موسوعة التفسير

سورةُ نوحٍ
الآيات (21-25)

ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ

غريب الكلمات:

خَسَارًا: أي: خُسْرانًا، والخُسْرانُ فى البيعِ: انتِقاصُ رأسِ المالِ، وأصلُ (خَسِرَ): يدُلُّ على النَّقصِ [154] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/442)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/182)، ((المفردات)) للراغب (ص: 281)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (2/537). .
كُبَّارًا: أي: كَبيرًا عَظيمًا، يُقالُ: كَبِيرٌ، وكُبَارٌ: بالتَّخفيفِ، وكُبَّارٌ: بالتَّشديدِ؛ كُلُّها بمعنًى واحِدٍ، وأصلُ (كبر): يدُلُّ على خِلافِ الصِّغَرِ [155] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/153)، ((البسيط)) للواحدي (22/263)، ((تفسير البغوي)) (8/232). .
لَا تَذَرُنَّ: أي: لا تَدَعُنَّ، فهو بوَزْنِ وَدَعَ الشَّيءَ يَدَعُه وَدْعًا، ومَعْناه، والمُضارِعُ منه: يَذَرُ، والأمْرُ منه: ذَرْ، ولم يَرِدْ في اللُّغةِ استِعْمالُ ماضِيه ولا مَصْدَرِه، وهو بمعنَى التَّرْكِ والإهمالِ [156] يُنظر: ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 160)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (9/ 368). .

المعنى الإجمالي:

يَحكي الله تعالى تضَرُّعَ نُوحٍ إليه، وشَكْواه مِن تعنُّتِ قَومِه، فيقولُ: قال نوحٌ: ربِّ إنَّ قَومي عَصَوني، واتَّبَعوا المُبطِلينَ الَّذين لم تَزِدْهم كَثرةُ أموالِهم وأولادِهم إلَّا هَلاكًا وضَلالًا، ومَكَروا مَكْرًا كبيرًا جدًّا، وقال بعضُهم لبَعضٍ: لا تَترُكوا أصنامَكم الَّتي يَنْهاكم نوحٌ عن عبادتِها، ولا تَترُكوا وَدًّا، ولا سُواعًا، ولا يَغُوثَ ويَعوقَ ونَسْرًا!
وقد أضَلُّوا كثيرًا مِنَ النَّاسِ عن طَريقِ الحَقِّ، ولا تَزِدْ -يا رَبِّ- هؤلاءِ الظَّالِمينَ بالشِّركِ والتَّكذيبِ إلَّا ضَلالًا عن الحَقِّ.
ثمَّ يذكُرُ سبحانَه عقوبةَ قومِ نوحٍ الدُّنيويَّةَ والأخرويَّةَ، فيقولُ: بسَبَبِ ذُنوبِهم أغرَقَهم اللهُ، فأُدخِلوا نارًا يُعذَّبونَ فيها، فلم يَجِدوا حينَها مَن يَنصُرُهم، ويَمنَعُهم مِن عذابِ اللهِ.

تفسير الآيات:

قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ نوحًا عليه السَّلامُ لَمَّا دعا قَومَه إلى اللهِ، ونَبَّهَهم على هذه الدَّلائِلِ الظَّاهِرةِ؛ حكَى عنهم أنواعَ قَبائِحِهم وأقوالِهم وأفعالِهم [157] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/655). .
قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي.
أي: قال نُوحٌ: ربِّ إنَّ قَومي خالَفوا ما أمَرْتُهم به، ورَدُّوا ما دعَوتُهم إليه، فلم يتَّبِعوني على الحَقِّ [158] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/301)، ((تفسير القرطبي)) (18/306)، ((تفسير ابن كثير)) (8/234)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/446)، ((تفسير السعدي)) (ص: 889). .
كما قال تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ * فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [القمر: 9، 10].
وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا.
أي: واتَّبَعوا على الباطِلِ أبناءَ الدُّنيا الَّذين لم تَزِدْهم كَثرةُ أموالِهم وأولادِهم إلَّا هَلاكًا وبُعْدًا مِن اللهِ، وضَلالًا عن الحَقِّ [159] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/301)، ((تفسير ابن كثير)) (8/234)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/447، 448)، ((تفسير السعدي)) (ص: 889)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/206، 207). .
وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22).
أي: ومَكَروا مكرًا كبيرًا جدًّا بنوحٍ والَّذينَ آمَنوا معه [160] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/302)، ((تفسير ابن كثير)) (8/234)، ((تفسير السعدي)) (ص: 889)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/207). قال البغوي: (واختَلَفوا في مَكرِهم. قال ابنُ عبَّاسٍ: قالوا قولًا عظيمًا. قال الضَّحَّاكُ: افتَرَوْا على الله كَذِبًا، وكذَّبوا رُسُلَه. وقيل: مَنَع الرُّؤساءُ أتْباعَهم عن الإيمانِ بنوحٍ، وحَرَّضوهم على قتلِه). ((تفسير البغوي)) (5/157). وقال ابن كثير: (والمعنَى في قولِه: وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا أي: بأتْباعِهم في تَسويلِهم لهم بأنَّهم على الحقِّ والهدَى، كما يقولونَ لهم يومَ القيامةِ: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا [سَبَأٍ:33]). ((تفسير ابن كثير)) (8/234). .
كما قال تعالى: وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ [إبراهيم: 46] .
وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23).
وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ.
أي: وقال بعضُهم لبَعضٍ: لا تَترُكوا أصنامَكم الَّتي يَنهاكم نوحٌ عن عبادتِها [161] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/303)، ((تفسير السمرقندي)) (3/501)، ((تفسير الشوكاني)) (5/360)، ((تفسير السعدي)) (ص: 889)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/207). !
وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا.
أي: ولا تَترُكوا عِبادةَ الصَّالِحينَ: وَدٍّ، وسُواعٍ، ويَغُوثَ، ويَعوقَ، ونَسرٍ [162] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/303)، ((تفسير القرطبي)) (18/307)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (14/363)، ((تفسير ابن كثير)) (8/234)، ((تفسير السعدي)) (ص: 889)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/208). !
قال عَطاءٌ: عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما: (صارت الأوثانُ الَّتي كانت في قَومِ نوحٍ في العَرَبِ بَعْدُ؛ أمَّا وَدٌّ كانت لكَلبٍ بدَومةِ الجَنْدلِ، وأمَّا سُواعٌ كانت لهُذَيلٍ، وأمَّا يَغُوثُ فكانت لِمُرادٍ، ثمَّ لبَني غُطَيفٍ بالجَوفِ عندَ سَبَإٍ، وأمَّا يَعوقُ فكانت لهَمْدانَ، وأمَّا نَسْرٌ فكانت لِحِمْيَرٍ؛ لآلِ ذي الكَلاعِ؛ أسماءُ رِجالٍ صالحينَ مِن قَومِ نُوحٍ، فلمَّا هَلَكوا أوحى الشَّيطانُ إلى قَومِهم: أنِ انصِبوا إلى مجالِسِهم الَّتي كانوا يَجلِسونَ أنصابًا، وسَمُّوها بأسمائِهم، ففعَلوا، فلم تُعبَدْ، حتَّى إذا هلَكَ أولئك، وتنَسَّخَ [163] وتنَسَّخَ: أي: تغيَّر العِلمُ بها، وزالت المعرفةُ بحالِها. يُنظر: ((إرشاد الساري)) للقَسْطَلَّاني (7/401). وفي رواية أبي ذَرٍّ والكُشْمِيهَني: (ونُسِخ العِلمُ)، أي: عِلمُ تلك الصُّوَرِ بخُصوصِها. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (8/669). العِلمُ، عُبِدَت!) [164] رواه البخاري (4920). .
وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24).
وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا.
أي: وقد أضَلُّوا كثيرًا مِنَ النَّاسِ عن طَريقِ الحَقِّ [165] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/305)، ((الوسيط)) للواحدي (4/359، 360)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/344)، ((تفسير القرطبي)) (18/310)، ((تفسير السعدي)) (ص: 889). قال ابنُ الجوزي: (قولُه عزَّ وجَلَّ: وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا فيه قولانِ؛ أحَدُهما: وقد أضَلَّت الأصنامُ كثيرًا مِن النَّاسِ، أي: ضَلُّوا بسبَبِها. والثَّاني: وقد أضَلَّ الكُبَراءُ كَثيرًا مِنَ النَّاسِ). ((تفسير ابن الجوزي)) (4/344). وممَّن ذهب إلى القولِ الأوَّلِ: ابنُ جرير، واختاره ابنُ كثير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/ 305)، ((تفسير ابن كثير)) (8/236). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: الحسَنُ. يُنظر: ((تفسير ابن أبي زمنين)) (5/42). وممَّن ذَهَب إلى القَولِ الثَّاني: ابنُ عطيَّةَ، والقُرطبيُّ، والسعديُّ. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/ 376)، ((تفسير القرطبي)) (18/310)، ((تفسير السعدي)) (ص: 889). وممَّن جمَع بيْن القولَينِ: البِقاعي. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/451). .
كما قال تعالى حكايةً عن دُعاءِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ [إبراهيم: 35، 36].
وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا.
أي: ولا تَزِدْ هؤلاءِ الظَّالِمينَ بالشِّركِ والكُفرِ والتَّكذيبِ إلَّا ضَلالًا عن الحَقِّ؛ حتَّى يَموتوا على ضلالِهم، ويَزدادوا إثمًا وعُقوبةً على باطِلِهم [166] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/305)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/7746)، ((تفسير الماوردي)) (6/105)، ((تفسير القرطبي)) (18/310). قال الواحدي: (هذا دعاءٌ عليهم بعدَ أن أعلَمَه اللهُ أنَّهم لا يُؤمِنونَ، وهو قَولُه: أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ [هود: 36]). ((الوسيط)) (4/360). ويُنظر: ((تفسير الماتريدي)) (10/235). وقال ابن كثير: (دعاءٌ منه على قَومِه؛ لتمَرُّدِهم وكُفرِهم وعِنادِهم، كما دعا موسى على فِرعَونَ ومَلَئِه في قولِه: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [يونس: 88] ). ((تفسير ابن كثير)) (8/236). ويُنظر: ((تفسير السمعاني)) (6/60). .
كما قال تعالى: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [آل عمران: 178] .
وقال سُبحانَه: قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا [مريم: 75] .
وقال عزَّ وجلَّ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الأحقاف: 10] .
مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25).
مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا.
أي: بسَبَبِ ذُنوبِهم أغرَقَهم اللهُ، فأُدخِلوا نارًا يُعذَّبونَ فيها [167] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/306)، ((الوسيط)) للواحدي (4/360)، ((تفسير ابن كثير)) (8/236)، ((تفسير السعدي)) (ص: 889)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/212). قال ابنُ عاشور: (جَمعُ الخَطيئاتِ مرادٌ بها: الإشراكُ، وتكذيبُ الرَّسولِ، وأذاه، وأذى المؤمِنينَ معه، والسُّخْريةُ منه حينَ توَعَّدَهم بالطُّوفانِ، وما يَنطوي عليه ذلك كُلُّه مِن الجرائِمِ والفواحِشِ). ((تفسير ابن عاشور)) (29/212). وقال الزمخشري: (جَعَل دُخولَهم النَّارَ في الآخِرةِ كأنَّه مُتعَقِّبٌ لإغراقِهم؛ لاقتِرابِه، ولأنَّه كائنٌ لا مَحالةَ، فكأنَّه قد كان، أو أُريدَ عَذابُ القَبرِ، ومَن مات في ماءٍ أو في نارٍ أو أكلَتْه السِّباعُ والطَّيرُ: أصابه ما يُصيبُ المقبورَ مِنَ العَذابِ). ((تفسير الزمخشري)) (4/620). وممَّن قال بأنَّ المرادَ بالنَّارِ المذكورةِ هنا: نارُ جهنَّمَ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، والسمرقنديُّ، والواحدي، والسمعاني، وابن عطية. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/451)، ((تفسير ابن جرير)) (23/306)، ((تفسير السمرقندي)) (3/502)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1138)، ((تفسير السمعاني)) (6/60)، ((تفسير ابن عطية)) (5/376). وممَّن قال بأنَّ المرادَ: عَذابُهم بالنَّارِ في قبورِهم: النَّسَفيُّ، والخازنُ، والألوسيُّ. يُنظر: ((تفسير النسفي)) (3/546)، ((تفسير الخازن)) (4/347)، ((تفسير الألوسي)) (15/88). ويُنظر ما يأتي (ص: 290). وقال البِقاعي: (فَأُدْخِلُوا أي: بقَهرِ القَهَّارِ في الآخرةِ الَّتي أوَّلُها البَرزَخُ يُعرضَونَ فيه على النَّارِ بُكْرةً وعَشِيًّا نَارًا أي: عَظيمةً جِدًّا أخَفُّها ما يكونُ مِن مبادِئِها في البَرزخِ، قال الشَّيخُ وليُّ الدِّينِ المَلَّويُّ: فعُذِّبوا في الدُّنيا بالغَرَقِ، وفي الآخِرةِ بالحَرقِ، والإياسِ مِن الرَّحمةِ، وأيُّ عذابٍ أشدُّ مِن ذلك؟!). ((نظم الدرر)) (20/453، 454). .
كما قال تعالى: وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ [الأنبياء: 77] .
وقال سُبحانَه: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ [العنكبوت: 14] .
فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا.
أي: فلم يَجِدْ قَومُ نوحٍ حينَ أُغرِقوا وأُدخِلوا النَّارَ أعوانًا ومُغيثِينَ يَنصُرونَهم، ويَمنَعونَ عنهم عذابَ اللهِ [168] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/307)، ((تفسير القرطبي)) (18/311)، ((تفسير ابن كثير)) (8/236)، ((تفسير السعدي)) (ص: 889)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/213). .
كما قال تعالى حاكيًا قَولَ ابنِ نُوحٍ: قَالَ سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ [هود: 43] .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ اللهِ تعالى: قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا هذه الآيةُ حُجَّةٌ على كُلِّ مَن عَوَّلَ على شَيءٍ غَيرِ اللهِ تعالى [169] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/659). .
2- قَولُ اللهِ تعالى: قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا نَصَّ تعالى هنا على أنَّ قَومَ نُوحٍ اتَّبَعوا مَن هذا وَصْفُه، مع أنَّ المالَ يَزيدُ الإنسانَ نَفعًا، وقد بيَّنَ تعالى أنَّ المالَ قد يُورِثُ خَسارةً وهَلاكًا، كما في قَولِه تعالى: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى [170] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/312). [العلق: 6، 7].

الفوائد العلمية واللطائف:

1- مِن أصولِ الشِّركِ باللهِ: اتِّخاذُ القُبورِ مَساجِدَ، كما قال طائفةٌ مِن السَّلَفِ في قَولِه تعالى: وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا: (هؤلاء كانوا قومًا صالِحينَ في قومِ نُوحٍ، فلمَّا ماتوا عَكَفوا على قُبورِهم، ثُمَّ صَوَّرُوا على صُوَرِهم تماثيلَ، ثُمَّ طال عليهم الأَمَدُ، فعبَدوها!)، وقد ذكر البُخاريُّ في صَحيحِه هذا المعنى عن ابنِ عَبَّاسٍ [171] أخرجه البخاري (4920). ، وذكره محمَّدُ بنُ جريرٍ الطَّبَريُّ وغيرُه في التَّفسيرِ [172] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/303). ، عن غيرِ واحدٍ مِنَ السَّلَفِ [173] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (27/191). .
2- في قَولِه تعالى: وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا حُجَّةٌ على المعتزلةِ والقَدَرِيَّةِ -المُنْكِرينَ أنَّ الهِدايةَ والإضلالَ بيَدِ اللهِ-؛ مِن أَجْلِ أنَّ نوحًا عليه السَّلامُ لا يجوزُ عليه أنْ يَدعوَ بالباطِلِ، ولا اللهُ تبارك وتعالى يُسْأَلُ باطِلًا، وقد سَأَلَه أنْ يَزيدَ الظَّالِمينَ ضَلالًا؛ فدلَّ على أنَّ الكفرَ الَّذي فيهم، والزَّائدَ بدُعائِه معًا: هو مِن عندِ رَبِّه [174] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/422). .
3- قَولُ اللهِ تعالى: مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا استُدِلَّ به على إثباتِ عَذابِ القَبرِ؛ وذلك مِن وجهَينِ:
الوجهُ الأوَّلُ: أنَّ الفاءَ في قَولِه: فَأُدْخِلُوا نَارًا تدُلُّ على أنَّه حَصَلت تلك الحالةُ عَقِيبَ الإغراقِ، فلا يمكِنُ حَملُها على عذابِ الآخِرةِ، وإلَّا بطَلَت دَلالةُ هذه الفاءِ.
الوَجهُ الثَّاني: أنَّه قال: فَأُدْخِلُوا على سَبيلِ الإخبارِ عن الماضي [175] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/659). .
4- في قَولِه تعالى: مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا دليلٌ على أنَّ اسمَ «الخطيئةِ» واقِعٌ على الكُفرِ، ومعناها أنَّها ضِدُّ الصَّوابِ، فمَن خالَفَ اللهَ سُبحانَه وتعالى في الإيمانِ الَّذي آمَنَ به، أو واقَعَ ما نهَى عنه مِن كُفْرٍ أو مَعصيةٍ؛ فهو مُخطئٌ غيرُ مُصيبٍ، وإنَّما تَختَلِفُ عُقوبةُ الفِعلَينِ فقط، فليس لِتَعَلُّقِ المُعتَزِلةِ في بابِ الوعيدِ باسمِ «خطيئةٍ ذُكِرَ في عقوبتِها خُلودٌ»: وَجهٌ [176] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/423). .

بلاغة الآيات :

1- قولُه تعالَى: قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا هذه الجُملةُ بدَلٌ مِن جُملةِ قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي [نوح: 5] بدَلَ اشتِمالٍ؛ لأنَّ حِكايةَ عِصيانِ قومِه إيَّاه ممَّا اشتَمَلَت عليه حِكايةُ أنَّه دَعاهم، فيَحتمِلُ أنْ تكونَ المَقالتانِ في وقْتٍ واحدٍ جاء فيه نُوحٌ إلى مُناجاةِ ربِّه بالجوابِ عن أمْرِه له بقولِه: أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [نوح: 1] ، فتَكونَ إعادةُ فِعلِ (قال) مِن قَبيلِ ذِكرِ عاملِ المُبدَلِ منه في البدَلِ؛ للرَّبطِ بيْنَ كَلامَيه؛ لطُولِ الفصلِ بيْنَهما، ويَحتمِلُ أنْ تكونَ المَقالتانِ في وَقتينِ جَمَعَها القرآنُ حِكايةً لجَوابَيه لربِّه، فتَكونَ إعادةُ فِعلِ (قال)؛ للإشارةِ إلى تَباعُدِ ما بيْن القولينِ. ويَجوزُ أنْ تكونَ الجُملةُ مُستأنَفةً استِئنافًا بَيانيًّا؛ لأنَّ ما سَبَقَها مِن قولِه: قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي إلى هنا، ممَّا يُثيرُ عَجَبًا مِن حالِ قومِه المَحكيِّ بحيث يَتساءَلُ السَّامعُ عن آخِرِ أمْرِهم، فابتُدِئَ ذِكرُ ذلك بهذه الجُملةِ وما بعْدَها إلى قولِه: أَنْصَارًا [نوح: 25] ، وتأْخيرُ هذا عن قولِه: قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا [نوح: 5] ارتقاءٌ في التَّذمُّرِ منهم؛ لأنَّ هذا حِكايةُ حُصولِ عِصيانِهم بعدَ تَقديمِ الموعظةِ إليهم بقولِه: يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا إلى قولِه: سُبُلًا فِجَاجًا [177] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/40)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/206). [نوح: 11- 20] .
- وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ قالَ تعالَى هنا: (قَالَ نُوحٌ) بغيرِ واوٍ، ثمَّ قال: وَقَالَ نُوحٌ [نوح: 26] ، بزِيادةِ الواوِ؛ لأنَّ الأوَّلَ ابتداءُ دُعاءٍ، والثَّانيَ عُطِفَ عليه [178] يُنظر: ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 241)، ((بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز)) للفيروزابادي (1/482)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 583). .
- وإظهارُ اسمِ نُوحٍ مع القولِ الثَّاني دونَ إضمارٍ؛ لبُعدِ مَعادِ الضَّميرِ لو تَحمَّلَه الفعلُ [179] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/206). .
- قولُه: رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي ... هذا الخبَرُ مُستعمَلٌ في لازِمِ معناه، وهو الشِّكايةُ والتَّمهيدُ لطَلَبِ النَّصْرِ عليهم؛ لأنَّ المُخاطَبَ به عالِمٌ بمَدْلولِ الخبَرِ. وذلك ما سَيُفْضي إليه بقولِه: وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ... الآياتِ [نوح: 26] . وتأْكيدُ الخبرِ بـ (إنَّ)؛ للاهتمامِ بما استُعمِلَ فيه مِن التَّحسُّرِ والاستِنْصارِ [180] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/206). .
- وفي قولِه: وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا عَدَلَ عن التَّعبيرِ عن الكافِرينَ بالكُبراءِ ونحْوِه إلى المَوصولِ؛ لِما تُؤذِنُ به الصِّلةُ مِن بَطَرِهم نِعمةَ اللهِ عليهم بالأموالِ والأولادِ، فقَلَبوا النِّعمةَ عندَهم مُوجِبَ خَسارٍ وضَلالٍ [181] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/206). .
- وأُدمِجَ في الصِّلةِ أنَّهم أهلُ أموالٍ وأولادٍ؛ إيماءً إلى أنَّ ذلك سَببُ نَفاذِ قولِهم في قَومِهم، وائتمارِ القَومِ بأمْرِهم؛ فأمْوالُهم إذ أنْفَقوها لتأْليفِ أتْباعِهم؛ قال تعالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنفال: 36] ، وأولادُهم أرْهَبوا بهم مَن يُقاوِمُهم [182] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/206، 207). . ففي وصْفِهم بذلكَ إشعارٌ بأنَّهم إنَّما اتَّبَعوهم لوَجاهتِهم الحاصِلةِ لهم بسَببِ الأموالِ والأولادِ، لا لِما شاهَدُوا فيهم مِن شُبهةٍ مُصحِّحةٍ للاتِّباعِ في الجُملةِ [183] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/40). .
- وجَعَل أموالَهم وأولادَهم الَّتي لم تَزِدْهم إلَّا وَجاهةً ومَنفعةً في الدُّنيا زائدةً خَسارًا في الآخرةِ، وأجْرى ذلك مُجرى صِفةٍ لازمةٍ لهم، وسِمةٍ يُعرَفون بها؛ تَحقيقًا له وتَثبيتًا، وإبطالًا لِما سِواه؛ فكنَّى عن الرُّؤساءِ بقولِه: مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا، كما يُكنَّى عن الإنسانِ بقولِهم: حَيٌّ مُستوي القامةِ، عَريضُ الأظفارِ؛ لأنَّه صِفةٌ لازِمةٌ، أي: كاشِفةٌ مُوضِّحةٌ، فنَفى عنهم جَميعَ وُجوهِ الأرباحِ والمنافعِ، وأثبَتَ لهم الخَسارَ [184] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/619)، ((تفسير البيضاوي)) (5/250)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/38)، ((تفسير أبي السعود)) (9/40). .
- والخَسارُ: مُعبَّرٌ به عن حُصولِ الشَّرِّ مِن وَسائلَ شأْنُها أنْ تكونَ سَببَ خيرٍ، كخَسارةِ التَّاجِرِ مِن حيثُ أرادَ الرِّبحَ، فإذا كان هؤلاء خاسِرينَ فالَّذين يَتْبَعونهم يَكونونَ مِثلَهم في الخسارةِ، وهم يَحسَبون أنَّهم أرْشَدوهم إلى النَّجاحِ [185] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/207). .
- وماصَدَقَ [186] الماصَدَق -عند المناطقة-: الأفرادُ الَّتي يتحقَّقُ فيها معنى الكُلِّيِّ، ويُقابِلُه: المفهومُ، وهو: مجموعُ الصِّفاتِ والخصائصِ الموضحةِ لمعنًى كلِّيٍّ. يُنظر: ((المعجم الوسيط)) (1/511) و(2/704). ويُنظر أيضًا: ((ضوابط المعرفة)) لحبنكة (ص: 45، 46). (مَن) فريقٌ مِن القومِ أهلُ مالٍ وأولادٍ ازْدادوا بذلك بَطَرًا دونَ الشُّكرِ، وهم سادَتُهم؛ ولذلك أُعِيدَ عليه ضَميرُ الجمْعِ في قولِه: وَمَكَرُوا، وقولِه: وَقَالُوا، وقولِه: وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا [187] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/207). [نوح: 24] .
2- قولُه تعالَى: وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا
- قولُه: كُبَّارًا مُبالَغةٌ، أي: كبيرًا جدًّا [188] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/619)، ((تفسير البيضاوي)) (5/250)، ((تفسير أبي السعود)) (9/40)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/207). .
3- قولُه تعالَى: وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا يَحتمِلُ أنْ يكونَ لقومِ نوحٍ أصنامٌ كثيرةٌ جَمَعَها قولُ كُبرائِهم: لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ، ثمَّ خَصُّوا بالذِّكرِ أعظَمَها، وهي هذه الخمسةُ، فيَكونَ ذِكرُها مِن عطْفِ الخاصِّ على العامِّ؛ للاهتِمامِ به. ويَحتمِلُ ألَّا يكونَ لهم غيرُ تلك الأصنامِ الخَمسةِ؛ فيَكونَ ذِكرُها مُفصَّلةً بعْدَ الإجمالِ؛ للاهتِمامِ بها، ويكونَ العطْفُ مِن قَبيلِ عطْفِ المُرادِفِ، ولقصْدِ التَّوكيدِ أُعِيدَ فِعلُ النَّهيِ وَلَا تَذَرُنَّ، ولم يُسلَكْ طَريقُ الإبدالِ، والتَّوكيدُ اللَّفظيُّ قدْ يُقرَنُ بالعاطِفِ كقولِه تعالَى: وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ [189] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/209). [الانفطار: 17، 18].
- وتَكريرُ (لا) النَّافيةِ في قولِه: وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ لتَأكيدِ النَّفيِ الَّذي في قولِه: لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ، وعدَمُ إعادةِ (لا) مع قولِه: وَيَعُوقَ وَنَسْرًا؛ لأنَّ الاستِعمالَ جارٍ على ألَّا يُزادَ في التَّأكيدِ على ثلاثِ مرَّاتٍ [190] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/209، 210). .
4- قولُه تعالَى: وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا
- يَجوزُ أنْ تكونَ جُملةُ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا تَتمَّةَ كلامِ نوحٍ، مُتَّصِلةً بحِكايةِ كَلامِه السَّابقِ، فتَكونَ الواوُ عاطفةً جُزءَ جُملةٍ مَقولةٍ لفِعلِ قَالَ [نوح: 21] على جُزئِها الَّذي قبْلَها عطْفَ المَفاعيلِ بَعضِها على بَعضٍ. ويجوزُ أنْ تكونَ هذه الجُملةُ غيرَ مُتَّصلةٍ بحِكايةِ كَلامِه في قولِه: قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي [نوح: 21] ، بلْ هو حِكايةُ كلامٍ آخَرَ له صدَرَ في مَوقفٍ آخَرَ؛ فتَكونَ الواوُ عاطفةً جُملةَ مَقولةِ قولٍ على جُملةِ مَقولةِ قولٍ آخَرَ، أي: نائبةٍ عن فِعلِ قَالَ [191] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/620)، ((تفسير أبي حيان)) (10/287)، ((تفسير أبي السعود)) (9/40، 41)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/210)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/233). . ويجوزُ أنْ تكونَ جُملةً مُعترِضةً، وهي مِن كَلامِ اللهِ تعالَى لنوحٍ عليه السَّلامُ، فتَكونَ الواوُ اعتراضيَّةً، ويُقدَّرُ قولٌ مَحذوفٌ: وقُلْنا: لا تَزِدِ الظَّالِمينَ، والمعنى: ولا تَزِدْ في دُعائِهم؛ فإنَّ ذلك لا يَزيدُهم إلَّا ضَلالًا، فالزِّيادةُ منه تَزيدُهم كُفرًا وعِنادًا. وبهذا يَبْقى الضَّلالُ مُستعمَلًا في معْناه المشهورِ في اصطلاحِ القُرآنِ، فصِيغةُ النَّهيِ مُستعمَلةٌ في التَّأييسِ مِن نفْعِ دَعوتِه إيَّاهم [192] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/211). .
- والمرادُ بالظَّالِمينَ: قومُه الَّذين عَصَوه، فكان مُقْتضى الظَّاهرِ التَّعبيرَ عنهم بالضَّميرِ عائدًا على قَوْمِي مِن قولِه: دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا [نوح: 5] ، فعُدِلَ عن الإضمارِ إلى الإظهارِ على خِلافِ مُقتضى الظَّاهرِ؛ لِما يُؤذِنُ به وصْفُ الظَّالِمينَ مِن استِحقاقِهم الحِرمانَ مِن عِنايةِ اللهِ بهم لظُلْمِهم، أي: إشراكِهم باللهِ [193] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/41)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/210، 211). .
- وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ قال هنا: وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا، وقال في آخِرِ السُّورةِ: وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا؛ فاختَصَّ الأوَّلَ بالإضلالِ، والثَّانيَ بالإهلاكِ الَّذي هو التَّبارُ؛ ووجْهُ ذلك: أنَّ الأوَّلَ جاء بعْدَ قولِه: وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا [نوح: 23] . وأمَّا الآخَرُ فخَتَمَه بقولِه: تَبَارًا، أي: هَلاكًا؛ مُوافَقةً لقولِه قبْلُ: رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا [194] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (ص: 1305، 1306)، ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 241)، ((ملاك التأويل)) للغرناطي (2/483)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (1/483)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 583). .
5- قولُه تعالَى: مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا جُملةٌ مُعترِضةٌ بيْنَ مَقالاتِ نوحٍ عليه السَّلامُ، وليستْ مِن حِكايةِ قولِ نوحٍ عليه السَّلامُ؛ فهي إخبارٌ مِن اللهِ تعالَى لرَسولِه محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنَّه قدَّرَ النَّصرَ لنُوحٍ والعِقابَ لِمَن عَصَوه مِن قَومِه قبْلَ أنْ يَسأَلَه نوحٌ استِئصالَهم، فإغراقُ قومِ نُوحٍ مَعلومٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وإنَّما قُصِدَ إعلامُه بَسببِه. والغرَضُ مِن الاعتراضِ بها التَّعجيلُ بتَسليةِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على ما يُلاقِيه مِن قَومِه ممَّا يُماثِلُ ما لاقاهُ نوحٌ عليه السَّلامُ مِن قَومِه. ويَجوزُ أنْ تكونَ مُتَّصِلةً بجُملةِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا [نوح: 24] على وَجْهِ أنْ تكونَ مِن كَلامِ اللهِ تعالَى الموجَّهِ إلى نوحٍ عليه السَّلامُ، بتَقديرِ: وقُلْنا: لا تَزِدِ الظَّالمينَ إلَّا ضَلالًا، وتَكونَ صِيغةُ المُضِيِّ في قولِه: أُغْرِقُوا مُستعمَلةً في تَحقُّقِ الوعدِ لنُوحٍ بإغراقِهم، وكذلك قولُه: فَأُدْخِلُوا نَارًا [195] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/212). .
وقيل: هو اعتراضٌ وُسِّطَ بيْنَ دُعائِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ للإيذانِ مِن أوَّلِ الأمرِ بأنَّ ما أصابَهم مِن الإغراقِ والإحراقِ لم يُصِبْهم إلَّا مِن أجْلِ خَطيئاتِهم الَّتي عدَّدَها نوحٌ عليه السَّلامُ، وأشارَ إلى استحقاقِهِم للإهلاكِ مِن أجْلِها، لا أنَّها حِكايةٌ لنفْسِ الإغراقِ والإحراقِ على طَريقةِ حِكايةِ ما جَرى بيْنَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وبيْنَهم مِن الأحوالِ والأقوالِ، وإلَّا لأُخِّرَ عن حِكايةِ دُعائِه: رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا [196] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/41). .
- وقُدِّمَ مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ على عامِلِه لإفادةِ القصْرِ [197] القَصرُ أو الحَصرُ: هو تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه؛ مِثل: إنَّما زيدٌ قائمٌ، و: ما ضربتُ إلَّا زيدًا. ويَنقسِمُ إلى قصرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقَصْرِ قَلْبٍ. ويَنقسِمُ القَصرُ أو الحَصرُ باعتبارٍ آخَرَ إلى ثلاثةِ أقسامٍ: قصْرُ إفرادٍ، وقصْرُ قَلْبٍ، وقَصْرُ تعيينٍ؛ فالأوَّل: يُخاطَبُ به مَن يَعتقدُ الشَّرِكةَ؛ نحو: إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ [النحل: 51] ، خُوطِبَ به مَن يَعتقدُ اشتِراكَ اللهِ والأصنامِ في الأُلوهيَّةِ. والثَّاني: يُخاطَبُ به مَن يَعتقدُ إثباتَ الحُكمِ لغيرِ مَن أثبتَه المُتكلِّمُ له؛ نحو: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [البقرة: 258] ، خُوطِبَ به نَمرودُ، الَّذي اعتَقد أنَّه هو المحيي المميتُ دون اللهِ. والثَّالثُ: يُخاطَبُ به مَن تَساوَى عندَه الأمْران، فلمْ يَحكُمْ بإثباتِ الصِّفةِ لواحدٍ بعَيْنِه، ولا لواحدٍ بإحْدى الصِّفتَينِ بعَيْنِها. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسَّكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقَزْويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجُرْجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/ 167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني (1/525). ، أي: أُغرِقوا فأُدخِلوا نارًا مِن أجْلِ مَجموعِ خَطيئاتِهم، لا لمُجرَّدِ استجابةِ دَعوةِ نوحٍ عليه السَّلامُ الَّتي ستُذكَرُ عقِبَ هذا؛ ليُعلَمَ أنَّ اللهَ لا يُقِرُّ عِبادَه على الشِّركِ بعْدَ أنْ يُرسِلَ إليهم رَسولًا، وإنَّما تأخَّرَ عَذابُهم إلى ما بعْدَ دَعوةِ نوحٍ عليه السَّلامُ؛ لإظهارِ كَرامتِه عندَ ربِّه بيْنَ قومِه، ومَسرَّةً له وللمؤمنينَ معه، وتَعجيلًا لِما يَجوزُ تأْخيرُه. و(مِن) تَعليليَّةٌ، و(ما) مُؤكِّدةٌ لمعْنى التَّعليلِ، والتَّفخيمِ [198] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/620)، ((تفسير البيضاوي)) (5/250)، ((تفسير أبي حيان)) (10/288)، ((تفسير أبي السعود)) (9/41)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/212). .
- قولُه: أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا المرادُ عَذابُ القَبرِ، أو عذابُ الآخِرةِ، والتَّعقيبُ بالفاءِ علَى الأوَّلِ ظاهرٌ، وهو على هذا لعَدَمِ الاعتِدادِ بما بيْنَ الإغراقِ والإدخالِ، فكأنَّه شبَّه تخلُّلَ ما لا يُعتَدُّ به بعدَمِ تَخلُّلِ شيءٍ أصلًا. أو لأنَّ المُسبَّبَ كالمُتعقِّبِ للسَّببِ وإنْ تَراخَى عنه لفَقْدِ شَرطٍ، أو وُجودِ مانعٍ، كما أنَّه عبَّر عن المُستقبَلِ بالماضي لتَحقُّقِه. ولا يَخفَى ما في أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا مِن الحُسنِ الذي لا يُجارَى، وللهِ تعالَى درُّ التَّنزيلِ [199] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/620، 621)، ((تفسير البيضاوي)) (5/250)، ((تفسير أبي حيان)) (10/288)، ((تفسير أبي السعود)) (9/41)، ((تفسير الألوسي)) (15/88). .
- قوله: مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا [نوح: 25] فيه ما يعرف بالطباق الخفي، وهو أن تكونَ الضِّدِّيَّةُ في الصُّورةِ متَوهَّمةً، فتَبدو المُطابَقةُ خفيَّةً لتعلُّقِ أحدِ الرُّكنَينِ بما يُقابِلُ الآخَرَ تعلُّقَ السَّببيَّةِ أو اللُّزومِ؛ فإنَّ إدخالَ النَّارِ يستلزِمُ الإحراقَ المُضادَّ للإغراقِ [200] يُنظر: ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (3/455 - 457)، ((خزانة الأدب)) للحموي (1/159، 160)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (ص: 567). .
- وتَنكيرُ النَّارِ إمَّا لتَعظيمِها وتَهويلِها، أو لأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ أعدَّ لهم على حسَبِ خَطيئاتِهم نَوعًا مِن النارِ [201] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/620)، ((تفسير البيضاوي)) (5/250)، ((تفسير أبي السعود)) (9/41). .
- وتَفريعُ فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا تَعريضٌ بالمشرِكين مِن العرَبِ الَّذين كانوا يَزعُمون أنَّ الأصنامَ تَشفَعُ لهم، وتَدفَعُ عنهم الكَوارثَ -أي: في الدُّنيا؛ لأنَّهم لا يُؤمِنون بالبعثِ-، وتَهكُّمٌ بهم، كأنَّه قال: فلمْ يَجِدوا لهم مِن دونِ اللهِ آلهةً يَنصُرونهم، ويَمنَعونهم مِن عَذابِ اللهِ [202] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/620، 621)، ((تفسير البيضاوي)) (5/250)، ((تفسير أبي حيان)) (10/288)، ((تفسير أبي السعود)) (9/41)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/212، 213). .