موسوعة التفسير

سُورةُ عَبَسَ
الآيات (17-32)

ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ

غريب الكلمات:

نُطْفَةٍ: النُّطفةُ: الماءُ الصَّافي، ويُعَبَّرُ بها عن ماءِ الرَّجُلِ والمرأةِ، وأصلُ (نطف): يدُلُّ على نَدوةٍ وبَلَلٍ [86] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/440)، ((المفردات)) للراغب (ص: 811)، ((تفسير القرطبي)) (12/6)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 300). .
أَنْشَرَهُ: أي: أحياه وبعَثَه، وأصلُ (نشر): يدُلُّ على فَتحِ شَيءٍ وتشَعُّبِه [87] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 514)، ((تفسير ابن جرير)) (24/114)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 86)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/430)، ((المفردات)) للراغب (ص: 805)، ((تفسير القرطبي)) (19/219)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 438). .
وَقَضْبًا: القَضْبُ: هو العَلَفُ الرَّطْبُ الَّذي تأكُلُه الدَّوابُّ، وسُمِّيَ قَضْبًا؛ لأنَّه يُقضَبُ -أي: يُقطَعُ- بعدَ ظُهورِه مرَّةً بعدَ أُخرى، وقيل: هو كُلُّ ما يُؤكَلُ مِنَ النَّباتِ رَطْبًا، كالقِثَّاءِ والخِيارِ ونَحوِهما، وأصلُ (قضب): يدُلُّ على قَطعِ شَيءٍ [88] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 514)، ((تفسير ابن جرير)) (24/116)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 86)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/100)، ((تفسير البغوي)) (8/338)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 438). .
وَحَدَائِقَ غُلْبًا: أي: بساتينَ عظيمةً غِلاظَ الأَشْجارِ، مُتكاثِفًا مُلْتَفًّا شَجَرُها بَعضُه في بَعضٍ، والغُلْبُ جمعُ غَلْباءَ. يُقالُ: حَديقةٌ غَلْباءُ: إذا كانت عَظيمةَ الشَّجَرِ مُلتَفَّةً، وأصلُها مِنَ الغَلَبِ بمعنى الغِلَظِ، يقال: غَلِبَ فُلانٌ، أي: غَلُظَ عُنُقُه، ويُقالُ: اغْلَوْلَبَت الأرضُ: إذا التفَّ عُشْبُها وتكاثَفَ [89] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/117)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 198)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/388)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 439)، ((تفسير القرطبي)) (19/222)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 450). .
وَأَبًّا: الأَبُّ: اسمٌ للكَلَأِ والعُشْبِ الَّذي تَرْعاه الأنعامُ، مأخوذٌ مِن أبَّ فُلانٌ الشَّيءَ: إذا قَصَده واتَّجَه نَحْوَه، والكَلأُ والعُشْبُ يتَّجِهُ إليه الإنسانُ بدَوابِّه للرَّعْيِ. وقيل: الأَبُّ: المَرْعى المتهَيِّئُ للرَّعْيِ، مِن قَولِهم: أَبَّ لكذا، أي: تهيَّأَ [90] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/122)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/6)، ((المفردات)) للراغب (ص: 59)، ((تفسير الزمخشري)) (4/704)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/267)، ((تفسير الألوسي)) (15/250). .

مشكل الإعراب:

قَولُه تعالى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا
المَصدَرُ المؤَوَّلُ أَنَّا صَبَبْنَا في محلِّ جَرٍّ بدَلُ اشتمالٍ مِن طَعَامِهِ؛ فإنَّ صَبَّ الماءِ لكَونِه مِن أسبابِ تكَوُّنِ الطَّعامِ كالمُشتَمِلِ عليه، والعائِدُ محذوفٌ، أي: صَبَبْنا له [91] يُنظر: ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (2/1272)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (10/692)، ((تفسير الألوسي)) (15/248)، ((الجدول في إعراب القرآن)) لمحمود صافي (30/248). .

المعنى الإجمالي:

يبيِّنُ الله تعالى جانبًا مِن نِعَمِه على خَلقِه، وموقفهم منها، فيقولُ: أُهلِكَ الإنسانُ، فما أشَدَّ كُفْرَه باللهِ الَّذي خَلَقَه!
مِنْ أيِّ شَيءٍ خَلَقَ اللهُ الإنسانَ؟ خَلَقَه اللهُ مِن ماءٍ قَليلٍ -وهو المَنيُّ- فقدَّره في بَطْنِ أُمِّه أحوالًا وأطوارًا في الخَلْقِ، وهَيَّأه لِما يَصلُحُ له مِنَ الأعضاءِ الظَّاهِرةِ والباطِنةِ والأشكالِ، ثمَّ سهَّل اللهُ له طَريقَ الخُروجِ مِن بَطْنِ أُمِّه، وطريقَ الخيرِ والشَّرِّ، ثمَّ قَبَض اللهُ رُوحَه عِندَ انقِضاءِ أجَلِه، وجَعَل له قَبْرًا يُوارَى فيه بَدَنُه؛ إكرامًا له، ثُمَّ إذا شاء اللهُ بَعَثَ الإنسانَ بعْدَ مَوتِه، وأحياه يومَ القيامةِ؛ لِيُجازِيَه على أعمالِه.
ثمَّ يَزجُرُ اللهُ سُبحانَه الإنسانَ لتقصيرِه، فيقولُ: كَلَّا، لم يَقُمِ الإنسانُ بكُلِّ ما فَرَض اللهُ عليه!
ثمَّ يذكُرُ سُبحانَه جانبًا مِن نِعَمِه، وكيف هيَّأ للإنسانِ طَعامَه، فيقولُ: فلْيَنظُرِ الإنسانُ إلى طَعامِه مُتَفَكِّرًا في أسبابِ حُصولِه؛ أنَّا أنزَلْنا ماءَ المطَرِ مِنَ السَّحابِ، ثمَّ شَقَقْنا الأرضَ بخُروجِ النَّباتِ، فأنبَتْنا فيها أنواعَ الحُبوبِ، والعِنَبَ، وأنبَتْنا قتًّا رطبًا تُعْلَفُ به البهائمُ، وأنبَتْنا الزَّيتونَ، وأشجارَ النَّخيلِ، وبَساتينَ ذاتَ أشجارٍ غَليظةٍ عَظيمةٍ، وأنواعَ الفَواكِهِ، والعُشْبَ الَّذي تأكُلُه الأنعامُ؛ مَنفَعةً لكم -أيُّها النَّاسُ- ولأنعامِكم، تتمَتَّعونَ بها في الحياةِ الدُّنيا.

تفسير الآيات:

قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا نَبَّه اللهُ تعالى على عُلُوِّ القُرآنِ المكتوبِ، وجَلالةِ مِقدارِه، وعَظَمةِ آثارِه، وظُهورِ ذلك لِمَن تدَبَّرَه وتأمَّلَه حَقَّ تأمُّلِه؛ عَقَّبَه بقَولِه ناعيًا على مَن لم يُقبِلْ بكُلِّيَّتِه عليه، داعيًا بأعظَمِ شدائدِ الدُّنيا -الَّتي هي القَتلُ- في صيغةِ الخَبَرِ؛ لأنَّه أبلَغُ [92] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/258). :
قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17).
أي: أُهلِكَ الإنسانُ، فما أشَدَّ كُفْرَه باللهِ الَّذي خَلَقَه [93] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/110)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1174)، ((تفسير القرطبي)) (19/217، 218)، ((تفسير ابن كثير)) (8/322)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/259)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/121). قال ابن جُزَي: (قُتِلَ الْإِنْسَانُ دعاءٌ عليه، على ما جَرَت به عادةُ العَرَبِ مِنَ الدُّعاءِ بهذا اللَّفظِ، ومعناه تقبيحُ حالِه، وأنَّه ممَّن يَستَحِقُّ أن يُقالَ له ذلك. وقيل: معناه: لُعِنَ. وهذا بعيدٌ). ((تفسير ابن جزي)) (2/453). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 63). قال الرازي: (وليس المرادُ مِن الإنسانِ هاهنا جميعَ النَّاسِ، بل الإنسانُ الكافرُ). ((تفسير الرازي)) (31/58). وقال ابنُ جرير: (في قَولِه: أَكْفَرَهُ وجهانِ؛ أحدُهما: التَّعَجُّبُ مِن كُفْرِه مع إحسانِ اللهِ إليه، وأياديه عِندَه. والآخَرُ: ما الَّذي أكفَرَه؟ أيْ: أيُّ شَيءٍ أكفَرَه؟). ((تفسير ابن جرير)) (24/110). وممَّن ذهب إلى أنَّه تعَجُّبٌ: الواحديُّ، والقرطبي، والبيضاوي، والخازن، وأبو حيان، والبِقاعي، والشوكاني، وابن عاشور. يُنظر: ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1174)، ((تفسير القرطبي)) (19/218)، ((تفسير البيضاوي)) (5/287)، ((تفسير الخازن)) (4/395)، ((تفسير أبي حيان)) (10/409)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/259)، ((تفسير الشوكاني)) (5/464)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/121). ممَّن قال بنحوِ هذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ جُرَيجٍ. يُنظر: ((تفسير ابن أبي زمنين)) (5/95)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/401)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (8/419). وممَّن ذهب إلى أنَّه استفهامٌ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، ومكِّيُّ بنُ أبي طالبٍ، والكرمانيُّ، وجلالُ الدِّينِ المحلِّيُّ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/591)، ((الهداية)) لمكي (12/8059)، ((تفسير الكرماني)) (2/1308)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 792). وممَّن قال بنحوِ هذا القولِ مِن السَّلفِ: السُّدِّيُّ. يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (6/205)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/401). !
كما قال تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم: 34] .
وقال سُبحانَه: وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ [الحج: 66] .
مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18).
أي: ما الشَّيءُ الَّذي خَلَق اللهُ الإنسانَ منه [94] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/111)، ((تفسير القرطبي)) (19/218)، ((تفسير ابن كثير)) (8/322)، ((تفسير السعدي)) (ص: 911). قال ابنُ جرير: (يقولُ تعالى ذِكْرُه: مِن أيِّ شَيءٍ خَلَقَ الإنسانَ الكافِرَ رَبُّه، حتَّى يتكَبَّرَ ويتعَظَّمَ عن طاعةِ رَبِّه، والإقرارِ بتوحيدِه؟). ((تفسير ابن جرير)) (24/111). وقال السمعاني: (معناه: أفلَا يتفَكَّرُ هذا الكافِرُ مِن أيِّ شَيءٍ خَلَقَه اللهُ تعالى؟!). ((تفسير السمعاني)) (6/159). وقال السعدي: (قال تعالى: قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ لنِعمةِ اللهِ! وما أشَدَّ مُعانَدتَه للحَقِّ بعدَ ما تبَيَّنَ! وهو ما هو؟! هو مِن أضعَفِ الأشياءِ، خَلَقَه اللهُ مِن ماءٍ مَهِينٍ!). ((تفسير السعدي)) (ص: 911). ؟
كما قال تعالى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ * إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ [الطارق: 5 - 8] .
مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19).
أي: خَلَق اللهُ الإنسانَ مِن ماءٍ قَليلٍ -وهو المَنيُّ- فقدَّره في بَطْنِ أُمِّه أحوالًا وأطوارًا في الخَلْقِ؛ نُطفةً، ثمَّ عَلَقةً، ثمَّ مُضْغةً، إلى أنْ تَمَّ خَلْقُه، وهَيَّأه لِما يَصلُحُ له، ويَليقُ به مِنَ الأعضاءِ الظَّاهِرةِ والباطِنةِ والأشكالِ [95] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/111)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/260، 261)، ((تفسير السعدي)) (ص: 911)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 65). قال البيضاوي: (فَقَدَّرَهُ: فهيَّأه لِما يَصلُحُ له مِن الأعضاءِ والأشكالِ، أو: فَقَدَّرَه أطوارًا إلى أنْ أتَمَّ خلقتَه). ((تفسير البيضاوي)) (5/287). وقال البقاعي: (فَقَدَّرَهُ أي: هَيَّأه لِما يَصلُحُ له مِنَ الأعضاءِ الظَّاهِرةِ والباطِنةِ والأشكالِ والأطوارِ، إلى أن صَلَح لذلك، ثمَّ جَعَله في ظُلُماتٍ ثلاثٍ: ظُلمةِ البَطنِ، ثمَّ الرَّحِمِ، ثمَّ المَشيمةِ). ((نظم الدرر)) (21/260، 261). وقال المهدوي: (فَقَدَّرَهُ: يعني: قدَّره شقيًّا أو سعيدًا، وقيل: حسنًا أو قبيحًا، ونحوه. وقيل: نقله من حال إلى حال؛ نطفة ثم علقة، إلى أن تمَّ خلقُه). ((التحصيل لفوائد كتاب التفصيل)) (7/32). وقال ابن كثير: (فَقَدَّرَهُ أيْ: قَدَّر أجَلَه ورِزْقَه وعملَه، وشَقِيٌّ أوْ سَعيدٌ). ((تفسير ابن كثير)) (8/322). .
كما قال سبحانَه وتعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون: 12 - 14] .
وقال سُبحانَه: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان: 2] .
وعن عَبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ الله عنه، قال: حَدَّثَنا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو الصَّادِقُ المصدوقُ، قال: ((إنَّ أحَدَكم يُجمَعُ خَلْقُه في بَطْنِ أُمِّه أربعينَ يَومًا، ثمَّ يكونُ عَلَقةً مِثلَ ذلك، ثمَّ يكونُ مُضغةً مِثْلَ ذلك، ثمَّ يَبعَثُ اللهُ مَلَكًا، فيُؤمَرُ بأَربَعِ كَلِماتٍ، ويُقالُ له: اكتُبْ عَمَلَه، ورِزْقَه، وأجَلَه، وشَقِيٌّ أو سَعيدٌ، ثمَّ يُنفَخُ فيه الرُّوحُ)) [96] رواه البخاري (3208) واللَّفظُ له، ومسلم (2643). .
ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ.
أي: ثمَّ سهَّل اللهُ للإنسانِ طَريقَ الخُروجِ مِن بَطْنِ أُمِّه، وطريقَ الخَيرِ والشَّرِّ [97] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/592)، ((تفسير ابن جرير)) (24/111، 113)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1175)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/261). قال السمعاني: (قَولُه: ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ أكثَرُ أهلِ التَّفسيرِ على أنَّ المُرادَ منه هو الخُروجُ مِن الرَّحِمِ. وقيل مَعْناه: يسَّرَ له سبيلَ الخَيرِ. وقيل: بَيَّنَ له سَبيلَ الشَّقاوةِ والسَّعادةِ. قاله مُجاهِدٌ. والَّذي تقدَّمَه قَولُ الحسَنِ). ((تفسير السمعاني)) (6/159). وممَّن اختار القولَ الأوَّلَ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، والسمرقنديُّ، والثعلبي، والواحدي، وابن جُزَي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/592)، ((تفسير ابن جرير)) (24/113)، ((تفسير السمرقندي)) (3/548)، ((تفسير الثعلبي)) (10/132)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1175)، ((تفسير ابن جزي)) (2/453). وممَّن قال بهذا القَولِ مِنَ السَّلَفِ: ابنُ عبَّاسٍ، وعِكْرِمةُ، والضَّحَّاكُ، وأبو صالِحٍ، وقَتادةُ، والسُّدِّيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/322). وذكر ابنُ جَريرٍ أنَّ هذا القَولَ أشبَهُ بظاهِرِ الآيةِ؛ وذلك أنَّ الخبَرَ مِن الله قَبْلَها وبَعْدَها عن صِفةِ خَلْقِه، وتدبيرِه جِسْمَه، وتصريفِه إيَّاه في الأحوالِ، فالأَولى أن يكونَ أوسَطُ ذلك نظيرَ ما قَبْلَه وبَعْدَه. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/113). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن جزي)) (2/453). وممَّن اختار أنَّ المرادَ: يسَّر له طريقَ الخَيرِ والشَّرِّ: ابنُ كثير، والشوكانيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/322)، ((تفسير الشوكاني)) (5/465). وممَّن قال بنحوِ هذا القولِ مِن السَّلفِ: مجاهدٌ، والحسَنُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/112)، ((تفسير البغوي)) (5/211). وممَّن جمَع بيْن القولَينِ: البِقاعي، وابنُ عثيمين: قال ابن عثيمين: (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ السَّبيلُ هنا بمعنَى الطَّريقِ، يعني: يسَّر له الطَّريقَ ليخرجَ مِن بَطنِ أُمِّه إلى عالَمِ المُشاهَدةِ، ويسَّر له أيضًا بعدَ ذلك ما ذكره تعالى في قولِه: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد: 10] . يسَّر له ثَدْيَيْ أمِّه يتغذَّى بهما، ويسَّر له بعدَ ذلك ما فتَح له مِن خزائنِ الرِّزقِ، ويسَّر له فوقَ هذا كلِّه وما هو أهَمُّ، وهو طريقُ الهُدى والفَلاحِ، وذلك بما أرسل إليه مِن الرِّسالاتِ، وأنزَل عليه مِن الكُتبِ). ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 65). وقال البِقاعي: (يَسَّرَهُ أي: سهَّل له أمْرَه في خروجِه، بأن فتَح فَمَ الرَّحِمِ، وألهَمَه أن يَنتكِسَ، وذلَّل له سبيلَ الخَيرِ والشَّرِّ، وجعَل له عقلًا يَقودُه إلى ما يسَّر له منهما). ((نظم الدرر)) (21/261). وقال السعدي: (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ أي: يسَّر له الأسبابَ الدِّينيَّةَ والدُّنيويَّةَ، وهداه السَّبيلَ [وبيَّنه] وامتَحَنه بالأمرِ والنَّهيِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 911). .
ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21).
أي: ثمَّ قَبَض اللهُ رُوحَ الإنسانِ عِندَ انقِضاءِ أجَلِه، وجَعَل له قَبْرًا يُوارَى فيه بَدَنُه؛ إكرامًا له [98] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/592)، ((تفسير ابن جرير)) (24/113)، ((تفسير القرطبي)) (19/219)، ((تفسير ابن كثير)) (8/322)، ((تفسير السعدي)) (ص: 911)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 66). .
ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22).
أي: ثُمَّ إذا شاء اللهُ بَعَثَ الإنسانَ بعْدَ مَوتِه، وأحياه يومَ القيامةِ؛ لِيُجازِيَه على أعمالِه [99] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/114)، ((تفسير القرطبي)) (19/219)، ((تفسير ابن كثير)) (8/323)، ((تفسير السعدي)) (ص: 911)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 66). .
كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23).
أي: ليس الأمرُ كما يَظُنُّ الإنسانُ مِن أنَّه قد أدَّى جميعَ ما أوجَبَ اللهُ عليه؛ فلم يَقُمِ الإنسانُ بكُلِّ ما فَرَض اللهُ عليه؛ من العَمَلِ بطاعتِه، واجتِنابِ مَعصِيَتِه [100] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/114)، ((تفسير ابن عطية)) (5/439)، ((تفسير القرطبي)) (19/219)، ((تفسير الشوكاني)) (5/465)، ((تفسير السعدي)) (ص: 911). قال ابنُ الجوزي: (هل هذا عامٌّ أم خاصٌّ؟ فيه قولان: أحَدُهما: أنَّه عامٌّ. قال مجاهِدٌ: لا يَقْضي أحدٌ أبدًا كُلَّ ما افتَرَض اللهُ عليه. والثَّاني: أنَّه خاصٌّ للكافِرِ، لم يَقْضِ ما أُمِرَ به مِن الإيمانِ والطَّاعةِ. وقاله يحيى بنُ سَلَّامٍ). ((تفسير ابن الجوزي)) (4/402). وممَّن ذهب إلى القَولِ الأوَّلِ -أنَّه عامٌّ، وأنَّ المعنى أنَّه لا يَخلو إنسانٌ مِن تقصيرٍ-: الزمخشريُّ، والبيضاوي، والبِقاعي. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/703)، ((تفسير البيضاوي)) (5/ 287)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/263). قال ابن كثير: (عن مجاهدٍ قوله: كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ قال: لا يَقضي أحدٌ أبدًا كلَّ ما افتُرِض عليه. وحكاه البَغَويُّ عن الحسَنِ البصريِّ بنحوٍ من هذا. ولم أجِدْ للمتقدِّمينَ فيه كلامًا سِوى هذا). ((تفسير ابن كثير)) (8/323). ويُنظر: ((تفسير البغوي)) (5/211). وممَّن ذهب إلى القَولِ الثَّاني: ابنُ جرير، والواحديُّ، والنسفي، والخازن، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/114)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1175)، ((تفسير النسفي)) (3/603)، ((تفسير الخازن)) (4/395)، ((تفسير الشوكاني)) (5/465). وقيل: المرادُ: أنَّ اللهَ تعالى لم يَقْضِ ما أمَرَ به كَونًا وقَدَرًا، فهو سُبحانَه لا يَبعَثُ العِبادَ الآنَ حتَّى تَنقَضِيَ المدَّةُ الَّتي قدَّرَها، ويَفرُغَ القَدَرُ مِن بني آدَمَ مِمَّن كَتَب تعالى وُجودَهم وخُروجَهم إلى الدُّنيا، فإذا اكتَمَل ذلك بَعَث اللهُ الخلائِقَ وأعادهم كما بدَأَهم. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: ابنُ كثير، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/323)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 66). قال ابنُ عثيمين: (وفي هذا رَدٌّ على المكَذِّبينَ بالبَعْثِ الَّذين يقولونَ: لو كان البَعثُ حَقًّا لوَجَدْنا آباءَنا الآنَ، وهذا القَولُ منهم تحَدٍّ مَكذوبٌ؛ لأنَّ الرُّسُلَ لم تَقُلْ لهم: إنَّكم تُبعَثونَ الآنَ، ولكِنَّهم قالوا لهم: إنَّكم تُبعَثونَ جَميعًا بعْدَ أن تَموتوا جميعًا). ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 66). .
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ عادةَ اللهِ تعالى جاريةٌ في القُرآنِ بأنَّه كُلَّما ذَكَر الدَّلائِلَ الموجودةَ في الأنفُسِ فإنَّه يَذكُرُ عَقِبَها الدَّلائِلَ الموجودةَ في الآفاقِ، فجَرى هاهنا على تلك العادةِ، وذَكَر دلائِلَ الآفاقِ، وبدأ بما يحتاجُ الإنسانُ إليه [101] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/59). .
وأيضًا لَمَّا عَدَّد تعالى نِعَمَه في نفْسِ الإنسانِ، ذَكَر النِّعَمَ فيما به قِوامُ حياتِه، وأمَرَه بالنَّظَرِ إلى طعامِه، وكيفيَّاتِ الأحوالِ الَّتي اعتوَرَت على طعامِه، حتَّى صار بصدَدِ أن يَطعَمَ [102] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/409). .
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24).
أي: فلْيَنظُرِ الإنسانُ إلى طَعامِه مُتَفَكِّرًا في كيفيَّةِ خَلْقِه، وتيسيرِ أسبابِ حُصولِه [103] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/115)، ((تفسير القرطبي)) (19/220)، ((تفسير ابن كثير)) (8/323)، ((تفسير السعدي)) (ص: 911)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/129، 130). قال ابنُ جرير: (يقولُ تعالى ذِكْرُه: فلْيَنظُرْ هذا الإنسانُ الكافِرُ المنكِرُ توحيدَ اللهِ إلى طعامِه كيفَ دَبَّرَه؟). ((تفسير ابن جرير)) (24/115). .
كما قال تعالى: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ [الواقعة: 63 - 67].
أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان المقصودُ النَّظَرَ إلى صنائِعِ اللهِ تعالى في الطَّعامِ، وكانت أفعالُ الإنسانِ وأقوالُه في تكذيبِه بالبَعثِ أفعالَ مَن يُنكِرُ ذلك الصُّنعَ؛ قال سُبحانَه مُفَصِّلًا لِمَا يَشتَرِكُ في عِلْمِه الخاصُّ والعامُّ مِن صنائِعِه في الطَّعامِ، مؤكِّدًا؛ تنبيهًا على أنَّ التَّكذيبَ بالبَعثِ يَستلزِمُ التَّكذيبَ بإبداعِ النَّباتِ وإعادتِه، وذلك في أسلوبٍ مُبِينٍ أنَّ الإنسانَ مُحتاجٌ إلى جميعِ ما في الوُجودِ، ولو نَقَص منه شيءٌ اختَلَّ أمْرُه، وبدأ أوَّلًا بالسَّماويِّ؛ لأنَّه أشرَفُ، وبالماءِ الَّذي هو حياةُ كُلِّ شَيءٍ؛ تنبيهًا له على ابتداءِ خَلْقِه [104] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/264). :
أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25).
أي: أنَّا أنزَلْنا ماءَ المطَرِ مِنَ السَّحابِ إنزالًا كَثيرًا [105] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/115)، ((تفسير ابن كثير)) (8/323)، ((تفسير السعدي)) (ص: 911)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 67). .
قال تعالى: وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا [النبأ: 14] .
ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26).
أي: ثمَّ شَقَقْنا الأرضَ بخُروجِ النَّباتِ [106] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/116)، ((تفسير القرطبي)) (19/221)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/265)، ((تفسير السعدي)) (ص: 911)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 67). قيل: المرادُ: شَقَقْناها بالنَّباتِ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: ابنُ جرير، والقرطبيُّ، والبِقاعي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/116)، ((تفسير القرطبي)) (19/221)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/265). وقال ابنُ عاشور: (المرادُ هنا: شَقُّ سَطحِ الأرضِ بخَرْقِ الماءِ فيه، أو بآلةٍ كالمِحْراثِ والمِسْحاةِ، أو بقُوَّةِ حَرِّ الشَّمسِ في زمَنِ الصَّيفِ؛ لتتهَيَّأَ لقَبولِ الأمطارِ). ((تفسير ابن عاشور)) (30/131). ويُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/410)، ((تفسير ابن كثير)) (8/323، 324). .
فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27).
أي: فأنبَتْنا في الأرضِ أنواعَ الحُبوبِ؛ كالقَمحِ، والشَّعيرِ، والذُّرَةِ، والأَرُزِّ، وغَيرِ ذلك [107] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/116)، ((تفسير القرطبي)) (19/221)، ((تفسير ابن كثير)) (8/324)، ((تفسير السعدي)) (ص: 911)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 67). .
وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28).
أي: وأنبَتْنا فيها العِنَبَ، وأنبَتْنا فيها قتًّا رطبًا تُعْلَفُ به البهائمُ [108] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/116)، ((تفسير القرطبي)) (19/221)، ((تفسير ابن كثير)) (8/324). ممن اختار المعنى المذكور للقضب: ابن قتيبة، والفراء، وابن جرير، والزجاج، والواحدي، والسمعاني، والبغوي، والرسعني، وابن كثير، والعليمي، والشوكاني، والسعدي، وابن عاشور. يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 514)، ((معاني القرآن)) للفراء (3/238)، ((تفسير ابن جرير)) (24/116)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/286)، ((الوسيط)) للواحدي (4/424)، ((تفسير السمعاني)) (6/160)، ((تفسير البغوي)) (5/212)، ((تفسير الرسعني)) (8/494)، ((تفسير ابن كثير)) (8/324)، ((تفسير العليمي)) (7/289)، ((تفسير الشوكاني)) (5/466)، ((تفسير السعدي)) (ص: 911)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/131). قال الشوكاني: (والقَضْبُ: هو القَتُّ الرَّطْبُ الَّذي يقضبُ مَرَّةً بعدَ أُخرَى تُعْلَفُ به الدَّوابُّ، ولهذا سُمِّي قَضْبًا على مصدَرِ قَضَبَه، أيْ: قَطَعه كأنَّه لِتَكَرُّرِ قَطْعِها نفسَ القطْعِ). ((تفسير الشوكاني)) (5/466). ويُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 514). قال ابن كثير: (والقضبُ هو: الفِصفصةُ التي تأكلُها الدوابُّ رطبةً. ويقالُ لها: القتُّ أيضًا قال ذلك ابنُ عباسٍ، وقتادةُ، والضحَّاكُ. والسُّدي. وقال الحسنُ البصري: القضبُ: العلفُ). ((تفسير ابن كثير)) (8/324). وقيل: هو كُلُّ ما يُقطَعُ مِنَ النَّباتِ؛ لِيَأكُلَه ابنُ آدَمَ غَضًّا طَرِيًّا؛ كالبُقولِ وغَيرِها. وممَّن ذهب إلى هذا: ابنُ عطيَّة، والبِقاعيُّ، والقاسمي. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/439)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/266)، ((تفسير القاسمي)) (9/410). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن جزي)) (2/ 454). .
وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29).
أي: وأنبَتْنا في الأرضِ الزَّيتونَ، وأشجارَ النَّخيلِ [109] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/116)، ((تفسير القرطبي)) (19/221)، ((تفسير ابن كثير)) (8/324)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/132). .
وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30).
أي: وأنبَتْنا في الأرضِ بَساتينَ ذاتَ أشجارٍ غَليظةٍ عَظيمةٍ [110] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/116)، ((الوسيط)) للواحدي (4/424)، ((تفسير القرطبي)) (19/222)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/267)، ((تفسير ابن كثير)) (8/324). قال الثعلبي: (وَحَدَائِقَ غُلْبًا غِلاظَ الأشجارِ، واحدُها أغلَبُ، ومنه قيل لغَليظِ الرَّقبةِ: أغلَبُ. وقال مجاهدٌ: مُلتَفَّةً. ابنُ عبَّاسٍ: طِوالًا. قَتادةُ: الغُلْبُ: النَّخلُ الكِرامُ. عِكْرِمةُ: عِظامَ الأوساطِ. ابنُ زَيدٍ: عِظامَ الجُذوعِ والرِّقابِ). ((تفسير الثعلبي)) (10/133). ويُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/118). .
وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31).
أي: وأنبَتْنا في الأرضِ أنواعَ الفَواكِهِ الَّتي يأكُلُها النَّاسُ؛ مِن ثِمارِ الأشجارِ، وأنبَتْنا فيها العُشْبَ والكَلَأَ مِمَّا تأكُلُه الأنعامُ [111] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/119)، ((تفسير القرطبي)) (19/222)، ((تفسير ابن كثير)) (8/324)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/267)، ((تفسير السعدي)) (ص: 911)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/132، 133)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 67). قال ابن جُزَي: (وَأَبًّا الأبُّ: المَرْعَى عندَ ابنِ عبَّاسِ والجمهورِ). ((تفسير ابن جزي)) (2/ 454). وقال الرَّسْعَني: (وَأَبًّا ما تأكُلُه الأنعامُ. وهذا قولُ عامَّةِ المفسِّرينَ واللُّغَويِّينَ). ((تفسير الرسعني)) (8/495). وقال ابن الجوزي: (وَأَبًّا فيه قَولانِ؛ أحدُهما: أنَّه ما تَرْعاه البهائمُ. قاله ابنُ عبَّاسٍ، وعِكْرِمةُ، واللُّغَويُّونَ. قال الزَّجَّاجُ: هو جميعُ الكَلَأِ الَّذي تَعتَلِفُه الماشيةُ. والثَّاني: أنَّه الثِّمارُ الرَّطبةُ، رواه الوالِبيُّ عن ابنِ عبَّاسٍ). ((تفسير ابن الجوزي)) (4/403). ويُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/286). وقيل: هو كلُّ نباتٍ سِوى الفاكهةِ. وقيل: هو التِّبنُ خاصَّةً. وقيل غيرُ ذلك. يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (6/208)، ((البسيط)) للواحدي (23/232). وقد توقَّف في تفسيرِه عُمَرُ رضي الله عنه؛ فعن أنَسٍ قال: (قرأ عُمرُ بنُ الخطَّابِ رضىَ الله عنه: عَبَسَ وَتَوَلَّى، فلمَّا أتى على هذه الآيةِ: وَفَاكِهَةً وَأَبًّا قال: قد عرَفْنا الفاكهةَ، فما الأبُّ؟ قال: لَعَمْرُكَ يا ابنَ الخطَّابِ، إنَّ هذا لَهُو التَّكلُّفُ). أخرجه ابن جرير في ((تفسيره)) (24/120). .
مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32).
أي: أنبَتَ اللهُ ذلك كُلَّه؛ مَنفَعةً لكم -أيُّها النَّاسُ- ولأنعامِكم مِنَ الإبِلِ والبَقَرِ والغَنَمِ، تتمَتَّعونَ بها في الحياةِ الدُّنيا [112] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/123)، ((الوسيط)) للواحدي (4/424)، ((تفسير القرطبي)) (19/223)، ((تفسير ابن كثير)) (8/325). .
كما قال تعالى: وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ [البقرة: 36] .

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ إلى قَولِه تعالى: ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ أنَّه لو فَكَّرَ الإنسانُ في نفْسِه لَزَجَرَه ما يَعلَمُ مِن عجائبِ خَلْقِها عن كُفْرِه [113] يُنظر: ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/188). .
2- قَولُ اللهِ تعالى: مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ الَّتي خلَقَها اللهُ وسَخَّرَها لكم، فمَن نظَرَ في هذه النِّعَمِ أوجَبَ له ذلك شُكْرَ رَبِّه، وبَذْلَ الجُهدِ في الإنابةِ إليه، والإقبالِ على طاعتِه، والتَّصديقِ بأخبارِه [114] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 911). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ اللهِ تعالى: ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ، ولم يَقُلْ: (فقَبَرَه)؛ لأنَّ القابِرَ هو الدَّافِنُ بيَدِه، والمُقْبِرُ هو اللهُ تعالى؛ يقالُ: قَبَرَ الميِّتَ: إذا دَفَنَه، وأقبَرَ الميِّتَ: إذا أمَرَ غَيْرَه بأن يَجعَلَه في القَبْرِ، والعَرَبُ تقولُ: بَتَرْتُ ذَنَبَ البَعيرِ، واللهُ أبتَرَه، وعَضَبْتُ قَرْنَ الثَّورِ، واللهُ أعضَبَه، وطَرَدْتُ فُلانًا عنِّي، واللهُ أَطْرَدَه، أي: صَيَّرَه طَريدًا [115] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/58). ويُنظر أيضًا: ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (2/286)، ((إصلاح المنطق)) لابن السِّكِّيت (ص: 172)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/47). ، فأُسنِدَ الإقبارُ إلى اللهِ؛ لأنَّه ألهَمَ النَّاسَ إيَّاه، وأكَّدَ ذلك بما أمَرَ في شرائعِه مِن وُجوبِ دفنِ الميِّتِ [116] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/125). .
2- قال الله تعالى: ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ في الآيةِ دَليلٌ على أنَّ وُجوبَ دَفْنِ أمواتِ النَّاسِ بالإقبارِ دونَ الحَرْقِ بالنَّارِ، كما يَفعَلُ مَجوسُ الهِندِ، ودونَ الإلقاءِ لسِباعِ الطَّيرِ في ساحاتٍ في الجِبالِ مَحُوطةٍ بجُدْرانٍ دُونَ سَقفٍ، كما كان يَفعَلُه مَجوسُ الفُرْسِ، وكما كان يَفعَلُه أهلُ الجاهِليَّةِ بموتى الحُروبِ والغاراتِ في الفيافي؛ إذْ لا يُوارونَهم بالتُّرابِ، وكانوا يَفتَخِرونَ بذلك ويتمَنَّونَه [117] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/125). ويُنظر أيضًا: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 281). .
3- قال تعالى: ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ مِن نِعمةِ اللهِ سُبحانَه وتعالى أنْ شَرَعَ لعبادِه هذا الدَّفنَ؛ فإنَّ معنى: فَأَقْبَرَهُ أي: جَعَلَه في قَبْرٍ، أي: مَدفونًا؛ سَترًا عليه، وإكرامًا؛ لأنَّ البشرَ لو كانوا إذا ماتوا كسائرِ الميتاتِ: جُثَثًا تُرمَى، لَكان في ذلك إهانةٌ عَظيمةٌ للمَيِّتِ ولأهلِ الميِّتِ [118] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 66). ، وأيضًا فإكرامُهم أمواتًا بالدَّفنِ؛ لئلَّا يكونَ الإنسانُ كالشَّيءِ اللَّقَى -أي: المُلْقى لِهَوانِه- يَجتنِبُ بنو جنسِه القُربَ منه، ويُهينُه الْتِقامُ السِّباعِ وتمزيقُ مَخالِبِ الطَّيرِ والكلابِ، فمَحَلُّ المِنَّةِ في قولِه: ثُمَّ أَمَاتَهُ هو فيما فُرِّع عليه بالفاءِ بقولِه: فَأَقْبَرَهُ، وليستِ الإماتةُ وحْدَها مِنَّةً [119] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/125). .
4- قال تعالى: ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ في تَعليقِ الإنشارِ بمشيئتِه تعالَى إيذانٌ بأنَّ وقتَه غيرُ متعيِّنٍ، بل هو تابعٌ لها [120] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/287)، ((تفسير أبي السعود)) (9/110). .
5- في قولِه تعالى: ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ رَدٌّ لشُبهةِ الكافِرينَ؛ إذ كانوا يطلُبونَ تعجيلَ البعثِ تحدِّيًا وتهكُّمًا؛ لِيَجعَلوا عدمَ الاستجابةِ بتعجيلِه دليلًا على أنَّه لا يكونُ، فأعلَمَهم اللهُ أنَّه يقَعُ عندَما يَشاءُ اللهُ وُقوعَه، لا في الوقتِ الَّذي يَسألونَه؛ لأنَّه مَوكولٌ إلى حِكمةِ اللهِ تعالى، واستفادةُ إبطالِ قولِهم مِن طريقِ الكِنايةِ [121] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/126). .
6- قال تعالى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ، تعديةُ فِعلِ النَّظرِ هنا بحرفِ (إلى) تدُلُّ على أنَّه مِن نظَرِ العَينِ؛ إشارةً إلى أنَّ العِبرةَ تحصُلُ بمجرَّدِ النَّظرِ في أطوارِه، والمقصودُ التَّدبُّرُ فيما يُشاهِدُه الإنسانُ مِن أحوالِ طعامِه بالاستدلالِ بها على إيجادِ الموجوداتِ مِن الأرضِ [122] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/129). .
7- في قَولِه تعالى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا جَعَل سُبحانَه نَظَرَ الإنسانِ في إخراجِ طعامِه مِن الأرضِ دليلًا على إخراجِه هو منها بعدَ مَوتِه؛ استِدلالًا بالنَّظيرِ على النَّظيرِ [123] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/113). .
8- في قَولِه تعالى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ إلى قَولِه تعالى: مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ إثباتُ الحِكَمِ والغاياتِ الَّتي جَعَلَها سُبحانَه في خَلْقِه وأمْرِه [124] يُنظر: ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 197). .
9- قَولُه تعالى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ ... فيه امتِنانٌ، وفيه استِدلالٌ بإحياءِ النَّباتِ مِنَ الأرضِ الهامِدةِ على إحياءِ الأجسامِ بَعْدَما كانت عِظامًا باليةً، وتُرابًا مُتمَزِّقًا [125] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/323). .
10- قال تعالَى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ ... بَعْدَما بَيَّنَ مِمَّ خُلِقَ الإنسانُ بيَّنَ هنا كيف يُطعِمُه، وفي كِلَيْهِما آيةٌ على القُدرةِ، وقد اتَّفَقت الآيتانِ على خُطُواتٍ ثلاثٍ مُتطابِقةٍ فيهما؛ فصَبُّ الماءِ مِنَ السَّماءِ إلى الأرضِ يُقابِلُ دَفْقَ الماءِ في الرَّحِمِ، وشَقُّ الأرضِ للنَّباتِ يُقابِلُ خُروجَه إلى الدُّنيا، وإنباتُ أنواعِ النَّباتاتِ يُقابِلُ تقاديرَ الخَلْقِ المختَلِفةَ، وفي التَّنصيصِ على أنواعِ النَّباتِ مِن: حَبٍّ، وقَضْبٍ، وعِنَبٍ، ورُمَّانٍ، وزَيتونٍ، ونخيلٍ، وفواكِهَ مُتعَدِّدةٍ، وحدائِقَ مُلْتفَّةٍ؛ لظُهورِ معنى المغايَرةِ فيها، مع أنَّها مِن أصلَينِ مُشتَركينِ: الماءِ مِنَ السَّماءِ، والتُّربةِ في الأرضِ، يُسقى بماءٍ واحدٍ [126] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/435). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ استِئنافٌ ابتدائيٌّ نشَأَ عن ذِكرِ مَن استَغنى؛ فإنَّه أُريدَ به معيَّنٌ واحدٌ أو أكثرُ، وذلك يُبيِّنُه ما وقَعَ مِن الكلامِ الَّذي دارَ بيْنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وبيْنَ صناديدِ المُشرِكينَ في المجلِسِ الَّذي دخَلَ فيه ابنُ أمِّ مَكْتومٍ [127] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/119). .
- وأيضًا قولُه: قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ لا تَرى أسلوبًا أغلَظَ منه، ولا أخشَنَ مَسًّا، ولا أدَلَّ على سَخَطٍ، ولا أبْعَدَ شوطًا في المَذَمَّةِ، مع تَقارُبِ طرَفَيْه، ولا أجمَعَ لِلَّائمةِ على قِصَرِ مَتنِه؛ فهذه الجُملةُ بلَغتْ نهايةَ الإيجازِ، وأرفَعَ الجَزالةِ، بأسلوبٍ غليظٍ دالٍّ على السَّخَطِ، بالِغٍ حدَّ المَذَمَّةِ، جامِعٍ للمَلامةِ، ولم يُسمَعْ مِثلُها قبْلَها، فهي مِن جَوامِعِ الكَلِمِ القرآنيَّةِ [128] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/703)، ((تفسير البيضاوي)) (5/287)، ((تفسير أبي حيان)) (10/409)، ((تفسير أبي السعود)) (9/110)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/121)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/377). .
- وفِعلُ (قُتِلَ فلانٌ) أصلُه دُعاءٌ عليه بالقَتلِ، وهي مِن أشنَعِ دعَواتِهم؛ لأنَّ القتلَ قُصارَى شدائدِ الدُّنيا وفَظائعِها، والدُّعاءُ بالسُّوءِ مِن اللهِ تعالى مُستعمَلٌ في التَّحقيرِ والتَّهديدِ؛ لظُهورِ أنَّ حقيقةَ الدُّعاءِ لا تُناسِبُ الإلهيَّةَ؛ لأنَّ اللهَ هو الَّذي يَتوجَّهُ إليه النَّاسُ بالدُّعاءِ [129] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/702، 703)، ((تفسير البيضاوي)) (5/287)، ((تفسير أبي حيان)) (10/409)، ((تفسير أبي السعود)) (9/110)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/119). .
- وبناءُ قُتِلَ للمجهولِ متفرِّعٌ على استِعمالِه في الدُّعاءِ؛ إذ لا غرَضَ في قاتلٍ يقتُلُه [130] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/120). .
- وتعريفُ الْإِنْسَانُ يجوزُ أنْ يكونَ التَّعريفَ المسمَّى تعريفَ الجِنسِ، فيُفيدَ استغراقَ جميعِ أفرادِ الجنسِ، وهو استغراقٌ حقيقيٌّ، وقد يُرادُ به استغراقُ مُعظَمِ الأفرادِ بحسَبِ القَرائنِ، فتَولَّدَ بصِيغةِ الاستغراقِ ادِّعاءٌ لعدمِ الاعتدادِ بالقَليلِ مِن الأفرادِ، ويُسمَّى الاستغراقَ العُرفيَّ في اصطلاحِ عُلماءِ المعاني، ويُسمَّى العامَّ المرادَ به الخصوصُ في اصطلاحِ عُلماءِ الأصولِ، والقرينةُ هنا ما بُيِّن به كفرُ الإنسانِ مِن قولِه: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [عبس: 18] إلى قولِه: ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ [عبس: 22] ، فيكونُ المرادُ مِن قولِه: الْإِنْسَانُ المُشرِكينَ المُنكِرينَ البعثَ. ويجوزُ أنْ يكونَ تعريفُ الإنسانِ تعريفَ العَهدِ لشخصٍ معيَّنٍ مِن الإنسانِ يُعيِّنُه خبرُ سببِ النُّزولِ [131] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/120، 121). .
- قولُه: قُتِلَ الْإِنْسَانُ تنبيهٌ على أنَّهم استحَقُّوا أعظَمَ أنواعِ العِقابِ عُرفًا، وقولُه: مَا أَكْفَرَهُ تنبيهٌ على أنَّهم اتَّصَفوا بأعظَمِ أنواعِ القبائحِ والمنكَراتِ شرعًا [132] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/297). .
- وجملةُ مَا أَكْفَرَهُ تعليلٌ لإنشاءِ الدُّعاءِ عليه دعاءَ التَّحقيرِ والتَّهديدِ، وهذا تعجُّبٌ مِن شِدَّةِ كُفرِ هذا الإنسانِ [133] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/703)، ((تفسير البيضاوي)) (5/287)، ((تفسير أبي حيان)) (10/409)، ((تفسير أبي السعود)) (9/110)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/121)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/377). .
- وحُذِفَ المتعلَّقُ بلَفظِ أَكْفَرَهُ؛ لظُهورِه مِن لفظِ أَكْفَرَهُ، وتقديرُه: ما أكفَرَه باللهِ [134] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/122). .
2- قولُه تعالَى: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ
- جُملةُ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ جُملةٌ مستأنَفةٌ مَسوقةٌ للشُّروعِ في بيانِ ما أنعَمَ عليه بعدَ المبالَغةِ في وصْفِه بكُفرانِ نِعَمِ خالِقِه [135] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/703)، ((تفسير البيضاوي)) (5/287)، ((تفسير أبي السعود)) (9/110)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/384). . وهي أيضًا بيانٌ لجُملةِ قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ [عبس: 17] ؛ لأنَّ مُفادَ هذه الجُملةِ الاستِدلالُ على إبطالِ إحالتِهم البعثَ، وذلك الإنكارُ مِن أكبرِ أُصولِ كُفرِهم [136] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/122). .
- والاستِفهامُ على معنى التَّقريرِ على حَقارةِ ما خُلِق منه [137] قال ابن عطية: (قولُه تعالى: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ استفهامٌ على معنى التَّقريرِ على تفاهةِ الشَّيءِ الَّذي خُلِق الإنسانُ منه، وهي عبارةٌ تَصلُحُ للتَّحقيرِ والتَّعظيمِ، والقرينةُ تبيِّنُ الغرضَ). ((تفسير ابن عطية)) (5/438). وقال ابن عاشور: (وليس في ذِكرِ النُّطفةِ هنا إيماءٌ إلى تَحقيرِ أصلِ نشأةِ الإنسانِ؛ لأنَّ قصْدَ ذلك محلُّ نظرٍ، على أنَّ المَقامَ هنا للدَّلالةِ على خَلْقٍ عظيمٍ، وليس مَقامَ زَجْرِ المُتكبِّرِ). ((تفسير ابن عاشور)) (30/123). ؛ ولذلك أجابَ عنه بقولِه: مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ [138] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/287)، ((تفسير أبي حيان)) (10/409)، ((تفسير أبي السعود)) (9/110)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/384). . وهذا الاستفهامُ صُوريٌّ، وجُعِل المُستفهَمُ عنه تَعيينَ الأمرِ الَّذي به خُلِق الإنسانُ؛ لأنَّ المَقامَ هنا ليس لإثباتِ أنَّ اللهَ خلَقَ الإنسانَ، بل المَقامُ لإثباتِ إمكانِ إعادةِ الخلْقِ بتنظيرِه بالخلْقِ الأوَّلِ، أي: كما كان خلْقُ الإنسانِ أوَّلَ مرَّةٍ مِن نُطفةٍ، يكونُ خلْقُه ثانيَ مرَّةٍ مِن كائنٍ ما [139] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/122). .
- وجيءَ في هذا الاستِدلالِ بصُورةِ سؤالٍ وجوابٍ؛ للتَّشويقِ إلى مَضمونِه؛ ولذلك قُرِن الاستفهامُ بالجوابِ عنه [140] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/122). .
- قولُه: مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ قُدِّم الجارُّ والمجرورُ مِنْ نُطْفَةٍ؛ مُحاكاةً لتقديمِ المُبيَّنِ في السُّؤالِ الَّذي اقتَضى تقديمَه كَونُه استِفهامًا يَستحِقُّ صدْرَ الكلامِ، مع الاهتِمامِ بتقديمِ ما منه الخلْقُ؛ لِما في تقديمِه مِن التَّنبيهِ للاستدلالِ على عظيمِ حِكمةِ اللهِ تعالَى؛ إذ كوَّنَ أبدَعَ مخلوقٍ معروفٍ مِن أهوَنِ شيءٍ، وهو النُّطفةُ [141] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/122). .
- وإنَّما لم يُستغنَ عن إعادةِ فِعلِ خَلَقَهُ في جُملةِ الجوابِ مع العِلمِ به بتقدُّمِ ذِكرِ حاصِلِه في السُّؤالِ؛ لزيادةِ التَّنبيهِ على دِقَّةِ ذلك الخلْقِ البديعِ، فذِكرُ فعلِ خَلَقَهُ الثَّاني مِن أسلوبِ المساواةِ [142] الأصلُ في الكلامِ أن يكونَ تأديةً للمعاني بألفاظٍ على مِقْدارِها، أي: بأن يكونَ لِكُلِّ معنًى قصَدَه المتكلِّمُ لفظٌ يدُلُّ عليه؛ ظاهرٌ أو مُقَدَّرٌ، وتُسمَّى دَلالةُ الكلامِ بهاتِه الكَيفيَّةِ: (مُساواةً)؛ لأنَّ الألفاظَ كانت مساويةً للمَدْلولاتِ. فإذا نقَصَتِ الألفاظُ عن عددِ المعاني مع إيفائِها بجميعِ تلك المعاني، فذلك (الإيجازُ). وإذا زادَتِ الألفاظُ على عددِ المعاني مع عدَمِ زيارةِ المعاني، فذلك (الإطنابُ). يُنظر: ((نقد الشعر)) لقدامة بن جعفر (ص: 55)، ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (3/179)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 118-120). ؛ ليس بإيجازٍ، وليس بإطنابٍ [143] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/122، 123). .
- قولُه: مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ غلَبَ إطلاقُ النُّطفةِ على الماءِ الَّذي منه التَّناسُلُ، فذُكِرَتِ النُّطفةُ لتعيُّنِ ذِكرِها؛ لأنَّها مادَّةُ خلْقِ الحيوانِ؛ للدَّلالةِ على أنَّ صُنعَ اللهِ بديعٌ، فإمكانُ البعثِ حاصلٌ [144] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/123). .
- وفُرِّع على فعلِ خَلَقَهُ فِعلُ فَقَدَّرَهُ بفاءِ التَّفريعِ؛ لأنَّ التَّقديرَ هنا إيجادُ الشَّيءِ على مِقدارٍ مضبوطٍ مُنظَّمٍ، أي: جعَلَ التَّقديرَ مِن آثارِ الخلْقِ؛ لأنَّه خلَقَه متهيِّئًا للنَّماءِ وما يُلابِسُه مِن العقلِ والتَّصرُّفِ وتمكينِه مِن النَّظرِ بعقلِه، والأعمالِ الَّتي يُريدُ إتيانَها، وذلك حاصِلٌ مع خلْقِه مدرَّجًا مفرَّعًا. وهذا التَّفريعُ وما عُطِف عليه إدماجٌ [145] الإدماجُ: أنْ يُدمِجَ المتكلِّمُ غرَضًا في غرَضٍ، أو بديعًا في بديعٍ، بحَيثُ لا يَظهرُ في الكلامِ إلَّا أحدُ الغرَضينِ أو أحدُ البَديعينِ؛ فهو مِن أفانينِ البَلاغةِ، ويكونُ مرادُ البليغِ غَرَضينِ فيَقرِنُ الغرضَ المَسوقَ له الكلامُ بالغرضِ الثَّاني، وفيه تَظهرُ مَقدرةُ البليغِ؛ إذ يأتي بذلك الاقترانِ بدونِ خروجٍ عن غَرَضِه المسوقِ له الكلامُ ولا تَكلُّفٍ، بمعنى: أن يَجعلَ المتكلِّمُ الكلامَ الَّذي سِيق لِمعنًى -مِن مَدحٍ أو غيرِه- مُتضمِّنًا معنًى آخَرَ، كقولِه تعالى: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ [القصص: 70] ؛ فهذا مِن إدماجِ غرَضٍ في غَرَضٍ؛ فإنَّ الغرَضَ منها تَفرُّدُه تعالى بوصْفِ الحمدِ، وأُدمِجَ فيه الإشارةُ إلى البعثِ والجزاءِ. وقيل: أُدمِجتِ المبالَغةُ في المطابَقةِ؛ لأنَّ انفِرادَه تعالى بالحمدِ في الآخِرَةِ -وهي الوقتُ الَّذي لا يُحمَدُ فيه سِواهُ- مُبالَغةٌ في الوَصفِ بالانفِرادِ بالحَمْدِ. يُنظر: ((تحرير التحبير)) لابن أبي الإصبع (ص: 449)، ((خِزانة الأدب)) لابن حِجَّةَ الحَمَوي (2/484)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/298)، ((علوم البلاغة البيان المعاني البديع)) للمراغي (ص: 344)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/339)، ((البلاغة العربية)) لعبدالرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/427). للامتنانِ في خلالِ الاستدلالِ [146] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/123). .
3- قولُه تعالَى: ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ
- حرفُ (ثُمَّ) مِن قولِه: ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ للتَّراخي الرُّتبيِّ؛ لأنَّ تيسيرَ سبيلِ العَملِ الإنسانيِّ أعجَبُ في الدَّلالةِ على بديعِ صنعِ اللهِ؛ لأنَّه أثرُ العقلِ، وهو أعظَمُ ما في خلْقِ الإنسانِ، وهو أقوى في المِنَّةِ [147] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/123). . وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ.
- ونُصِب السَّبِيلَ بفعلٍ يُفسِّرُه الظَّاهرُ؛ للمُبالَغةِ في التَّيسيرِ [148] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/287). .
- وتعريفُ السَّبيلِ باللَّامِ دونَ الإضافةِ؛ للإشعارِ بعُمومِه وأنَّه سبيلٌ عامٌّ [149] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/287)، ((تفسير أبي السعود)) (9/110)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/385). .
- وتقديمُ لفظِ السَّبِيلَ على فِعلِه؛ للاهتِمامِ بالعِبرةِ بتيسيرِ السَّبيلِ، وفيه رعايةٌ للفواصلِ [150] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/124). .
- قولُه: ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ عطفُ ثُمَّ أَمَاتَهُ على يَسَّرَهُ بحرفِ التَّراخي هو لِتَراخي الرُّتبةِ؛ فإنَّ انقراضَ تلك القُوى العقليَّةِ والحِسِّيَّةِ بالموتِ -بعدَ أنْ كانتْ راسخةً زمنًا ما- انقراضٌ عَجيبٌ دونَ تدريجٍ ولا انتظارِ زمانٍ يُساوي مُدَّةَ بقائِها، وهذا إدماجٌ للدَّلالةِ على عظيمِ القُدرةِ [151] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/124). .
- قولُه: ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ عَدَّ الإماتةَ والإقبارَ في النِّعَمِ؛ لأنَّ الإماتةَ وُصْلةٌ في الجُملةِ إلى الحياةِ الأبَديَّةِ واللَّذَّاتِ الخالصةِ، والأمرَ بالقَبْرِ تَكرِمةٌ وصيانةٌ عن السِّباعِ [152] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/287)، ((تفسير أبي السعود)) (9/110). وقيل: مَحَلُّ المِنَّةِ في الإماتة هو فيما فُرِّع عليها بالفاءِ بقولِه: فَأَقْبَرَهُ، وليستِ الإماتةُ وحْدَها مِنَّةً. .
- وصِيغةُ المُضيِّ في قولِه: أَمَاتَهُ مُستعمَلةٌ في الماضي -وهو موتُ مَن ماتَ-، والمُستقبَلِ، وهو موتُ مَن سيَموتونَ؛ لأنَّ موتَهم في المستقبَلِ مُحقَّقٌ؛ فمِن المعلومِ بالضَّرورةِ أنَّ الكثيرَ الَّذي لا يُحصى مِن أفرادِ النَّوعِ الإنسانيِّ قد صار أمرُه إلى الموتِ، وأنَّ مَن هو حيٌّ آيِلٌ إلى الموتِ لا محالةَ [153] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/124). .
- وذِكرُ جُملةِ ثُمَّ أَمَاتَهُ تَوطئةٌ وتَمهيدٌ لجُملةِ فَأَقْبَرَهُ، وهذا إدماجٌ للامتنانِ في خِلالِ الاستِدلالِ [154] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/124). .
- وقولُه: ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ رُجوعٌ إلى إثباتِ البعثِ، وهي كالنَّتيجةِ عَقِبَ الاستدلالِ.  ووقَعَ قولُه: إِذَا شَاءَ مُعترِضًا بيْنَ جملةِ أَمَاتَهُ وجملةِ أَنْشَرَهُ؛ لِرَدِّ تَوهُّمِ المُشرِكينَ أنَّ عدمَ التَّعجيلِ بالبعثِ دَليلٌ على انتفاءِ وُقوعِه في المستقبَلِ، و(إذا) ظرفٌ للمُستقبَلِ، ففِعلُ المُضيِّ بعدَها مُؤوَّلٌ بالمستقبَلِ، والمعنى: ثمَّ حينَ يَشاءُ يُنشِرُه، أي: يُنشِرُه حينَ تَتعلَّقُ مشيئتُه بإنشارِه [155] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/125). .
4- قولُه تعالَى: كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ
- (كَلَّا) تُفيدُ الرَّدعَ والزَّجرَ، وهو مُتوجِّهٌ إلى ما قبْلَها ممَّا يُومِئُ إليه قولُه تعالَى: ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ [عبس: 22] ، أي: إذا شاء اللهُ؛ إذ يُومِئُ إلى أنَّ الكافرَ يُنكِرُ أنْ يُنشِرَه اللهُ، ويَعتَلُّ بأنَّه لم يُنشِرْ أحدًا منذُ القِدَمِ إلى الآنَ، ومَوقعُ (كَلَّا) مَوقعُ الجوابِ بالإبطالِ، ومَوقعُ جُملةِ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ مَوقعُ العِلَّةِ للإبطالِ، أي: لو قَضى ما أمَرَه اللهُ به لَعَلِمَ بُطلانَ زَعمِه أنَّه لا يُنشَرُ. أو هو ردْعٌ للإنسانِ عمَّا هو عليه، أي: ممَّا ذُكِر قبْلَه مِن شدَّةِ كفرِه واسترسالِه عليه دونَ إقلاعٍ، فهو زجْرٌ عن مَضمونِ: مَا أَكْفَرَهُ [عبس: 17] . وقيل غير ذلك [156] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/703)، ((تفسير البيضاوي)) (5/287)، ((تفسير أبي السعود)) (9/110، 111)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/126- 128)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/385). .
- ولَمَّا حرفُ نفْيٍ يدُلُّ على نفيِ الفعلِ في الماضي مِثلَ (لَمْ)، ويَزيدُ بالدَّلالةِ على استمرارِ النَّفيِ إلى وقتِ التَّكلُّمِ، وجُزِم هنا بـ(لَمَّا)؛ للدَّلالةِ على أنَّ العُجبَ والكِبْرَ ما زالا يُلازِمانِ الإنسانَ حتَّى السَّاعةِ الَّتي هو فيها، والمقصودُ أنَّه مستمِرٌّ على عدمِ قضاءِ ما أمَرَه اللهُ ممَّا دعاهُ إليه [157] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/128)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/385). .
5- قولُه تعالَى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ
- قولُه: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ كلامٌ مُستأنَفٌ مَسوقٌ للشُّروعِ في تَعدادِ النِّعمِ المتعلِّقةِ ببقائِه بعدَ تفصيلِ النِّعمِ المتعلِّقةِ بحدوثِه [158] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/111)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/385). . أو هو إمَّا مُفرَّعٌ على قولِه: لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ [عبس: 23] ، فيكونَ ممَّا أمَرَه اللهُ به مِن النَّظرِ، وإمَّا على قولِه: مَا أَكْفَرَهُ [عبس: 17] ، فيكونَ هذا النَّظرُ ممَّا يُبطِلُ ويُزيلُ شِدَّةَ كفرِ الإنسانِ، والفاءُ مع كَونِها للتَّفريعِ تُفيدُ معنى الفَصيحةِ -الَّتي تُفصِحُ عن جملةٍ قد حُذِفَتْ-؛ إذ التَّقديرُ: إنْ أراد أنْ يَقضيَ ما أمَرَه فلْيَنظُرْ إلى طعامِه، أو إنْ أرادَ نقْضَ كُفرِه فلْيَنظُرْ إلى طعامِه [159] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/129). .
- وقولُه: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ إلى قولِه: مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ استِدلالٌ على تقريبِ كَيفيَّةِ البعثِ، انتُقِلَ إليه في مَعرِضِ الإرشادِ إلى تَدارُكِ الإنسانِ ما أهمَلَه، وكان الانتقالُ مِن الاستدلالِ بما في خلْقِ الإنسانِ مِن بديعِ الصُّنعِ مِن دَلائلَ قائمةٍ بنفْسِه في آيةِ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [عبس: 18] إلى الاستدلالِ بأحوالٍ موجودةٍ في بعضِ الكائناتِ شديدةِ الملازَمةِ لحياةِ الإنسانِ -ترسيخًا للاستدلالِ، وتفَنُّنًا فيه، وتَعريضًا بالمِنَّةِ على الإنسانِ في هذه الدَّلائلِ، مِن نعمةِ النَّباتِ الَّذي به بقاءُ حياةِ الإنسانِ، وحياةِ ما يَنفَعُه مِن الأنعامِ [160] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/129). .
- وجُعِل المنظورُ إليه ذاتَ الطَّعامِ مع أنَّ المرادَ النَّظرُ إلى أسبابِ تكَوُّنِه وأحوالِ تطوُّرِه إلى حالةِ انتفاعِ الإنسانِ به، وانتفاعِ أنعامِ النَّاسِ به، وذلك مِن أسلوبِ إناطةِ الأحكامِ بأسماءِ الذَّواتِ والمرادُ أحوالُها؛ مِثلَ قولِه تعالَى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [المائدة: 3] ، أي: أكْلُها، فأمَرَ اللهُ الإنسانَ بالتَّفكيرِ في أطوارِ تكَوُّنِ الحُبوبِ والثِّمارِ الَّتي بها طعامُه، وقد وُصِف له تطوُّرُ ذلك لِيَتأمَّلَ ما أُودِعَ إليه في ذلك مِن بديعِ التَّكوينِ، سواءٌ رأى ذلك ببصَرِه أو لم يَرَه، ولا يَخلو أحدٌ عن عِلمٍ إجماليٍّ بذلك، فيَزيدُه هذا الوصفُ عِلمًا تفصيليًّا، وفي جميعِ تلك الأطوارِ تمثيلٌ لإحياءِ الأجسادِ المستقرَّةِ في الأرضِ، فقد يكونُ هذا التَّمثيلُ في مجرَّدِ الهيئةِ الحاصلةِ بإحياءِ الأجسادِ، وقد يكونُ تمثيلًا في جميعِ تلك الأطوارِ بأنْ تُخرَجَ الأجسادُ مِن الأرضِ كخروجِ النَّباتِ بأنْ يكونَ بَذرُها في الأرضِ، ويُرسِلَ اللهُ لها قُوًى لا نَعلَمُها تُشابِهُ قوَّةَ الماءِ الَّذي به تَحْيا بُذورُ النَّباتِ؛ قال تعالَى: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا [161] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/129، 130). [نوح: 17-18] .
- والإنسانُ المذكورُ في قولِه: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ هو الإنسانُ المذكورُ في قولِه: قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ [عبس: 17] ، وإنَّما جيءَ باسمِه الظَّاهرِ هنا دونَ الضَّميرِ كما في قولِه: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [عبس: 18] ؛ لأنَّ ذلك قَريبٌ مِن مَعادِه، وما هنا ابتداءُ كلامٍ؛ فعُبِّر فيه بالاسمِ الظَّاهرِ للإيضاحِ [162] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/130). .
- وأُدمِجَ في أمرِ الإنسانِ بالنَّظرِ إلى الطَّعامِ مِنَّةٌ عليه بالإمدادِ بالغذاءِ الَّذي به إخلافُ ما يَضمحِلُّ مِن قُوَّتِه بسببِ جهودِ العقلِ والتَّفكيرِ الطَّبيعيَّةِ الَّتي لا يُشعَرُ بحُصولِها في داخِلِ المِزاجِ، وبسببِ كَدِّ الأعمالِ البدَنيَّةِ والإفرازاتِ، وتلك أسبابٌ لتبَخُّرِ القُوى البدَنيَّةِ، فيَحتاجُ المِزاجُ إلى تعويضِها وإخلافِها، وذلك بالطَّعامِ والشَّرابِ [163] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/130). .
- وإنَّما تَعلَّقَ النَّظرُ بالطَّعامِ مع أنَّ الاستدلالَ هو بأحوالِ تكوينِ الطعامِ؛ إجراءً للكلامِ على الإيجازِ، ويُبيِّنُه ما في الجُمَلِ بعْدَه مِن قولِه: أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا إلى آخِرِها، فالتَّقديرُ: فلْيَنظُرِ الإنسانُ إلى خلْقِ طعامِه، وتهيئةِ الماءِ لإنمائِه، وشقِّ الأرضِ وإنباتِه، وإلى انتفاعِه به وانتفاعِ مَواشيهِ في بقاءِ حياتِهم [164] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/130). .
- قولُه: أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا قُرِئَ بفتحِ الهمزةِ على أنَّه بدَلُ اشتمالٍ [165] بَدلُ الاشتمالِ: هو الَّذي يدُلُّ على مَعنًى في مَتْبوعِه أو صِفةٍ فيه، مِثلُ: أعْجَبَني مُحمَّدٌ خُلُقُه؛ فـ (خُلُقُه) بَدَلٌ مِن (مُحمَّدٌ)؛ بَدَلُ اشْتِمالٍ. يُنظر: ((أوضح المسالك)) لابن هشام (3/365)، ((توضيح المقاصد)) للمرادي (2/1037)، ((شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك)) لابن مالك (3/ 249). مِن طَعَامِهِ؛ لأنَّ الماءَ سببٌ لحدوثِ الطعامِ، فهو مُشتمِلٌ عليه. وقُرئَ: إنَّا على الاستئنافِ [166] قرأ عاصمٌ وحمزةُ والكسائيُّ وخلفٌ أَنَّا بفتحِ الهمزةِ، والباقونَ بكسرِها، ووافقهم رويس في الابتداءِ. يُنظر: ((النشر في القراءات العشر)) لابن الجزري (2/398)، ((إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربعة عشر)) لابن البناء (ص: 572). ؛ على أنَّ الجملةَ بيانٌ لجملةِ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ؛ لتفصيلِ ما أُجمِلَ هنالك على وجهِ الإيجازِ [167] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/111)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/131)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/385). .
- وانتصَبَ صَبًّا وشَقًّا على المفعولِ المطلَقِ للفِعلينِ صَبَبْنَا وشَقَقْنَا مؤكِّدًا لعامِلِه؛ لِيَتأتَّى تَنوينُه؛ لِما في التَّنكيرِ مِن الدَّلالةِ على التَّعظيمِ، وتعظيمُ كلِّ شيءٍ بما يُناسِبُه [168] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/131). .
- وإسنادُ الصَّبِّ والشَّقِّ والإنباتِ إلى ضميرِ الجلالةِ في قولِه: أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا؛ لأنَّ اللهَ مُقدِّرُ نظامِ الأسبابِ المؤثِّرةِ في ذلك، ومُحْكِمُ نواميسِها، ومُلهِمُ النَّاسِ استعمالَها [169] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/131). .
- وجاء مَساقُ النَّظمِ الكريمِ لبيانِ النِّعمِ الفائضةِ مِن جَنابِه تعالى على وجهٍ بديعٍ خارجٍ عن العاداتِ المعهودةِ، كما يُنبِئُ عنه تأكيدُ الفِعلينِ بالمَصدرَينِ صَبًّا شَقًّا [170] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/111). .
- والفاءُ في قولِه: فَأَنْبَتْنَا للتَّفريعِ والتَّعقيبِ، وهو في كلِّ شيءٍ بحسَبِه [171] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/131). .
- وقَدَّم العِنَبَ؛ لأنَّه أنفَعُ الفواكِهِ، يُؤكَلُ رَطْبًا ويابِسًا، ويُعصَرُ فيُتَّخَذُ منه أنواعٌ، وهو أعَمُّ وُجودًا مِنَ النَّخلِ، يُوجَدُ في عامَّةِ البلادِ، والنَّخلُ لا يكونُ إلَّا في البلادِ الحارَّةِ [172] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (16/294). .
- والقَضْبُ: أي: رَطْبةٌ، سُمِّيَتْ بمصدرِ قضَبَهُ، أي: قطَعَهُ؛ مبالَغةً، كأنَّها لتكرُّرِ قطعِها وتكثُّرِه نفْسُ القَطعِ [173] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/112). .
- قولُه: وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا إنَّما ذُكِر النَّخلُ دونَ ثمرتِه، وهو التَّمرُ، خِلافًا لِما قُرِن به مِن الثِّمارِ والفواكهِ والكَلَأِ؛ لأنَّ منافعَ شجرِ النَّخيلِ كثيرةٌ لا تَقتصِرُ على ثَمرِه، فهم يَقتاتونَ ثمرتَه مِن تمرٍ ورُطَبٍ وبُسْرٍ، ويأكُلونَ جُمَّارَه، ويَشرَبونَ ماءَ عُودِ النَّخلةِ إذا شُقَّ عنه، ويَتَّخِذونَ مِن نَوى التمرِ علَفًا لإِبِلِهم، وكلُّ ذلك مِن الطَّعامِ، فضلًا عن اتِّخاذِهم البيوتَ والأَوانيَ مِن خَشَبِه، والحُصُرَ مِن سَعَفِه، والحِبالَ مِن لِيفِه، فذِكرُ اسمِ الشَّجرةِ الجامعةِ لهذه المنافعِ أجمَعُ في الاستِدلالِ بمختلِفِ الأحوالِ، وهو إدْماجٌ للامتِنانِ بوَفرةِ النِّعَمِ [174] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/132). .
- قولُه: وَحَدَائِقَ غُلْبًا الحدائقُ: جمعُ حديقةٍ، وهي الجَنَّةُ مِن نخلٍ وكَرْمٍ وشجرِ فَواكِهَ، وعطفُها على النَّخلِ مِن عطفِ الأعمِّ على الأخصِّ، ولأنَّ في ذِكرِ الحدائقِ إدماجًا للامتِنانِ بها. وخُصَّتِ بالذِّكرِ؛ لأنَّها مواضعُ التَّنزُّهِ والاخترافِ، ولأنَّها تَجمَعُ أصنافًا مِن الأشجارِ [175] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/132). .
- قولُه: مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ إمَّا مفعولٌ له، أي: فعَلَ ذلكَ تمتيعًا لكُم ولمَواشيكُم؛ فإنَّ بعضَ النِّعَمِ المعدودةِ طعامٌ لهم، وبعضَها علَفٌ لدَوابِّهم، والالتفاتُ لتكميلِ الامتنانِ. وإمَّا مصدرٌ مؤكِّدٌ لفِعلِه المضمَرِ بحذفِ الزَّوائدِ، أي: متَّعَكم بذلك متاعًا، أو لفعلٍ مترتِّبٍ عليهِ، أي: متَّعَكم بذلك فتَمتَّعتُم متاعًا، أي: تمتُّعًا، أو مصدرٌ مِن غيرِ لفْظِه؛ فإنَّ ما ذُكِر مِن الأفعالِ الثَّلاثةِ في مَعْنى التَّمتيعِ [176] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/112). .
وقيل: قولُه: مَتَاعًا لَكُمْ حالٌ مِن المذكوراتِ، وقولُه: وَلِأَنْعَامِكُمْ عُطِف على قولِه: لَكُمْ، والمتاعُ: ما يُنتفَعُ به زمنًا ثمَّ يَنقطِعُ، وفيه لَفٌّ ونَشْرٌ مُشَوَّشٌ [177] اللَّفُّ والنَّشْرُ: هو ذِكرُ شيئَينِ أو أشياءَ، إمَّا تفصيلًا -بالنَّصِّ على كلِّ واحدٍ-، أو إجمالًا -بأن يُؤتَى بلَفظٍ يَشتمِلُ على مُتعدِّدٍ- ثمَّ تُذكَرُ أشياءُ على عدَدِ ذلك، كلُّ واحدٍ يرجِعُ إلى واحدٍ مِن المتقدِّمِ، ويُفوَّضُ إلى عقلِ السَّامعِ ردُّ كلِّ واحدٍ إلى ما يَليقُ به. فاللَّفُّ يُشارُ به إلى المتعدِّدِ الَّذي يُؤتَى به أوَّلًا، والنَّشرُ يُشارُ به إلى المتعدِّدِ اللَّاحقِ الَّذي يَتعلَّقُ كلُّ واحدٍ منه بواحدٍ مِن السَّابقِ دونَ تعيينٍ. مِثلُ قولِه تعالى: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة: 111] ، أي: وقالت اليهودُ: لن يَدخُلَ الجنَّةَ إلَّا اليهودُ، وقالت النَّصارى: لن يدخُلَ الجنَّةَ إلَّا النَّصارى. وهذا لَفٌّ ونَشْرٌ إجماليٌّ. واللَّفُّ المُفصَّلُ يأتي النَّشرُ اللَّاحقُ له على وجهَينِ؛ الوجهُ الأوَّلُ: أنْ يأتيَ النَّشرُ على وَفْقِ ترتيبِ اللَّفِّ، ويُسَمَّى «اللَّفَّ والنَّشرَ المُرَتَّبَ». الوجهُ الثَّاني: أنْ يأتيَ النَّشرُ على غيرِ تَرتيبِ اللَّفِّ، ويُسمَّى «اللَّفَّ والنَّشرَ غيرَ المُرتَّبِ»، وقد يُعَبَّرُ عنه بـ «اللَّفِّ والنَّشرِ المُشَوَّشِ»، أو «المعكوس». يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 425)، ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (3/320)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/403). ، والسَّامعُ يَرجِعُ كلَّ شيءٍ مِن المذكوراتِ إلى ما يَصلُحُ له؛ لظُهورِه، وهذه الحالُ واقعةٌ موقعَ الإدماجِ؛ أُدمِجَتِ الموعظةُ والمِنَّةُ في خلالِ الاستدلالِ [178] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/134). .