موسوعة التفسير

سُورةُ النَّبَأِ
الآيات (6-16)

ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ

غريب الكلمات:

مِهَادًا: أي: فِراشًا وبِساطًا، ومَكانًا مُمَهَّدًا مُوَطَّأً، وأصلُ (مهد): يدُلُّ على تَوطئةٍ وتَسهيلٍ للشَّيءِ [36] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 508)، ((تفسير ابن جرير)) (24/8)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/280)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 106)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 877). .
أَوْتَادًا: جمعُ وَتِدٍ، والوَتِدُ: عُودٌ غَليظٌ، أسفَلُه أدَقُّ مِن أعلاه، يُدَقُّ في الأرضِ؛ لتُشَدَّ به أطنابُ الخيمةِ، وأصلُ (وتد): يدُلُّ على الثَّباتِ والرُّسوخِ [37] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/83)، ((تفسير ابن عطية)) (5/424)، ((تفسير الألوسي)) (15/205)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/14، 15). .
سُبَاتًا: أي: راحةً لأبدانِكم؛ لانقِطاعِكم فيه عن الأعمالِ، وأصلُ (سبت): يدُلُّ على راحةٍ وسُكونٍ [38] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 508)، ((تفسير ابن جرير)) (2/66)، ((مقاييس اللغة)) (3/124)، ((المفردات)) للراغب (ص: 392)، ((تفسير القرطبي)) (19/171)، ((عمدة الحفاظ)) للسمين (2/165). قال الراغب: (أصلُ السَّبْتِ: القطعُ). ((المفردات)) (ص: 392). وقال ابن عاشور: (والسُّباتُ: بضمِّ السِّينِ وتخفيفِ الباءِ اسمُ مصدرٍ بمعنَى السَّبْتِ، أي: القطعِ، أي: جعلْناه لكم قطعًا لعملِ الجسدِ بحيثُ لا بُدَّ للبدنِ منه، وإلى هذا أشار ابنُ الأعرابيِّ وابنُ قُتيبةَ إذْ جَعَلا المعنى: وجَعَلْنا نومَكم راحَةً، فهو تفسيرُ معنًى). ((تفسير ابن عاشور)) (30/18). وقيل :كأنَّه إذا نام فقد انقَطَع عن النَّاسِ. يُنظر: ((تهذيب اللغة)) للأزهري (12/268)، ((ياقوتة الصراط في تفسير غريب القرآن)) لغلام ثعلب (ص: 551). .
سِرَاجًا وَهَّاجًا: أي: شَمسًا وَقَّادةً مُضِيئةً، والوَهَجُ: يَجمَعُ النُّورَ والحَرَّ، وأصلُ (سرج): يدُلُّ على الحُسْنِ والزِّينةِ والجَمالِ، ومِنْ ذلك السِّراجُ، سُمِّي بذلك لضِيائِه وحُسْنِه، وأصلُ (وهج): يدُلُّ على حَرٍّ وتوَقُّدٍ [39] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 508)، ((تفسير ابن جرير)) (24/10)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 486)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/156) و(6/147)، ((البسيط)) للواحدي (23/119)، ((المفردات)) للراغب (ص: 406، 885). .
الْمُعْصِرَاتِ: أي: السَّحائِبِ الَّتي تَجيءُ بالمطَرِ، مأخوذٌ مِنَ العَصْرِ؛ لأنَّ السَّحابَ يَنعَصِرُ فيَخرُجُ منه الماءُ، وأصلُ (عصر): يدُلُّ على ضَغطِ شَيءٍ حتَّى يتحَلَّبَ [40] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 508)، ((تفسير ابن جرير)) (24/12)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/340، 242)، ((المفردات)) للراغب (ص: 569)، ((تفسير ابن عطية)) (5/424). .
ثَجَّاجًا: أي: سَيَّالًا مُنصَبًّا بشِدَّةٍ، والثَّجَّاجُ: الكثيرُ المنصَبُّ، وأصلُ (ثجج): يدُلُّ على صَبِّ شَيءٍ [41] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 508)، ((تفسير ابن جرير)) (24/14)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 170)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/367)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 435). .
وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا: أي: بَساتينَ مُلْتَفَّةً بالنَّباتِ والشَّجَرِ، والأَلْفافُ: الشَّجَرُ يَلتَفُّ بَعْضُه ببَعضٍ، وأصلُ (جنن): السَّتْرُ والتَّغطيةُ، ومنه سُمِّي البُستانُ جَنَّةً؛ لأنَّه يستُرُ داخلَه بالأشجارِ، ويُغطِّيه، وأصلُ (لفف): يدُلُّ على تلَوِّي شَيءٍ على شَيءٍ [42] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 509)، ((تفسير ابن جرير)) (24/16)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 85)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/421) و(5/207)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 435)، ((حادي الأرواح)) لابن القيم (ص: 94)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 444). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى مبيِّنًا مَظاهِرَ قُدرتِه: ألَمْ نَجعَلِ الأرضَ مُذَلَّلةً للنَّاسِ مُمَهَّدةً يَستَقِرُّونَ عليها ويَنتَفِعونَ بها؟ وجَعَلْنا الجِبالَ مُثَبِّتةً للأرضِ؛ حتَّى لا تَضطَرِبَ بأهْلِها، وخَلَقْناكم ذُكُورًا وإناثًا؛ لِيَحصُلَ التَّزاوُجُ بَيْنَكم، وجَعَلْنا نَومَكم راحةً لكم مِن تَعَبِ سَعْيِكم وأعمالِكم بالنَّهارِ، وجَعَلْنا اللَّيلَ غِطاءً يُغَطِّيكم بظَلامِه، وجَعَلْنا النَّهارَ وَقْتًا لسَعْيِ النَّاسِ في مَصالِحِهم وأرْزاقِهم، وبَنَيْنا فَوقَكم سَبْعَ سَمَواتٍ في غايةِ القُوَّةِ والصَّلابةِ، وجَعَلْنا شَمسًا مُضيئةً شَديدةَ التَّوَقُّدِ، وأنزَلْنا مِن السَّحابِ ماءَ المطَرِ الغَزيرَ؛ لِنُخرِجَ بهذا المطَرِ أنواعَ الحُبوبِ والنَّباتاتِ، وبَساتينَ أشجارُها كثيرةٌ مُلْتَفٌّ بَعْضُها ببَعْضٍ.

تفسير الآيات:

أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا حكى اللهُ تعالى عنهم إنكارَ البَعثِ والحَشرِ، وأراد إقامةَ الدَّلالةِ على صِحَّةِ الحَشرِ؛ قدَّم لذلك مقدِّمةً في بيانِ كَونِه تعالى قادِرًا على جميعِ المُمكِناتِ، عالِمًا بجميعِ المعلوماتِ؛ وذلك لأنَّه مهما ثَبَت هذان الأصلانِ ثَبَت القَولُ بصِحَّةِ البَعثِ، وإنَّما أثبَت هذَينِ الأصلينِ بأنْ عدَّد أنواعًا مِن مخلوقاتِه الواقعةِ على وَجهِ الإحكامِ والإتقانِ؛ فإنَّ تلك الأشياءَ مِن جِهةِ حُدوثِها تدُلُّ على القُدرةِ، ومِن جهةِ إحكامِها وإتقانِها تدُلُّ على العِلمِ، ومتى ثَبَت هذان الأصلانِ، وثبت أنَّ الأجسامَ مُتساويةٌ في قَبولِ الصِّفاتِ والأعراضِ؛ ثبَتَ -لا مَحالةَ- كَونُه تعالى قادِرًا على تخريبِ الدُّنيا بسَماواتِها وكواكِبِها وأرضِها، وعلى إيجادِ عالَمِ الآخرةِ؛ فهذا هو الإشارةُ إلى كيفيَّةِ النَّظمِ [43] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/8). .
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6).
أي: ألَمْ نَجعَلِ الأرضَ فِراشًا للنَّاسِ، مُذَلَّلةً لهم، يَستَقِرُّونَ عليها، ويَنتَفِعونَ بها [44] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/8)، ((تفسير القرطبي)) (19/171)، ((تفسير ابن كثير)) (8/302)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/195)، ((تفسير السعدي)) (ص: 906)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 26). ؟
كما قال تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا [البقرة: 22] .
وقال سُبحانَه: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا [طه: 53] .
وقال عزَّ وجَلَّ: وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ [الذاريات: 48].
وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7).
أي: وجَعَلْنا الجِبالَ مُثَبِّتةً للأرضِ، فلا تَضطَرِبُ بأَهْلِها [45] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/9)، ((تفسير القرطبي)) (19/171)، ((تفسير ابن كثير)) (8/302)، ((تفسير السعدي)) (ص: 906)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 26). .
كما قال تعالى: وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ [النحل: 15] .
وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَّر بما في الظَّرْفِ -الَّذي هو فَرْشُهم- مِنَ الدَّلالةِ على تمامِ القُدْرةِ؛ أتْبَعَه التَّذكيرَ بما في المظروفِ، وهو أنفُسُهم؛ لتَجتَمِعَ آياتُ الأنفُسِ والآفاقِ، فيَتبيَّنَ لهم أنَّه الحَقُّ، فقال [46] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/196). :
وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8).
أي: وخَلَقْناكم ذُكُورا وإناثًا؛ لِيَحصُلَ التَّزاوُجُ بَيْنَكم، ويَخرُجَ النَّسْلُ منكم [47] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (19/171)، ((تفسير ابن كثير)) (8/302)، ((تفسير السعدي)) (ص: 906)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/17، 18). وممَّن ذهب إلى المعنى المذكورِ في الجملةِ: القرطبيُّ، وابنُ كثير، والسعدي، وابن عاشور. يُنظر: المصادر السابقة. وقيل: المرادُ: خَلَقْناكم أصنافًا مُتقابِلةً، فهم بَيْنَ ذَكَرٍ وأُنثى، وصغيرٍ وكبيرٍ، وأسْوَدَ وأحمَرَ، وجميلٍ ودميمٍ... إلى غيرِ ذلك مِمَّا يختَلِفُ النَّاسُ فيه. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى في الجملةِ: ابنُ جرير، والبِقاعي، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/9)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/196)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 26). .
كما قال تعالى: وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم: 21] .
وقال سُبحانَه: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الذاريات: 49].
وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر ما هو سبَبٌ لبقاءِ النَّوعِ؛ ذكَرَ ما هو سبَبٌ لحِفظِه مِن إسراعِ الفَسادِ [48] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/196). .
وأيضًا فقد انتَقَلَ مِن الاستِدلالِ بخلْقِ النَّاسِ إلى الاستِدلالِ بأحوالِهم، وخَصَّ منها الحالةَ الَّتي هي أقوى أحوالِهم المعروفةِ شبَهًا بالموتِ الَّذي يَعقُبُه البعثُ، وهي حالةٌ متكرِّرةٌ لا يَخْلُونَ مِن الشُّعورِ بما فيها مِن العِبرةِ؛ لأنَّ تدبيرَ نظامِ النَّومِ وما يَطرَأُ عليه مِن اليقظةِ أشبَهُ حالٍ بحالِ الموتِ وما يعقُبُه مِن البعثِ [49] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/18). .
وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9).
أي: وجَعَلْنا نَومَكم قاطِعًا لحركتِكم، فتَحصُلُ به راحتُكم مِن تَعَبِ سَعْيِكم وأعمالِكم [50] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/9)، ((تفسير القرطبي)) (19/171)، ((تفسير ابن كثير)) (8/302، 303)، ((تفسير السعدي)) (ص: 906)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/19)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 26). .
كما قال الله تبارك وتعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا [الفرقان: 47] .
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر النَّومَ أتْبَعَه وَقْتَه الأليقَ به، مُذَكِّرًا بنِعمةِ الظَّرْفِ الزَّمانيِّ بعدَ التَّذكيرِ بالظَّرفِ المكانيِّ، فقال [51] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/197). :
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10).
أي: وجَعَلْنا اللَّيلَ غِطاءً يَتغشَّاكم سَوادُه، وتُغَطِّيكم ظُلْمَتُه، كما يُغَطِّي الثَّوبُ البَدَنَ [52] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/9)، ((تفسير ابن كثير)) (8/303)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/197)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/20، 21)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 26، 27). .
كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا [الفرقان: 47]
وقال عزَّ وجَلَّ: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى [الليل: 1] .
وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر خَلْقَ نِظامِ اللَّيلِ؛ قُوبِلَ بذِكْرِ خَلْقِ نِظامِ النَّهارِ [53] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/21). .
وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11).
أي: وجَعَلْنا النَّهارَ وَقْتًا يَطلُبُ فيه النَّاسُ أرزاقَهم، ويَسعَونَ في مَصالِحِهم [54] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/9)، ((تفسير ابن كثير)) (8/303)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/197)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/21)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 27). قال ابن عاشور: (المَعاشُ: يُطلَقُ مصدرَ «عاش» إذا حَيِيَ، فالمَعاشُ: الحياةُ، ويُطلَقُ اسمًا لِما به عَيشُ الإنسانِ مِن طعامٍ وشرابٍ على غيرِ قياسٍ، والمعنيانِ صالحانِ للآيةِ؛ إذ يكونُ المعنى: وجعَلْنا النَّهارَ حياةً لكم، شُبِّهَتِ اليقظةُ فيه بالحياةِ، أو يكونُ المعنى: وجعَلْنا النَّهارَ معيشةً لكم). ((تفسير ابن عاشور)) (30/22). .
كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا [الفرقان: 47] .
وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
ناسَبَ بعدَ ذِكرِ اللَّيلِ والنَّهارِ -وهما مِن مَظاهِرِ الأُفقِ المسمَّى سماءً- أنْ يُتْبَعَ ذلك وما سبَقَه مِن خلْقِ العالَمِ السُّفليِّ بذِكرِ خلْقِ العوالِمِ العُلويَّةِ [55] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/22). .
وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12).
أي: وبَنَيْنا فَوقَكم سَبْعَ سَمَواتٍ في غايةِ القُوَّةِ والصَّلابةِ والإحكامِ [56] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/10)، ((تفسير القرطبي)) (19/172)، ((تفسير ابن كثير)) (8/303)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/197)، ((تفسير السعدي)) (ص: 906)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 27). .
كما قال الله تبارك وتعالى: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا [النازعات: 27-28] .
وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر السَّقفَ، ذكَرَ بَعضَ ما فيه مِن أمَّهاتِ المنافِعِ [57] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/197). .
وأيضًا ذِكرُ السَّمَواتِ يُناسِبُه ذِكرُ أعظَمِ ما يُشاهِدُه النَّاسُ في فَضائِها، وذلك الشَّمسُ؛ ففي ذلك مع العِبرةِ بخَلْقِها عِبرةٌ في كَونِها على تلك الصِّفةِ، ومِنَّةٌ على النَّاسِ باستفادتِهم مِن نُورِها فوائِدَ جَمَّةً [58] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/23). .
وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13).
أي: وجَعَلْنا شَمسًا مُضيئةً شَديدةَ التَّوَقُّدِ والإضاءةِ [59] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/10)، ((تفسير القرطبي)) (19/172)، ((تفسير ابن كثير)) (8/303)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/198)، ((تفسير السعدي)) (ص: 906)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/24)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 27). .
كما قال تعالى: وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا [نوح: 16] .
وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
مُناسَبةُ الانتِقالِ مِن ذِكرِ السَّمواتِ إلى ذِكرِ السَّحابِ والمطرِ قويَّةٌ [60] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/25). . ومِن ذلك أنَّها استِدلالٌ بحالةٍ أُخرى مِن الأحوالِ الَّتي أَودَعَها اللهُ تعالى في نِظامِ الموجوداتِ، وجعَلَها مَنشأً شبيهًا بحياةٍ بعدَ شبيهٍ بموتٍ أو اقترابٍ منه، ومَنشأَ تَخلُّقِ موجوداتٍ مِن ذرَّاتٍ دقيقةٍ، وتلك حالةُ إنزالِ ماءِ المطرِ مِن الأَسْحِبةِ على الأرضِ، فتُنبِتُ الأرضُ به سَنابلَ حَبٍّ وشجرًا وكَلأً، وتلك كلُّها فيها حياةٌ قريبةٌ مِن حياةِ الإنسانِ والحيوانِ، وهي حياةُ النَّماءِ، فيكونُ ذلك دليلًا للنَّاسِ على تصَوُّرِ حالةِ البعثِ بعدَ الموتِ بدليلٍ مِن التَّقريبِ الدَّالِّ على إمكانِه؛ حتَّى تَضمحِلَّ مِن نفوسِ المُكابِرينَ شُبَهُ إحالةِ البعثِ [61] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/25). .
وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14).
أي: وأنزَلْنا مِن السَّحابِ المُثْقَلِ بالمياهِ ماءَ المطَرِ المُنصَبَّ على الأرضِ بتَتابُعٍ وكَثْرةٍ [62] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/14)، ((تفسير القرطبي)) (19/173، 174)، ((تفسير ابن كثير)) (8/303، 304)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/198)، ((تفسير السعدي)) (ص: 906). .
كما قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ [الروم: 48] .
وقال سُبحانَه: أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا [عبس: 25] .
لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15).
أي: لِنُخرِجَ بهذا المطَرِ أنواعَ الحُبوبِ -كالقَمْحِ، والشَّعيرِ، والذُّرَةِ، والأَرُزِّ- وأنواعَ النَّباتاتِ [63] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/16)، ((تفسير القرطبي)) (19/174)، ((تفسير ابن كثير)) (8/304)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/199)، ((تفسير السعدي)) (ص: 906)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/27)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 28). ممَّن اختار أنَّ قولَه: حَبًّا أي: مِمَّا يأكُلُه النَّاسُ كالقمحِ والشَّعيرِ وما يُقتاتُ، وَنَبَاتًا أي: ما يكونُ قُوتًا للأنعامِ والدَّوابِّ كالحشيشِ والعشبِ: ابنُ جرير، ومكِّي، والقرطبي، والنسفي، وابنُ جُزَي، والخازن، والعُلَيمي، وأبو السعود، والشوكاني، والسعدي، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/16)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/7991)، ((تفسير القرطبي)) (19/174)، ((تفسير النسفي)) (3/590)، ((تفسير ابن جزي)) (2/445)، ((تفسير الخازن)) (4/387)، ((تفسير العليمي)) (7/261)، ((تفسير أبي السعود)) (9/88)، ((تفسير الشوكاني)) (5/440)، ((تفسير السعدي)) (ص: 906)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/27). قال الرازي: (كلُّ شَيءٍ نبت مِن الأرضِ فإمَّا ألَّا يكونَ له ساقٌ وإمَّا أن يكونَ، فإن لم يكُنْ له ساقٌ فإمَّا أن يكونَ له أَكْمامٌ وهو الحَبُّ، وإمَّا ألَّا يكونَ له أكمامٌ وهو الحشيشُ، وهو المرادُ هاهنا بقولِه: وَنَبَاتًا، وإلى هذَينِ القِسمَينِ الإشارةُ بقولِه تعالى: كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ [طه: 54] . وأمَّا الَّذي له ساقٌ فهو الشَّجرُ، فإذا اجتمَع منها شَيءٌ كثيرٌ سُمِّيَتْ جَنَّةً، فثبَت بالدَّليلِ العقليِّ انحِصارُ ما يَنبُتُ في الأرضِ في هذه الأقسامِ الثَّلاثةِ). ((تفسير الرازي)) (31/11). وقال الزَّجَّاجُ: (كلُّ ما حُصِد فهو حَبٌّ، وكلُّ ما أكَلَتْه الماشيةُ مِن الكَلأِ فهو نَباتٌ). ((معاني القرآن وإعرابه)) (5/272). وقال البِقاعي: (وَنَبَاتًا يتفكَّهون ويتنزَّهون فيه، وتعتَلِفُه البهائِمُ). ((نظم الدرر)) (21/199). وقال الرَّسْعَني: (وَنَبَاتًا يأكُلُه النَّاسُ والأنعامُ). ((تفسير الرسعني)) (8/447). وقال ابن كثير: (حَبًّا يُدَّخَرُ للأَناسيِّ والأنعامِ، وَنَبَاتًا أي: خَضِرًا يُؤكَلُ رَطبًا). ((تفسير ابن كثير)) (8/304). وقال أبو حيَّان: (ثَنَّى بِالنَّباتِ، فشَمِلَ كُلَّ مَا يَنْبُتُ مِن شَجَرٍ وحَشِيشٍ، ودَخَل فيه الحَبُّ). ((تفسير أبي حيان)) (10/385). .
كما قال تعالى: وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ [ق: 9] .
وقال سُبحانَه: فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [عبس: 27 - 32] .
وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16).
أي: ونُخرِجَ بالمطَرِ بَساتينَ وحَدائِقَ أشجارُها كثيرةٌ مُجتَمِعةٌ، مُلْتَفٌّ بَعْضُها ببَعْضٍ؛ لكَثْرتِها، وتَقارُبِها، وتداخُلِ أغصانِها [64] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/16)، ((تفسير القرطبي)) (19/174، 175)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/199)، ((تفسير السعدي)) (ص: 906)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/27)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 28). قال ابنُ جرير: (أهلُ التَّأويلِ مُجمِعونَ على أنَّ معناه: مُلْتَفَّةٌ). ((تفسير ابن جرير)) (24/18). وقال ابنُ كثير: (وَجَنَّاتٍ أي: بَساتينَ وحدائِقَ مِن ثمراتٍ مُتنَوِّعةٍ، وألوانٍ مُختَلِفةٍ، وطُعومٍ ورَوائِحَ مُتفاوِتةٍ، وإنْ كان ذلك في بقعةٍ واحدةٍ مِنَ الأرضِ مُجتَمِعًا). ((تفسير ابن كثير)) (8/304). .

الفوائد التربوية:

قَولُ اللهِ تعالى: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا ... قرَّرَهم تعالى على النَّظَرِ في آياتِه الباهِرةِ، وغرائِبِ مخلوقاتِه التي ابتَدَعها من العَدَمِ الصِّرْفِ، وأنَّ النَّظَرَ في ذلك يُفْضي إلى الإيمانِ بما جاءت به الرُّسُلُ مِنَ البَعْثِ والجزاءِ [65] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/384). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قولُه تعالى: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا استِدلالٌ يَتضمَّنُ امتِنانًا، وفي ذلك الامتِنانِ إشعارٌ بحِكمةِ اللهِ تعالَى؛ إذ جعَلَ الأرضَ مُلائمةً للمخلوقاتِ الَّتي عليها؛ فإنَّ الَّذي صنَعَ هذا الصُّنعَ لا يُعجِزُه أنْ يخلُقَ الأجسامَ مرَّةً ثانيةً بعدَ بِلاها، والغرضُ مِنَ الامتنانِ هنا تذكيرُهم بفضلِ اللهِ؛ لعلَّهم أنْ يَرْعَوُوا عن المكابَرةِ، ويُقبِلوا على النَّظرِ فيما يَدْعوهم إليه الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تبليغًا عن اللهِ تعالى [66] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/14). .
2- قال الله تعالى: وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا الأزواجُ: جمْعُ زَوجٍ، وهو اسمٌ للعددِ الَّذي يُكرِّرُ الواحدَ تكريرةً واحدةً، وقد وُصِف به كما يُوصَفُ بأسماءِ العَددِ؛ فقولُه: أَزْوَاجًا أفادَ أنْ يكونَ الذَّكَرُ زَوجًا للأُنثى والعكسُ، فالذَّكَرُ زَوجٌ لأُنثاهُ، والأُنثى زوجٌ لِذَكَرِها [67] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/17). .
3- قَولُ اللهِ تعالى: وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا، أُعقِبَ الاستِدلالُ بخلْقِ الأرضِ وجبالِها بالاستِدلالِ بخلقِ النَّاسِ؛ للجَمعِ بيْنَ إثباتِ التَّفرُّدِ بالخلْقِ وبيْنَ الدَّلالةِ على إمكانِ إعادتِهم، والدَّليلُ في خلقِ النَّاسِ على الإبداعِ العظيمِ -الَّذي الخلْقُ الثَّاني مِن نوعِه- أمكَنُ في نُفوسِ المستدَلِّ عليهم، قال تعالى: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ [68] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/16). [الذاريات: 21].
4- قَولُ اللهِ تعالى: وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا أي: ذُكُورًا وإناثًا مِن جِنسٍ واحِدٍ؛ لِيَسكُنَ كُلٌّ منهما إلى الآخَرِ، فتَكونَ الموَدَّةُ والرَّحمةُ، وتَنشَأَ عنهما الذُّرِّيَّةُ [69] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 906). .
5- في قولِه: وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا إيماءٌ إلى ما في ذلك الخلْقِ مِن حِكمةِ إيجادِ قوَّةِ التَّناسُلِ مِن اقترانِ الذَّكَرِ بالأُنثى، وهو مَناطُ الإيماءِ إلى الاستِدلالِ على إمكانِ إعادةِ الأجسادِ؛ فإنَّ القادرَ على إيجادِ هذا التَّكوينِ العجيبِ ابتِداءً بقوَّةِ التَّناسُلِ، قادرٌ على إيجادِ مِثلِه بمِثلِ تلك الدِّقَّةِ أو أدَقَّ [70] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/17). .
6- في قَولِه تعالى: وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا ذِكْرُ الجَعْلِ القَدَرِيِّ، ويُقابِلُه الجَعْلُ الشَّرْعيُّ، كقَولِه تعالى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ [المائدة: 97] ، وقَولِه: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ [71] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/128). [المائدة: 103] .
7- قولُه تعالى: وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا فيه امتِنانٌ على النَّاسِ بخلْقِ نظامِ النَّومِ فيهم؛ لتحصُلَ لهم راحةٌ مِن أتعابِ العملِ الَّذي يَكْدَحونَ له في نَهارِهم؛ فاللهُ تعالى جعَلَ النَّومَ حاصلًا للإنسانِ بدونِ اختيارِه، فالنَّومُ يُلجِئُ الإنسانَ إلى قطعِ العملِ؛ لتحصُلَ راحةٌ لمجموعِه العصبيِّ الَّذي رُكنُه في الدِّماغِ، فبتِلك الرَّاحةِ يَستجِدُّ العصبُ قُواهُ الَّتي أَوهَنَها عمَلُ الحَواسِّ وحرَكاتُ الأعضاءِ وأعمالُها، بحيثُ لو تَعلَّقتْ رغبةُ أحدٍ بالسَّهرِ لا بدَّ له مِن أنْ يَغلِبَه النَّومُ، وذلك لُطفٌ بالإنسانِ؛ بحيثُ يحصُلُ له ما به مَنفعةُ مَدارِكِه قَسْرًا عليه لئلَّا يَتهاوَنَ به؛ ولذلك قيل: إنَّ أقَلَّ النَّاسِ نَومًا أقصَرُهم عُمرًا، وكذلك الحيوانُ [72] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/19). .
8- قولُه تعالى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا مِن إتمامِ الاستِدلالِ الَّذي قبْلَه وما فيه مِن المِنَّةِ؛ لأنَّ كَونَ اللَّيلِ لِباسًا حالةٌ مهيِّئةٌ لتكيُّفِ النَّومِ، ومُعِينةٌ على هنائِه والانتفاعِ به؛ لأنَّ اللَّيلَ ظُلمةٌ عارِضةٌ في الجوِّ مِن مُزايَلةِ ضوءِ الشَّمسِ عن جزءٍ مِن كُرةِ الأرضِ، وبتلك الظُّلمةِ تَحتجِبُ المرئيَّاتُ عن الأبصارِ، فيَعسُرُ المشيُ والعملُ والشُّغلُ، ويَنحَطُّ النَّشاطُ، فتَتهيَّأُ الأعصابُ للخمولِ، ثمَّ يَغْشاها النَّومُ، فيَحصُلُ السُّباتُ بهذه المقدِّماتِ العجيبةِ، فلا جَرَمَ كان نظامُ اللَّيلِ آيةً على انفرادِ اللهِ تعالى بالخلْقِ وبديعِ تقديرِه، وكان دليلًا على أنَّ إعادةَ الأجسامِ بعدَ الفناءِ غيرُ متعذِّرةٍ عليه تعالى، فلو تَأمَّلَ المُنكِرون فيها؛ لَعَلِموا أنَّ اللهَ قادرٌ على البعثِ، فَلَمَا كذَّبوا خبَرَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم به. وفي ذلك امتنانٌ عليهم بهذا النِّظامِ الَّذي فيه اللُّطفُ بهم، وراحةُ حياتِهم، لو قدَروهُ حقَّ قَدْرِه لَشَكَروا وما أَشرَكوا، فكان تذكُّرُ حالةِ اللَّيلِ سريعَ الخُطورِ بالأذهانِ عِندَ ذِكرِ حالةِ النَّومِ، فكان ذِكرُ النَّومِ مُناسَبةً للانتِقالِ إلى الاستِدلالِ بحالةِ اللَّيلِ على حسَبِ أفهامِ السَّامِعينَ [73] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/19، 20). .
9- قولُه تعالى: وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا النَّهارُ: الزَّمانُ الَّذي يكونُ فيه ضَوءُ الشَّمسِ منتشرًا على جزءٍ كبيرٍ مِن الكُرةِ الأرضيَّةِ، وفيه عِبرةٌ بدِقَّةِ الصُّنعِ وإحكامِه؛ إذ جُعِل نِظامانِ مختَلِفانِ مَنشؤُهما سُطوعُ نورِ الشَّمسِ واحتِجابُه فوقَ الأرضِ، وهما نِعمتانِ للبَشرِ مختلِفتانِ في الأسبابِ والآثارِ؛ فنِعمةُ اللَّيلِ راجعةٌ إلى الرَّاحةِ والهدوءِ، ونعمةُ النَّهارِ راجعةٌ إلى العملِ والسَّعيِ؛ لأنَّ النَّهارَ يَعقُبُ اللَّيلَ، فيكونُ الإنسانُ قد استجَدَّ راحتَه، واستعادَ نشاطَه، ويَتمكَّنُ مِن مختلِفِ الأعمالِ؛ بسببِ إبصارِ الشُّخوصِ والطُّرقِ [74] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/21). .
10- في قَولِه تعالى: وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا أنَّه سُبحانَه سمَّى الشَّمْسَ سِراجًا وضِياءً؛ لأنَّ فيها مع الإنارةِ والإشراقِ تَسخينًا وإحراقًا، فهي بالنَّارِ أشبَهُ، بخلافِ القَمَرِ؛ فإنَّه ليس فيه مع الإنارةِ تَسخينًا؛ فلهذا قال: جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا [75] يُنظر: ((الجواب الصحيح)) لابن تيمية (4/368). [يونس: 5] .
11- في قَولِه تعالى: وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا * وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا * لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا أنَّه لَمَّا ذَكَرَ سُبحانَه السِّرَاجَ الوَهَّاجَ -الَّذي به الحرارةُ واليُبُوسةُ- ذَكَرَ ما يُقابِلُ ذلك، فقال: وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا والماءُ فيه رطوبةٌ وفيه بُرودةٌ، وهذا الماءُ أيضًا تَنْبُتُ به الأرضُ وتحيا به، فإذا انضاف ماءُ السَّماءِ إلى حرارةِ الشَّمسِ حَصَلَ في هذا إنضاجٌ للثِّمارِ، ونموٌّ لها على أكمَلِ ما يكونُ [76] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 28). .
12- في قَولِه تعالى: وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا * لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا أنَّه سُبحانَه يَخْلُقُ الأسبابَ والحِكَمَ [77] يُنظر: ((جامع المسائل)) لابن تيمية (3/223). .
13- قال تعالَى: وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا * لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا في الآيةِ استِدْلالانِ: استِدلالٌ بإنزالِ الماءِ مِن السَّحابِ، واستدلالٌ بالإنباتِ، وفي هذا أيضًا مِنَّةٌ على المُعرِضينَ عن النَّظرِ في دلائلِ صُنعِ اللهِ، الَّتي هي دَواعٍ لشُكرِ المُنعِمِ بها؛ لِما فيها مِن مَنافِعَ للنَّاسِ مِن رِزقِهم ورِزقِ أنعامِهم، ومِن تَنعُّمِهم وجَمالِ مَرائيهِم؛ فإنَّهم لو شكَروا المُنعِمَ بها لَكانوا عِندَما يَبلُغُهم عنه أنَّه يَدْعوهم إلى النَّظرِ في الأدِلَّةِ مُستعدِّينَ للنَّظرِ، بتوقُّعِ أنْ تكونَ الدَّعوةُ البالغةُ إليهم صادقةَ العزوِ إلى اللهِ، فما خَفِيَتْ عنهم الدَّلالةُ [78] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/25). .
14- قولُه تعالى: لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا بُيِّنتْ حِكمةُ إنزالِ المطرِ مِن السَّحابِ بأنَّ اللهَ جعَلَه لإنباتِ النَّباتِ مِن الأرضِ؛ جمعًا بيْنَ الامتِنانِ والإيماءِ إلى دليلِ تقريبِ البعثِ؛ لِيحصُلَ إقرارُهم بالبعثِ، وشُكرُ الصَّانعِ [79] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/26). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا * وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا * وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا * وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا * وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا
- لَمَّا كان أعظَمُ نَبأٍ جاءهُم به القرآنُ إبطالَ إلهيَّةِ أصنامِهم، وإثباتَ إعادةِ خلْقِ أجسامِهِم -وهما الأصلانِ اللَّذانِ أثارَا تَكذيبَهم بأنَّه مِن عندِ اللهِ، وتَألُّبَهم على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وتَرويجَهم تَكذيبَه؛ جاء هذا الاستِئنافُ بَيانًا لإجمالِ قولِه: عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ [80] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/12، 13). [النبأ: 2-3] .
- قوله: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا، بدَأَ بما هم دائمًا يُباشِرونَه [81] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/384). .
- جمَعَ اللهُ لهم في هذه الآياتِ الاستِدلالَ على الوحدانيَّةِ بالانفرادِ بالخلْقِ، وعلى إمكانِ إعادةِ الأجسادِ للبَعثِ بعدَ البِلى بأنَّها لا تَبلُغُ مَبلَغَ إيجادِ المخلوقاتِ العظيمةِ، ولكونِ الجُملةِ في مَوقعِ الدَّليلِ لم تُعطَفْ على ما قبْلَها [82] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/13). .
- والاستِفهامُ في أَلَمْ نَجْعَلِ تَقريريٌّ، وهو تقريرٌ على النَّفيِ، كما هو غالبُ صِيَغِ الاستِفهامِ التَّقريريِّ؛ أنْ يكونَ بعدَه نفيٌ، والأكثرُ كونُه بحرفِ (لم)، وذلك النَّفيُ كالإعذارِ للمُقرَّرِ إنْ كان يُريدُ أنْ يُنكِرَ، وإنَّما المقصودُ التَّقريرُ بوُقوعِ جعلِ الأرضِ مِهادًا، لا بنفْيِه، فحرفُ النَّفيِ لمجرَّدِ تأكيدِ معنى التَّقريرِ، فالمعْنى: أجَعَلْنا الأرضَ مهادًا [83] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/86)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/13)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/351). .
- قولُه: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا فيه الالْتِفاتُ إلى الخِطابِ؛ للمُبالَغةِ في الإلزامِ والتَّبكيتِ، والكلامُ موجَّهٌ إلى مُنكِري البعثِ، وهم الموجَّهُ إليهم الاستفهامُ [84] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/86)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/13). .
- وجعْلُ الأرضِ: خلْقُها على تلك الحالةِ؛ لأنَّ كَونَها مِهادًا أمرٌ حاصلٌ فيها مِن ابتداءِ خلْقِها ومِن أزمانِ حُصولِ ذلك لها مِن قبلِ خلْقِ الإنسانِ لا يَعلَمُه إلَّا اللهُ، والمعنى: أنَّه خلَقَها في حالِ أنَّها كالمِهادِ؛ فالكلامُ تشبيهٌ بليغٌ، ففي قولِه: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا تشبيهٌ للأرضِ بالمِهادِ؛ إذ جُعِل سطحُها ميسَّرًا للجلوسِ عليها والاضطجاعِ، وبالأَحْرى المشيُ، وذلك دليلٌ على إبداعِ الخلقِ، والتَّيسيرِ على النَّاسِ [85] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/13، 14). .
- والتَّعبيرُ بـ نَجْعَلِ دونَ (نخلُق)؛ لأنَّ كَونَها مِهادًا حالةٌ مِن أحوالِها عِندَ خلْقِها أو بعدَه، بخلافِ فعلِ الخَلْقِ؛ فإنَّه يَتعدَّى إلى الذَّاتِ غالبًا، أو إلى الوصفِ المقوِّمِ للذَّاتِ [86] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/14). .
- ومناسَبةُ ابتداءِ الاستِدلالِ على إمكانِ البَعثِ بخلْقِ الأرضِ: أنَّ البعثَ هو إخراجُ أهلِ الحشرِ مِن الأرضِ؛ فكانتِ الأرضُ أسبَقَ شَيءٍ إلى ذهنِ السَّامعِ عِندَ الخَوضِ في أمرِ البعثِ، أي: بعثِ أهلِ القبورِ، وجعلُ الأرضِ مِهادًا يَتضمَّنُ الاستدلالَ بأصلِ خلْقِ الأرضِ على طريقةِ الإيجازِ؛ ولذلك لم يُتعرَّضْ إليه بعدُ عِندَ التَّعرُّضِ لخلقِ السَّمواتِ [87] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/14). .
- قولُه: وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا الإخبارُ عن الجِبالِ بأنَّها أَوتادٌ على طريقةِ التَّشبيهِ البليغِ؛ أيْ: كالأَوتادِ. ومُناسَبةُ ذِكرِ الجِبالِ دعا إليها ذِكرُ الأرضِ وتَشبيهُها بالمِهادِ الَّذي يكونُ داخلَ البيتِ، فلمَّا كان البيتُ مِن شأنِه أنْ يخطُرَ ببالِ السَّامعِ مِن ذِكرِ المِهادِ، كانتِ الأرضُ مُشبَّهةً بالبيتِ، فشُبِّهتْ جبالُ الأرضِ بأَوتادِ البيتِ. وأيضًا فإنَّ كثرةَ الجِبالِ النَّاتئةِ على وجهِ الأرضِ قد يخطِرُ في الأذهانِ أنَّها لا تُناسِبُ جعْلَ الأرضِ مِهادًا؛ فكان تشبيهُ الجبالِ بالأَوتاِد مُستملَحًا بمنزلةِ حُسنِ الاعتذارِ، فيجوزُ أنْ تكونَ الجبالُ مُشبَّهةً بالأَوتادِ في مجرَّدِ الصُّورةِ، ويَجوزُ أنْ تكونَ الجِبالُ مُشبَّهةً بأوتادِ الخَيمةِ في أنَّها تشُدُّ الخَيمةَ مِن أنْ تَقلعَها الرِّياحُ أو تُزلزلَها [88] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/14، 15). .
- وغالِبُ سُكَّانِ الأرضِ -وخاصَّةً العربَ- لهم مَنافعُ جَمَّةٌ في الجِبالِ؛ فمنها مَسايِلُ الأَوديةِ، وقراراتُ المياهِ في سُفوحِها، ومَراعي الأنعامِ، ومُستعصَمُهم في الخوفِ، ومَراقبُ الطُّرقِ المُؤدِّيةِ إلى دِيارِهم إذا طَرَقَها العدُوُّ؛ ولذلك كثُرَ ذِكرُ الجِبالِ مع ذِكرِ الأرضِ؛ فكانتْ جملةُ وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا إدماجًا [89] الإدماجُ: أنْ يُدمِجَ المتكلِّمُ غرَضًا في غرَضٍ، أو بديعًا في بديعٍ، بحَيثُ لا يَظهرُ في الكلامِ إلَّا أحدُ الغرَضينِ أو أحدُ البَديعينِ؛ فهو مِن أفانينِ البَلاغةِ، ويكونُ مرادُ البليغِ غَرَضينِ فيَقرِنُ الغرضَ المَسوقَ له الكلامُ بالغرضِ الثَّاني، وفيه تَظهرُ مَقدرةُ البليغِ؛ إذ يأتي بذلك الاقترانِ بدونِ خروجٍ عن غَرَضِه المسوقِ له الكلامُ ولا تَكلُّفٍ، بمعنى: أن يَجعلَ المتكلِّمُ الكلامَ الَّذي سِيق لِمعنًى -مِن مَدحٍ أو غيرِه- مُتضمِّنًا معنًى آخَرَ، كقولِه تعالى: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ [القصص: 70]؛ فهذا مِن إدماجِ غرَضٍ في غَرَضٍ؛ فإنَّ الغرَضَ منها تَفرُّدُه تعالى بوصْفِ الحمدِ، وأُدمِجَ فيه الإشارةُ إلى البعثِ والجزاءِ. وقيل: أُدمِجتِ المبالَغةُ في المطابَقةِ؛ لأنَّ انفِرادَه تعالى بالحمدِ في الآخِرَةِ -وهي الوقتُ الَّذي لا يُحمَدُ فيه سِواهُ- مُبالَغةٌ في الوَصفِ بالانفِرادِ بالحَمْدِ. يُنظر: ((تحرير التحبير)) لابن أبي الإصبع (ص: 449)، ((خِزانة الأدب)) لابن حِجَّةَ الحَمَوي (2/484)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/298)، ((علوم البلاغة البيان المعاني البديع)) للمراغي (ص: 344)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/339)، ((البلاغة العربية)) لعبدالرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/427). مُعترِضًا بينَ جملةِ أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا [النَّبأ: 6] وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا [90] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/15). [النَّبأ: 8].
- وقولُه: وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا معطوفٌ على التَّقريرِ الَّذي في قولِه: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا [النَّبأ: 6]، والتَّقديرُ: وأَخَلَقْناكُم أزواجًا؟ فكان التَّقريرُ هنا على أصلِه؛ إذ المُقرَّرُ عليه هو وُقوعُ الخلْقِ؛ فلذلك لم يقلْ: (ألم نَخلُقْكم أزواجًا؟). والمعطوفُ عليه أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا وإنْ كان فِعلًا مضارعًا، فدخولُ (لَمْ) عليه صيَّرَه في معنى الماضي؛ لِما هو مقرَّرٌ مِن أنَّ (لم) تَقلِبُ معنى المضارعِ إلى المُضيِّ؛ فلذلك حسُنَ عطفُ أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا [النَّبأ: 6-7]، والكلُّ تقريرٌ على شَيءٍ مَضَى. وإنَّما عُدِلَ في وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا عن أنْ يكونَ الفعلُ فِعلًا مضارعًا مِثلَ المعطوفِ هو عليه؛ لأنَّ صِيغةَ المضارعِ تُستعمَلُ لقَصدِ استحضارِ الصُّورةِ للفعلِ؛ فالإتيانُ بالمضارعِ في أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا [النَّبأ: 6] يُفيدُ استدعاءَ إعمالِ النَّظرِ في خلقِ الأرضِ والجبالِ؛ إذ هي مَرئيَّاتٌ لهم، والأكثرُ أنْ يَغفُلَ النَّاظِرونَ عن التَّأمُّلِ في دقائقِها؛ لتَعوُّدِهم بمُشاهَدتِها مِن قبْلِ سِنِّ التَّفكُّرِ؛ فإنَّ الأرضَ تحتَ أقدامِهم لا يَكادونَ يَنظُرونَ فيها، بَلْهَ أنْ يَتفكَّروا في صُنعِها، والجبالَ يَشغَلُهم عن التَّفكُّرِ في صُنعِها شُغلُهم بتجشُّمِ صُعودِها، والسَّيرِ في وَعْرِها، وحراسةِ سوائمِهم مِن أنْ تَضِلَّ في شِعابِها، وصَرفِ النَّظرِ إلى مسالكِ العدوِّ عِندَ الاعتلاءِ إلى مَراقِبِها، فأُوثِرَ الفعلُ المضارعُ مع ذِكرِ المصنوعاتِ الحَرِيَّةِ بدقَّةِ التَّأمُّلِ واستِخلاصِ الاستدلالِ؛ ليكونَ إقرارُهم ممَّا قُرِّروا به على بصيرةٍ، فلا يَجِدوا إلى الإنكارِ سبيلًا، وجيءَ بفعلِ المُضيِّ هنا وما بعدَه؛ لأنَّ مفاعيلَ فِعلِ (خلَقْنا) وما عُطِف عليه ليستْ مُشاهَدةً لهم، وذُكِرَ لهم مِن المصنوعاتِ ما هو شديدُ الاتِّصالِ بالنَّاسِ مِن الأشياءِ الَّتي تَتوارَدُ أحوالُها على مُدرَكاتِهم دوامًا، فإقرارُهم بها أيسَرُ؛ لأنَّ دَلالتَها قريبةٌ مِن البديهيِّ [91] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/15، 16). .
- وعُبِّر هنا بفِعلِ (الخلْقِ) دونَ (الجَعْلِ)؛ لأنَّه تكوينُ ذواتِهم، فهو أدَقُّ مِن الجَعلِ [92] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/16). .
- وضميرُ الخِطابِ في قولِه: وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا للمُشرِكينَ الَّذين وُجِّهَ إليهم التَّقريرُ بقولِه: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا [النَّبأ: 6]، وهو الْتفاتٌ مِن طريقِ الغَيبةِ إلى طريقِ الخِطابِ [93] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/16). .
- وانتصَبَ أَزْوَاجًا على الحالِ مِن ضَميرِ الخِطابِ في (خَلَقْنَاكُمْ)؛ لأنَّ المقصودَ الاستدلالُ بخلقِ النَّاسِ وبكونِ النَّاسِ أزواجًا، فلمَّا كان المناسبُ لفعلِ (خلَقْنا) أنْ يَتعدَّى إلى الذَّواتِ؛ جيءَ بمفعولِه ضميرَ ذواتِ النَّاسِ، ولَمَّا كان المناسِبُ لكونِهم أزواجًا أنْ يُساقَ مَساقَ إيجادِ الأحوالِ، جيءَ به حالًا مِن ضَميرِ الخِطابِ في (خَلَقْنَاكُمْ)، ولو صُرِّح له بفعلٍ لَقيل: (وخلَقْناكم وجعَلْناكم أزواجًا)، على نحوِ ما تَقدَّمَ في قولِه: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا [النَّبأ: 6]، وما يأتي مِن قولِه: وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا [94] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/17). [النَّبأ: 9].
- وفي قولِه: وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا استِدلالٌ على عَظيمِ قُدرةِ اللهِ وحِكمتِه، وامتنانٌ على النَّاسِ بأنَّه خلَقَهم، وأنَّه خلَقَهم بحالةٍ تَجعَلُ لكلِّ واحدٍ مِن الصِّنفينِ ما يصلُحُ لأنْ يكونَ له زوجًا؛ لِيحصُلَ التَّعاونُ والتَّشارُكُ في الأُنسِ والتَّنعُّمِ؛ ولذلك صِيغَ هذا التَّقريرُ بتعليقِ فعلِ (خلَقْنا) بضميرِ النَّاسِ، وجعلِ أَزْوَاجًا حالًا منه؛ لِيحصُلَ بذلك الاعتبارُ بكِلا الأمْرينِ، دونَ أنْ يُقالَ: (وخلَقْنا لكم أزواجًا). وفي ذلك حَمْلٌ لهم على الشُّكرِ بالإقبالِ على النَّظرِ فيما بُلِّغَ إليهم عن اللهِ الَّذي أسعَفَهم بهذه النِّعمِ على لِسانِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وتعريضٌ بأنَّ إعراضَهم عن قَبولِ الدَّعوةِ الإسلاميَّةِ ومُكابَرتَهم فيما بلَغَهم مِن ذلك كُفرانٌ لنِعمةِ واهبِ النِّعمِ [95] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/17، 18). .
- وأُوثِرَ فِعلُ (جعَلْنا) هنا؛ لأنَّ النَّومَ كيفيَّةٌ يُناسِبُها فِعلُ الجَعْلِ لا فِعلُ الخلْقِ المناسِبُ للذَّواتِ، فإضافةُ (نومٍ) إلى ضميرِ المخاطَبينَ ليستْ للتَّقييدِ لإخراجِ نَومِ غيرِ الإنسانِ؛ فإنَّ نومَ الحيوانِ كلِّه سُباتٌ، ولكنَّ الإضافةَ لزيادةِ التَّنبيهِ للاستدلالِ، أي: إنَّ دليلَ البعثِ قائمٌ بَيِّنٌ في النَّومِ الَّذي هو مِن أحوالِكم، وأيضًا لأنَّ في وصفِه بسُباتٍ امتِنانًا، والامتنانُ خاصٌّ بهم؛ قال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ [96] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/18). [يونس: 67] .
- إنَّما أُوثِرَ لفظُ (سُباتٍ)؛ لِما فيه مِن الإشعارِ بالقطعِ عن العملِ؛ ليُقابِلَه قولُه بعدَه: وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا [97] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/18، 19). [النَّبأ: 11].
- قولُه: وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا، أي: يَستُرُكم بظَلامِه كما يستُرُكم اللِّباسُ، ولعلَّ المرادَ به -أي: باللَّباسِ- ما يُستتَرُ به عندَ النَّومِ مِن اللِّحافِ ونحوِه؛ فإنَّ شبَهَ اللَّيلِ به أكمَلُ، واعتبارَه في تحقيقِ المقصدِ أدْخَلُ، فهو جعَلَ اللَّيلَ محلًّا للنَّومِ الَّذي جُعِلَ مَوتًا، كما جعَلَ النَّهارَ محلًّا لليقظةِ المعبَّرِ عنها بالحياةِ في قولِه تعالى: وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا [98] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/86). . وقيل: المَعْنيُّ مِن جعْلِ اللَّيلِ لِباسًا يَحومُ حولَ وصفِ حالةٍ خاصَّةٍ باللَّيلِ عُبِّر عنها باللِّباسِ؛ فيجوزُ أنْ يكونَ اللِّباسُ محمولًا على معنى الاسمِ، وهو المشهورُ في إطلاقِه، أي: ما يَلبَسُه الإنسانُ مِن الثِّيابِ، فيكونُ وصفُ اللَّيلِ به على تَقديرِ كافِ التَّشبيهِ على طَريقةِ التَّشبيهِ البليغِ، أي: جعَلْنا اللَّيلَ للإنسانِ كاللِّباسِ له، فيجوزُ أنْ يكونَ وجهُ الشَّبَهِ هو التَّغشيةَ، وتحتَه ثلاثةُ مَعانٍ؛ أحدُها: أنَّ اللَّيلَ ساترٌ للإنسانِ كما يَستُرُه اللِّباسُ، فالإنسانُ في اللَّيلِ يَخْتلي بشؤونِه الَّتي لا يَرتكِبُها في النَّهارِ؛ لأنَّه لا يُحِبُّ أنْ تراها الأبصارُ، وفي ذلك تعريضٌ بإبطالِ أصلٍ مِن أصولِ الدَّهريِّينَ أنَّ اللَّيلَ رَبُّ الظُّلمةِ، وهو مُعتقَدُ المَجوسِ، وهم الَّذين يَعتقِدون أنَّ المخلوقاتِ كلَّها مَصنوعةٌ مِن أصلينِ -أي: إلهَينِ-: إلهِ النُّورِ، وهو صانعُ الخيرِ، وإلهِ الظُّلمةِ، وهو صانعُ الشَّرِّ. والمعنى الثَّاني مِن معنيَيْ وجهِ الشَّبهِ باللِّباسِ: أنَّه المشابَهةُ في الرِّفقِ باللَّابسِ والملاءمةِ لراحتِه، فلمَّا كان اللَّيلُ راحةً للإنسانِ، وكان مُحيطًا بجميعِ حَواسِّه وأعصابِه؛ شُبِّه باللِّباسِ في ذلك. والمعنى الثَّالثُ: أنَّ وجهَ شَبَهِه باللِّباسِ هو الوقايةُ؛ فاللَّيلُ يَقي الإنسانَ مِن الأخطارِ والاعتداءِ عليه، فكان العربُ لا يُغيرُ بعضُهم على بعضٍ في اللَّيلِ؛ وإنَّما تقَعُ الغارةُ صباحًا؛ ولذلك إذا غِيرَ عليهم يصرُخُ الرَّجُلُ بقومِه بقولِه: يا صَباحاهْ! ويُقالُ: صبَّحَهم العدوُّ، وكانوا إذا أقاموا حرَسًا على الرُّبى -ليراقِبَ ما عَسى أنْ يَطرُقَهم مِن الأعداءِ- يُقيمونَه نَهارًا، فإذا أظلَمَ اللَّيلُ نزَلَ الحرَسُ [99] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/20، 21). .
- ولَمَّا كان مُعظَمُ العملِ في النَّهارِ مِن أجْلِ المَعاشِ، أُخبِر عن النَّهارِ بأنَّه مَعاشٌ، وقد أشعَرَ ذِكرُ النَّهارِ بعدَ ذِكرِ كلٍّ مِن النَّومِ واللَّيلِ بملاحظةِ أنَّ النَّهارَ ابتداءُ وقتِ اليقظةِ الَّتي هي ضدُّ النَّومِ، فصارتْ مقابَلتُهما بالنَّهارِ في تقديرِ: وجعَلْنا النَّهارَ واليقظةَ فيه معاشًا، ففي الكلامِ اكتِفاءٌ [100] الاكتفاءُ: هو أنْ يَقتضيَ المقامُ ذِكْرَ شيئَينِ بَيْنَهما تَلازُمٌ وارتباطٌ، فيُكتفَى بأحدِهما عن الآخَرِ؛ لنُكتةٍ بلاغيَّةٍ؛ ومثالُ ذلك قولُ اللهِ عزَّ وجلَّ: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ [النحل: 81] ؛ ففي قولِه تعالى: وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ إيجازٌ بالحذفِ على سبيلِ الاكتِفاءِ، إذِ التَّقْديرُ: تَقيكُمُ الحَرَّ والبَرْدَ. يُنظر: ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (3/118)، ((خزانة الأدب)) لابن حجة الحموي (1/282)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 335)، ((البلاغة العربية)) للميداني (2/48). دلَّتْ عليه المقابَلةُ، وبذلك حصَلَ بيْنَ الجُمَلِ الثَّلاثِ مُطابَقتانِ مِن المحسِّناتِ البديعيَّةِ لفظًا وضِمْنًا [101] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/21). .
2- قولُه تعالَى: وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا * وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا
- التَّعبيرُ عن خلْقِ السَّماءِ بالبناءِ مَبنيٌّ على تَنزيلِها مَنزِلةَ القِبابِ المضروبةِ على الخَلقِ؛ فعُبِّرَ بالفِعلِ (بنَيْنا) في هذه الآيةِ لمعنى: خلَقْنا ما هو عالٍ فوقَ النَّاسِ؛ لأنَّ تكوينَه عاليًا يُشبِهُ البناءَ؛ ولذلك كان قولُه: فَوْقَكُمْ إيماءً إلى وَجهِ الشَّبَهِ في إطلاقِ فِعلِ (بنَيْنا)، مع ما فيه مِن تنبيهِ النُّفوسِ للاعتبارِ والنَّظرِ في تلك السَّبْعِ الشِّدادِ [102] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/87)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/22). .
- وقيل: البناءُ يكونُ أبعَدَ مِن الآفةِ والانحلالِ مِن السَّقفِ، فذَكَر قولَه: وَبَنَيْنَا؛ إشارةً إلى أنَّه وإن كان سَقفًا لكِنَّه في البُعدِ عن الانحلالِ كالبناءِ؛ فالغَرَضُ مِن اختيارِ هذا اللَّفظِ هذه الدَّقيقةُ [103] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/10). .
- وفي قولِه: وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا تقديمُ الظَّرفِ على المفعولِ ليسَ لِمُراعاةِ الفواصلِ فقط، بل للتَّشويقِ إليه؛ فإنَّ ما حقُّه التَّقديمُ إذا أُخِّر تَبْقى النَّفْسُ مترقِّبةً له، فإذا ورَدَ عليها تمكَّنَ عندَها فضلَ تمكُّنٍ [104] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/87). .
- والمرادُ بالسَّبْعِ الشِّدادِ: السَّمواتُ، فهو مِن ذِكرِ الصِّفةِ وحذفِ الموصوفِ للعِلمِ به؛ كقولِه تعالى: حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ [الحاقة: 11] ؛ ولذلك جاء الوصفُ باسمِ العددِ المؤنَّثِ؛ إذ التَّقديرُ: سبعُ سمواتٍ [105] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/22، 23). .
- والسِّراجُ: المِصباحُ الَّذي يُستضاءُ به، والكلامُ على التَّشبيهِ البليغِ، والغرضُ مِن التَّشبيهِ تقريبُ صِفةِ المُشبَّهِ إلى الأذهانِ، وزِيدَ ذلك التَّقريبُ بوصفِ السِّراجِ بالوهَّاجِ، أي: الشَّديدِ السَّنا (الضَّوءِ). وأُوثِرَ فعلُ (جعَلْنا) دونَ (خلَقْنا)؛ لأنَّ كونَها سِراجًا وهَّاجًا حالةٌ مِن أحوالِها، وإنَّما يُعلَّقُ فعلُ الخلْقِ بالذَّواتِ [106] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/24). .
3- قولُه تعالَى: وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا * لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا
- الثَّجَّاجُ: المُنصَبُّ بقوَّةٍ، ووَصْفُ الماءِ هنا بالثَّجَّاجِ للامتِنانِ [107] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/26). .
- وجيءَ هنا بفعلِ لِنُخْرِجَ دونَ نحوِ (لِنُنبِتَ)؛ لأنَّ المقصودَ الإيماءُ إلى تصويرِ كيفيَّةِ بعْثِ النَّاسِ مِن الأرضِ؛ إذ ذلك المقصدُ الأوَّلُ مِن هذا الكلامِ؛ فإنَّه لَمَّا كان المَقصدُ الأوَّلُ مِن آيةِ سُورةِ (ق) هو الامتِنانَ، جِيءَ بفِعلِ (أنْبَتْنا) في قولِه: وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ [ق: 9] الآيةَ، ثمَّ أُتبِعَ ثانيًا بالاستِدلالِ به على البَعثِ بقولِه: كَذَلِكَ الْخُرُوجُ [ق: 11] ، والبعثُ خُروجٌ مِن الأرضِ؛ قال تعالَى: وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى في سُورةِ (طه) [الآية: 55] [108] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/26، 27). .
- قولُه: حَبًّا وَنَبَاتًا بدَأَ بالحَبِّ؛ لأنَّه الَّذي يُتقوَّتُ به، كالحِنطةِ والشَّعيرِ [109] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/385). . وقيل: تقديمُ الحَبِّ مع تأخُّرِه عن النَّباتِ في الإخراجِ؛ لأصالتِه وشرَفِه؛ لأنَّ غالبَه غذاءُ الإنسانِ [110] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/88). .
- قَولُه: وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا أخَّر الجنَّاتِ في الذِّكرِ؛ لأنَّ الحاجةَ إلى الفَواكِهِ ليست ضَروريَّةً [111] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/11). .
- ووجْهُ إيثارِ لفظِ (جنَّاتٍ) أنَّ فيه إيماءً إلى إتمامِ المِنَّةِ؛ لأنَّهم كانوا يُحِبُّونَ الجنَّاتِ والحدائقَ؛ لِما فيها مِن التَّنعُّمِ بالظِّلالِ والثِّمارِ والمياهِ وجمالِ المَنظرِ؛ ولذلك أُتْبِعَتْ بوصفِ أَلْفَافًا؛ لأنَّه يَزيدُها حُسنًا، ومَساقُ الآيةِ هنا الامتِنانُ بما فيه نعيمُ النَّاسِ [112] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/27). .
- وأَلْفافٌ: اسمُ جمْعٍ لا واحدَ له مِن لفظِه، وهو مِثلُ أَوْزاعٍ وأَخْيافٍ، أي: كلُّ جَنَّةٍ مُلتفَّةٌ، أي: مُلتفَّةُ الشَّجرِ بعضِه ببعضٍ، ولَمَّا كانتِ الأشجارُ لا يَلتَفُّ بعضُها على بعضٍ في الغالبِ إلَّا إذا جمَعَتْها جَنَّةٌ، أُسنِدَ ألفافٌ إلى جنَّاتٍ بطريقِ الوَصفِ، ولعلَّه مِن مُبتكَراتِ القُرآنِ [113] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/27، 28). .
- وبهذا الاستِدلالِ والامتنانِ خُتِمَتِ الأدِلَّةُ الَّتي أُقيمَتْ للمشركين على انفرادِ اللهِ تعالى بالإلهيَّةِ، وتَضمَّنَتِ الإيماءَ إلى إمكانِ البعثِ وما أُدمِجَ فيها مِن المِنَنِ عليهم؛ عساهم أنْ يَذكُروا النِّعمةَ فيَشعُروا بواجبِ شُكرِ المُنعِمِ، ولا يَستفظِعوا إبطالَ الشُّركاءِ في الإلهيَّةِ، ويَنظُروا فيما بلَغَهم عنه مِن الإخبارِ بالبعثِ والجزاءِ، فيَصرِفوا عقولَهم للنَّظرِ في دلائلِ تصديقِ ذلك. وقد ابتُدِئَتْ هذه الدَّلائلُ بدلائلِ خلْقِ الأرضِ وحالتِها، وجالَتْ بهم الذِّكْرى على أهمِّ ما على الأرضِ مِن الجمادِ والحيوانِ، ثمَّ ما في الأُفقِ مِن أعراضِ اللَّيلِ والنَّهارِ، ثمَّ تَصاعَدَ بهم التَّجوالُ بالنَّظرِ في خلْقِ السَّمواتِ، وبخاصَّةٍ الشمسُ، ثمَّ نزَلَ بهم إلى دلائلِ السَّحابِ والمطرِ، فنزَلوا معه إلى ما يخرُجُ مِن الأرضِ مِن بدائعِ الصَّنائعِ ومُنتهى المنافعِ، فإذا هم يَنظُرونَ مِن حيثُ صدَروا، وذلك مِن رَدِّ العَجُزِ على الصَّدْرِ [114] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/28). ورَدُّ العَجُزِ على الصَّدرِ -ويُعرَفُ أيضًا بالتَّصديرِ-: هو أنْ تكونَ اللَّفظةُ بعَيْنِها تقدَّمتْ في أوَّلِ الكَلامِ، ثُمَّ تُعادُ في آخِرِه، وبتعبيرٍ آخَرَ: هو أنْ يُجعَلَ أحدُ اللَّفظَينِ المُكرَّرَينِ، أو المُتجانِسَينِ، أو المُلحَقَينِ بهما في أوَّلِ الفِقرةِ، ثُمَّ تُعادُ في آخِرِها، وهو على ثلاثةِ أقسامٍ؛ الأوَّلُ: أن يُوافِقَ آخِرُ الفاصِلةِ آخِرَ كَلِمةٍ في الصَّدرِ؛ كقوله تعالى: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [النساء: 166] ، والثَّاني: أنْ يُوافِقَ أوَّلَ كَلمةٍ منه؛ كقولِه: وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران: 8] ، والثَّالثُ: أنْ يُوافِقَ بعضَ كَلِماتِه؛ كقولِه: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [الأنعام: 10] . يُنظر: ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (3/461)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/354)، ((جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع)) للهاشمي (ص: 333)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/514). .