موسوعة التفسير

سورةُ الأحزابِ
الآيات (32-34)

ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ

غَريبُ الكَلِماتِ:

فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ: أي: لا تَلِنَّ بالقولِ، والخُضوعُ بالقَولِ: تَرقيقُ الكَلامِ إذا خاطَبْنَ الرِّجالَ، وأصلُ (خضع) هنا: تَطامُنٌ في الشَّيءِ [560] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 350)، ((تفسير ابن جرير)) (19/94)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/189)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 300)، ((تفسير ابن كثير)) (6/409). .
وَقَرْنَ: أي: اثبُتْنَ واسْكُنَّ، مِنَ القَرارِ في المكانِ: بمعنى الاستِقرارِ فيه، وأصلُ (قرر): يدُلُّ على التَّمَكُّنِ [561] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 350)، ((تفسير ابن جرير)) (19/96)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/7)، ((مختار الصحاح)) للرازي (ص: 250)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 340)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 739). .
وَلَا تَبَرَّجْنَ: أي: لا تُبْرِزنَ مَحاسِنَكنَّ وتُظهِرْنَها، وأصلُ (برج): يدُلُّ على بُروزٍ وظُهورٍ [562] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/97)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 153)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/238)، ((تفسير القرطبي)) (14/179)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 341)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 976). .
الْجَاهِلِيَّةِ: الجاهِلِيَّةُ: مَنسوبةٌ إلى الجَهلِ، وهي مُتضمِّنةٌ لعدَمِ العِلمِ، أو لعَدَمِ العَمَلِ به، وأصلُ (جهل): يدُلُّ على خِلافِ العِلمِ [563] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/97، 99)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/489)، ((المفردات)) للراغب (ص: 209)، ((تفسير القرطبي)) (14/179)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/540)، ((الفوائد)) لابن القيم (ص: 109). قال ابنُ تيميَّةَ: (ولفظُ الجاهليَّةِ قد يكونُ اسمًا للحالِ، وهو الغالِبُ في الكتابِ والسُّنَّةِ، وقد يكونُ اسمًا لِذِي الحالِ؛ فمِنَ الأوَّلِ قَولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأبي ذَرٍّ رَضِيَ الله عنه: «إنَّك امرُؤٌ فيك جاهليَّةٌ» [البخاري «30»، ومسلم «1661»]... فإنَّ الجاهليَّةَ وإن كانت في الأصلِ صِفةً لكِنَّه غَلَب عليه الاستعمالُ حتَّى صار اسمًا، ومعناه قريبٌ مِن معنى المصدرِ. وأمَّا الثَّاني فتقولُ: طائفةٌ جاهليَّةٌ، وشاعرٌ جاهليٌّ؛ وذلك نسبةً إلى الجَهلِ الَّذي هو عدَمُ العِلمِ، أو عدَمُ اتِّباعِ العِلمِ؛ فإنَّ مَن لم يعلَمِ الحَقَّ فهو جاهِلٌ جهلًا بسيطًا، فإن اعتَقَد خلافَه فهو جاهِلٌ جَهلًا مُركَّبًا، فإن قال خلافَ الحَقِّ عالِمًا بالحَقِّ، أو غيرَ عالمٍ، فهو جاهِلٌ أيضًا). ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/254). .
الرِّجْسَ: أي: الإثمَ والقَذَرَ، والسُّوءَ والفَحشاءَ، وأصلُ (رجس): يدُلُّ على اختِلاطٍ [564] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 145)، ((تفسير ابن جرير)) (19/101)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/490)، ((المفردات)) للراغب (ص: 342)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 300). .

المعنى الإجماليُّ:

يقولُ تعالى: يا أزواجَ النَّبيِّ لَسْتُنَّ كأيِّ امرأةٍ مِن النِّساءِ في الفَضلِ والشَّرَفِ إنِ اتَّقَيْتُنَّ اللهَ تعالى؛ فلا تُلِنَّ كلامَكُنَّ للرِّجالِ على وجهٍ فيه خُضوعٌ، فيَطمَعَ مَن في قَلبِه مَرَضُ الشَّهوةِ، وإرادةُ الفُجورِ، وتكلَّمْنَ بكلامٍ مُباحٍ حَسَنٍ لا خُشونةَ فيه ولا بَذاءةَ، والْزَمْنَ بُيوتَكنَّ إلَّا لحاجةٍ، ولا تُظْهِرْنَ زينَتَكنَّ كعادةِ نِساءِ الجاهليَّةِ، وأقمِنْ الصَّلاةَ وآتِينَ الزَّكاةَ، وأطِعْنَ اللهَ ورَسولَه.
إنَّما يريدُ اللهُ أن يُذهِبَ عنكم مَساوِئَ الأخلاقِ والأعمالِ -يا أهلَ بَيتِ محمَّدٍ- ويُطَهِّرَكم تَطهيرًا.
 واذكُرْنَ -يا أزواجَ النَّبيِّ- ما يُتلَى في بُيوتِكنَّ مِن آياتِ القُرآنِ والسُّنةِ؛ إنَّ اللهَ كان لطيفًا خبيرًا.

تَفسيرُ الآياتِ:

يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) .
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ.
أي: يا أزواجَ النَّبيِّ لَستُنَّ مُساوياتٍ أو مُشابِهاتٍ لأيِّ امرأةٍ أخرى مِنَ النِّساءِ في الفَضلِ والشَّرفِ، إنِ اتَّقيتُنَّ اللهَ بفِعلِ أوامِرِه، واجتِنابِ نَواهيه [565] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/94)، ((تفسير القرطبي)) (14/177)، ((تفسير ابن كثير)) (6/408)، ((تفسير الألوسي)) (11/185)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/6، 7)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الأحزاب)) (217، 218). قال ابنُ جُزَي: (فضَّلهنَّ الله على النِّساءِ بشرطِ التقوَى، وقد حصَل لهنَّ التقوَى، فحصَل التفضيلُ على جميعِ النِّساءِ، إلَّا أنَّه يخرُجُ مِن هذا العُمومِ فاطِمةُ بنتُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومريمُ بنتُ عِمرانَ، وآسيةُ امرأةُ فرعونَ؛ لِشَهادةِ رَسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم لكُلِّ واحدةٍ منهُنَّ بأنَّها سَيِّدةُ نِساءِ عالَمِها). ((تفسير ابن جزي)) (2/151). .
فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ.
أي: فلا تُلِنَّ كَلامَكنَّ للرِّجالِ على وَجهٍ فيه خُضوعٌ وانكِسارٌ لهم، فيَطمَعَ فِيكُنَّ مَن في قَلبِه مَرَضُ الشَّهوةِ المحَرَّمةِ، وإرادةُ الفُجورِ [566] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/94، 95)، ((تفسير البغوي)) (3/635)، ((تفسير القرطبي)) (14/177)، ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/14)، ((تفسير ابن كثير)) (6/409)، ((تفسير السعدي)) (ص: 663). .
وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا نهاهُنَّ عن الخُضوعِ في القَولِ، فرُبَّما تُوهِّمَ أنَّهنَّ مَأموراتٌ بإغلاظِ القَولِ، فدفَعَ هذا بقَولِه [567] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 663). :
وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا.
أي: وتَكلَّمْنَ بكَلامٍ مُباحٍ حَسَنٍ، بلا خُشونةٍ وغِلظةٍ، ولا بَذاءةٍ [568] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/95)، ((الوسيط)) للواحدي (3/469)، ((تفسير الخازن)) (3/424)، ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/14)، ((تفسير السعدي)) (ص: 664)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/9). قال الشوكاني: (وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا عندَ النَّاسِ، بعيدًا مِن الرِّيبةِ، على سَننِ الشَّرعِ، لا يُنكِرُ سامِعُه شيئًا، ولا يَطمعُ فيهنَّ أهلُ الفِسقِ والفُجورِ بسبَبِه). ((تفسير الشوكاني)) (4/319). .
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا تَقدَّمَ إليهِنَّ في القَولِ وقَدَّمَه لِعُمومِه؛ أتْبَعَه الفِعلَ، فقال [569] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/344). :
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
في قَولِه تعالى: وَقَرْنَ قِراءتانِ:
1- قِراءةُ وَقَرْنَ بمعنى الاستِقرارِ، أي: واقْرَرْنَ في بُيوتِكنَّ [570] قرأ بها نافع، وعاصم، وأبو جعفر المدني. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/348). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((تفسير ابن جرير)) (19/96)، ((الحجة)) لابن خالويه (ص: 290)، ((معاني القراءات)) للأزهري (2/282)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 577). .
2- قِراءةُ وَقِرْنَ وفي معناها وجهان؛ الأوَّلُ: كُنَّ أهلَ وَقارٍ وسَكينةٍ، والثَّاني: القَرارُ في البُيوتِ، وعلى هذا الوجهِ تَكونُ القِراءتانِ بمعنًى واحدٍ [571] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/348). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((تفسير ابن جرير)) (19/96)، ((الحجة في القراءات السبع)) لابن خالويه (ص: 290)، ((معاني القراءات)) للأزهري (2/283)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 577، 578). .
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ.
أي: والْزَمْنَ -يا نِساءَ النَّبيِّ- بُيوتَكنَّ، فلا تَخرُجْنَ منها لِغَيرِ حاجةٍ [572] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/409)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/344)، ((تفسير السعدي)) (ص: 664)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/10). قيل: يَدخُلُ في هذا الخِطابِ لنِساءِ النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- غيرُهنَّ مِن النِّساءِ. وممَّن قال بهذا: القرطبيُّ. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (14/179). وقيل: وُجوبُ هذا الأمرِ خاصٌّ بنساءِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. وممَّن ذهب إلى هذا: ابنُ عاشور، وقال: (هذا الحُكمُ وُجوبٌ على أمَّهاتِ المؤمِنينَ، وهو كمالٌ لسائرِ النِّساءِ). ((تفسير ابن عاشور)) (22/10). قيل: إنَّ الإضافةَ في قولِه تعالى: بُيُوتِكُنَّ أفادت أنَّها مِلكٌ لهنَّ. وقيل: الإضافةُ للاختصاصِ، وليس للتَّمليكِ، وإنَّما أُضيفَت البيوتِ إليهنَّ؛ لأنَّهنَّ ساكناتٌ بها. يُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (3/612، 613)، ((تفسير القرطبي)) (18/154)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/11)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 240). .
عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((خَرَجَت سَوْدةُ بعدَما ضُرِبَ الحِجابُ لحاجتِها، وكانت امرأةً جَسيمةً [573] جَسيمةً: أي: عَظيمةَ الجِسْمِ. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (14/150). لا تخفَى على مَن يَعرِفُها، فرآها عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ، فقال: يا سَوْدةُ، أمَا واللهِ ما تَخفَيْنَ علينا؛ فانظُري كيف تَخرُجينَ! قالت: فانكفَأَتْ [574] فانكَفَأتْ: أي: انقلَبَت وانصرَفَت. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) لعلي القاري (9/3783). راجِعةً، ورَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في بَيتي، وإنَّه لَيَتعشَّى وفي يَدِه عَرْقٌ [575] عَرقٌ: هو العَظمُ الَّذي عليه بقيَّةُ لحمٍ. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (14/151). ، فدخَلَتْ فقالت: يا رَسولَ اللهِ، إنِّي خَرَجتُ لِبَعضِ حاجَتي، فقال لي عُمَرُ كذا وكذا، قالت: فأوحى اللهُ إليه ثمَّ رُفعَ عنه، وإنَّ العَرْقَ في يَدِه ما وضَعَه، فقال: إنَّه قد أُذِنَ لكُنَّ أن تَخرُجْنَ لحاجَتِكُنَّ) ) [576] رواه البخاري (4795) واللفظ له، ومسلم (2170). .
وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى.
أي: ولا تُظْهِرْنَ زِينَتَكنَّ وتُبْرِزْنَ مَحاسِنَكُنَّ للرِّجالِ، كعادةِ النِّساءِ في الجاهليَّةِ قبْلَ الإسلامِ [577] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/97)، ((تفسير القرطبي)) (14/180)، ((تفسير ابن كثير)) (6/410)، ((تفسير السعدي)) (ص: 664)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/12، 13). قال ابن جرير: (قيل: إنَّ التَّبرُّجَ في هذا الموضعِ: التَّبختُّرُ والتَّكسُّرُ... وقيل: إنَّ التَّبرُّجَ هو إظهارُ الزِّينةِ، وإبرازُ المرأةِ مَحاسِنَها للرِّجالِ). ((تفسير ابن جرير)) (19/97). وقيل: التَّبرُّجُ هو مشْيُ المرأةِ بينَ يدَيِ الرَّجُلِ. قاله مجاهدٌ. وقيل: هو أن تُلقيَ الخِمارَ على رأسِها ولا تَشُدَّه ليُواريَ قلائدَها وعنقَها وقُرْطَها، ويبدو ذلك كلُّه منها، قاله مقاتلُ بنُ حيانَ. يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (4/399). وجمَع القرطبيُّ بيْنَ هذه الأقوالِ، فقال: (... المقصود مِن الآيةِ مُخالَفةُ مَن قَبْلَهُنَّ مِن المِشْيةِ على تَغْنيجٍ وتَكسيرٍ وإظهارِ المحاسِنِ للرِّجالِ، إلى غيرِ ذلك ممَّا لا يجوزُ شرعًا. وذلك يَشملُ الأقوالَ كلَّها ويَعُمُّها). ((تفسير القرطبي)) (14/180). قال الرازي: (وقولُه تعالَى: الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى فيه وجهانِ؛ أحدُهما: أنَّ المرادَ مَن كان في زمنِ نوحٍ، والجاهِلِيَّةُ الأُخرى مَن كان بعْدَه. وثانِيهما: أنَّ هذه ليستْ أُولَى تَقْتَضي أُخرى، بل معناه: تبرُّجُ الجاهليَّةِ القديمةِ، كقولِ القائلِ: أينَ الأكاسِرةُ الجبابرةُ الأُولَى). ((تفسير الرازي)) (25/167). وقال ابن عاشور: (ووصْفُها بـ الْأُولَى وَصْفٌ كاشِفٌ لأنَّها أُولَى قبْلَ الإسلامِ، وجاءَ الإسلامُ بعدَها، فهو كقولِه تعالَى: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى [النَّجْم: 50]، وكقولِهم: العِشاءُ الآخِرةُ، وليس ثَمَّةَ جاهلِيَّتانِ أُولَى وثانيةٌ. ومِن المُفَسِّرينَ مَنْ جَعَلوه وصْفًا مُقَيِّدًا، وجعلوا الجاهليَّةَ جاهليَّتَيْنِ، فمِنْهم مَن قالَ: الأولَى هي ما قبْلَ الإسلامِ، وستكونُ جاهليَّةٌ أُخرَى بعدَ الإسلامِ، يعني: حينَ تَرتَفِعُ أحكامُ الإسلامِ والعياذُ بالله. ومنهم مَن قال: الجاهليَّةُ الأُولَى هي القديمةُ مِن عهدِ ما قبْلَ إبراهيمَ، ولم يَكُنْ لِلنِّساءِ وازِعٌ ولا للرِّجالِ، ووضَعوا حكاياتٍ في ذلك مُختلِفةً أو مُبالَغًا فيها أو في عُمومِها، وكلُّ ذلك تَكَلُّفٌ دعاهم إِليه حملُ الوصفِ على قصدِ التَّقييدِ). ((تفسير ابن عاشور)) (22/13). ويُنظر: ((تفسير الماوردي)) (4/400). .
وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا أمَرَهنَّ بلُزومِ البُيوتِ للتَّخليةِ عن الشَّوائِبِ؛ أرشدَهنَّ إلى التَّحليةِ بالرَّغائبِ، فقال [578] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/345). :
وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ.
أي: وأدِّينَ الصَّلاةَ [579] قيل: المرادُ: الصَّلواتُ المفروضةُ. وممَّن قال بذلك: يحيى بنُ سلام، وابن جرير. يُنظر: ((تفسير يحيى بن سلام)) (2/716)، ((تفسير ابن جرير)) (19/100، 101). وقيل: المرادُ: الفرائِضُ والنَّوافِلُ. وممَّن قال بذلك: البِقاعي، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/345)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الأحزاب)) (ص: 230). للهِ على الوَجهِ المُستقيمِ، وآتِينَ الزَّكاةَ أهْلَها المُستحِقِّينَ لها، كما أمَر اللهُ تعالى [580] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/100)، ((تفسير ابن كثير)) (6/410)، ((تفسير السعدي)) (ص: 664)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الأحزاب)) (ص: 230). .
وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.
أي: وأطِعْنَ اللهَ ورَسولَه في أمْرِهما ونَهيِهما [581] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/100)، ((تفسير القرطبي)) (14/182)، ((تفسير السعدي)) (ص: 664). .
إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا.
أي: إنَّما يُريدُ اللهُ [582] والمرادُ بالإرداةِ هنا: الإرادةُ الشَّرعيَّةُ، لا الكَونيَّةُ كما يزعُمُ الرَافضةُ، ويَدَّعون العِصمةَ لأئمَّتِهم بِناءً على ذلك! يُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (7/71، 72)، ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) للألباني (6/33). أن يُذهِبَ عنكم مَساوِئَ الأخلاقِ والأعمالِ -يا أهلَ بَيتِ مُحمَّدٍ- بما يأمُرُكم ويَنهاكم، ويُحِبُّ أن يُطَهِّرَكم تَطهيرًا مِن دنَسِ السَّيِّئاتِ [583] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/100)، ((تفسير السمعاني)) (4/281)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (10/583)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/346، 347)، ((تفسير السعدي)) (ص: 664)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/238، 239)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الأحزاب)) (ص: 234-235، 243). قال ابنُ تيميَّة: (سياقُ الآيةِ يقتضي أنَّه يريدُ لِيُذهِبَ عنهم الرِّجسَ -الَّذي هو الخَبَثُ؛ كالفواحِشِ-، ويُطَهِّرَهم تطهيرًا مِن الفواحِشِ وغيرِها مِن الذُّنوبِ... والتَّطهيرُ عن الذَّنبِ: إمَّا بألَّا يَفعَلَه العَبدُ، وإمَّا بأن يتوبَ منه... وبالجُملةِ: لفظُ «الرِّجسِ» أصلُه القَذَرُ، ويرادُ به الشِّركُ... ويرادُ به الخبائِثُ المحَرَّمةُ؛ كالمطعوماتِ والمشروباتِ... ولفظُ «الرجس» عامٌّ يقتضي أنَّ اللهَ يريدُ أن يُذهِبَ جميعَ الرِّجسِ... وقد يكونُ مِن تمامِ تَطهيرِهم صيانتُهم عن الصَّدَقةِ الَّتي هي أوساخُ النَّاسِ... وبالجُملةِ فالتَّطهيرُ الَّذي أراده اللهُ، والَّذي دعا به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ليس هو العِصمةَ، بالاتِّفاقِ؛ فإنَّ أهلَ السُّنَّةِ عندَهم لا مَعصومَ إلَّا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. والشِّيعةُ يقولونَ: لا مَعصومَ غيرُ النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-، والإمامِ). ((منهاج السنة النبوية)) (7/79-83). .
عن أمِّ المؤمِنينَ عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((خرجَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم غَداةً وعليه مِرْطٌ مُرَحَّلٌ [584] مِرْطٌ مُرَحَّلٌ: كِساءُ خَزٍّ أو صُوفٍ، منقوشٌ عليه صُوَرُ رِحالِ الإبِلِ. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) لعلي القاري (9/3962). مِن شَعَرٍ أسْوَدَ، فجاء الحَسَنُ بنُ عَليٍّ فأدخَلَه، ثمَّ جاء الحُسَينُ فدخَلَ معه، ثمَّ جاءت فاطِمةُ فأدخَلَها، ثمَّ جاء عليٌّ فأدخَلَه، ثمَّ قال: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)) [585] رواه مسلم (2424). .
وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أمَرَ اللهُ تعالى نِساءَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالعَمَلِ الَّذي هو فِعلٌ وتَركٌ؛ أمَرَهنَّ بالعِلمِ، وبيَّنَ لهنَّ طَريقَه [586] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 663). .
وأيضًا لَمَّا ضَمِنَ اللهُ لِزَوجاتِ نَبيِّه العَظَمةَ، أمَرَهنَّ بالتَّحلِّي بأسبابِها، والتَّملِّي مِن آثارِها، والتَّزوُّدِ مِن عِلمِ الشَّريعةِ بدِراسةِ القرآنِ؛ لِيَجمَعَ ذلك اهتِداءَهنَّ في أنفُسِهنَّ ازديادًا في الكَمالِ والعِلمِ، وإرشادَهنَّ الأُمَّةَ إلى ما فيه صَلاحٌ لها مِن عِلمِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ [587] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/18). .
وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ.
أي: واذكُرْنَ [588] قال السعدي: (أمرُهنَّ بذِكرِه يَشمَلُ ذِكرَ لَفظِه بتِلاوتِه، وذِكرَ معناه بتَدَبُّرِه والتفَكُّرِ فيه، واستخراجِ أحكامِه وحِكَمِه؛ وذِكرَ العَمَلِ به وتأويلِه). ((تفسير السعدي)) (ص: 664). -يا أزواجَ النَّبيِّ- ما يُتلَى في بُيوتِكنَّ مِن آياتِ القُرآنِ، والسُّنَّةِ [589] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/108)، ((تفسير القرطبي)) (14/184)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (1/6)، ((تفسير ابن كثير)) (6/415)، ((تفسير أبي السعود)) (7/103)، ((تفسير الشوكاني)) (4/323)، ((تفسير السعدي)) (ص: 664)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/18). والحِكمةُ: قيل: هي السُّنَّةُ. وممَّن قال بذلك: الشافعي، وابن جرير، وأبو عَمرٍو الداني، والسمعاني، والقرطبي، وابن القيم، وابن كثير، والعُلَيمي. يُنظر: ((الأم)) للشافعي (7/288)، ((تفسير ابن جرير)) (19/108)، ((المكتفى في الوقف والابتدا)) للداني (ص: 167)، ((تفسير السمعاني)) (4/282)، ((تفسير القرطبي)) (14/184)، ((مختصر الصواعق المرسلة لابن القيم)) (ص: 535)، ((تفسير ابن كثير)) (6/415)، ((تفسير العليمي)) (5/364). قال النحاس: (أكثرُ أهلِ التَّفسيرِ على أنَّ الحكمةَ هاهنا السُّنَّةُ). ((إعراب القرآن)) (3/216) وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: قَتادةُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/108). وقال ابنُ تيميَّةَ: (قال غيرُ واحدٍ مِن السَّلَفِ: الحِكمةُ هي السُّنَّةُ؛ لأنَّ الَّذي كان يُتلى في بُيوتِ أزواجِه -رَضِيَ الله عنهن- سِوى القرآنِ: هو سُنَّتُه صلَّى الله عليه وسلَّم). ((مجموع الفتاوى)) (3/366). وقال ابن القيِّمِ: (والحِكمةُ هي السُّنَّةُ، كما قال غيرُ واحدٍ مِن السَّلَفِ، وهو كما قالوا؛ فإنَّ الله تعالى قال: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ؛ فنَوَّعَ المتلُوَّ إلى نَوعَينِ: آياتٍ: وهي القُرآنُ. وحِكمةٍ: وهي السُّنَّةُ. والمرادُ بالسُّنَّةِ: ما أُخِذَ عن رَسولِ اللهِ -صلَّى الله عليه وسلَّم- سِوى القُرآنِ). ((مختصر الصواعق المرسلة)) (ص: 535). وقيل: آَيَاتِ اللَّهِ: القرآنُ، وَالْحِكْمَةِ: أمْرُه ونهيُه في القرآنِ. وممَّن اختاره مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والسمرقنديُّ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/489)، ((تفسير السمرقندي)) (3/61). وقيل: إنَّ القرآنَ جامعٌ بينَ كونِه بَيِّناتٍ دالَّةً على التَّوحيدِ وصدقِ النُّبُوَّةِ، وبينَ كونِه حكمةً مُشتمِلةً على فُنونٍ مِنَ العلومِ والشَّرائِعِ. يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (4/323). قال ابنُ تيميَّةَ: (والحِكمةُ: قال غيرُ واحدٍ مِنَ السَّلَفِ: هي السُّنَّةُ. وقال أيضًا طائفةٌ كمالكٍ وغيرِه: هي معرفةُ الدِّينِ، والعَمَلُ به. وقيل غيرُ ذلك. وكُلُّ ذلك حقٌّ؛ فهي تتضمَّنُ التَّمييزَ بين المأمورِ والمحظورِ، والحَقِّ والباطِلِ؛ وتعليمَ الحَقِّ دون الباطِلِ، وهذه السُّنَّةُ الَّتي فُرِّق بها بيْنَ الحقِّ والباطلِ، وبيْن الأعمالِ الحَسَنةِ مِنَ القبيحةِ، والخيرِ مِنَ الشَّرِّ). ((مجموع الفتاوى)) (19/175). .
إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا.
أي: إنَّ اللهَ هو المتَّصِفُ أزَلًا وأبدًا باللُّطفِ، المتضمَّنِ عِلمَه بالأشياءِ الدَّقيقةِ، وإيصالَه الرَّحمةَ بالطُّرقِ الخفيَّةِ، ومِن لُطفِه سَوقُ الخَيرِ والنَّفعِ إلى نِساءِ النَّبيِّ، وحِفظُهنَّ مِن الشُّرورِ، وإكرامُهنَّ وبُلوغُهنَّ مَنزِلةً عاليةً؛ وهو المتَّصِفُ أزَلًا وأبدًا بالخِبرةِ، فهو العالِمُ بالأسرارِ والخفايا، ومِن خِبرتِه عِلمُه بما يَنفَعُ نِساءَ النَّبيِّ، وعِلمُه بهِنَّ وبحالِهنَّ، فاختارَهنَّ أزواجًا لِرَسولِه [590] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/108)، ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 34)، ((تفسير ابن كثير)) (6/416)، ((تفسير السعدي)) (ص: 664)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/19). قال السعدي: (مِن معاني اللَّطِيفُ: الَّذي يَسوقُ عَبدَه إلى الخَيرِ، ويَعصِمُه مِنَ الشَّرِّ بطُرقٍ خَفيَّةٍ لا يَشعُرُ بها، ويَسوقُ إليه مِنَ الرِّزقِ ما لا يَدريه، ويُريه مِنَ الأسبابِ الَّتي تكرَهُها النُّفوسُ ما يكونُ ذلك طريقًا له إلى أعلى الدَّرَجاتِ، وأرفَعِ المنازِلِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 664). .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- في قَولِه تعالى: يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ أنَّ الإنسانَ قد يَشرُفُ بشَرَفِ مَن اتَّصَلَ به؛ تُؤخَذُ مِن شَرَفِ أُمَّهاتِ المؤمنينَ باتِّصالهنَّ بالرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ ولهذا حَثَّ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم على الجَليسِ الصَّالحِ، وقال: ((مَثَلُ جليسِ الصَّالحِ والسُّوءِ، كحامِلِ المِسْكِ ونافِخِ الكِيرِ [591] الكِير: هو شَيءٌ يَنفُخُ فيه الحدَّادُ؛ لِتَشتعِلَ النَّارُ. يُنظر: ((المفاتيح في شرح المصابيح)) للمُظْهِري (5/231). ويُنظر أيضًا: ((فتح الباري)) لابن حجر (4/324). ؛ فحامِلُ المِسكِ إمَّا أنْ يُحْذِيَك [592] يُحذِيَك: أي: يُعطِيَك ويُتحِفَك منه بشَيءٍ؛ هِبةً. يُنظر: ((شرح القَسْطَلَّاني)) (8/292). ، وإمَّا أن تَبْتاعَ [593] تَبْتاعَ: أي: تَشتري. يُنظر: ((المفاتيح في شرح المصابيح)) للمُظْهِري (5/231). منه، وإمَّا أن تجدَ منه ريحًا طيِّبةً )) [594] أخرجه البخاري (5534)، ومسلم (2628) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. ، وحَذَّرَ مِن جليسِ السُّوءِ؛ لأنَّ الإنسانَ بلا شَكٍّ يَشرُفُ بشَرَفِ مَن يَتَّصلُّ به، ويَنزِلُ بنُزولِ مَن يَتَّصلُ به [595] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 221). .
2- قَولُ الله تعالى: يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ دَلَّ قَولُه تعالى: فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ مع أمْرِه بحِفظِ الفَرْجِ، وثَنائِه على الحافِظينَ لِفُروجِهم والحافِظاتِ، ونَهْيِه عن قِربانِ الزِّنا: أنَّه ينبغي للعَبدِ إذا رأى مِن نَفْسِه هذه الحالةَ، وأنَّه يَهَشُّ لفِعلِ المحَرَّمِ عندَما يَرى أو يَسمَعُ كَلامَ مَن يهواه، ويجِدُ دَواعيَ طَمَعِه قد انصرَفَت إلى الحرامِ: فلْيَعرِفْ أنَّ ذلك مرَضٌ؛ فلْيَجتهِدْ في إضعافِ هذا المرَضِ، وحَسمِ الخواطِرِ الرَّدِيَّةِ، ومُجاهَدةِ نفْسِه على سَلامتِها مِن هذا المرضِ الخطيرِ، وسُؤالِ اللهِ العِصمةَ والتَّوفيقَ؛ وأنَّ ذلك مِن حِفظِ الفَرْجِ المأمورِ به [596] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 663). .
3- في قَولِه تعالى: فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ تحريمُ خُضوعِ المرأةِ في مُخاطَبةِ الرِّجالِ؛ فإذا كان هذا في النِّساءِ الطَّاهِراتِ المُبَرَّءاتِ، فغَيرُهنَّ مِن بابِ أَولى، وإذا كانتِ العِلَّةُ خَوفَ طَمَعِ مَن في قَلبِه مرضٌ، فهذه العلَّةُ لا تَختَصُّ بزَوجاتِ الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم [597] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 221). .
4- في قَولِه تعالى: فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ أنَّ فِتنةَ النِّساءِ مرضٌ في القلبِ يَحتاجُ الإنسانُ فيه إلى مُعالجةٍ وإلى مداواةٍ، وهذا المرضُ مَرضٌ فَتَّاكٌ -نسألُ اللهَ تعالى السَّلامةَ منه-، مرَضٌ في القلبِ كمَرَضِ السَّرطانِ في البدنِ، إذا لم يَتدارَكِ اللهُ العبدَ بعَفوِه وتَوفيقِه وتَسديدِه، فإنَّه يَهلِكُ؛ ولهذا قال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((ما تَرَكْتُ بعدي فِتنةً أضَرَّ على الرِّجالِ منِ النِّساءِ )) [598] أخرجه البخاري (5096) واللفظ له، ومسلم (2740) من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما. ؛ فالواجِبُ الحذَرُ مِن هذا الأمرِ؛ وألَّا يُمليَ الإنسانُ لنفْسِه ويُمهِلَها في هذا البابِ [599] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 223). .
5- في قَولِه تعالى: فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ دَليلٌ على أنَّ على المرأةِ الاحترازَ مِن كلِّ ما دعا إلى شَهوتِها، والفتنةِ بها [600] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقَصَّاب (3/653). ، فإنَّ مَن في قَلبِه مَرَضُ الشَّهوةِ وإرادةُ الصُّورةِ متى خضَع المطلوبُ طَمِعَ المريضُ، والطَّمعُ هو الَّذي يقوِّي الإرادةَ والطَّلَبَ، ويقوِّي المرَضَ بذلك، بخِلافِ ما إذا كان آيسًا مِن المطلوبِ؛ فإنَّ اليأسَ يُزيلُ الطَّمَعَ، فتَضعُفُ الإرادةُ، فيَضعُفُ الحُبُّ، فإنَّ الإنسانَ لا يريدُ أن يَطلُبَ ما هو آيسٌ منه، فلا يكونُ مع الإرادةِ عَمَلٌ أصلًا، بل يكونُ حَديثُ نَفْسٍ، إلَّا أن يقتَرِنَ بذلك كلامٌ أو نظَرٌ ونحوُ ذلك، فيأثَمُ بذلك [601] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (10/132). .
6- الإشارةُ إلى أنَّ إقامةَ الصَّلاةِ وإيتاءَ الزكاةِ مِن الموانعِ عن المُحَرَّماتِ؛ لأنَّه سُبحانَه وتعالى قال: وَلَا تَبَرَّجْنَ، ثمَّ قال: وَأَقِمْنَ؛ فدلَّ هذا على أنَّ مِن أسبابِ عدَمِ التَّبرُّجِ: إقامةَ الصَّلاةِ [602] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 241). .
7- أنَّ مَن أعطاه اللهُ تعالى عِلمًا كان طلَبُ الاستقامةِ منه أوكَدَ وأوثقَ؛ فإذا آتَى اللهُ تعالى الإنسانَ عِلمًا فإنَّه يُطلَبُ منه مِن الاستقامةِ أكثَرَ ممَّا يُطلَبُ ممَّن لم يُؤتَ عِلْمًا؛ لأنَّه قال تعالى: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فليس عليكُنَّ نَقصٌ في العِلمِ، بل إنَّ العِلمَ يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ [603] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 251). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- في قَولِه تعالى: يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ دَليلٌ على أنَّ مَن عَظُمَت مَنزلتُه ودَرجتُه عندَ اللهِ، فإنَّ عمَلَه يُضاعَفُ له أجرُه [604] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن رجب (1/148). .
2- قَولُ الله تعالى: يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ ظاهِرُه تَفضيلٌ لجُملتِهنَّ على نساءِ هذه الأمَّةِ [605] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/7). . وقيل: أفضلُ النِّساءِ مطلقًا. وقيل: ظاهرُ الآيةِ أيضًا تفضيلُهنَّ على بناتِه، إلَّا أن يُقالَ بدُخولِهنَّ في اللَّفظِ؛ لأنهنَّ مِن نساءِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم [606] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 211). وتقدَّم استثناءُ بعضِ أهلِ العلمِ لفاطِمةَ بنتِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومريمَ بنتِ عِمرانَ، وآسيةَ امرأةِ فِرعونَ مِن العمومِ. .
3- قَولُ الله تعالى: فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ فيه دليلٌ على أنَّ الوسائِلَ لها أحكامُ المقاصِدِ؛ فإنَّ الخُضوعَ بالقَولِ واللِّينَ فيه: في الأصلِ مُباحٌ، ولكنْ لَمَّا كان وسيلةً إلى المحرَّمِ مُنِعَ منه؛ ولهذا ينبغي للمرأةِ في مخاطبةِ الرِّجالِ ألَّا تُلينَ لهم القَولَ [607] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 663). .
4- في قَولِه تعالى: فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا أنَّ صَوتَ المرأةِ ليس بعَورةٍ، خِلافًا لِمَن قال: «إنه عورةٌ» مِن أهلِ العلمِ؛ ولهذا كان النِّساءُ يأتينَ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم يَسْأَلْنَه وحوْلَه أصحابُه، ولا يَنهاهُنَّ عن ذلك، ولو كان صوتُ المرأةِ عورةً لَنَهاهُنَّ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم عن الكَلامِ مع حُضورِ الرِّجالِ [608] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 222). .
5- قولُه تعالى: فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ فيه دَلالةٌ على أنَّ الأحسَنَ بالمرأةِ ألَّا تَرفَعَ صَوتَها بحيثُ يَسمعُها الرِّجالُ [609] يُنظر: ((أحكام القرآن)) للجَصَّاص (5/229)، ((أحكام القرآن)) لِلِكْيَا الهَرَّاسي (4/346). .
6- قَولُ الله تعالى: فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ ذُكِر بعْدَه: وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا؛ إشارةً إلى أنَّ ذلك ليس أمرًا بالإيذاءِ والمُنكَرِ، بل القَولُ المعروفُ وعندَ الحاجةِ: هو المأمورُ به لا غَيرُه [610] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/167). .
7- في قَولِه تعالى: فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا أنَّه إذا أفتى المُفتي للسَّائلِ بشَيءٍ، فينبغي له أنْ يُنبِّهَه على وَجهِ الاحترازِ ممَّا قد يَذهَبُ إليه الوَهمُ منه مِن خِلافِ الصَّوابِ؛ فنَهاهنَّ سُبحانَه عن الخُضوعِ بالقولِ، فرُبَّما ذَهَب الوَهمُ إلى الإذنِ في الإغلاظِ في القَولِ والتَّجاوُزِ، فرَفَعَ هذا التَّوهُّمَ بقَولِه: وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا [611] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (4/122). .
8- في قَولِه تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ مَشروعيَّةُ قَرارِ المرأةِ في بيتِها [612] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 240). ، فمعنى هذه الآيةِ الأمرُ بلزومِ البيتِ، والخِطابُ وإن كان لنِساءِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم فقد دخَل غيرُهنَّ فيه بالمعنى-على أحدِ القولينِ-، هذا لو لم يَرِدْ دليلٌ يخصُّ جميعَ النِّساءِ، كيف والشَّريعةُ طافحةٌ بلزومِ النساءِ بيوتَهنَّ، والانكفافِ عن الخروجِ منها إلا لحاجةٍ [613] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (14/179). .
9- قَولُ الله تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ يقتضي وُجوبَ مُكثِ أزواجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في بُيُوتِهنَّ، وألَّا يَخرُجْنَ إلَّا لضرورةٍ، وجاء في الحديثِ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((أُذِنَ لكُنَّ أن تَخرُجْنَ لحَوائِجِكنَّ )) [614] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/11).  والحديث أخرجه البخاري (5237)، ومسلم (2170) من حديث عائشة رضي الله عنها. .
10- قال الله تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ أشْكَلَ على النَّاسِ خُروجُ أمِّ المؤمِنينَ عائِشةَ -رَضِيَ الله عنها- إلى البَصرةِ في الفِتنةِ الَّتي تُدْعى وَقعةَ الجَمَلِ، فلم يُغَيِّرْ عليها ذلك كثيرٌ مِن جِلَّةِ الصَّحابةِ؛ منهم طَلْحةُ والزُّبَيرُ، وأنكر ذلك عليها بعضُهم؛ مِثلُ: عمَّارِ بنِ ياسرٍ، وعليِّ بنِ أبي طالبٍ، ولكُلٍّ نظَرٌ في الاجتِهادِ، والَّذي عليه المحقِّقونَ أنَّ ذلك كان منها عن اجتهادٍ؛ فإنَّها رأت أنَّ في خروجِها إلى البَصرةِ مَصلحةً للمُسلِمينَ؛ لِتَسعَى بينَ فريقَيِ الفِتنةِ بالصُّلحِ؛ فإنَّ النَّاسَ تعَلَّقوا بها، وشَكَوا إليها ما صاروا إليه مِن عَظيمِ الفِتنةِ، ورَجَوا بَرَكَتَها أن تخرُجَ فتُصلِحَ بينَ الفَريقَينِ، وظنُّوا أنَّ النَّاسَ يَستَحيُونَ منها، فتأوَّلت لخُروجِها مَصلحةً تُفيدُ إطلاقَ القَرارِ المأمورِ به في قَولِه تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ يُكافئُ الخُروجَ للحَجِّ، وأخَذَت بقَولِه تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا [الحجرات: 9] ، ورأت أنَّ الأمرَ بالإصلاحِ يَشملُها وأمثالَها ممَّن يَرجُونَ سَماعَ الكَلِمةِ، فكان ذلك منها عن اجتِهادٍ، وقد أشار عليها جمْعٌ مِن الصَّحابةِ بذلك، وخرَجوا معها؛ مِثلُ طَلْحةَ والزُّبيرِ، وناهيك بهما! وهذا مِن مواقِعِ اجتِهادِ الصَّحابةِ الَّتي يجِبُ علينا حَملُها على أحسَنِ المَخارجِ، ونظُنُّ بها أحسَنَ المذاهِبِ، وكاد أن يَصلُحَ الأمرُ، ولكِنْ أفسَدَه دُعاةُ الفِتنةِ، ولم تَشعُرْ عائِشةُ إلَّا والمقاتَلةُ قد جرَتْ بيْنَ فريقَينِ مِن الصَّحابةِ يومَ الجَمَلِ، ولا ينبغي تقلُّدُ كلامِ المؤرِّخينَ على عِلَّاتِه؛ فإنَّ فيهم مِن أهلِ الأهواءِ ومَن تلقَّفوا الغَثَّ والسَّمينَ [615] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/11، 12). وقال أيضًا: (وما يُذكَرُ عنها رَضِيَ اللهُ عنها: أنَّها كانت إذا قرأتْ هذه الآيةَ تبكي حتَّى يبتَلَّ خِمارُها: فلا ثِقةَ بصِحَّةِ سَنَدِه، ولو صَحَّ لَكان محمَلُه أنَّها أسِفَت لتلك الحوادِثِ الَّتي ألجأَتْها إلى الاجتِهادِ في تأويلِ الآيةِ). ((تفسير ابن عاشور)) (22/12). .
11- في قَولِه تعالى: تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى ذَمُّ الجهلِ؛ فإنَّ نسبةَ هذا إلى الجهلِ لا شكَّ أنَّه يُرادُ به التَّنفيرُ، وفيه أيضًا مدْحُ ما كان مبنيًّا على العلمِ؛ لأنَّ ذَمَّ الضِّدِّ يدُلُّ على مدحِ ضدِّه، كما قيل: «وبضِدِّها تَتبيَّنُ الأشياءُ» [616] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 241). .
12- قَولُ الله تعالى: وَآَتِينَ الزَّكَاةَ فيه بِشارةٌ بالفُتوحِ وتَوسيعِ الدُّنيا على زَوجاتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فإنَّ العَيشَ وقْتَ نُزولِ هذه الآيةِ كان ضَيِّقًا عن القُوتِ، فضلًا عن الزَّكاةِ [617] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/345). .
13- كثيرًا ما يَجمَعُ الله تعالى بينَ الصَّلاةِ والزَّكاةِ في القرآنِ؛ وذلك لأنَّ الصَّلاةَ متضَمِّنةٌ للإخلاصِ للمعبودِ، والزَّكاةَ والنَّفقةَ متضمِّنةٌ للإحسانِ إلى عَبيدِه، فعنوانُ سعادةِ العبدِ إخلاصُه للمعبودِ، وسَعْيُه في نفْعِ الخَلْقِ، كما أنَّ عنوانَ شقاوةِ العبدِ عدمُ هذينِ الأمْرَينِ منه، فلا إخلاصَ ولا إحسانَ [618] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 41). .
14- في قَولِه تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ أنَّ الخُضوعَ بالقَولِ وتبرُّجَ الجاهليَّةِ: مِن الرِّجْسِ، وأنَّ القَرارَ في البُيوتِ، وإقامَ الصَّلاةِ، وإيتاءَ الزكاةِ، وطاعةَ اللهِ عزَّ وجلَّ ورَسولِه صلَّى الله عليه وسلَّم: مِن أسبابِ زَوالِ الرِّجسِ؛ لأنَّ ما تقدَّمَ أوامِرُ ونَواهٍ، بَيَّن اللهُ تعالى أنَّه إنَّما أمَر بها ونهَى عنها؛ مِن أجْلِ أنْ يُذهِبَ عن هذا البَيتِ الرِّجْسَ [619] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 242). .
15- قال تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ، فترَك خِطابَ المؤنَّثاتِ، وخاطَب بخِطابِ المذكَّرينَ؛ بقولِه: لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ؛ لِيَدخُلَ فيه نساءُ أهلِ بيتِه ورجالُهم [620] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/168). ، وهو يَعُمُّ غيرَ أزواجِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ كعَليٍّ، وفاطِمةَ، وحَسَنٍ، وحُسَينٍ -رَضِيَ اللهُ عنهم؛ وذلك لأنَّه ذَكَرَه سُبحانَه بصيغةِ التَّذكيرِ لَمَّا اجتمعَ المُذكَّرُ والمؤنَّثُ [621] يُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (4/23). وقال ابن عاشور: (وضميرَا الخِطابِ موَجَّهانِ إلى نساءِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على سَنَنِ الضَّمائِرِ الَّتي تَقَدَّمَتْ. وإنَّما جيءَ بالضَّميرينِ بصيغةِ جمعِ المذكِّرِ على طريقةِ التَّغليبِ؛ لاعتِبارِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في هذا الخِطابِ؛ لأنَّه رَبُّ كلِّ بيتٍ مِن بُيوتِهنَّ، وهو حاضرٌ هذا الخِطابَ؛ إذ هو مُبلِّغُه. وفي هذا التَّغليبِ إيماءٌ إلى أنَّ هذا التَّطهيرَ لهنَّ لأجْلِ مقَامِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لِتَكونَ قريناتُه مُشابهاتٍ له في الزَّكاة والكمالِ، كما قال الله تعالَى: وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ [النُّور: 26] يعني: أزواجَ النَّبيِّ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو نظيرُ قولِه في قصَّةِ إبراهيمَ: رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ [هود: 73] ، والمخاطَبُ زوجُ إبراهيمَ وهو معها). ((تفسير ابن عاشور)) (22/14). ، وقد أجمَع أهلُ اللِّسانِ العربيِّ على تغليبِ الذُّكورِ على الإناثِ في الجموعِ ونحوِها [622] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/238). .
16- في قَولِه تعالى: وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى أراد أنْ يُذهِبَ الرِّجسَ وأثَرَ الرِّجسِ أيضًا، وهذا فوقَ ذَهابِ الرِّجْسِ؛ لأنَّنا لو ضرَبْنا هذا بمثالٍ حِسِّيٍّ وقُلنا: إنَّ هذا الثَّوبَ تَلَطَّخَ بنَجاسةٍ، فحكَكْنا هذه النَّجاسةَ حتَّى زالت عَيْنُها، فهذا يُسمَّى إذهابَ الرِّجسِ، فإذا صَبَبْنا الماءَ حتَّى نَظُفَ المكانُ تمامًا وزال الأثَرُ، صار ذلك تَطهيرًا [623] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 243). .
17- إنَّ الله تعالى أمَرَ بطَهارةِ القَلبِ، وأمَرَ بطَهارةِ البَدَنِ، وكِلْتا الطَّهارتَينِ مِن الدِّينِ الَّذي أمَر اللهُ به وأوجَبَه؛ قال تعالى: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ [المائدة: 6] ، وقال: فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التوبة: 108] ، وقال: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة: 222] ، وقال: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة: 103] ، وقال: أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ [المائدة: 41] ، وقال: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة: 28] ، وقال: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب: 33] ، فنَجِدُ كثيرًا مِن المتفَقِّهةِ والمتعَبِّدةِ إنَّما همَّتُه طهارةُ البدَنِ فقط، ويَزيدُ فيها على المشروعِ اهتِمامًا وعمَلًا، ويترُكُ مِن طهارةِ القَلبِ ما أُمِرَ به إيجابًا أو استِحبابًا، ولا يفهَمُ مِن الطَّهارةِ إلَّا ذلك!
ونجدُ كثيرًا مِن المتصَوِّفةِ والمتفَقِّرةِ إنَّما همَّتُه طهارةُ القَلبِ فقط، حتَّى يَزيدَ فيها على المشروعِ اهتمامًا وعملًا، ويترُك مِن طهارةِ البدَنِ ما أُمِرَ به إيجابًا أو استِحبابًا [624] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (1/15). !
18- قَولُه تعالى: وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا الطَّهارةُ لها معنيانِ؛ أحدُهما: الطَّهارةُ مِن الذُّنوبِ، كقَولِه: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب: 33] ، وقَولِه: إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ [الأعراف: 82] ، وقَولِه: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة: 103] .
والمعنى الثاني: الطَّهارةُ الِحسِّيَّةُ بالماءِ والتُّرابِ، وإنَّما أمَرَ بهذه؛ لتتحَقَّقَ تلك [625] يُنظر: ((المستدرك على مجموع الفتاوى لابن تيمية)) (3/39). .
19- قولُه تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب: 33] ، كقَولِه: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ [المائدة: 6] ، وكقَولِه: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة: 185] ، وكقَولِه: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا [النساء: 26، 27]؛ فإنَّ إرادةَ اللهِ في هذه الآياتِ متضَمِّنةٌ لمحبَّةِ الله لذلك المرادِ ورِضاه به، وأنَّه شَرَعَه للمؤمِنينَ وأمَرَهم به، ليس في ذلك أنَّه خَلَق هذا المرادَ، ولا أنَّه قضاه وقَدَّره، ولا أنَّه يكونُ لا مَحالةَ، والدَّليلُ على ذلك أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعدَ نُزولِ هذه الآيةِ قال: ((اللَّهُمَّ هؤلاء أهلُ بَيْتي، فأذهِبْ عنهم الرِّجْسَ، وطَهِّرْهم تطهيرًا )) [626] أخرجه الترمذي (3205)، والطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (771)، والطبراني (9/11) (8295) من حديثِ عُمَرَ بنِ أبي سلمة رَضِيَ الله عنه. قال الترمذي: غريبٌ. وصَحَّحه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (3205). . فطلَبَ مِن اللهِ لهم إذهابَ الرِّجسِ، والتَّطهيرَ؛ فلو كانت الآيةُ تتضَمَّنُ إخبارَ اللهِ بأنَّه قد أذهب عنهم الرِّجسَ وطَهَّرهم، لم يحتَجْ إلى الطَّلَبِ والدُّعاءِ.
والإرادةُ في كتابِ اللهِ نوعانِ: إرادةٌ شرعيَّةٌ دينيَّةٌ تتضَمَّنُ محبَّتَه ورِضاه، وإرادةٌ كَوْنيَّةٌ قَدَريَّةٌ تتضَمَّنُ خَلْقَه وتقديرَه؛ الأُولى مِثلُ هؤلاء الآياتِ، والثَّانيةُ مِثلُ قَولِه تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ [الأنعام: 125] [627] يُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (7/71، 72). ، فإذا كانت الإرادةُ في آيةِ التَّطهيرِ إرادةً شَرعيَّةً فهي لا تَستلزِمُ وُقوعَ المرادِ من التَّطهيرِ، وإنَّما محبَّته تعالى لأهلِ البيتِ أن يَتطَهَّروا، بخِلافِ ما لو كانت إرادةً كونيَّةً؛ فمعنى ذلك أنَّ تطهيرَهم أمرٌ كائِنٌ لا بدَّ منه، وهو متمَسَّكُ الشِّيعةِ في قَولِهم بعِصمةِ أهلِ البَيتِ [628] يُنظر: ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) للألباني (6/33). .
20- قَولُ الله تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا * وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ فيه دَليلٌ بيِّنٌ على أنَّ نِساءَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن أهلِ بَيتِه، فإنَّ السِّياقَ إنَّما هو في مُخاطَبتِهنَّ [629] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/538)، ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (4/23، 24). ، ولأنهنَّ سببُ نزولِ هذه الآيةِ، وسببُ النزولِ داخلٌ في النَّصِّ قولًا واحدًا [630] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/410). قال الشنقيطي: (والتَّحقيقُ إن شاء اللهُ: أنَّهنَّ داخلاتٌ في الآيةِ، وإنْ كانت الآيةُ تتناوَلُ غيرَهنَّ مِن أهلِ البَيتِ. أمَّا الدَّليلُ على دُخولِهنَّ في الآيةِ، فهو ... أنَّ سِياقَ الآيةِ صريحٌ في أنَّها نازِلةٌ فيهِنَّ. والتَّحقيقُ: أنَّ صورةَ سببِ النُّزولِ قطعيَّةُ الدُّخولِ؛ كما هو مُقَرَّرٌ في الأصولِ). ثمَّ قال: (الصَّواب شمولُ الآيةِ الكريمةِ لأزواجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولعليٍّ وفاطمةَ والحسَنِ والحُسَينِ رَضِيَ اللهُ عنهم كُلِّهم). ((أضواء البيان)) (6/237). ، فتَخصيصُ الشِّيعةِ أهلَ البَيتِ بفاطِمةَ وعليٍّ وابنَيهما رَضِيَ اللهُ عنهم: ضَعيفٌ؛ لأنَّ التخَّصيصَ بهم لا يُناسِبُ ما قبْلَ الآيةِ وما بعدَها، والحديثُ يقتضي أنَّهم مِن أهلِ البَيتِ لا أنَّه ليس غيرُهم [631] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/231). ، وإذا كان أزواجُه مِن أهلِ بيتِه، فقَرابتُه أحَقُّ بهذه التَّسميةِ [632] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/415، 416). .
21- قال تعالى: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ فوصَف السُّنَّةَ بالحِكمةِ دونَ القرآنِ؛ لأنَّ السُّنَّةُ مِن كلامِ الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ وهو بشَرٌ، وكلامُ البشرِ قد يَرِدُ عليه احتمالُ ألَّا يكونَ مُشتمِلًا على الحكمةِ؛ فبَيَّنَ اللهُ سُبحانَه وتعالى أنَّ السُّنَّةَ حِكمةٌ -وإنْ كانت مِن كلامِ الرَّسولِ عليه الصَّلاة والسَّلام أو مِن فِعْلِه- لأنها موافقةٌ للصَّوابِ، أمَّا كلامُ الله فاحتمالُ ألَّا يَتضمَّنَ الحكمةَ بعيدٌ جدًّا [633] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 252). .
22- في قَولِه تعالى: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ رَدٌّ على مُنكِري السُّنَّةِ؛ ورَدٌّ أيضًا على آخَرينَ يُقابِلونَهم يَعتَنونَ بالسُّنَّةِ اعتناءً عظيمًا دونَ أدنَى معرفةٍ بالقرآنِ، وهذا خطأٌ؛ لأنَّ أوَّلَ ما يجِبُ أنْ نتعلَّمَ القرآنُ، ثمَّ بعدَ ذلك السُّنَّةُ؛ لأنَّ القرآنَ هو الأصلُ [634] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 252). .
23- قال تعالى: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ، فأمَر أزواجَ رسولِه بأن يخبِرْنَ بما أنزَل الله مِن القرآنِ في بيوتِهنَّ، وما يَرَيْنَ مِن أفعالِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأقوالِه فيهنَّ، حتَّى يبلغَ ذلك إلى النَّاسِ، فيعملوا بما فيه، ويَقْتدوا به، وهذا يدُلُّ على جوازِ قَبولِ خبرِ الواحدِ مِن الرِّجالِ والنِّساءِ في الدِّينِ [635] يُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (3/572). .
24- قولُه تعالى: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ، في هذا مسألةٌ بديعةٌ؛ وهي أنَّ الله أمَر نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم بتبليغِ ما أُنزِلَ عليه مِن القرآنِ، وتعليمِ ما علِمه مِن الدِّينِ؛ فكان إذا قرَأه على واحدٍ، أو ما اتَّفَق، سقَط عنه الفرضُ، وعلى مَن سمِعه أن يُبلِّغَه إلى غيرِه، وليس يَلزَمُه أن يَذكُرَه لجميعِ الصَّحابةِ، ولا كان عليه إذا علِم ذلك أزواجُه أن يخرجَ إلى النَّاسِ فيقولَ لهم: نزَل كذا، وكان كذا [636] يُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (3/572). .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قوله تعالى: يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا
- قولُه: يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ أُعِيدَ خِطابُ نِساءِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن جانِبِ ربِّهنَّ، وأُعِيدَ نِداؤهنَّ رضِيَ اللهُ عنهنَّ؛ للاهتِمامِ بهذا الخبَرِ اهتِمامًا يَخُصُّه. ونَفْيُ المُشابَهةِ هنا يُرادُ به نَفْيُ المُساواةِ، مُكنًّى به عن الأفضليَّةِ على غيرِهنَّ [637] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/6، 7). .
- قَولُه: كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ قال: كَأَحَدٍ، ولم يقُلْ: (كواحِدةٍ)؛ لأنَّ (الأحدَ) عامٌّ يَصلُحُ للواحِدِ والاثنينِ والجَمعِ، والمذكَّرِ والمؤنَّثِ [638] يُنظر: ((تفسير البغوي)) (3/635). .
- والتَّقييدُ بقولِه: إِنِ اتَّقَيْتُنَّ ليس لِقَصدِ الاحتِرازِ عن ضِدِّ ذلك، وإنَّما هو إلْهابٌ وتَحريضٌ على الازديادِ مِن التَّقْوى [639] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/7). . وفعلُ الشَّرْطِ اتَّقَيْتُنَّ مستعملٌ في الدلالةِ على الدَّوامِ، أي: إنْ دُمْتُنَّ على التَّقوى؛ فإنَّ نساءَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُتَّقِياتٌ مِن قَبْلُ [640] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/7). . وقيل: الشرطُ لبيانِ أنَّ فضيلتَهنَّ إنَّما تكونُ بالتَّقوَى، لا باتِّصالِهنَّ بالنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ كي لا يعتمِدْنَ على ذلك [641] يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (18/232)، ((الوسيط)) للواحدي (3/469). .
- قولُه: فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا فُرِّعَ على تَفضيلِهنَّ وتَرفيعِ قَدْرِهنَّ إرشادُهنَّ إلى دَقائقَ مِن الأخلاقِ قد تقَعُ الغَفلةُ عن مُراعاتِها؛ لِخَفاءِ الشُّعورِ بآثارِها، ولأنَّها ذرائعُ خَفيَّةٌ نادرةٌ تُفْضي إلى ما لا يَلِيقُ بحُرْمتِهنَّ في نُفوسِ بعضٍ ممَّن اشتمَلَتْ عليه الأُمَّةُ، وفيها مُنافِقُوها. وابتُدِئَ مِن ذلك بالتَّحذيرِ مِن هَيئةِ الكلامِ؛ فإنَّ النَّاسَ مُتفاوِتونَ في لِينِه، والنِّساءُ في كلامِهنَّ رِقَّةٌ طَبيعيَّةٌ، وقد يكونُ لِبَعضِهنَّ مِن اللَّطافةِ ولِينِ النَّفْسِ ما إذا انضَمَّ إلى لِينِها الجِبِلِّيِّ، قَرُبَت هَيئتُه مِن هيئةِ التَّدلُّلِ؛ لِقِلَّةِ اعتيادِ مِثلِه إلَّا في تلك الحالةِ، فإذا بَدا ذلك على بَعضِ النِّساءِ ظَنَّ بعضُ مَن يُشافِهُها مِن الرِّجالِ أنَّها تَتحبَّبُ إليه، فرُبَّما اجتَرَأَت نفْسُه على الطَّمعِ في المُغازَلةِ، فبدَرَتْ منه بادِرةٌ تكونُ مُنافيةً لحُرْمةِ المرأةِ، بلْهَ أزواجَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ اللَّاتي هنَّ أمَّهاتُ المؤمنينَ [642] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/8). .
- والباءُ في قولِه: بِالْقَوْلِ يجوزُ أنْ تكونَ للتَّعديةِ بمَنزلةِ هَمزةِ التَّعديةِ، أي: لا تُخضِعْنَ القولَ، أي: تَجعَلْنَه خاضعًا ذليلًا، أي: رقيقًا مُتفكِّكًا. ومَوقعُ الباءِ هنا أحسَنُ مِن مَوقعِ هَمزةِ التَّعديةِ؛ لأنَّ باءَ التَّعديةِ جاءتْ مِن باءِ المُصاحَبةِ؛ فأصْلُ قولِك: ذهَبْتُ بزَيدٍ، أنَّك ذهبْتَ مُصاحبًا له، فأنتَ أذْهَبْتَه معك، ثمَّ تُنوسِيَ معنى المُصاحَبةِ في نَحوِ: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [البقرة: 17] ؛ فلمَّا كان التَّفكُّكُ والتَّزيينُ للقولِ يَتبَعُ تَفكُّكَ القائلِ، أُسنِدَ الخُضوعُ إليهنَّ في صُورةٍ، وأُفِيدَت التَّعديةُ بالباءِ. ويجوزُ أنْ تكونَ الباءُ بمعنى (في)، أي: لا يكُنْ مِنكنَّ لِينٌ في القولِ [643] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/8، 9). .
- والنَّهيُ عن الخُضوعِ بالقولِ في قولِه: فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ إشارةٌ إلى التَّحذيرِ ممَّا هو زائدٌ على المُعتادِ في كَلامِ النِّساءِ مِن الرِّقَّةِ، وذلك تَرخيمُ الصَّوتِ، أي: لِيَكُنْ كلامُكنَّ جَزْلًا، وحُذِف مُتعلَّقُ فَيَطْمَعَ -أي: فيكُنَّ-؛ تَنزُّهًا وتَعظيمًا لِشَأْنِ نِساءِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مع قِيامِ القَرينةِ [644] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/9). .
- وعَطْفُ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا على فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ بمَنزلةِ الاحتِراسِ؛ لئلَّا يَحسَبْنَ أنَّ اللهَ كلَّفَهُنَّ بخَفْضِ أصواتِهنَّ كحَديثِ السِّرارِ [645] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/9). .
- والمَعروفُ: هو الَّذي يَألَفُه النَّاسُ بحسَبِ العُرْفِ العامِّ، ويَشملُ القولُ المعروفُ هَيئةَ الكلامِ، وهي الَّتي سِيقِ لها المَقامُ، ويَشملُ مَدلولاتُه: ألَّا يَنْتَهِرْنَ مَن يُكلِّمُهنَّ، أو يُسْمِعْنَه قولًا بذيئًا، مِن بابِ: فلْيقُلْ خيرًا أو لِيَصْمُتْ؛ وبذلك تكونُ هذه الجُملةُ بمَنزلةِ التَّذييلِ [646] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/9). .
2- قوله تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا
- قولُه: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ إضافةُ البُيوتِ إلى نِساءِ النَّبيِّ؛ لأنَّهنَّ ساكناتٌ بها، أسكَنَهنَّ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فكانتْ بيوتُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُميَّزُ بعضُها عن بعضٍ بالإضافةِ إلى ساكنةِ البيتِ [647] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/11). . وفيه إغراءٌ للنِّساءِ على لزومِ البيتِ؛ لأنَّه بيتُها وسِترُها، لذا قال: فِي بُيُوتِكُنَّ، وهي أبلغُ مِن: «وقَرْنَ في البيوتِ»، كأنَّه يقولُ: هذا البيتُ ما بُنِيَ إلَّا لكِ -سِتْرًا لك وصَوْنًا-؛ فالْزَمِي هذا البيتَ الَّذي مِن أجْلِكِ بُنِيَ [648] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 240). .
- قولُه: وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى فيه تَعريضٌ بنَهْيِ غَيرِهنَّ مِن المُسلماتِ عن التَّبرُّجِ؛ فإنَّ المدينةَ أيَّامَئذٍ قد بقِيَ فيها نِساءُ المنافقينَ، ورُبَّما كُنَّ على بَقيَّةٍ مِن سِيرتِهنَّ في الجاهليَّةِ؛ فأُرِيدَ النِّداءُ على إبطالِ ذلك في سِيرةِ المُسلماتِ، فنُسِبَ إلى أهْلِ الجاهليَّةِ؛ إذ كان قد تَقرَّرَ بيْنَ المسلمينَ تَحقيرُ ما كان عليه أمْرُ الجاهليَّةِ إلَّا ما أقَرَّه الإسلامُ [649] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/12، 13). .
- والمقصودُ مِن النَّهيِ الدَّوامُ على الانكِفافِ عن التَّبرُّجِ، وأنَّهنَّ مَنهيَّاتٌ عنه [650] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/12). .
- وأُرِيدَ بهذه الأوامرِ الدَّوامُ عليها؛ لأنَّهنَّ مُتلبِّساتٌ بمَضمونِها مِن قبْلُ، ولِيَعلَمَ النَّاسُ أنَّ المُقرَّبينَ والصَّالحينَ لا تَرتفِعُ دَرجاتُهم عندَ اللهِ تعالى عن حَقِّ تَوجُّهِ التَّكليفِ عليهم [651] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/13). .
- قولُه: وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ خَصَّ الصَّلاةَ والزَّكاةَ بالأمْرِ، ثمَّ جاء الأمْرُ عامًّا بالطَّاعةِ؛ لإنافَتِهما -أي: لشَرفِهما وعُلوِّهما- على غيرِهما، ولأنَّ هاتَينِ الطَّاعتينِ البَدنيَّةَ والماليَّةَ هما أصْلُ سائرِ الطَّاعاتِ، فمَنِ اعْتَنى بهما حقَّ العِنايةِ جرَّتاهُ إلى ما وراءَهما [652] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/538)، ((تفسير أبي السعود)) (7/103)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/13). .
- قولُه: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ تَعليلٌ لِمَا تَضمَّنَتْه الآياتُ السَّابقةُ مِن أمْرٍ ونَهْيٍ على الاستِئنافِ؛ ولذلك عُمِّمَ الحُكمُ بتَعميمِ الخِطابِ لِغَيرِهنَّ، وصَرَّحَ بالمَقصودِ حيثُ قِيل بطَريقِ النِّداءِ أو المَدْحِ: أَهْلَ الْبَيْتِ، مُرادًا بهمْ مَن حَواهم بَيتُ النُّبوَّةِ [653] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/231)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/422)، ((تفسير أبي السعود)) (7/103)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/14). .
- قولُه: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ الرِّجسُ في الأصْلِ: القذَرُ الَّذي يُلوِّثُ الأبدانَ، وعُبِّرَ به هنا عن الذُّنوبِ والنَّقائصِ الدِّينيَّةِ؛ لأنَّها تَجعَلُ عِرضَ الإنسانِ في الدُّنيا والآخرةِ مَرْذولًا مَكروهًا كالجِسمِ المُلوَّثِ بالقذَرِ، وعُبِّر بالتَّطهيرِ عن تَجنيبِ الذُّنوبِ والنَّقائصِ؛ لِمَزيدِ التَّنفيرِ عنها، وعُبِّر بالإذهابِ عن الإنجاءِ والإبعادِ [654] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/538)، ((تفسير البيضاوي)) (4/231)، ((تفسير أبي حيان)) (8/478)، ((تفسير أبي السعود)) (7/103)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/14). .
- وفي التَّعبيرِ بالفِعلِ المُضارعِ يُرِيدُ دَلالةٌ على تَجدُّدِ الإرادةِ واستِمرارِها [655] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/15). .
- والقَصرُ في قولِه: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ قَصرُ قلْبٍ [656] تقدم تعريفه (ص: 17). ، أي: ما يُرِيدُ اللهُ لَكُنَّ ممَّا أمَرَكنَّ ونَهاكُنَّ إلَّا عِصمتَكُنَّ مِن النَّقائصِ، وتَحليتَكُنَّ بالكَمالاتِ، ودوامَ ذلك، أي: لا يُرِيدُ مِن ذلك مَقْتًا لَكُنَّ ولا نِكايةً. وهذا وَجهُ مَجِيءِ صِيغَةِ القَصرِ بـ (إنَّما) [657] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/15). .
- قولُه: أَهْلَ الْبَيْتِ «أل» للعهدِ الذِّهنيِّ، كأنَّ هذا البيتَ معهودٌ معلومٌ بأذهانِ الناسِ، لا يَغيبُ عنها؛ لِمَا لهذا البيتِ مِن المكانةِ الرفيعةِ، والخَصْلةِ الحميدةِ، ففيه تفخيمُ هذا البيتِ وتعظيمُه [658] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 243). .
3- قوله تعالى: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا
- قولُه: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ فِعلُ (اذْكُرْنَ) يَجوزُ أنْ يكونَ مِن الذُّكرِ -بضَمِّ الذَّالِ- وهو التَّذكُّرُ، وهذه كلِمةٌ جامعةٌ تَشملُ المعنى الصَّريحَ منه، وهو ألَّا يَنْسَيْنَ ما جاء في القُرآنِ، ولا يَغفُلْنَ عن العملِ به، ويَشملُ المَعنى الكِنائيَّ؛ وهو أنْ يُرادَ مُراعاةُ العَملِ بما يُتْلى في بُيوتِهنَّ ممَّا يَنزِلُ فيها، وما يَقرَؤُه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فيها، وما يُبيِّنُ فيها مِن الدِّينِ، ويَشملُ معنًى كِنائيًّا ثانيًا؛ وهو تَذكُّرُ تلك النِّعمةِ العظيمةِ أنْ كانتْ بُيوتُهنَّ مَوقعَ تِلاوةِ القرآنِ. ويجوزُ أنْ يَكونَ مِن الذِّكرِ -بكَسرِ الذَّالِ-، وهو إجراءُ الكلامِ على اللِّسانِ، أي: بلِّغْنَه للنَّاسِ؛ بأنْ يَقرَأْنَ القرآنَ، ويُبلِّغْنَ أقوالَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وسِيرتَه. وفيه كِنايةٌ عن العَملِ به. ومَوقعُ مادَّةِ الذكرِ هنا مَوقعٌ شَريفٌ؛ لِتَحمُّلِها هذه المحاملَ مما لا يَتحمَّلُه غيرُها إلَّا بإطنابٍ [659] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/18، 19). .
- والتَّعرُّضُ للتِّلاوةِ في البُيوتِ دونَ النُّزولِ فيها، مع أنَّه الأنسَبُ لِكَونِها مَهبِطَ الوحْيِ؛ لِعُمومِها لِجَميعِ الآياتِ، ووُقوعِها في كلِّ البيوتِ، وتَكرُّرِها المُوجِبِ لِتَمكُّنِهنَّ مِن الذِّكرِ والتَّذكيرِ، بخِلافِ النُّزولِ. وعدَمُ تَعيينِ التَّالي؛ لِتَعُمَّ تِلاوةَ جِبريلَ، وتِلاوةَ النَّبيِّ عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ، وتِلاوتَهنَّ، وتِلاوةَ غيرِهنَّ؛ تَعليمًا وتَعلُّمًا [660] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/103). .
- وعَطْفُ وَالْحِكْمَةِ عطْفُ خاصٍّ على عامٍّ، وهو ما كان مِن القُرآنِ مَواعظَ وأحكامًا شرعيَّةً، على قولٍ في التَّفسيرِ [661] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/18). .
- وجُملةُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا تَعليلٌ للأمْرِ، وتَذييلٌ للجُمَلِ السَّابقةِ؛ فمَعنى الجُملةِ: أنَّه تعالى مَوصوفٌ باللُّطفِ والعِلمِ، كما دلَّ عليه فِعلُ (كان)؛ فيَشملُ عُمومُ لُطفِه وعِلْمِه لُطفَه بِهنَّ، وعِلْمَه بما فيه نفعُهنَّ [662] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/19). .