موسوعة التفسير

سورةُ نوحٍ
الآيات (13-20)

ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ

غريب الكلمات:

وَقَارًا: أي: عَظَمةً مُقتَضِيةً للإجلالِ، وأصلُ (وقر): يدُلُّ على ثِقلٍ في الشَّيءِ [99] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 487)، ((تفسير ابن جرير)) (23/296)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 158)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/132)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/199). .
أَطْوَارًا: أي: تاراتٍ، حالًا بَعْدَ حالٍ؛ نُطفةً، ثمَّ عَلَقةً، ثمَّ مُضْغةً، إلى تمامِ الخَلقِ، وأصلُ (طور): يدُلُّ على امتِدادٍ في شَيءٍ مِن مكانٍ أو زمانٍ [100] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 487)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 84)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/430)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 427)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 142). .
طِبَاقًا: أي: مُتَطابِقةً بَعضُها فَوقَ بَعضٍ، والمُطابَقةُ: أن تَجعَلَ الشَّيءَ فَوقَ آخَرَ بقَدْرِه، وأصلُ (طبق): يدُلُّ على وَضعِ شَيءٍ مَبسوطٍ على مِثْلِه حتَّى يُغَطِّيَه [101] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/119)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/439)، ((المفردات)) للراغب (ص: 516)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 408). .
بِسَاطًا: أي: مَبسوطةً، مُتَّسِعةً، مُمهَّدةً كالفِراشِ، وأصلُ (بسط): يدُلُّ على امتِدادِ الشَّيءِ [102] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/247)، ((المفردات)) للراغب (ص: 123)، ((تفسير القرطبي)) (18/306). .
فِجَاجًا: أي: مَسالِكَ وطُرُقًا، الواحِدُ فَجٌّ، والفَجُّ: الطَّريقُ الواسِعُ، وكلُّ فَتحٍ بيْنَ جَبَلينِ أو شَيئَينِ، وأصلُ (فجج): يدُلُّ على تفتُّحٍ وانفِراجٍ [103] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 370)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/437)، ((المفردات)) للراغب (ص: 625)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 237)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 295)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 699). .

المعنى الإجمالي:

يحكي الله تعالى إنكارَ نوحٍ عليه السَّلامُ على قَومِه سوءَ أدبِهم معَ الله، واستِخفافَهم بما يَدعوهم إليه، وأنَّه قال لهم: ما لَكم لا تُعَظِّمونَ اللهَ تعالى حقَّ عَظَمتِه، وقد خلَقَكم حالًا بعْدَ حالٍ، فكُنتُم نُطْفةً، ثمَّ عَلَقةً، ثمَّ مُضْغةً، إلى تمامِ خَلْقِكم؟!
قال نوحٌ لِقَومِه داعيًا لهم إلى التَّأمُّلِ في عجائبِ خَلقِ الله: ألَم تَرَوا كيفَ خَلَق اللهُ سَبْعَ سَمَواتٍ بَعضُها فوقَ بَعضٍ، وجَعَل القَمَرَ في السَّمَواتِ نُورًا، وجعَلَ الشَّمسَ مِصباحًا مُضيئًا؛ فتَستَدِلُّوا بذلك على كَمالِ قُدرةِ اللهِ تعالى، واستِحقاقِه للعبادةِ دونَ ما سِواه؟!
ثمَّ دعاهم إلى التَّأمُّلِ في خَلقِ أنفُسِهم، وفي مَبدئِهم ومعادِهم، فقال: واللهُ ابتدَأَ خَلْقَ أبيكم آدَمَ مِن تُرابِ الأرضِ، فأصلُ نَشأتِكم منها، ثمَّ يُعيدُكم اللهُ في الأرضِ بعْدَ مَوتِكم، ويُخرِجُكم منها يَومَ القيامةِ للحِسابِ والجَزاءِ.
ثمَّ دعاهم إلى التَّأمُّلِ في خَلقِ الأرضِ الَّتي يعيشونَ عليها، فقال: واللهُ جعَل لكم الأرضَ مَبسوطةً ممهَّدةً كالفِراشِ؛ لتتَّخِذوا منها طُرُقًا واسِعةً مُيَسَّرةً للسَّيرِ فيها.

تفسير الآيات:

مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13).
أي: قال نوحٌ لِقَومِه مُعاتِبًا لهم على كُفْرِهم: ما لَكم لا تُعَظِّمونَ اللهَ تعالى حقَّ عَظَمتِه؛ فتُوحِّدوه وتُطيعوه [104] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/297)، ((الوسيط)) للواحدي (4/358)، ((الفوائد)) لابن القيم (ص: 187، 188)، ((تفسير السعدي)) (ص: 889). قال الماوَرْدي: (مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا فيه خمسةُ تأويلاتٍ: أحدُها: ما لَكم لا تَعرِفونَ للهِ عَظَمةً. قاله مجاهِدٌ، وعِكرِمةُ. الثَّاني: لا تَخشَونَ للهِ عِقابًا وتَرجُونَ منه ثوابًا. قاله ابنُ عبَّاسٍ في روايةِ ابنِ جُبَيرٍ. الثَّالثُ: لا تَعرِفونَ للهِ حَقَّه، ولا تَشكُرونَ له نِعَمَه. قاله الحَسَنُ. الرَّابعُ: لا تؤَدُّونَ للهِ طاعةً. قاله ابنُ زَيدٍ. الخامِسُ: أنَّ الوَقارَ: الثَّباتُ، ومنه قولُه تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب: 33] أي: اثبُتْنَ، ومعناه: لا تُثبِتونَ وحدانيَّةَ اللهِ، وأنَّه إلهُكم الَّذي لا إلهَ لكم سِواه). ((تفسير الماوردي)) (6/101). وقال ابن القيِّم: (وهذه الأقوالُ تَرجِعُ إلى معنًى واحدٍ، وهو أنَّهم لو عَظَّموا اللهَ وعَرَفوا حقَّ عظَمتِه وحَّدُوه وأطاعوه وشَكَروه). ((الفوائد)) (ص: 187، 188). وممَّن قال: إنَّ الرَّجاءَ هنا بمعنى الخَوفِ، أي: ما لَكم لا تَخافونَ للهِ عظَمةً: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والفَرَّاءُ، والأخفش، وابن قُتَيبة، وابن جرير، والواحديُّ، والسمعاني، والسعدي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/450)، ((معاني القرآن)) للفراء (3/188)، ((معاني القرآن)) للأخفش (2/550)، ((تأويل مشكل القرآن)) لابن قتيبة (ص: 121)، ((تفسير ابن جرير)) (23/297)، ((الوسيط)) للواحدي (4/358)، ((تفسير السمعاني)) (6/56)، ((تفسير السعدي)) (ص: 889). وقد ردَّ الرَّازيُّ هذا القولَ ولم يُجَوِّزْه. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/653). وقال ابن القيِّم: (قال كثيرٌ مِن المفسِّرينَ: المعنى: ما لَكم لا تَخافونَ للهِ عَظَمةً؟ قالوا: والرَّجاءُ بمعنى الخَوفِ، والتَّحقيقُ أنَّه ملازِمٌ له؛ فكُلُّ راجٍ خائِفٌ مِن فواتِ مَرجُوِّه. والخوفُ بلا رجاءٍ يأسٌ وقُنوطٌ. وقال تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ [الجاثية: 14] قالوا في تفسيرِها: لا يَخافُونَ وقائِعَ اللهِ بهم، كوقائِعِه بمَن قَبْلَهم مِنَ الأُمَمِ). ((مدارج السالكين)) (2/51). وقيل: المعنى: ما لَكم لا تَكونونَ على حالٍ تأمُلونَ فيها تعظيمَ الله إيَّاكم في دارِ الثَّوابِ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: الزمخشريُّ، والشربيني. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/617)، ((تفسير الشربيني)) (4/392). وقال البِقاعي: (وَقَارًا أي: ثوابًا يوقِّرُكم فيه ولو قَلَّ؛ فإنَّ قليلَه أكثرُ مِن كثيرِ غيرِه، ولا تَخافونَ له إهانةً بالعِقابِ بأن تعلَموا أنَّه لا بدَّ مِن أن يُحاسِبَكم بعدَ البعثِ، فيُثيبَ الطَّائعَ، ويُعاقبَ العاصيَ... ولأجْلِ أنَّ المطلوبَ تحصيلُ الأعمالِ الَّتي هي أسبابٌ ظاهريَّةٌ، عبَّر بالرَّجاءِ؛ ليَسُرَّهم بأنَّ أعمالَهم مؤثِّرةٌ، وعبَّر بالطَّمعِ في غيرِ هذه الآيةِ؛ تنبيهًا على أنَّه لا سببَ في الحقيقةِ إلَّا رحمةُ الله لحالٍ دعا إلى ذلك). ((نظم الدرر)) (20/439، 440). ؟!
وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أمَرَ نُوحٌ عليه السَّلامُ بتَعظيمِ اللهِ؛ استَدَلَّ على التَّوحيدِ بوُجوهٍ مِنَ الدَّلائِلِ [105] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/653). ، فقال:
وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14).
أي: كيف تَترُكونَ تَعظيمَ اللهِ تعالى وإجلالَه، وقد جَعَل لكم في أنفُسِكم آيةً تدُلُّ على توحيدِه، وتَحمِلُ على تَعظيمِه، وهي خلْقُه إيَّاكم حالًا بعدَ حالٍ، فكُنتُم نُطْفةً، ثمَّ عَلَقةً، ثمَّ مُضْغةً، إلى تمامِ خَلْقِكم [106] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/297)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1136)، ((تفسير السمعاني)) (6/57)، ((تفسير القرطبي)) (18/303)، ((تفسير السعدي)) (ص: 889). قال الزجَّاج: (خلَقَكم مِن تُرابٍ، ثمَّ منِ نُطفةٍ، ثمَّ مِن عَلَقةٍ، ثمَّ مِن مُضغةٍ، ثمَّ جَعَل المُضغةَ عَظمًا، وكَسا العَظمَ لَحمًا). ((معاني القرآن وإعرابه)) (5/229). وقال السعدي: (أي: خَلْقًا مِن بَعدِ خَلْقٍ، في بَطنِ الأُمِّ، ثمَّ في الرَّضاعِ، ثمَّ في سِنِّ الطُّفوليَّةِ، ثمَّ التَّمييزِ، ثمَّ الشَّبابِ، إلى آخِرِ ما يَصِلُ إليه الخَلقُ). ((تفسير السعدي)) (ص: 889). ويُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/201). ؟!
كما قال الله تبارك وتعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون: 12 - 14] .
وقال سُبحانَه: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً [الروم: 54] .
وقال عزَّ وجَلَّ: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [غافر: 67] .
أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا (15).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا نبَّهَهم نُوحٌ عليه السَّلامُ على الفِكرِ في أنفُسِهم، وكيف انْتَقَلوا مِن حالٍ إلى حالٍ، وكانتِ الأنفُسُ أقرَبَ ما يُفكِّرون فيه منهم؛ أرشَدَهُم إلى الفِكرِ في العالَمِ عُلْوِه وسُفلِه، وما أودَعَ تعالَى فيه، أي: في العالَمِ العُلويِّ مِن هذَينِ النَّيِّرَينِ اللَّذَينِ بهما قِوامُ الوُجودِ [107] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/283). .
أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا (15).
أي: قال نوحٌ لِقَومِه: ألَم تَرَوا كيف خَلَق اللهُ سَبْعَ سَمَواتٍ بَعضُها فوقَ بَعضٍ؛ فتَستَدِلُّوا بذلك على كَمالِ قُدرةِ اللهِ، واستِحقاقِه للعبادةِ دونَ ما سِواه [108] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/299)، ((تفسير القرطبي)) (18/304)، ((تفسير السعدي)) (ص: 889)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/202). قال ابنُ عرفة: (وهذه الآيةُ مِن كلامِ نوحٍ عليه السَّلامُ لقومِه). ((تفسير ابن عرفة)) (4/296). وقال القرطبي: (وقولُه: أَلَمْ تَرَوْا على جهةِ الإخبارِ لا المُعايَنةِ، كما تقولُ: ألم تَرَني كيفَ صنعتُ بفُلانٍ كذا). ((تفسير القرطبي)) (18/304). قال ابنُ عجيبة: (والرُّؤيةُ هنا علميَّةٌ؛ إذ لا يُرَى بالبصرِ إلَّا واحدةٌ). ((تفسير ابن عجيبة)) (7/146). وقيل: الرُّؤيةُ بصَريَّةٌ. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/202). ؟!
وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16).
وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا.
أي: وجَعَل اللهُ القَمَرَ في السَّمَواتِ السَّبعِ نُورًا [109] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/299)، ((تفسير الشوكاني)) (5/358)، ((تفسير السعدي)) (ص: 889). قال ابن جرير: (وقولُه: وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا يقولُ: وجَعَل القمرَ في السَّمواتِ السَّبعِ نورًا). ((تفسير ابن جرير)) (23/299). قيل: المرادُ بقَولِه تعالى: وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ: أنَّ القَمَر في بَعضِها؛ لأنَّه في السَّماءِ الدُّنيا، كما يُقالُ: فلانٌ في المدينةِ، وهو في بعضِ نواحيها. وممَّن قال بهذا المعنى: الأخفشُ، والسمرقندي، والزمخشري، وابن عطية، والرازي، وابن جُزَي. يُنظر: ((معاني القرآن)) للأخفش (2/550)، ((تفسير السمرقندي)) (3/501)، ((تفسير الزمخشري)) (4/618)، ((تفسير ابن عطية)) (5/375)، ((تفسير الرازي)) (30/654)، ((تفسير ابن جزي)) (2/415). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: الحسَنُ. يُنظر: ((تفسير البغوي)) (5/157). قال الشوكاني: (وجعْلُ القمرِ في السَّمواتِ على كَونِه في سماءِ الدُّنيا؛ لأنَّه إذا كان في إحداهنَّ، فهو فيهنَّ، كذا قال ابنُ كَيْسانَ). ((تفسير الشوكاني)) (5/358). وقيل: المرادُ أنَّ أحَدَ وَجهَيِ القَمَرِ يُضيءُ السَّمَواتِ، والوَجهَ الآخَرَ يُضيءُ الأرضَ. وممَّن ذهب إليه: البِقاعي. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/443). ويُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/230). وممَّن رُوِيَ عنه نحوُ هذا القَولِ مِنَ السَّلَفِ: عبدُ الله بنُ عَمرِو بنِ العاص، وابنُ عبَّاسٍ، وعِكْرِمةُ، وعَطاءٌ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/300)، ((تفسير البغوي)) (5/157)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (8/291). وقيل: الألِفُ واللَّامُ في القَمَرِ للجِنسِ، لا للعَهدِ؛ فليس القَمَرُ خاصًّا بالأرضِ. وممَّن ذهب إلى هذا القولِ: القاسميُّ. يُنظر: ((تفسير القاسمي)) (1/210). ويُنظر أيضًا: ((مجلة المنار)) لمحمد رشيد رضا (14/577). .
كما قال تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا [الفرقان: 61] .
وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا.
أي: وجعل اللهُ الشَّمسَ مِصباحًا مُضيئًا [110] يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/358)، ((تفسير البغوي)) (5/157)، ((تفسير القرطبي)) (18/305). .
كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا [يونس: 5] .
وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّها رُجوعٌ إلى دَلائلِ الأنفُسِ، وهي كالتَّفسيرِ لقَولِه تعالى: خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا [نوح: 14] ؛ فإنَّه بيَّنَ أنَّه تَعالى خَلَقَهم مِن الأرضِ، ثمَّ يَرُدُّهم إليها، ثمَّ يُخرِجُهم منها مرَّةً أُخرى [111] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/654). .
وأيضًا لَمَّا دلَّ اللهُ تعالَى على كَمالِ عِلمِه وتَمامِ قُدرتِه بخلْقِ الإنسانِ، ثمَّ بخلْقِ ما هو أكبَرُ منه؛ أعاد الدَّلالةَ بخَلْقِ الإنسانِ؛ لأنَّه أعظَمُ المُحدَثاتِ، وأدَلُّها على اللهِ سُبحانَه وتعالَى على وجْهٍ آخَرَ [112] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/443). .
وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17).
أي: واللهُ ابتدَأَ خَلْقَ أَبيكم آدَمَ مِن تُرابِ الأرضِ، فأصلُ نَشأتِكم منها [113] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/451)، ((تفسير ابن جرير)) (23/300)، ((الوسيط)) للواحدي (4/358)، ((تفسير ابن عطية)) (5/375)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/444)، ((تفسير السعدي)) (ص: 889)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/204). قال الرازي: (في هذه الآيةِ وَجهانِ: أحَدُهما: معنى قَولِه: أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ أي: أنبَتَ أباكم مِن الأرضِ، كما قال: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ [آل عمران: 59]. والثَّاني: أنَّه تعالى أنبَتَ الكُلَّ مِنَ الأرضِ؛ لأنَّه تعالى إنَّما يَخلُقُنا مِنَ النُّطَفِ، وهي متوَلِّدةٌ مِنَ الأغذيةِ المتولِّدةِ مِن النَّباتِ المتولِّدِ مِنَ الأرضِ). ((تفسير الرازي)) (30/654). ويُنظر: ((تفسير الماتريدي)) (10/230)، ((تفسير الماوردي)) (6/102). .
ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18).
ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا.
أي: ثمَّ يُعيدُكم اللهُ في الأرضِ بعْدَ مَوتِكم، فتُدفَنونَ فيها، وتَصيرونَ تُرابًا كما كُنتُم قبْلَ خَلْقِكم [114] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/300)، ((تفسير ابن عطية)) (5/375)، ((تفسير القرطبي)) (18/305)، ((تفسير السعدي)) (ص: 889). .
وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا.
أي: ويُخرِجُكم اللهُ مِنَ الأرضِ يَومَ القيامةِ للحِسابِ والجَزاءِ، فتَخرُجونَ مِن قُبورِكم أحياءً [115] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/300)، ((تفسير ابن عطية)) (5/375)، ((تفسير القرطبي)) (18/305)، ((تفسير ابن كثير)) (8/234). .
كما قال تعالى: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى [طه: 55] .
وقال سُبحانَه: ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ [عبس: 22] .
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19).
أي: واللهُ جعَل لكم الأرضَ مَبسوطةً ممهَّدةً كالفِراشِ [116] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/300)، ((تفسير الزمخشري)) (4/618)، ((تفسير القرطبي)) (18/306)، ((تفسير ابن كثير)) (8/234)، ((تفسير السعدي)) (ص: 889). .
كما قال تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا [البقرة: 22] .
وقال سُبحانَه: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا [الزخرف: 10] .
لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20).
أي: لتتَّخِذوا منها طُرُقًا واسِعةً سَهلةً مُيَسَّرةً للسَّيرِ فيها [117] يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/359)، ((المفردات)) للراغب (ص: 395)، ((تفسير القرطبي)) (18/306)، ((تفسير ابن كثير)) (8/234)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/445، 446)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/205). قال ابنُ عاشور: (الفَجُّ: الطَّريقُ الواسِعُ، وأكثَرُ ما يُطلَقُ على الطَّريقِ بيْن جَبَلينِ؛ لأنَّه يكونُ أوسَعَ مِن الطَّريقِ المعتادِ). ((تفسير ابن عاشور)) (29/205). .
كما قال تعالى: وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الزخرف: 10] .
وقال الله سُبحانَه وتعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا [الملك: 15] .

الفوائد التربوية:

1- ممَّا يَستقيمُ به القَلبُ تَعظيمُ الأمرِ والنَّهيِ، وهو ناشِئٌ عن تَعظيمِ الآمِرِ النَّاهي؛ فإنَّ اللهَ تعالى ذَمَّ مَن لا يُعَظِّمُ أمْرَه ونَهْيَه، قال سُبحانَه وتعالى: مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا [118] يُنظر: ((الوابل الصيب)) لابن القيم (ص: 8). .
2- قال تعالى: مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا ومِن وقارِ الله تعالى أن لا تعدِلَ به شيئًا مِن خلقِه لا في اللَّفْظ -بِحَيْثُ تَقولُ: والله، وحياتِك، ما لي إلَّا الله وأنت، وما شاءَ الله وشئتَ- ولا في الحبِّ والتَّعظيمِ والإجلالِ، ولا في الطَّاعةِ، ولا في الخوفِ والرجاءِ، ولا يجعلَه أهْونَ النَّاظرينَ إليه، ولا يستهينَ بحقِّه، ويَقولَ: هو مَبْنِيٌّ على المُسامحَةِ، ولا يجعلَه على الفضلةِ، ويقدِّمَ حقَّ المخلوقِ عليه، ولا يَجعلَ مُرادَ نَفسِه مقدَّمًا على مُرادِ ربِّه، فهذا كلُّه مِن عدمِ وقارِ الله في القلبِ، وَمن وقارِ الله أن يستحيَ من اطِّلاعِه على سرِّه وضميرِه فيرَى فيه ما يكرهُ، ومِن وقارِه أنْ يستحيَ منه فِي الخلْوَةِ أعظمَ مِمَّا يستحي مِن أكابِرِ النَّاسِ. وإنَّ مِن أعظمِ الظُّلمِ والجهلِ أن تطلبَ التَّعظيمَ والتَّوقيرَ مِن النَّاسِ وقلبُك خالٍ مِن تعظيمِ الله وتوقيرِه [119] يُنظر: ((الفوائد)) لابن القيم (ص: 187). .
3- قَولُ اللهِ تعالى: أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا فيه تَنبيهٌ على عِظَمِ خَلقِ هذه الأشياءِ، وكَثرةِ المنافِعِ في الشَّمسِ والقَمَرِ، الدَّالَّةِ على رحمةِ الله، وسَعةِ إحسانِه؛ فالعظيمُ الرَّحيمُ يَستَحِقُّ أن يُعظَّمَ، ويُحَبَّ، ويُعبَدَ، ويُخافَ، ويُرجَى [120] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 889). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ اللهِ تعالى: مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا فيه مِن شُعَبِ الإيمانِ: الرَّجاءُ والخَشيةُ، على القَولَينِ في تَفسيرِه [121] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 274). .
2- قال تعالَى: مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا؛ فالَّذي انفَرَدَ بالخَلقِ والتَّدبيرِ البديعِ مُتعيِّنٌ أنْ يُفرَدَ بالعِبادةِ والتَّوحيدِ. وفي ذِكرِ ابتِداءِ خَلْقِهم تَنبيهٌ لهم على الإقرارِ بالمَعادِ، وأنَّ الَّذي أنْشَأَهُم مِن العدَمِ قادرٌ على أنْ يُعِيدَهم بعْدَ مَوتِهم [122] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 889). .
3- قَولُ اللهِ تعالَى: أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا فيه سُؤالٌ، وهو: كيف قِيل لهم: أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ، و(الكَيفُ) للحالةِ والهيئةِ، وهمْ لم يُشاهِدوها، كما قال تعالَى: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ [الكهف:51] ؟
والجوابُ: حيثُ إنَّ اللهَ خاطَبَهم هنا أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ؛ فكان هذا أمْرًا -لِفَرْطِ صِدقِ الإخبارِ به- كالمُشاهَدِ المحسوسِ المُلزِمِ لهم. وقيل غيرُ ذلك [123] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/310-312). .
4- قَولُ اللهِ تعالى: وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا فيه سؤالٌ: كيف قال ذلك، والقَمَرُ ليس فيها بأسْرِها، بل في السَّماءِ الدُّنيا؟
الجوابُ: هذا كما يُقالُ: (السُّلطانُ في العراقِ) ليس المرادُ أنَّ ذاتَه حاصِلةٌ في جميعِ أحيازِ العِراقِ، بل إنَّ ذاتَه في حَيِّزٍ مِن جملةِ أحيازِ العِراقِ، فكذا هاهنا [124] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/654). .
5- قال اللهُ تعالى: وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا في جَعلِ القَمَرِ نُورًا إيماءٌ إلى أنَّ ضَوءَ القَمَرِ ليس مِن ذاتِه؛ فإنَّ القَمَرَ مُظلِمٌ، وإنَّما يَستضيءُ بانعكاسِ أشِعَّةِ الشَّمسِ على ما يَستَقبِلُها من وَجهِه بحَسَبِ اختلافِ ذلك الاستِقبالِ مِن تبَعُّضٍ وتمامٍ [125] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/204). ، وأيضًا جَعْلُ الشَّمسِ سِراجًا: فيه إشارةٌ إلى أنَّ نُورَ القَمَرِ مِنَ الشَّمسِ مُكتَسَبٌ، حيث جَعَل الشَّمسَ بمنزلةِ نَفسِ السِّراجِ، والقمَرَ بمنزلةِ ضَوئِه ونُورِه [126] يُنظر: ((باهر البرهان)) لبيان الحق الغزنوي (3/1556). .
6- قولُه تعالى: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا مِن أدَلِّ الأدلَّةِ على الحُدوثِ؛ لأنَّهم إذا كانوا نَباتًا كانوا مُحْدَثينَ -لا مَحالةَ- حُدوثَ النَّباتِ [127] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/618)، ((تفسير البيضاوي)) (5/249)، ((تفسير أبي السعود)) (9/39)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/229). .
7- لطيفة: أجسامُ بني آدَمَ بل وسائِرِ الحيواناتِ: كنَباتِ الأرضِ، تَنقَلِبُ مِن حالٍ إلى حالٍ، ثمَّ تجِفُّ وتصيرُ تُرابًا؛ قال اللهُ تعالى: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا [128] يُنظر: ((لطائف المعارف)) لابن رجب (ص: 313). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا بدَّلَ نوحٌ عليه السَّلامُ خِطابَه مع قَومِه مِن طَريقةِ النُّصحِ والأمرِ إلى طَريقةِ التَّوبيخِ بقولِه: مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا، وهو استِفهامٌ صُورتُه صُورةُ السُّؤالِ عن أمْرٍ ثبَتَ لهم في حالِ انتفاءِ رَجائِهم تَوقيرَ اللهِ، والمقصودُ أنَّه لا شَيءَ يَثبُتُ لهم صارِفٌ عن تَوقيرِ اللهِ؛ فلا عُذْرَ لكم في عدَمِ تَوقيرِه [129] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/249)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/199). .
- قولُه: مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا اختُلِفَ في معناه وفي تَعلُّقِ مَعمولاتِه بعوامِلِه على أقوالٍ: فإذا حُمِلَ الرَّجاءُ على معْنى تَرقُّبِ الأمرِ، وحُمِلَ الوَقارُ على معْنى العَظَمةِ المُقتضيةِ للإجلالِ؛ فالمعْنى: ما لَكمْ لا تَرجُون ثَوابًا مِن اللهِ، ولا تَخافون عِقابًا، أي: فتَعْبُدوه راجينَ أنْ يُثيبَكم على عِبادتِكم وتَوقيرِكم إيَّاه، وهذا التَّفسيرُ يَنْحو إلى أنْ يكونَ في الكلامِ اكتِفاءٌ [130] الاكتفاءُ: هو أنْ يَقتضيَ المقامُ ذِكْرَ شيئَينِ بَيْنَهما تَلازُمٌ وارتباطٌ، فيُكتفَى بأحدِهما عن الآخَرِ؛ لنُكتةٍ بلاغيَّةٍ؛ ومثالُ ذلك قولُ اللهِ عزَّ وجلَّ: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ [النحل: 81] ؛ ففي قولِه: وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ إيجازٌ بالحذفِ، على سبيلِ الاكتفاءِ، إذِ التَّقْديرُ: تقيكُمُ الحَرَّ والبَرْدَ. يُنظر: ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (3/118)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 335)، ((البلاغة العربية)) للميداني (2/48). ، أي: ولا تَخافون عِقابًا، وإنَّ نُكتةَ الاكتِفاءِ بالتَّعجُّبِ مِن عدَمِ رَجاءِ الثَّوابِ: أنَّ ذلك هو الَّذي يَنْبغي أنْ يَقصِدَه أهلُ الرَّشادِ والتَّقوى، والتَّقديرُ: ما لَكمْ لا تَكونونَ على حالٍ تأمُلونَ فيها تَعظيمَ اللهِ إيَّاكم في دارِ الثَّوابِ. وهذا يَقْتضي أنْ يكونَ الكلامُ كِنايةً تَلويحيَّةً عن حَثِّهم على الإيمانِ باللهِ الَّذي يَستلزِمُ رَجاءَ ثَوابِه، وخَوفَ عِقابِه؛ لأنَّ مَن رَجا تَعظيمَ اللهِ إيَّاه آمَنَ به، وعبَدَه، وعمِلَ الصَّالحاتِ.
وعلى أنَّ الرَّجاءَ بمَعْنى الاعتقادِ، ولَا تَرْجُونَ حالٌ من ضَميرِ المُخاطَبينَ، والعاملُ فيها مَعْنى الاستقرارِ في لَكُمْ، على أنَّ الإنكارَ مُتوجِّهٌ إلى السَّببِ فقَطْ مع تَحقُّقِ مَضمونِ الجُملةِ الحاليَّةِ لا إليهِما معًا؛ فيكونُ قولُه إنكارًا لأنْ يكونَ لهُم سَببٌ ما في عدَمِ رَجائِهم للهِ تعالَى وَقارًا؛ فقولُه: مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا، أي: لا تَعتَقِدون له عَظَمةً، فتَخافوا عِصيانَه؟! وإنَّما عبَّرَ عن الاعتقادِ بالرَّجاءِ التَّابعِ لأدْنى الظَّنِّ مُبالَغةً.
وعلى القَولِ بأنَّ معنى الوَقارِ: العاقبةُ، أي: ما لَكمْ لا تَرْجُون للهِ عاقبةً، أي: عاقبةَ الإيمانِ؛ فيكونُ الكلامُ كِنايةً عن التَّوبيخِ على تَرْكِهم الإيمانَ باللهِ تعالَى [131] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/617، 618)، ((تفسير البيضاوي)) (5/249)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/34، 35)، ((تفسير أبي حيان)) (10/282)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/440)، ((تفسير أبي السعود)) (9/38)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/199، 200)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/229، 230). .
- وجُملةُ وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا حالٌ مُقرِّرةٌ للإنكارِ مِن حيثُ إنَّها مُوجِبةٌ للرَّجاءِ؛ فهي حالٌ مِن ضَميرِ لَكُمْ أو ضَميرِ تَرْجُونَ، أي: في حالِ تَحقُّقِكم أنَّه خَلَقَكم أطْوارًا، فأمَّا أنَّه خَلَقَهم فمُوجِبٌ للاعتِرافِ بعَظَمتِه؛ لأنَّه مُكوِّنُهم وصانعُهم، فحقَّ عليهم الاعترافُ بجَلالِه، وأمَّا كونُ خلْقِهم أطوارًا؛ فلأنَّ الأطوارَ الَّتي يَعلَمونها دالَّةٌ على رِفقِه بهم في ذلك التَّطوُّرِ، فهذا تَعريضٌ بكُفْرِهم النِّعمةَ، ولأنَّ الأطوارَ دالَّةٌ على حِكمةِ الخالِقِ وعِلمِه وقُدرتِه؛ فإنَّ تَطوُّرَ الخلْقِ مِن طَورِ النُّطفةِ، إلى طَورِ الجنينِ، إلى طَورِ خُروجِه طِفلًا، إلى طَورِ الصِّبا، إلى طَورِ بُلوغِ الأشُدِّ، إلى طَورِ الشَّيخوخةِ، وطُروِّ الموتِ على الحياةِ، وطُروِّ البِلى على الأجسادِ بعدَ الموتِ؛ كلُّ ذلك والذَّاتُ واحدةٌ، فهو دَليلٌ على تَمكُّنِ الخالِقِ مِن كَيفيَّاتِ الخلْقِ والتَّبديلِ في الأطوارِ، وهم يُدرِكون ذلك بأدْنى الْتِفاتِ الذِّهنِ، فكانوا مَحقوقينَ بأنْ يَتوصَّلوا به إلى مَعرفةِ عَظَمةِ اللهِ تعالى، وتَوقُّعِ عِقابِه؛ لأنَّ الدَّلالةَ على ذلك قائمةٌ بأنفُسِهم، وهل التَّصرُّفُ فيهم بالعِقابِ والإثابةِ إلَّا دونَ التَّصرُّفِ فيهم بالكَونِ والفسادِ [132] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/249)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/35)، ((تفسير أبي حيان)) (10/283)، ((تفسير أبي السعود)) (9/38)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/201). ؟
- قَولُه: وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا بدَأَ بدَلائلِ الأنفُسِ، وبعْدَها بدَلائلِ الآفاقِ؛ لأنَّها مع شَرَفِها أقرَبُ مَنظورٍ إليه لهم، فنفْسُ الإنسانِ أقرَبُ الأشياءِ إليه، فلا جَرَمَ بدَأَ بالأقرَبِ، وثَنَّى بالعُلويِّ؛ لأنَّه يليها في الشَّرَفِ ووُضوحِ الآياتِ. وتارَّةً يَبدَأُ بدَلائلِ الآفاقِ، ثمَّ بدَلائلِ الأنفُسِ؛ إمَّا لأنَّ دَلائلَ الآفاقِ أبهَرُ وأعظَمُ، فوَقَعَت البدايةُ بها لهذا السَّببِ، أو مِن أجْلِ أنَّ دَلائلَ الأنفُسِ حاضرةٌ، لا حاجةَ بالعاقلِ إلى التَّأمُّلِ فيها، إنَّما الَّذي يَحتاجُ إلى التَّأمُّلِ فيه دَلائلُ الآفاقِ؛ لأنَّ الشُّبَهَ فيها أكثَرُ، فلا جَرَمَ تَقَعُ البدايةُ بها [133] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/654). ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/441، 442). .
2- قولُه تعالَى: أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا
- هذا الكلامُ إنْ كان هذا مِن حِكايةِ كَلامِ نوحٍ عليه السَّلامُ لقومِه، كان تَخلُّصًا مِن التَّوبيخِ والتَّعريضِ إلى الاستدلالِ عليهم بآثارِ وُجودِ اللهِ ووَحدانيَّتِه وقُدرتِه، ممَّا في أنفُسِهم مِن الدَّلائلِ إلى ما في العالَمِ منها؛ لِما في قولِه: وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا [نوح: 14] مِن تَذكيرٍ بالنِّعمةِ وإقامةٍ للحُجَّةِ، فتَخلَّصَ منه لذِكرِ حُجَّةٍ أُخرى، فكان قد نبَّهَهم على النَّظَرِ في أنفُسِهم أولًا؛ لأنَّها أقرَبُ ما يُحِسُّونه ويَشعَرون به، ثمَّ على النَّظَرِ في العالَمِ وما سُوِّيَ فيه مِن العجائبِ الشَّاهدةِ على الخالقِ العليمِ القديرِ. وإنْ كان مِن خطابِ اللهِ تعالَى للأُمَّةِ -وهو ما يَسمَحُ به سِياقُ السُّورةِ مِن الاعتبارِ بأحوالِ الأُمَمِ الماضيةِ المُساويةِ لأحوالِ المشركينَ- كان هذا الكلامُ اعتراضًا للمُناسَبةِ [134] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/202). .
- والهمزةُ في أَلَمْ تَرَوْا للاستِفهامِ التَّقريريِّ مُكنًّى به عن الإنكارِ عن عدَمِ العِلمِ بدَلائلِ ما يَرَونه، والمعْنى: ألَسْتُم تَرَون هَيئةَ وحالةَ خلْقِ اللهِ السَّمواتِ [135] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/202)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/228). ؟!
- وقولُه: سَبْعَ سَمَوَاتٍ يَجوزُ أنْ يكونَ وصْفُ سبْعٍ مَعلومًا للمُخاطَبينَ مِن قومِ نوحٍ، أو مِن أُمَّةِ الدَّعوةِ الإسلاميَّةِ؛ بأنْ يَكونوا عَلِموا ذلك مِن قبْلُ، فيكون ممَّا شَمِلَه فِعلُ أَلَمْ تَرَوْا، ويجوزُ أنْ يكونَ تَعليمًا للمخاطَبينَ على طَريقةِ الإدماجِ [136] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/202). .
3- قولُه تعالَى: وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا الإخبارُ عن القمرِ بأنَّه نورٌ مُبالَغةٌ في وصْفِه بالإنارةِ بمَنزلةِ الوصْفِ بالمَصدرِ [137] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/203). .
- قَولُه: وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا بدَأَ به؛ لقُربِه، وسُرعةِ حَرَكتِه، وقَطعِه جميعَ البروجِ في كُلِّ شَهرٍ مَرَّةً، وغَيبتِه في ليالي السِّرارِ [138] السِّرارُ: يومَ يَستَسِرُّ فيه الهلالُ آخِرَ يومٍ مِن الشَّهرِ أو قبْلَه، ورُبَّما استَتَر لَيلتَينِ اذا تَمَّ الشَّهرُ. يُنظر: ((العين)) للخليل (7/187)، ((السنن الكبرى)) للبيهقي (4/355). ، ثمَّ ظُهورِه، وذلك أعجَبُ في القُدرةِ [139] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/442). .
- والسِّراجُ: المِصباحُ الزَّاهرُ نُورُه، الَّذي يُوقَدُ بفَتيلةٍ في الزَّيتِ يُضِيءُ الْتهابُها المُعدَّلُ بمِقدارِ بَقاءِ مادَّةِ الزَّيتِ تَغمُرُها، والإخبارُ به عن الشَّمسِ مِن التَّشبيهِ البليغِ، والقصدُ منه تَقريبُ المُشبَّهِ مِن إدراكِ السَّامعِ؛ فإنَّ السِّراجَ كان أقْصى ما يُستضاءُ به في اللَّيلِ [140] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/203). .
- وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ لم يُخبَرْ هنا عن الشَّمسِ بالضِّياءِ، كما في آيةِ سُورةِ (يُونسَ) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً [يونس: 5] ، والمعنى واحدٌ، وهو الإضاءةُ، ولعلَّ إيثارَ السِّراجِ هنا لمُقارَبةِ تَعبيرِ نُوحٍ في لُغتِه، مع ما فيه مِن الرِّعايةِ على الفاصلةِ؛ لأنَّ الفواصلَ الَّتي قبْلَها جاءتْ على حُروفٍ صَحيحةٍ، ولو قِيل: (ضِياءً) لَصارتِ الفاصلةُ هَمزةً، والهمزةُ قريبةٌ مِن حُروفِ العِلةِ، فيَثقُلُ الوقفُ عليها [141] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/203). .
4- قولُه تعالَى: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا أنشَأَ الاستدلالُ بخلْقِ السَّمواتِ حُضورَ الأرضِ في الخَيالِ؛ فأعقَبَ نوحٌ عليه السَّلامُ به دَليلَه السَّابقَ، استِدلالًا بأعجَبِ ما يَرَونه مِن أحوالِ ما على الأرضِ، وهو حالُ الموتِ والإقبارِ، ومهَّدَ لذلك بما يَتقدَّمُه مِن إنشاءِ النَّاسِ، وأُدمِجَ في ذلك تَعليمُهم بأنَّ الإنسانَ مَخلوقٌ مِن عناصرِ الأرضِ مِثلَ النَّباتِ، وإعلامُهم بأنَّ بعْدَ الموتِ حياةً أخرى [142] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/204). .
- قولُه: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا التَّقديرُ: أنشَأَ آدَمَ مِن الأرضِ، وصارتْ ذُرِّيَّتُه منه، فصَحَّ نِسبتُهم كلِّهم إلى أنَّهم أُنبِتوا منها، وأُطلِقَ على معْنى (أنشَأَكُم) فِعلُ أَنْبَتَكُمْ؛ للمُشابَهةِ بيْنَ إنشاءِ الإنسانِ وإنباتِ النَّباتِ مِن حيثُ إنَّ كِلَيهما تكوينٌ، كما قال تعالَى: وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا [آل عمران: 37] ، أي: أنْشَأَها، وكما يَقولون: زَرَعَك اللهُ للخَيرِ، ويَزيدُ وَجْهَ الشَّبَهِ هنا قُربًا مِن حيث إنَّ إنشاءَ الإنسانِ مُركَّبٌ مِن عناصرِ الأرضِ [143] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/618)، ((تفسير البيضاوي)) (5/249)، ((تفسير أبي حيان)) (10/284)، ((تفسير أبي السعود)) (9/39)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/204)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/229). .
- ولَفظُ نَبَاتًا اسمٌ مِن (أنْبَتَ)، عُومِلَ مُعامَلةَ المصدرِ، فوَقَع مَفعولًا مُطلقًا لـ أَنْبَتَكُمْ، ولم يَجْرِ على قِياسِ فِعلِه فيُقال: (إنْباتًا)؛ لأنَّ (نَباتًا) أخفُّ، فلمَّا تَسنَّى الإتيانُ به -لأنَّه مُستعمَلٌ فَصيحٌ- لم يُعدَلْ عنه إلى الثَّقيلِ كَمالًا في الفَصاحةِ، بخِلافِ قولِه بعْدَه: إِخْرَاجًا؛ فإنَّه لم يُعدَلْ عنه إلى (خروجًا)؛ لعدَمِ مُلاءَمتِه لألفاظِ الفواصلِ قبْلَه المَبْنيَّةِ على ألِفٍ مِثلِ ألِفِ التَّأسيسِ [144] ألِفُ التَّأسيسِ: مِن مُصطَلحاتِ عِلمِ العَروضِ والقافيةِ، وهو كلُّ ألِفٍ وقعَتْ في القافيةِ وبيْنَها وبيْن الرَّويِّ حرفٌ مُتحرِّكٌ يُسمَّى هذا الحَرْفُ المتحرِّكُ الدَّخيلَ، والتَّأسيسُ يَلزَمُ ذلك الموضِعَ في القَصيدةِ كُلِّها؛ ففي قولِ زيادِ بنِ مُعاويةَ الذُّبْيانيِّ -وهو في ((ديوانه)) (ص: 47)-: كِلِيني لِهَمٍّ يا أُمَيْمَة ناصِبِ                 ولَيْلٍ أُقاسِيهِ بَطيءِ الكواكِبِ الألِفُ مِن «كواكِبِ» تأسِيسٌ، والكافُ دَخيلٌ، والباءُ رَويٌّ، والياءُ المتولِّدةُ مِن كَسْرةِ الباءِ وصْلٌ. يُنظر: ((القوافي)) للأخفش الأوسط (ص: 28)، ((أمالي ابن الشجري)) (2/491)، ((العِقد الفريد)) لابن عبد ربه (6/343)، ((عِلم العَروض والقافية)) لعبد العزيز عتيق (ص: 136). ، فكما تُعَدُّ مُخالفتُها في القافيةِ عَيبًا، كذلك تُعَدُّ المُحافَظةُ عليها في الأسجاعِ والفواصلِ كَمالًا. ويجوزُ أن يكونَ الأصلُ (أنبَتَكُم مِن الأرضِ إنباتًا، فنبَتُّم نباتًا)، فحُذِفَ مِن الجُملةِ الأُولى المصدرُ، ومِن الثَّانيةِ الفعلُ؛ اكتِفاءً في كلٍّ منهُمَا بما ذُكِرَ في الأُخرى [145] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/618)، ((تفسير البيضاوي)) (5/249)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/37)، ((تفسير أبي حيان)) (10/284)، ((تفسير أبي السعود)) (9/39)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/204، 205). .
وهذا مِن بَديعِ القُرآنِ، لا تَرى العُدولَ مِن لَفظٍ إلى آخَرَ إلَّا لمعْنًى، والنَّحْويُّ يقولُ: أُجريَ المصدَرُ على غيرِ فِعلِه، وصاحبُ المعاني يقولُ: له فائدةٌ في التَّحقيقِ وراءَ هذا؛ وهو التَّنبيهُ على تَحتُّمِ القُدرةِ، وسُرعةِ نَفاذِ حُكْمِها، حتَّى كأنَّ إنباتَ اللهِ تعالَى نفْسُ نَباتِهم، أي: إذا وُجِدَ مِن اللهِ الإنباتُ وُجِدَ لهم النَّباتُ حتْمًا، فكان أحدُ الأمْرَينِ عيْنَ الآخَرِ، فقُرِنَ به [146] يُنظر: ((تفسير الزمخشري - حاشية ابن المُنَيِّر)) (2/331)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/37). .
- وقد أُدمِجَ الإنذارُ بالبعثِ في خلالِ الاستِدلالِ، ولِكَونِه أهَمَّ رُتبةً مِن الاستدلالِ عليهم بأصلِ الإنشاءِ، عُطِفَتِ الجُملةُ بحرْفِ (ثُمَّ) الدَّالَّةِ على التَّراخي الرُّتبيِّ في قولِه: ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا؛ لأنَّ المقصودَ مِن الجُملةِ هو فِعلُ (يُخرِجُكم)، وأمَّا قولُه: ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فهو تَمهيدٌ له [147] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/205). .
- وأُكِّدَ (يُخْرِجُكُمْ) بالمفعولِ المُطلَقِ إِخْرَاجًا؛ لرَدِّ إنكارِهم البعثَ [148] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/205). .
5- قولُه تعالَى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا * لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا استِدلالٌ وامتِنانٌ؛ ولذلك عُلِّقَ بفِعلِ جَعَلَ مَجرورٌ بلامِ التَّعليلِ، وهو لَكُمُ، أي: لأجْلِكم [149] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/205). .
- وتَوسيطُ لَكُمُ بيْن الجَعْلِ ومَفعولَيهِ في قولِه: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا مع أنَّ حقَّه التَّأخيرُ؛ للاهتِمامِ ببَيانِ كَونِ المَجعولِ مِن مَنافِعِهم، والتَّشويقِ إلى المؤخَّرِ؛ فإنَّ النَّفْسَ عندَ تأخيرِ ما حقُّه التَّقديمُ -ولا سِيَّما عندَ كَونِ المُقدَّمِ مُلوِّحًا بكَونِه مِن المنافعِ- تَبْقَى مُترقِّبةً له، فيَتمكَّنُ عندَ وُرودِه لها فضْلَ تَمكُّنٍ [150] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/39، 40). .
- والبِساطُ: ما يُفرَشُ للنَّومِ عليه، والجلوسِ؛ مِن ثَوبٍ أو زَرْبيَّةٍ [151] الزَّرْبيَّة: الوِسادةُ تُبسَطُ للجُلوسِ عليها، والجمع: زَرابيُّ. يُنظر: ((لسان العرب)) لابن منظور (1/447)، ((المعجم الوسيط)) (1/391). ؛ فالإخبارُ عن الأرضِ ببِساطٍ تَشبيهٌ بَليغٌ، أي: كالبِساطِ، ووَجْهُ الشَّبَهِ: تَناسُبُ سطْحِ الأرضِ في تَعادُلِ أجزائِه بحيث لا يُوجِعُ أرجُلَ الماشينَ، ولا يُقِضُّ جُنوبَ المُضطجعينَ [152] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/205). .
- وليس المرادُ أنَّ اللهَ جَعَلَ حجْمَ الأرضِ كالبِساطِ؛ لأنَّ حجْمَ الأرضِ كُرَويٌّ، وقد نبَّهَ على ذلك بالعِلَّةِ الباعثةِ في قولِه: لَكُمُ، والعِلَّةِ الغائيَّةِ في قولِه: لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا، وحَصَلَ مِن مَجموعِ العِلَّتينِ الإشارةُ إلى جَميعِ النِّعَمِ الَّتي تَحصُلُ للنَّاسِ مِن تَسويةِ سطْحِ الأرضِ مِثل الحرْثِ والزَّرعِ، وإلى نِعمةٍ خاصَّةٍ، وهي السَّيرُ في الأرضِ، وخُصَّت بالذِّكرِ؛ لأنَّها أهمُّ؛ لاشتِراكِ كلِّ الناسِ في الاستفادةِ منها [153] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/205). .