)، ((تفسير ابن كثير)) (4/556).
كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25] .
وقال سُبحانه: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل: 36] .
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا وحَّد اللهُ تعالى نفسَه، دلَّ على وحدانيَّتِه، وأنَّه لا إلهَ إلَّا هو، بما ذكَرَ مِمَّا لا يَقدِرُ عليه غيرُه، مِن خَلقِ السَّمواتِ والأرضِ، وإيجادِه أصولَ العالَمِ وفروعَه على وجهِ الحِكمةِ [20]  يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/505)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/105). فقال:
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ.
أي: خَلقَ اللهُ السَّمواتِ والأرضَ بالعَدلِ، ولم يخلُقْهنَّ عَبثًا؛ وذلك ليُعبَدَ وَحدَه، ولِيَعلمَ النَّاسُ عَظَمةَ خالِقها، ويَعلَموا قُدرتَه على إعادةِ خَلقِه يومَ القيامةِ الذي يُجازي فيه كلَّ عاملٍ بحسَبِ عَمَلِه [21] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/164)، ((تفسير القرطبي)) (10/68)، ((تفسير ابن كثير)) (4/556)، ((تفسير السعدي)) (ص: 435)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/329، 330). قال الشنقيطي: (ومعنَى كونِ خَلْقِه للسَّمواتِ والأرضِ مُتَلَبِّسًا بالحقِّ أنَّه خَلَقهما لحكَمٍ باهرةٍ، ولم يخلُقْهما باطِلًا، ولا عبثًا، ولا لَعِبًا، فمِنَ الحقِّ الَّذي كان خَلْقُهما مُتَلَبِّسًا به- إقامةُ البرهانِ على أنَّه هو الواحدُ المعبودُ وحدَه- جلَّ وعلا- كما أوضَح ذلك في آياتٍ كثيرةٍ). ((أضواء البيان)) (7/207). .
تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ.
مُناسَبتُها لِما قَبلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى أنَّه المُستقِلُّ بالخَلقِ وَحدَه لا شريكَ له، وكان لذلك يستحِقُّ أن يُعبَدَ وَحدَه لا شريكَ له، ولا يصِحُّ أن يُعبَدَ معه مَن لا يَقدِرُ على شَيءٍ؛ لهذا أتبَعَ قَولَه: خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ بقولِه [22]  يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (4/556)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/329). :
تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ.
أي: تعاظَمَ اللهُ عن شِركِ المُشرِكينَ، وترفَّعَ أن يكونَ له شَريكٌ؛ فهو المُنفَرِدُ بالخَلقِ، المُستحِقُّ وَحدَه لعبادةِ خَلقِه؛ فلا يكونُ إلهًا إلَّا مَن يخلُقُ بقُدرتِه مثلَ السَّمواتِ والأرضِ، فيُحدِثُها مِن غيرِ شَيءٍ، على غيرِ مثالٍ سابقٍ، وليس ذلك في قُدرةِ أحدٍ سوى اللهِ الواحِدِ [23] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/164)، ((تفسير ابن كثير)) (4/556)، ((تفسير السعدي)) (ص: 435). .
خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى ما دلَّ على وحدانيَّتِه مِن خَلقِ العالَمِ العُلويِّ والأرضِ- وهو استدلالٌ بالخارجِ- ذكَرَ الاستدلالَ مِن نَفسِ الإنسانِ، فذكَرَ إنشاءَه مِن نُطفةٍ، فإذا هو خَصيمٌ مُبينٌ، وكان حَقُّه والواجِبُ عليه أن يُطيعَ وينقادَ لأمرِ اللهِ [24] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/505). .
وأيضًا لَمَّا ذكَرَ الدَّليلَ على توحيدِه؛ ذكَرَ بعده الإنسانَ ومُناكَدتَه وتَعدِّيَ طَورِه [25] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (10/68). .
خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ.
أي: خلقَ اللهُ الإنسانَ [26] أي: جنسَ الإنسانِ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/165)، ((تفسير القرطبي)) (10/68)، ((تفسير ابن كثير)) (4/556). مِن منيِّ الرَّجُلِ ومَنيِّ المرأةِ [27] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/165)، ((تفسير القرطبي)) (10/68)، ((تفسير ابن كثير)) (4/556)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/330).
كما قال تعالى: وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى [النجم: 45-46] .
وقال سُبحانه: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ [الإنسان: 2] .
وقال عزَّ وجلَّ: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ * فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ [المرسلات: 20-23] .
وقال جلَّ جلالُه: قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ [عبس: 17- 19] .
وقال تبارك وتعالى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ [الطارق: 5-7] .
فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ.
أي: فإذا بهذا الإنسانِ- الذي خلَقَه اللهُ مِن نُطفةٍ- يُصبِحُ مُخاصِمًا ظاهِرَ الخُصومةِ، يُبِينُ عن خُصومتِه بمَنطِقِه، فيُخاصِمُ خُصومةً شديدةً في قُدرةِ اللهِ على البعثِ وغَيرِه، ويُكَذِّبُ بالحقِّ، ولا يشكُرُ رَبَّه على نِعَمِه [28] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/165)، ((تفسير القرطبي)) (10/68)، ((تفسير أبي حيان)) (6/505)، ((تفسير ابن كثير)) (4/556، 557)، ((تفسير السعدي)) (ص: 436)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/331). وقال السَّعدي: (فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ يحتمِلُ أنَّ المرادَ: فإذا هو خَصيمٌ لرَبِّه، يَكفُرُ به، ويجادِلُ رسُلَه، ويكَذِّبُ بآياتِه، ونَسِيَ خَلْقَه الأوَّلَ وما أنعمَ اللهُ عليه به من النِّعَمِ، فاستعان بها على معاصيه، ويحتَمِلُ أنَّ المعنى: أنَّ الله أنشأ الآدميَّ من نُطفةٍ، ثمَّ لم يزَلْ ينقُلُه من طَورٍ إلى طورٍ حتى صار عاقِلًا متكَلِّمًا ذا ذِهنٍ ورأيٍ، يخاصِمُ ويجادِلُ؛ فلْيشكُرِ العبدُ رَبَّه الذي أوصلَه إلى هذه الحالِ التي ليس في إمكانِه القدرةُ على شيءٍ منها). ((تفسير السعدي)) (ص: 436). وقال الشنقيطي: (قولُه- جَلَّ وعلا-: فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ أظهَرُ القولينِ فيه: أنَّه ذَمٌّ للإنسانِ المذكورِ. والمعنى: خَلَقْناه ليعبُدَنا ويخضَعَ لنا ويُطيعَ، ففاجأ بالخُصومةِ والتكذيبِ، كما تدلُّ عليه: «إذا» الفُجائيَّة). ((أضواء البيان)) (2/331). !
كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس: 77- 78] .
وقال سُبحانه: وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا * أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا [مريم: 66-67] .
وقال عزَّ وجَلَّ: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا * وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا [الفرقان: 54-55] .
وعن بُسرِ بنِ جِحاشٍ القُرَشيِّ رَضِيَ الله عنه، ((أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بزَقَ يومًا في كَفِّه، فوضع عليها أُصبُعَه، ثمَّ قال: قال الله: ابنَ آدمَ، أنَّى تُعجِزُني، وقد خلقتُك مِن مِثلِ هذه؟! حتى إذا سَوَّيتُك وعَدَّلتُك، مَشَيتَ بين بُردَينِ [29]  البُرْدُ: نوعٌ من الثيابِ. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (1/116). وللأرضِ مِنك وَئيدٌ [30]  الوئيدُ: صوتُ شِدَّةِ الوطءِ على الأرضِ. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير  (5/143). ، فجَمَعْتَ ومَنَعْتَ، حتى إذا بلَغَتِ التَّراقيَ، قلتَ: أتصَدَّقُ! وأنَّى أوانُ الصَّدَقةِ؟!) ) [31] أخرجه ابن ماجه (2707)، وأحمد (17844)، والطبراني في ((المعجم الكبير)) (2/32) (1193)، والحاكم في ((المستدرك)) (3855). صحَّح إسنادَه الحاكم، والبوصيري في ((مصباح الزجاجة)) (3/143)، وصحَّح الحديثَ الألباني في ((صحيح الجامع)) (8144). .

الفوائد التربوية:

1- قال تعالى: يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ سمَّى ذلك رُوحًا؛ لِما يحصُلُ به من الحياةِ النَّافِعةِ، فإنَّ الحياةَ بدُونِه لا تنفَعُ صاحِبَها البتَّةَ، بل حياةُ الحيوانِ البَهيمِ خَيرٌ منها، وأسلَمُ عاقِبةً [32] يُنظر: ((الروح)) لابن القيم (ص: 218). .
2- قال الله تعالى: أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ قد أحاطت جملةُ: أَنْ أَنْذِرُوا إلى قَولِه تعالى: فَاتَّقُونِ بالشَّريعةِ كُلِّها؛ لأنَّ جُملةَ: أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا تنبيهٌ على ما يَرجِعُ مِن الشَّريعةِ إلى إصلاحِ الاعتقادِ، وهو الأمرُ بكمالِ القُوَّةِ العقليَّةِ، وجملةُ: فَاتَّقُونِ تنبيهٌ على الاجتنابِ والامتثالِ اللَّذينِ هما مُنتهى كمالِ القُوَّةِ العَمَليَّةِ [33] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/100). .
3- في قوله تعالى: خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ حثٌّ على استشعارِ التذللِ والتواضعِ، إذ مَن كان خَلْقُه مِن نطفةٍ ضعيفةٍ؛ فإعدادُه نفسَه في عِدَادِ الخُصَماءِ جَهْلٌ به، وإغفالٌ لمراعاة ما خُلِقَ منه [34] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (2/46). .
4- في قوله تعالى: خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ دليلٌ على أنَّ التكبرَ مُتولِّدٌ في الإنسان مِن قِلَّةِ معرفتِه بنفسِه، وفِكْرِهِ فيما خُلِقَ منه [35] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (2/46). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- لفظُ (الأمر) يرادُ به المصدَرُ والمفعولُ؛ فالمفعولُ مخلوقٌ، كما قال تعالى: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ، وقال: وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا [الأحزاب: 38] ، فهنا المرادُ به: المأمورُ به، ليس المرادُ به أمْرَه الذي هو كلامُه، وأمَّا في قَولِه: ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ [الطلاق: 5] فأمْرُه كلامُه؛ إذ لم يُنزِلْ إلينا الأفعالَ التي أمَرَنا بها، وإنما أنزَلَ القرآنَ، وهذا كقَولِه: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء: 58] فهذا الأمرُ هو كلامُه [36]  يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (8/412). .
2- قولُ الله تعالى: يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ يدلُّ على أنَّ نُزولَ الوَحيِ بواسطةِ الملائكةِ، وأنَّ النبُوَّةَ عَطاؤُه تعالى [37] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (2/216). ، فالنبوَّةُ عطائيَّةٌ لا كَسْبيَّةٌ [38] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/104). .
3- قال الله تعالى: يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ هذه الآيةُ وأمثالُها رَدٌّ على الكُفَّارِ في قَولِهم: لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [39] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/328). [الزخرف: 31] .
4- قال اللهُ تعالى: يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ هذه الآيةُ أوَّلُ ما عَدَّدَ اللهُ على عبادِه مِن النِّعَمِ في سورةِ النِّعَمِ، التي تسمَّى سورةَ النَّحلِ [40] يُنظر: ((مجموع رسائل ابن رجب)) (3/74). .
5- قَولُ الله تعالى: يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ حَسُنَت النِّذارةُ هنا- وإن لم يكُنْ في اللَّفظِ ما فيه خَوفٌ- مِن حيثُ كان المُنذَرونَ كافِرينَ بألوهيَّتِه؛ ففي ضِمنِ أمْرِهم مكانُ خَوفٍ، وفي ضِمنِ الإخبارِ بالوحدانيَّةِ نَهيٌ عمَّا كانوا عليه، ووعيدٌ وتحذيرٌ مِن عبادةِ الأوثانِ [41] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/505). .
6- قال الله تعالى: أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ سبَّبَ عن وحدانيَّتِه- التي هي مُنتهَى كمالِ القُوَّةِ العِلميَّةِ- قَولَه آمِرًا بما هو أقصَى كمالِ القُوَّةِ العَمَليَّةِ: فَاتَّقُونِ [42] يُنظر: ((نظم الدرر))  للبقاعي (11/105). .
7- قَولُ الله تعالى: خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ الاستدلالُ بخَلقِ السَّمواتِ والأرضِ أكبَرُ مِن سائرِ الأدلَّةِ وأجمَعُ؛ لأنَّها مُحتَويةٌ لهما، ولأنَّهما من أعظَمِ الموجوداتِ؛ فلذلك ابتُدئ بهما [43] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/101). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالى: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ
- قولُه: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ لمَّا كان مُعظَمُ أغراضِ هذه السُّورةِ زَجرَ المُشركينَ عن الإشراكِ وتوابِعِه، وإنذارَهم بسُوءِ عاقبةِ ذلك؛ صُدِّرَت السُّورةُ بالوعيدِ المَصوغِ في صُورةِ الخبَرِ بأنْ قد حَلَّ ذلك المُتَوعَّدُ به؛ فجِيءَ بالماضي أَتَى المُرادِ به المُستقبَلُ المُحقَّقُ الوُقوعُ، بقَرينةِ تَفريعِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ؛ لأنَّ النَّهيَ عنِ استعجالِ حُلولِ ذلك اليومِ يَقْتضي أنَّه لَمَّا يحِلَّ بعدُ، وإتيانُه عبارةٌ عن دُنُوِّه واقترابِه، على طريقةِ نَظمِ المُتوقَّعِ في سِلكِ الواقعِ، أو عن إتيانِ مَباديه القريبةِ، على نَهجِ إسنادِ حالِ الأسبابِ إلى المُسبِّباتِ، وفيه تَنبيهٌ على كَمالِ قُربِه مِن الوُقوعِ واتِّصالِه، وتَكميلٌ لحُسنِ مَوقعِ التَّفريعِ في قولِه عَزَّ وجَلَّ: فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ؛ فإنَّ النَّهيَ عن استعجالِ الشَّيءِ وإنْ صَحَّ تَفريعُه على قُربِ وُقوعِه، أو على وُقوعِ أسبابِه القريبةِ، لكنَّه ليس بمَثابةِ تَفريعِه على وُقوعِه؛ إذ بالوُقوعِ يَستحيلُ الاستعجالُ رأسًا، لا بما ذُكِرَ مِن قُربِ وُقوعِه، ووُقوعِ مَباديه [44] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/94)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/78). .
- قولُه: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ وعُبِّرَ عن ذلك بأمْرِ اللهِ؛ للتَّفخيمِ والتَّهويلِ؛ ففي التَّعبيرِ عنه بأمْرِ اللهِ إبهامٌ يُفيدُ تَهويلَه وعَظَمتَه؛ لإضافتِه لمَن لا يعظُمُ عليه شَيءٌ، وللإيذانِ بأنَّ تَحقُّقَه في نفْسِه وإتيانَه مَنوطٌ بحُكمِه النَّافذِ وقَضائِه الغالبِ [45] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/94)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/78). .
- وجُملةُ: فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ تَفريعٌ على أَتَى أَمْرُ اللَّهِ، وهي مِن المقصودِ بالإنذارِ، والمُرادُ مِن النَّهيِ هنا معنى دقيقٌ لم يَذكُروه في مَواردِ صِيَغِ النَّهيِ، ويجدُرُ أنْ يكونَ للتَّسويةِ، كما تَرِدُ صِيغةُ الأمْرِ للتَّسويةِ، أي: لا جَدْوى في استعجالِه؛ لأنَّه لا يُعَجَّلُ قبلَ وَقتِه المُؤجَّلِ له [46] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/78). .
- وجُملةُ: سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ مُستأنَفةٌ استئنافًا ابتدائيًّا؛ لأنَّها المقصودُ مِن الوعيدِ؛ إذ الوعيدُ والزَّجرُ إنَّما كانا لأجلِ إبطالِ الإشراكِ، فكانت جُملةُ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ كالمُقدِّمةِ، وجُملةُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ كالمَقصدِ [47] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/98). .
- وعُبِّرَ بالاستقبالِ يُشْرِكُونَ؛ للدَّلالةِ على تَجدُّدِ إشراكِهم واستمرارِه [48] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/95). .
- وقولُه أيضًا: يُشْرِكُونَ- على قِراءةِ الجُمهورِ بالتَّحتيَّةِ- على طريقةِ الالْتفاتِ، فعدَلَ عن الخِطابِ إلى الغَيبة؛ للإيذانِ باقتضاءِ ذِكرِ قبائِحِهم للإعراضِ عنهم، وطَرحِهم عن رُتبةِ الخطابِ، وحكايةِ شنائِعِهم لغيرِهم، وعلى تَقديرِ تَخصيصِ الخطابِ بالمُؤمنينَ تَفوتُ هذه النُّكتةُ [49] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/95)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/98). .
- واتَّصلَ قولُه: سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ باستعجالِهم؛ لأنَّ استعجالَهم استهزاءٌ وتكذيبٌ، وذلك مِن الشِّركِ [50] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/592- 593). .
2- قوله تعالى: يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ
- قولُه: يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ فيه إيثارُ صِيغَةِ الاستقبالِ يُنَزِّلُ؛ للإشعارِ بأنَّ ذلك عادةٌ مُستمرَّةٌ له سُبحانَه [51] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/95). .
- قولُه: مِنْ أَمْرِهِ وَجهُ إضافةِ الأمرِ إلى اللهِ تَعالى: أنَّ مَعنى مِنْ أَمْرِهِ الجنسُ، أي: مِن أُمورِه، وهي شُؤونُه ومُقدَّراتُه الَّتي استأثَرَ بها؛ لِمَا تفيدُه الإضافةُ مِن التَّخصيصِ [52] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/99). .
- قولُه: يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ لمَّا كان الوحيُ به هَدْيُ العُقولِ إلى الحقِّ؛ فشُبِّهَ الوحيُ بالرُّوحِ كما يُشَبَّهُ العِلمُ الحقُّ بالحياةِ، وكما يُشَبَّهُ الجهلُ بالموتِ، قال تعالى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [53] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/98). [الأنعام: 122] .
- قولُه: أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ لمَّا كان هذا الخبَرُ مَسوقًا للَّذين اتَّخذوا مع اللهِ آلهةً أُخرى، وكان ذلك ضلالًا يَستحِقُّون عليه العِقابَ؛ جعَلَ إخبارَهم بضِدِّ اعتقادِهم، وتحذيرَهم ممَّا هم فيه إنذارًا، وفرَّعَ عليه فَاتَّقُونِ [54] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/100). .
- قولُه: أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا الضَّميرُ في أَنَّهُ للشَّأنِ، ومدارُ وَضعِه مَوضعَه ادِّعاءُ شُهرتِه المُغْنيةِ عن التَّصريحِ به، وفائدةُ تَصديرِ الجُملةِ به: الإيذانُ مِن أوَّلِ الأمرِ بفَخامةِ مَضمونِها، معَ ما فيه مِن زيادةِ تَقريرٍ له في الذِّهنِ؛ فإنَّ الضَّميرَ لا يُفْهَمُ منه ابتداءً إلَّا شأنٌ مُبْهَمٌ، له خطرٌ، فيَبْقَى الذِّهنُ مُترقِّبًا لِمَا يعقُبُه؛ فيتمكَّنُ لديه عندَ وُرودِه فضْلَ تمكُّنٍ [55] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/96). .
- وقولُه أيضًا: فَاتَّقُونِ خِطابٌ للمُستعجلينَ على طريقةِ الالْتفاتِ [56] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/96). .
3- قوله تعالى: خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ استئنافٌ بَيانيٌّ ناشِئٌ عن قولِه: سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ؛ لأنَّهم إذا سَمِعوا ذلك تَرقَّبوا دليلَ تَنزيهِ اللهِ عن أنْ يكونَ له شُركاءُ، فابتدِئَ بالدَّلالةِ على اختصاصِه بالخلْقِ والتَّقديرِ، وأعقَبَ قولَه: سُبْحَانَهُ بقولِه: وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ؛ تحقيقًا لنتيجةِ الدَّليلِ، كما يُذْكَرُ المطلوبُ قبلَ ذِكْرِ القياسِ- في صِناعةِ المَنطقِ- ثمَّ يُذْكَرُ ذلك المطلوبُ عَقِبَ القياسِ في صُورةِ النَّتيجةِ؛ تحقيقًا للوَحدانيَّةِ [57] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/100). .
4- قولُه: خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ استئنافٌ بَيانيٌّ أيضًا، وهو استدلالٌ آخرُ على انفرادِه تَعالى بالإلهيَّةِ ووَحدانيَّتِه فيها، وتَعريفُ الْإِنْسَانَ للعهدِ الذِّهنيِّ، وهو تعريفُ الجنسِ، أي: خلَقَ الجنسَ المعلومَ الَّذي تَدْعونه بالإنسانِ [58] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/102). .
- قولُه: فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ الفاءُ تدُلُّ على التَّعقيبِ، وكونُه خَصيمًا مُبينًا لا يكونُ عَقِبَ خلْقِه مِن نُطفةٍ، ولكنَّه إشارةٌ إلى ما تَؤولُ إليه حالُه [59] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (5/274). .
- والتعبير بحرفِ المُفاجأةِ (إِذَا) جعَلَ الكلامَ مُفهِمًا أمرينِ، هما: التَّعجُّبُ مِن تطوُّرِ الإنسانِ مِن أمْهنِ حالةٍ إلى أبدَعِ حالةٍ، وهي حالةُ الخُصومةِ والإبانةِ النَّاشئتَينِ عن التَّفكيرِ والتَّعقُّلِ، والدَّلالةُ على كُفرانِه النِّعمةَ وصَرفِه ما أنعَمَ به عليه في عِصيانِ المُنعِمِ عليه؛ فالجُملةُ في حَدِّ ذاتِها تَنويهٌ، وبضَمِيمةِ حَرفِ المُفاجأةِ أدْمَجَت مع التَّنويهِ التَّعجيبَ، ولو قيل: (فهو خصيمٌ) أو (فكان خصيمًا)، لمْ يحصُلْ هذا المعنى البليغُ [60] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/103). .