موسوعة التفسير

سورةُ الزُّخرُفِ
الآيات (9 - 14)

ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ

غريب الكلمات:

مَهْدًا: أي: مَكانًا مُمَهَّدًا مُوَطَّأً، وأصلُ (مهد): يدُلُّ على التَّوطئةِ للشَّيءِ وتَسهيلِه [72] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/554)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/280)، ((المفردات)) للراغب (ص: 780)، ((تفسير ابن كثير)) (7/219). .
سُبُلًا: أي: طُرُقًا، والسَّبيلُ: الطَّريقُ الَّذي فيه سُهولةٌ، وأصلُ (سبل): يدُلُّ على امتِدادِ شَيءٍ [73] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 123)، ((تفسير ابن جرير)) (20/554)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/129)، ((المفردات)) للراغب (ص: 395)، ((تفسير القرطبي)) (16/ 64). .
بِقَدَرٍ: أي: بمِقْدارٍ مَعْلومٍ، بِقَدْرِ حاجَتِكم إليه، وأصلُ (قدر): يدُلُّ على مَبْلَغِ الشَّيءِ وكُنْهِه ونِهايَتِه [74] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/ 555)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/ 62)، ((تفسير السمعاني)) (5/ 92). .
فَأَنْشَرْنَا: أي: أحْيَيْنا، وأصلُ (نشر): يدُلُّ على فَتحِ شَيءٍ وتَشَعُّبِه [75] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/555)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/430)، ((المفردات)) للراغب (ص: 806)، ((تفسير القرطبي)) (16/65). .
الْفُلْكِ: أي: السُّفُنِ، وواحدُه وجمْعُه بلفظٍ واحدٍ، وأصلُ الفلكِ: الاستِدارةُ في الشَّيءِ، ولَعلَّ السُّفُنَ سُمِّيتْ فُلكًا؛ لأنَّها تُدارُ في الماءِ [76] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 67)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/453)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 162)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 99). .
لِتَسْتَوُوا: أي: لِتَسْتَعلوا وتَستَقِرُّوا مُتَمَكِّنينَ، والاستِواءُ: الارتفاعُ والعُلُوُّ على الشَّيءِ، والاستِقرارُ في العلوِّ [77] يُنظر: ((التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد)) لابن عبد البر (7/ 131)، ((تفسير ابن كثير)) (7/ 220)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 648)، ((تفسير الشوكاني)) (4/ 628)، ((تفسير السعدي)) (ص: 48، 763). .
سُبْحَانَ: اسْمٌ وُضِع مَوضِعَ المصدرِ، ومعناه: التَّنزيهُ والتَّقديسُ، والتَّبرئةُ للرَّبِّ -جلَّ ثناؤُه- مِن السُّوءِ والنَّقائصِ، وكلِّ ما لا يَليقُ بجلالِه، وأصلُ (سبح) هنا: جِنسٌ مِن العِبادةِ [78] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 274)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/125)، ((البسيط)) للواحدي (13/ 243)، ((المفردات)) للراغب (ص: 392)، ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (2/ 331). قال الرَّاغب: (السَّبْحُ: المَرُّ السَّريعُ في الماءِ، وفي الهواءِ... والتَّسبِيحُ: تنزيهُ الله تعالى. وأصلُه: المَرُّ السَّريعُ في عبادةِ اللهِ تعالى، وجُعِل ذلك في فِعلِ الخَيرِ كما جُعِل الإبعادُ في الشَّرِّ، فقيل: أبعدَه الله، وجُعِل التَّسبِيحُ عامًّا في العباداتِ؛ قولًا كان أو فِعلًا أو نِيَّةً). ((المفردات في غريب القرآن)) (ص: 392). وقال الشنقيطي: (أحسَنُ أوجُهِ الإعرابِ في «سُبْحانَ» أنَّه مفعولٌ مُطلَقٌ، منصوبٌ بفعلٍ محذوفٍ، أي: أسبِّحُ اللهَ سُبحانًا، أي: تسبيحًا). ((أضواء البيان)) (3/ 7). .
مُقْرِنِينَ: أي: مُطيقِينَ وضابِطينَ، يُقالُ: فُلانٌ مُقرِنٌ لفُلانٍ، أي: ضابِطٌ له. وأقرَنتُ كذا، أي: أطَقْتُه. وأقرَنَ له، أي: أطاقَه وقَوِيَ عليه، كأنَّه صار له قِرْنًا. وقيل: مُماثِلينَ في القُوَّةِ، مِن قَولِهم: هو قِرنُ فُلانٍ: إذا كان مِثلَه في القُوَّةِ، وأصلُ (قرن) هنا: يدُلُّ على جَمعِ شَيءٍ إلى شَيءٍ [79] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 395)، ((تفسير ابن جرير)) (20/559)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 448)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/76)، ((البسيط)) للواحدي (20/17)، ((تفسير القرطبي)) (16/66). .
لَمُنْقَلِبُونَ: أي: راجِعونَ وصائِرونَ، وأصلُ (قلب): يدُلُّ على رَدِّ شَيءٍ مِن جِهةٍ إلى جِهةٍ [80] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 113)، ((تفسير ابن جرير)) (20/560)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/17)، ((المفردات)) للراغب (ص: 681)، ((تفسير ابن كثير)) (7/220). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى مبيِّنًا تناقُضَ المشركينَ، ومُعدِّدًا نِعَمَه سبحانَه: ولَئِنْ قُلتَ -يا مُحمَّدُ- للمُشرِكينَ: مَن خَلَق السَّمَواتِ والأرضَ؟ لَيَقولُنَّ: خَلَقهنَّ اللهُ العَزيزُ العَليمُ. وهو سُبحانَه الَّذي جَعَل لكم الأرضَ مُمهَّدةً، وجَعَل لكم فيها طُرُقًا؛ لَعَلَّكم تَهتَدونَ بها، والَّذي نزَّل مِنَ السَّماءِ مَطَرًا بمِقدارٍ مُعَيَّنٍ، فأحيَيْنا به بَلدةً مُجدِبةً، كذلك يُحييكم اللهُ بعدَ مَوتِكم، والَّذي خَلَق الأصنافَ جميعَها، وجَعَل لكم ما تَركَبونَه مِن سُفُنٍ وأنعامٍ؛ لِتَستَقِرُّوا على ظُهورِ الفُلكِ والأنعامِ، ثمَّ تَذْكُروا نِعمةَ رَبِّكم إذا استَويتُم عليها، وتقولوا: تَنزَّهَ اللهُ الَّذي ذَلَّل لنا هذا، وما كنَّا بمُطيقينَ تَذليلَها ورُكوبَها، وإنَّا إلى ربِّنا لَراجِعونَ!

تفسير الآيات:

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
بعدَ أن ذَكَر أنَّ المُشرِكينَ مُنهَمِكونَ فى كُفرِهم وإعراضِهم عمَّا جاء به القُرآنُ مِن توحيدِ اللهِ، والبَعثِ؛ أبان هنا أنَّ أفعالَهم تُخالِفُ أقوالَهم؛ فلَئِنْ سَألْتَهم عن الخالقِ لهذا الكَونِ مِن سمائِه وأرضِه لَيَقولُنَّ: اللهُ، وهم مع اعتِرافِهم به يَعبُدونَ الأوثانَ والأصنامَ [81] يُنظر: ((تفسير المراغي)) (25/71). !
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9).
أي: ولَئِنْ قُلتَ للمُشرِكينَ -يا محَمَّدُ: مَنِ الَّذي خَلَق السَّمَواتِ السَّبْعَ وخَلَق الأرَضِينَ؟ لَيَقولُنَّ مِن فَورِهم: خلَقَهنَّ اللهُ وَحْدَه، العزيزُ ذو القَدْرِ العَظيمِ، القاهِرُ الغالِبُ لِكُلِّ شَيءٍ، المُمتَنِعُ عليه كُلُّ عَيبٍ ونَقصٍ، العليمُ الَّذي لا يخفى عليه شَيءٌ [82] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/553)، ((تفسير ابن كثير)) (7/219)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/388، 389)، ((تفسير السعدي)) (ص: 763)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزخرف)) (ص: 60-62). قال الواحدي: (هذا إخبارٌ عن غايةِ جَهلِهم؛ إذ أقرُّوا بأنَّ اللهَ خَلَق السَّمَواتِ والأرضَ، ثمَّ عَبَدوا معه غيرَه، وأنكَروا قُدرتَه على البَعثِ!). ((الوسيط)) (4/65). .
ثمَّ دلَّ على نفْسِه بذكرِ مَصنوعاتِه، فقال [83] يُنظر: ((تفسير المراغي)) (25/72). :
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10).
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا.
أي: الَّذي جَعَل لكم الأرضَ ثابِتةً مُمهَّدةً، تتمَكَّنونَ فيها ممَّا تُريدونَ [84] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/553)، ((تفسير ابن كثير)) (7/219)، ((تفسير السعدي)) (ص: 763)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزخرف)) (ص: 64). قال الزمخشري: (فإنْ قُلتَ: قَولُه: لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ وما سُرِدَ مِن الأوصافِ عَقِيبَه إن كان مِن قَولِهم، فما تصنَعُ بقَولِه: فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ؟ وإن كان مِن قَولِ الله، فما وَجهُه؟ قُلتُ: هو مِن قَولِ اللهِ لا مِن قَولِهم، ومعنى قَولِه: لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ الَّذي مِن صِفتِه كَيْتَ وكَيْتَ، لَيَنسُبُنَّ خَلْقَها إلى الَّذي هذه أوصافُه، ولَيُسنِدُنَّه إليه). ((تفسير الزمخشري)) (4/238). وقال ابن تيميَّة: (هذه الصِّفاتُ مِن كَلامِ الله تعالى، ليست مِن تَمامِ جَوابِهم). ((مجموع الفتاوى)) (7/76). ويُنظر: ((تفسير القرطبي)) (16/64)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/ 388، 389). .
كما قال تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا [البقرة: 22] .
وقال سُبحانَه: وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ [الذاريات: 48].
وقال تبارك وتعالى: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا [النبأ: 6] .
وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ.
أي: وجعَلَ لكم في الأرضِ طُرُقًا يسَّرَ لكم المَشيَ فيها [85] ممَّن قال بأنَّ المرادَ بالسُّبُلِ هنا: الطُّرُقُ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، والسمرقندي، ومكِّي، والسمعاني، وابن عطية، وابن كثير، والبِقاعي، والشنقيطي، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير مقاتل ابن سليمان)) (3/790)، ((تفسير ابن جرير)) (20/553، 554)، ((تفسير السمرقندي)) (3/252)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (10/6631)، ((تفسير السمعاني)) (5/92)، ((تفسير ابن عطية)) (5/47)، ((تفسير ابن كثير)) (7/219)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/390)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/84)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزخرف)) (ص: 64، 65). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: قَتادةُ، والسُّدِّيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/554). وقيل: المرادُ: المعايشُ. وممَّن قال بهذا: القرطبي. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (16/64). وممّن جوَّز الجمْعَ بينَ المعنيينِ: ابنُ عاشورٍ، فقال: (السُّبُلُ: جَمعُ سَبيلٍ، وهو الطَّريقُ، ويُطلَقُ السَّبيلُ على وسيلةِ الشَّيءِ... ويَصِحُّ إرادةُ المعنيَينِ هنا؛ لأنَّ في الأرضِ طُرُقًا يُمكِنُ سُلوكُها، وهي السُّهولُ وسُفوحُ الجِبالِ وشِعابُها، أي: لم يَجعَلِ الأرضَ كُلَّها جِبالًا فيَعسُرَ على الماشينَ سُلوكُها، بل جعَلَ فيها سُبُلًا سَهلةً، وجَعَل جِبالًا لحِكمةٍ أُخرى، ولأنَّ الأرضَ صالحةٌ لاتِّخاذِ طُرُقٍ مَطروقةٍ سابِلةٍ. ومعنى جَعْلِ اللهِ تلك الطُّرُقَ بهذا المعنى: أنَّه جَعَل للنَّاسِ مَعرفةَ السَّيرِ في الأرضِ واتِّباعَ بَعضِهم آثارَ بَعضٍ؛ حتَّى تَتعَبَّدَ الطُّرُقُ لهم وتَتسَهَّلَ، ويَعلَمَ السَّائِرُ أيُّ تِلك السُّبُلِ يُوصِلُه إلى مَقصدِه. وفي تيسيرِ وسائلِ السَّيرِ في الأرضِ لُطفٌ عَظيمٌ؛ لأنَّ به تيسيرَ التَّجَمُّعِ والتَّعارُفِ، واجتِلابَ المنافِعِ، والاستِعانةَ على دَفعِ الغوائِلِ والأضرارِ. والسَّيرُ في الأرضِ قَريبًا أو بعيدًا مِن أكبرِ مَظاهِرِ المَدَنيَّةِ الإنسانيَّةِ، ولأنَّ اللهَ جَعَل في الأرضِ مَعايِشَ النَّاسِ مِن النَّباتِ والثَّمَرِ...، وهي وسائِلُ العَيشِ؛ فهي سُبُلٌ مَجازيَّةٌ). ((تفسير ابن عاشور)) (25/169، 170). ؛ لعَلَّكم تهتَدونَ بها [86] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/553، 554)، ((تفسير ابن عطية)) (5/47)، ((تفسير ابن كثير)) (7/219)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/390)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/84)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزخرف)) (ص: 64، 65). وممَّن قال بأنَّ المرادَ بالهدايةِ هنا هدايةُ الطُّرقِ، والاهتِداءُ في السَّيرِ مِن مَوضِعٍ لآخَرَ: ابنُ جرير، والسمرقندي، ومكي، والسمعاني، وابن كثير، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/554)، ((تفسير السمرقندي)) (3/252)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (10/6631)، ((تفسير السمعاني)) (5/92)، ((تفسير ابن كثير)) (7/219)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزخرف)) (ص: 64). وقيل: معنى: تَهْتَدُونَ: تَستَدِلُّونَ بمَقدوراتِه على قُدرتِه. وممَّن قال بهذا المعنى: القرطبيُّ. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (16/64). قال ابن عطية: (تَهْتَدُونَ معناه: في المَقاصِدِ مِن بلدٍ إلى بلدٍ، ومِن قُطرٍ إلى قُطرٍ. ويحتَمِلُ أن يريدَ: تهتَدونَ بالنَّظَرِ والاعتِبارِ). ((تفسير ابن عطية)) (5/47). وممَّن ذهب إلى الجَمعِ بيْنَ المعنيَينِ: السعدي، فقال: (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ في السَّيرِ في الطُّرقِ ولا تَضيعون، ولَعلَّكم تَهتدونَ أيضًا في الاعتبارِ بذلك والادِّكارِ فيه). ((تفسير السعدي)) (ص: 763). .
كما قال تبارك وتعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا * لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا [نوح: 19، 20].
وقال سُبحانَه: وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ [الأنبياء: 31].
وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه تعالى انتَقَل مِنَ الاستِدلالِ والامتِنانِ بخَلقِ الأرضِ، إلى الاستِدلالِ والامتِنانِ بخَلقِ وَسائِلِ العَيشِ فيها، وهو ماءُ المطَرِ الَّذي به تُنبِتُ الأرضُ ما يَصلُحُ لاقتِياتِ النَّاسِ [87] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/170). .
وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ.
أي: والَّذي نزَّل مِن السَّماءِ مَطَرًا بمِقدارِ حاجةِ النَّاسِ والنَّباتِ والأنعامِ؛ لِيَحصُلَ الانتِفاعُ به دونَ زيادةٍ مُهلِكةٍ، أو نُقصانٍ مُضِرٍّ [88] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/554، 555)، ((تفسير السمعاني)) (5/92)، ((تفسير ابن كثير)) (7/220)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/391)، ((تفسير الشوكاني)) (4/628)، ((تفسير السعدي)) (ص: 763). وممَّن ذَهَب إلى هذا المعنى المذكورِ لِقَولِه تعالى: بِقَدَرٍ: ابنُ جرير، والسمعاني، وابن كثير، والبِقاعي، والشوكاني، والسعدي. يُنظر: المصادر السابقة. وقيل: المرادُ: بقَدَرٍ سابِقٍ وقَضاءٍ. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/47)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/85). وممَّن حمَل الآيةَ على كِلا المعنيَينِ: ابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزخرف)) (ص: 67). .
كما قال تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ * وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ [الحجر: 21، 22].
وقال سُبحانَه: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ [المؤمنون: 18].
فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا.
أي: فأحيَيْنا بالماءِ بَلدةً مُجدِبةً مُقفِرةً [89] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/555)، ((تفسير القرطبي)) (16/65)، ((تفسير ابن كثير)) (7/220)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزخرف)) (ص: 67، 68). .
كما قال تعالى: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ [فاطر: 9] .
كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ.
أي: كما أحيَيْنا بالماءِ الأرضَ المَيْتةَ، وأخرَجْنا منها نَباتَها، كذلك يُحييكم اللهُ -أيُّها النَّاسُ- بعدَ مَوتِكم، فيُخرِجُكم يومَ القيامةِ مِن قُبورِكم [90] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/555)، ((تفسير القرطبي)) (16/65)، ((تفسير السعدي)) (ص: 763)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزخرف)) (ص: 68). .
عن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ما بيْنَ النَّفخَتينِ أربعون. قالوا يا أبا هريرةَ، أربعون يومًا؟ قال: أبَيْتُ [91] معناه: أبَيْتُ أن أجزِمَ أنَّ المرادَ أربعون يومًا أو شهرًا أو سَنةً، بل الَّذي أجزِمُ به أنَّها أربعون مُجمَلةً؛ لأنَّه إنَّما سَمِعَ (أربعين) ولم يُعَيَّنْ له. يُنظر: ((كشف المشكل من حديث الصحيحين)) لابن الجوزي (3/ 454)، ((شرح النووي على مسلم)) (18/ 91، 92). ! قالوا: أربعونَ شَهرًا؟ قال: أبَيْتُ! قالوا: أربعون سَنةً؟ قال: أبَيتُ. ثمَّ يُنزِلُ اللهُ مِنَ السَّماءِ ماءً فيَنبُتونَ كما يَنبُتُ البَقْلُ. قال: وليس مِن الإنسانِ شَيءٌ إلَّا يَبْلَى، إلَّا عَظمًا واحِدًا، وهو عَجْبُ الذَّنَبِ [92] هو العَظْمُ اللَّطيفُ الَّذي في أسفلِ فَقارِ الظَّهرِ، وأعلَى ما بيْنَ الأَليتَينِ، وهو رأسُ العُصعُصِ. يُنظر: ((التعليق على الموطأ)) للوقشي (1/ 268)، ((شرح النووي على مسلم)) (18/ 92)، ((طرح التثريب)) للعراقي (3/ 307). ، ومنه يُركَّبُ الخَلقُ يومَ القيامةِ)) [93] رواه البخاري (4935)، ومسلم (2955) واللفظ له. .
وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ هذا انتِقالٌ مِن الاستِدلالِ والامتِنانِ بخَلقِ وَسائِلِ الحياةِ، إلى الاستِدلالِ بخَلقِ وَسائِلِ الاكتِسابِ لصَلاحِ المعاشِ، وذَكَر منها وسائِلَ الإنتاجِ، وأتْبَعَها بوسائِلِ الاكتِسابِ بالأسفارِ للتِّجارةِ [94] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/172). .
وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا.
أي: واللهُ تعالى هو الَّذي خَلَق الأصنافَ جميعَها [95] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/790)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/406)، ((تفسير القرطبي)) (16/65)، ((تفسير ابن كثير)) (7/220)، ((تفسير السعدي)) (ص: 763)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/85). ممَّن اختار أنَّ المرادَ بالأزواجِ الأصنافُ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والزَّجَّاجُ، والثعلبي، والسمعاني، والزمخشري، والبيضاوي، والبِقاعي، وأبو السعود، والعُلَيمي، والشوكاني، والسعدي، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/790)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/406)، ((تفسير الثعلبي)) (8/329)، ((تفسير السمعاني)) (5/92)، ((تفسير الزمخشري)) (4/238)، ((تفسير البيضاوي)) (5/87)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/393)، ((تفسير أبي السعود)) (8/41)، ((تفسير العليمي)) (6/208)، ((تفسير الشوكاني)) (4/628)، ((تفسير السعدي)) (ص: 763)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/85). قال البقاعي: (وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا أي: الأصنافَ المُتشاكِلةَ الَّتي لا يَكمُلُ شَيءٌ منها غايةَ الكمالِ إلَّا بالآخَرِ؛ على ما دَبَّره سُبحانَه في نَظمِ هذا الوُجودِ كُلَّهَا مِنَ النَّباتِ والحيوانِ، وغيرِ ذلك مِن سائِرِ الأكوانِ). ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/393). وقال السمعاني: (قوله تعالَى: وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا أي: الأصنافَ كُلَّها، ويُقالُ لكُلِّ شَيئَينِ قَرينَينِ: زَوجانِ، وكلُّ واحدٍ منهما زَوجُ صاحِبِه، وذلك: السَّماءُ والأرضُ، واللَّيلُ والنَّهارُ، والشَّمسُ والقَمَرُ، والجنَّةُ والنَّارُ، وما أشبَهَ ذلك، وكذلك ما يَعودُ إلى أحوالِ الإنسانِ؛ مِن المَرَضِ والصِّحَّةِ، والفَقرِ والغِنى، والخَيرِ والشَّرِّ، والنَّومِ واليَقَظةِ، وما أشبَهَ ذلك). ((تفسير السمعاني)) (5/92). وقال السعدي: (وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا أي: الأصنافَ جميعَها مِمَّا تُنبِتُ الأرضُ ومِن أنفُسِهم ومِمَّا لا يَعلَمونَ؛ مِن لَيلٍ ونَهارٍ، وحَرٍّ وبَردٍ، وذَكَرٍ وأُنثى، وغيرِ ذلك). ((تفسير السعدي)) (ص: 763). وقال الماوَرْدي: (قَولُه عزَّ وجَلَّ: وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا فيه ثلاثةُ أوجُهٍ؛ أحَدُها: الأصنافُ كُلُّها. قاله سعيدُ بنُ جُبَيرٍ. الثَّاني: أزواجُ الحيَوانِ مِن ذكَرٍ وأُنثى. قاله ابنُ عيسى. الثَّالثُ: أنَّ الأزواجَ الشِّتاءُ والصَّيفُ، واللَّيلُ والنَّهارُ، والسَّمواتُ والأرضُ، والشَّمسُ والقَمَرُ، والجنَّةُ والنَّارُ. قاله الحَسَنُ. ويحتَمِلُ رابعًا: أنَّ الأزواجَ ما يتقَلَّبُ فيه النَّاسُ مِن خيرٍ وشَرٍّ، وإيمانٍ وكُفرٍ، وغِنًى وفَقرٍ، وصِحَّةٍ وسُقمٍ). ((تفسير الماوردي)) (5/217). وقال القرطبي عن الاحتمالِ الأخيرِ: (وهذا القولُ يَعُمُّ الأقوالَ كلَّها، ويَجمَعُها بعُمومِه). ((تفسير القرطبي)) (16/65). وممَّن اختار أنَّ المعنى: خَلَق كُلَّ شَيءٍ فزَوَّجَه، أي: خَلَق للذُّكورِ مِن الإناثِ أزواجًا، وللإناثِ مِن الذُّكورِ أزواجًا: ابنُ جرير، والقاسمي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/556)، ((تفسير القاسمي)) (8/380). وقال ابن عاشور: (الأزواجُ: جَمعُ زَوجٍ، وهو كُلُّ ما يصيرُ به الواحِدُ ثانيًا، فيُطلَقُ على كُلٍّ منهما أنَّه زَوجٌ للآخَرِ، مِثلُ الشَّفعِ. وغُلِّبَ الزَّوجُ على الذَّكَرِ وأنثاه مِنَ الحيوانِ... وتُوسِّعَ فيه فأُطلِقَ الزَّوجُ على الصِّنْفِ... وكِلا الإطلاقَينِ يَصِحُّ أن يُرادَ هنا). ((تفسير ابن عاشور)) (25/172). واختار ابنُ عثيمين أنَّ المرادَ الأصنافُ، وأنَّه يحتَمِلُ أن يكونَ المرادُ الشَّيئَينِ المُزدَوِجَينِ اللَّذينِ يَتولَّدُ بيْنَهما ثالِثٌ؛ كالذَّكَرِ والأُنثى، والسَّالِبِ والمُوجَبُ، وما أشْبَهَ ذلك، وبما أنَّ الآيةَ تحتمِلُ المَعنَيينِ ولا يَتنافَيانِ فتُحمَلُ عليهما جميعًا. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزخرف)) (ص: 70، 71). .
كما قال تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ [يس: 36] .
وقال سُبحانَه: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الذاريات: 49].
وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ.
أي: وجَعَل لكم سُفُنًا تَركَبونَها في البَحرِ، وأنعامًا [96] قيل: كالإبِلِ والخَيلِ، والبِغالِ والحَميرِ. وممَّن قال بهذا المعنى: ابنُ جرير، والسمرقندي، ومكِّي، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/556)، ((تفسير السمرقندي)) (3/253)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (10/6633)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزخرف)) (ص: 71). وقيل: يعني بالأنعامِ: الإبلَ والبقرَ. وممَّن اختاره: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/790). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ. يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (5/217). وقيل: هي الإبِلُ. وممَّن ذهب إلى ذلك: السمعاني، والقرطبي، والشوكاني، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (5/93)، ((تفسير القرطبي)) (16/65)، ((تفسير الشوكاني)) (4/628)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/172). قال ابن عطية: (ومِنَ في قَولِه: مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ للتَّبعيضِ؛ وذلك أنَّه لا يُركَبُ مِن الأنعامِ غيرُ الإبِلِ، وتدخُلُ الخَيلُ والبِغالُ والحَميرُ فيما يُركَبُ، بالمعنى). ((تفسير ابن عطية)) (5/47). والإبلُ وإن كان ركوبُها والحملُ عليها هو الأغلَبَ، لكنَّ البقرَ في بعضِ البلاد تُركَبُ أيضًا ويَحمِلون عليها الأحمالَ الثَّقيلةَ. يُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (2/334)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/331). تَركَبونَها في البَرِّ؛ تَنقُلُكم إلى حيثُ أردتُم [97] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/556)، ((معاني القرآن)) للزجاج (4/406)، ((تفسير القرطبي)) (16/65)، ((تفسير ابن عادل)) (17/235، 236)، ((تفسير السعدي)) (ص: 763). .
كما قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ [غافر: 79، 80].
لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى النِّعمةَ النَّاشِئةَ عن مُطلَقِ الإيجادِ؛ ذكَّرَ بنِعمةِ الرَّاحةِ فيها [98] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/394). .
لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ.
أي: لِتَستقِرُّوا مُتمَكِّنينَ مُرتَفِعينَ على ظُهورِ الفُلْكِ والأنعامِ [99] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/556)، ((تفسير ابن كثير)) (7/220)، ((تفسير السعدي)) (ص: 763)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/86)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزخرف)) (ص: 72، 73). .
ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا أتَمَّ اللهُ تعالى النِّعمةَ بخَلقِ كُلِّ ما تدعو إليه الحاجةُ، وجَعَله على وَجهٍ دالٍّ على ما له مِن الصِّفاتِ؛ ذكَرَ ما ينبغي أن يكونَ مِن غايتِها مِن شُكرِ المُنعِمِ، فقال دالًّا على عَظيمِ قَدْرِ النِّعمةِ، وعُلُوِّ غايتِها، وعُلُوِّ أمرِ الذِّكرِ- بحَرفِ التَّراخي [100] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/394). :
ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ.
أي: ثمَّ تَذكُروا بقُلوبِكم -أيُّها النَّاسُ- نِعمةَ رَبِّكم بتيسيرِه لكم ما تَركبونَه في البَرِّ والبَحرِ، إذا استَقررْتُم عليه [101] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/557)، ((تفسير القرطبي)) (16/66)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/394)، ((تفسير السعدي)) (ص: 763)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/86)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزخرف)) (ص: 73). .
وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا.
أي: وتَقولوا بألسِنَتِكم: تَنزَّهَ اللهُ عن كُلِّ ما لا يَليقُ بكَمالِه؛ الَّذي ذَلَّل لنا هذا الَّذي نَركَبُه مِن الفُلْكِ والأنعامِ [102] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/557)، ((تفسير القرطبي)) (16/66)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/394، 395)، ((تفسير السعدي)) (ص: 763)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/86، 87)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزخرف)) (ص: 73). قال ابن عاشور: (التَّسخيرُ: التَّذليلُ والتَّطويعُ، وتسخيرُ اللهِ الدَّوابَّ هو خَلْقُه إيَّاها قابِلةً للتَّرويضِ، فاهمةً لِمُرادِ الرَّاكبِ؛ وتسخيرُ الفُلكِ حاصِلٌ بمُجموعِ خَلقِ البَحرِ صالِحًا لسَبحِ السُّفُنِ على مائِه، وخَلقِ الرِّياحِ تهُبُّ فتَدفعُ السُّفُنَ على الماءِ، وخَلْقِ حيلةِ الإنسانِ لصُنعِ الفُلكِ، ورَصدِ مَهابِّ الرِّياحِ، ووَضعِ القُلوعِ والمجاذيفِ، ولولا ذلك لَكانت قوَّةُ الإنسانِ دونَ أن تَبلُغَ استِخدامَ هذه الأشياءِ القويَّةِ! ولهذا عقَّب بقَولِه: وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ، أي: مُطِيقِينَ، أي: بمُجَرَّدِ القُوَّةِ الجَسَديَّةِ، أي: لولا التَّسخيرُ المَذكورُ؛ فجُملَةُ وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ في مَوضِعِ الحالِ مِن ضَميرِ لَنَا، أي: سخَّرَها لنا في حالِ ضَعفِنا بأنْ كان تَسخيرُه قائِمًا مَقامَ القُوَّةِ). ((تفسير ابن عاشور)) (25/175). .
كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ * وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ [يس: 71 - 73].
وقال سُبحانَه: اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الجاثية: 12] .
وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ.
أي: وما كُنَّا لتلك المراكِبِ بمُطيقينَ ولا قادِرينَ على تَذليلِها ورُكوبِها وقِيادِها لولا أنَّ الله سُبحانَه سَخَّرها لنا [103] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/559)، ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/234)، ((تفسير ابن كثير)) (7/220)، ((تفسير السعدي)) (ص: 763)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/175)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزخرف)) (ص: 75). .
كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ [يس: 71، 72].
وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان راكِبُ السَّفينةِ أو الدَّابَّةِ مُتَعَرِّضًا للهلاكِ بما يُخافُ مِن غَرَقِ السَّفينةِ، أو سُقوطِه عن الدَّابَّةِ؛ أُمِرَ بذِكرِ الحَشرِ؛ لِيَكونَ مُستعِدًّا للمَوتِ الَّذي قد يَعرِضُ له [104] يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/255). .
وأيضًا لَمَّا ذكَرَ السَّيرَ الدُّنْيَويَّ؛ نَبَّهَ على السَّيرِ الأُخرويِّ [105] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/220)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/ 396). ، فقال:
وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14).
أي: وإنَّا إلى رَبِّنا لَراجِعونَ بعدَ مَوتِنا للحِسابِ والجَزاءِ [106] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/560)، ((تفسير ابن كثير)) (7/220)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/396)، ((تفسير السعدي)) (ص: 763)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/175). .
عن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان إذا استوى على بَعيرِه خارجًا إلى سَفَرٍ، كبَّرَ ثلاثًا، ثمَّ قال: سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ، اللَّهُمَّ إنَّا نسألُك في سَفَرِنا هذا البِرَّ والتَّقْوى، ومِنَ العَمَلِ ما تَرضى، اللَّهُمَّ هَوِّنْ علينا سَفَرَنا هذا، واطْوِ عنَّا بُعْدَه، اللَّهُمَّ أنت الصَّاحِبُ في السَّفَرِ، والخليفةُ في الأهلِ، اللَّهُمَّ إنِّي أعوذُ بك مِن وَعْثاءِ السَّفَرِ [107] وَعْثاءِ السَّفَرِ: أي: مَشَقَّتِه وشِدَّتِه. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (4/1680). ، وكآبةِ المَنظَرِ، وسُوءِ المُنقَلَبِ في المالِ والأهلِ. وإذا رجَعَ قالَهُنَّ، وزاد فيهنَّ: آيِبونَ تائِبونَ عابِدونَ، لِرَبِّنا حامِدونَ)) [108] رواه مسلم (1342). .
وعن عليِّ بنِ رَبيعةَ، قال: ((شَهِدتُ عَليًّا أي: ابنَ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه وأُتِيَ بدابَّةٍ لِيَركَبَها، فلمَّا وَضَع رِجْلَه في الرِّكابِ قال: باسمِ اللهِ، فلمَّا استوى على ظَهرِها قال: الحَمدُ للهِ، ثمَّ قال: سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ، ثمَّ قال: الحَمدُ للهِ -ثلاثَ مرَّاتٍ-، ثمَّ قال: اللهُ أكبَرُ -ثلاثَ مرَّاتٍ-، ثمَّ قال: سُبحانَك إنِّي ظَلَمتُ نَفْسي فاغفِرْ لي؛ فإنَّه لا يَغفِرُ الذُّنوبَ إلَّا أنت. ثمَّ ضَحِكَ! فقيل: يا أميرَ المؤمِنينَ، مِن أيِّ شَيءٍ ضَحِكتَ؟! قال: رأيتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فَعَل كما فعَلْتُ ثمَّ ضَحِكَ! فقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، مِن أيِّ شَيءٍ ضَحِكتَ؟! قال: إنَّ رَبَّك يَعجَبُ مِن عَبدِه إذا قال: اغفِرْ لي ذُنوبي، يَعلَمُ أنَّه لا يَغفِرُ الذُّنوبَ غيري!)) [109] أخرجه أبو داود (2602) واللَّفظُ له، والترمذي (3446)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (8800)، وأحمد (753). قال الترمذي: (حسَنٌ صحيحٌ). وصَحَّح الحديثَ ابنُ حِبَّانَ في ((الصحيح)) (2698)، والألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (2602)، وصَحَّح إسنادَه النوويُّ في ((الأذكار)) (280)، وابنُ القيِّم في ((صيغ الحمد)) (ص: 43)، وأحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (2/110)، وحسَّن الحديثَ شعيبٌ الأرناؤوطُ في تخريج ((سنن أبي داود)) (2602). .

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ الإشارةُ إلى أنَّه إذا كان المقصودُ الحِسِّيُّ يَحتاجُ إلى طُرُقٍ فكذلك المقصودُ المعنويُّ -وهو الوُصولُ إلى دارِ كرامةِ اللهِ عزَّ وجلَّ- فإنَّه يَحتاجُ إلى طُرُقٍ، فلا بُدَّ أنْ نَسلُكَ هذه الطُّرُقَ حتَّى نَصِلَ إلى المقصودِ، فإنْ لم نَسْلُكْها فلن نَصِلَ إلى المقصودِ [110] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزخرف)) (ص: 68). .
2- قال الله تعالى: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ كم مِن راكِبِ دابَّةٍ عَثَرتْ به أو شَمَسَت [111] شَمَسَت: أي: شَرَدت وجَمَحت، ومَنَعت ظَهْرَها عن الرُّكوبِ؛ لشِدَّةِ شَغْبِها وحِدَّتِها. يُنظر: ((تاج العروس)) للزَّبِيدي (16/174). أو تقَحَّمت [112] تقَحَّمت: رَمَت بنَفْسِها فَجأةً بلا رَويَّةٍ. يُنظر: ((تاج العروس)) للزبيدي (33/228). أو طاحَ مِن ظَهرِها فهَلَك! وكم مِن راكِبينَ في سفينةٍ انكَسَرت بهم فغَرِقوا، فلمَّا كان الرُّكوبُ مُباشَرةَ أمرٍ مُخطِرٍ، واتِّصالًا بسَبَبٍ مِن أسبابِ التَّلَفِ؛ كان مِن حَقِّ الرَّاكِبِ وقد اتَّصَل بسَبَبٍ مِن أسبابِ التَّلَفِ ألَّا يَنسى هلاكَه عندَ اتِّصالِه به يومَه، وأنَّه هالِكٌ لا مَحالةَ فمُنقَلِبٌ إلى اللهِ غيرُ مُنفَلِتٍ مِن قَضائِه؛ وألَّا يَدَعَ ذِكرَ ذلك بقَلْبِه ولِسانِه حتَّى يكونَ مُستَعِدًّا لِلِقاءِ اللهِ بإصلاحِه مِن نَفْسِه، والحَذَرِ مِن أن يكونَ رُكوبُه ذلك مِن أسبابِ مَوتِه في عِلمِ اللهِ، وهو غافِلٌ عنه [113] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/240). ، فينبغي للمُتلَبِّسِ بهذه الحالةِ استِذكارُ الآخرةِ، والاستِعدادُ لها، فلْيَجتلِبْ ما يُنجيه؛ مِن طاعةِ الله، ويجتنبْ ما يُرديه مِن معصيتِه [114] يُنظر: ((تفسير الرسعني)) (7/103). .
3- قَولُه تعالى: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ أي: لَصائِرونَ إليه بعدَ مَماتِنا، وإليه سَيرُنا الأكبَرُ. وهذا مِن بابِ التَّنبيهِ بسَيرِ الدُّنيا على سَيرِ الآخِرةِ [115] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/220). ، فتأمَّلْ كيف نبَّهَهم بالسَّفَرِ الِحسِّيِّ على السَّفَرِ إليه، وجمَعَ لهم بيْنَ السَّفَرينِ كما جَمَع لهم الزَّادَينِ في قَولِه تعالى: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة: 197] ، فجَمَع لهم بيْنَ زادِ سَفَرِهم وزادِ مَعادِهم، وكما جمَعَ بيْنَ اللِّباسَينِ في قَولِه تعالى: يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ [الأعراف: 26] ، فذكَرَ سُبحانَه زينةَ ظَواهِرِهم وبواطِنِهم، ونبَّهَهم بالحِسِّيِّ على المَعنويِّ. وفَهْمُ هذا القَدرِ زائِدٌ على فَهمِ مُجَرَّدِ اللَّفظِ ووَضعِه في أصلِ اللِّسانِ [116] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/173، 174). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ دَليلٌ على أنَّ الإنسانَ لا يكونُ بإقرارِه ببَعضِ الحَقِّ مُؤمِنًا حتَّى يُقِرَّ بجَميعِه، وأنَّ الكُفرَ ببَعضِ الحَقِّ كُفرٌ بجَميعِه؛ فالقَومُ قالوا حقًّا، ولم يَنفعْهم الإقرارُ به وقد رَدُّوا غيرَه [117] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/123). !
2- في قَولِه تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ أنَّ مُشرِكي العَرَبِ كانوا مُتَّفِقينَ على أنَّ أربابَهم لم تُشارِكِ اللهَ في خلْقِ السَّمَواتِ والأرضِ، بل كانوا مُقِرِّينَ بأنَّ اللهَ وحْدَه خَلَق السَّمَواتِ والأرضَ وما بيْنَهما [118] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/75). .
3- قال تعالى: جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا، ووَجْهُ الامتِنانِ: أنَّه جعَلَ ظاهِرَ الأرضِ مُنبَسِطًا، وذلك الانبِساطُ لنَفْعِ البَشَر السَّاكِنينَ عليها، وهذا لا يُنافِي أنَّ جِسمَ الأرضِ كُرَوِيٌّ، كما هو ظاهِرٌ [119] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/169). .
4- قَولُه تعالى: لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ فيه إثباتُ حِكمةِ اللهِ سُبحانَه وتعالى فيما يَخلُقُ، وحِكمةُ اللهِ عزَّ وجلَّ فيما يَخلُقُ وفيما يُشَرِّعُ: ثابِتةٌ، لكِنْ مِن الحِكَمِ ما نَعلَمُ، ومِن الحِكَمِ ما لا نَعلَمُ؛ لقُصورِ أفهامِنا، ومِن الحِكَمِ ما يَعلَمُه كثيرٌ مِن النَّاسِ، وتخفَى على كثيرينَ آخَرينَ [120] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزخرف)) (ص: 68). .
5- في قَولِه تعالى: وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وأمثالِه في القُرآنِ: دليلٌ على ثُبوتِ الأسبابِ، وأنَّها غيرُ مُؤثِّرةٍ في توكُّلِ المتوكِّلينَ، ولا في قُدرةِ الخالقِ؛ فاللهُ جلَّ جلالُه -لا محالةَ- قاِدرٌ على إنشارِ الأرضِ بغيرِ مَطَرٍ، فأنشَرَها بالمطَرِ [121] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/123). .
6- في قَولِه تعالى: كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ إثباتُ القياسِ، وأنَّه دَليلٌ، وهو دَليلٌ عَقليٌّ ثابتٌ بالدَّليلِ السَّمعيِّ؛ وذلك أنَّ العَقلَ يَنتَقِلُ مِن المَقيسِ عليه إلى المَقيسِ، فهو دَليلٌ عقليٌّ باعتبارِ كيفيَّةِ الاستِدلالِ به، وهو دَليلٌ سَمعيٌّ؛ لِثُبوتِه شَرعًا [122] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزخرف)) (ص: 69). . ففي قولِه: كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ قاسَ الغائبَ -وهو إحياءُ الموتى- على الحاضرِ الَّذي تُشاهِدونَه، وهذا مِن طُرُقِ التَّعليلِ والتَّفهيمِ [123] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزخرف)) (ص: 69). .
7- قَولُ الله تعالى: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ، فيه سؤالٌ: يُقالُ: (ركِبوا الأنعامَ)، و(ركِبوا في الفلكِ)، وقد ذكَر الجنسينِ، فكيف قال: تَرْكَبُونَ؟
الجوابُ: غُلِّب المتعدِّي بغيرِ واسِطةٍ؛ لقوَّتِه على المتعدِّي بواسِطةٍ [124] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/621). .
8- قَولُه: لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ إنْ قيل: كيف لم يقُلْ: (على ظُهورِها)، وقد تقدَّم لفظُ الجَمعِ؟
والجوابُ مِن وُجوهٍ:
الأوَّلُ: أنَّ قولَه: عَلَى ظُهُورِهِ يَنصَرِفُ إلى كلمةِ مَا في قولِه: مَا تَرْكَبُونَ، ومَعْناه: لتَسْتووا على ظُهورِ ما تَركبونَه [125] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (5/93) .
الثَّاني: أنَّه أضافَ الظَّهرَ إلى واحدٍ فيه معنى الجمْعِ بمَنزلةِ الجِنسِ؛ فلذلك ذكَّرَه، وجمَعَ الظُّهورَ باعتبارِ مَعناها.
 الثَّالثُ: أنَّ التَّأنيثَ فيها ليس حقيقيًّا؛ فجاز أنْ يَختلِفَ اللَّفظُ فيه، كما يُقالُ: عِندي مِن النِّساءِ مَن يُوافِقُك [126] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (17/236). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الرازي)) (27/621)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/86). .
9- قَولُ الله تعالى: لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ فيه استِحبابُ هذا الذِّكرِ عندَ رُكوبِ الدَّابَّةِ والسَّفينةِ [127] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 232). ويُنظر أيضًا: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/184). قال ابن عثيمين: (وهذا الذِّكرُ عامٌّ، كُلَّما رَكِبْتَ السَّيَّارةَ أو البَعِيرَ أو الطَّائرةَ تَذْكُرُ هذا: سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزخرف)) (ص: 75). .
10- في قَولِه تعالى: وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ كان الَّذي يَتبادَرُ أنْ يقولَ الإنسانُ: «الحَمدُ للهِ الَّذي سَخَّرَ لنا هذا»، ولكنَّه أمَرَ أنْ يَقولَ: سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا؛ لأنَّ «سُبحانَ» تدُلُّ على التَّنزيهِ -يعني: تنزيهَ اللهِ عزَّ وجلَّ عن الحاجةِ وعن النَّقصِ-، فكأنَّ الإنسانَ يَشعُرُ إذا رَكِبَ على هذه الفُلْكِ والأنعامِ أنَّه مُحتاجٌ إليه، يَستعينُ به على حاجاتِه؛ فيُسَبِّحُ اللهَ عزَّ وجلَّ الَّذي هو مُستَغنٍ عن كلِّ خَلْقِه؛ فكان التَّسبيحُ في هذا المقامِ أنسَبَ [128] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (4/601). . وأيضًا فإنَّ التَّسبيحَ يَقتضي تنزيهَ الله تعالى عن كلِّ عَيبٍ وسوءٍ، وإثباتَ صِفاتِ الكمالِ له؛ فإنَّ التَّسبيحَ يَقتضي التَّنزيهَ والتَّعظيمَ، والتَّعظيمَ يَستلزِمُ إثباتَ المحامِدِ الَّتي يُحمَدُ عليها [129] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/ 125). .
11- قولُه تعالى: هَذَا في قولِه: سَخَّرَ لَنَا هَذَا راجِعةٌ إلى لَفظِ مَا مِن قَولِه: مَا تَرْكَبُونَ، وجَمَع الظُّهورَ نَظَرًا إِلَى مَعْنَى مَا؛ لأنَّ مَعْناها عامٌّ شامِلٌ لكُلِّ ما تَشْملُه صِلَتُها، ولَفْظُها مُفْرَدٌ، فالجمعُ في الآيةِ باعتبارِ مَعْناها، والإفرادُ باعتبارِ لَفْظِها [130] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/86). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ لَمَّا كان قَولُه: وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ [الزخرف: 6] مُوَجَّهًا إلى الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ للتَّسليَةِ والوَعدِ بالنَّصرِ؛ عَطَف عليه خِطابَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ صريحًا بقَولِه: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ الآيةَ؛ لِقَصدِ التَّعجيبِ مِن حالِ الَّذين كذَّبوه؛ فإنَّهم إنَّما كذَّبوه لأنَّه دَعاهُم إلى عِبادةِ إلهٍ واحِدٍ، ونَبْذِ عِبادةِ الأصنامِ، ورَأَوْا ذلك عَجَبًا مع أنَّهم يُقِرُّون للهِ تعالى بأنَّه خالِقُ العَوالِمِ وما فيها، وهلْ يَستحِقُّ العِبادةَ غيرُ خالقِ العابِدِينَ؟! ولأنَّ الأصنامَ مِن جُملةِ ما خلَقَ اللهُ في الأرضِ مِن حِجارةٍ، فلو سأَلَهم الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في مُحاجَّتِه إيَّاهم عن خالِقِ الخلْقِ لَما استَطاعوا غيرَ الإقرارِ بأنَّه اللهُ تعالى؛ فجُملَةُ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَعطوفةٌ على جُملةِ وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ [الزخرف: 6] عَطْفَ الغَرَضِ، وهو انتِقالٌ إلى الاحتِجاجِ على بُطلانِ الإشراكِ بإقرارِهم الضِّمنِيِّ: أنَّ أصنامَهم خالِيَةٌ عن صِفةِ استِحقاقِ أن تُعبَدَ [131] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/360)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/167). .
- وتاءُ الخِطابِ في سَأَلْتَهُمْ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وهو ظاهِرُ سِياقِ التَّسلِيةِ، أو يكونُ الخِطابُ لِغَيرِ مُعَيَّنٍ؛ لِيَعُمَّ كلَّ مُخاطَبٍ يُتصَوَّرُ منه أنْ يَسألَهم [132] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/168). .
- قولُه: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ ... لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ فيه تَأْكيدُ الكَلامِ باللَّامِ المُوَطِّئةِ للقَسَمِ، ولامِ الجَوابِ، ونُونِ التَّوكيدِ؛ لتَحقيقِ أنَّهم يُجيبون بذلك، تَنزيلًا لغَيرِ المُتَرَدِّدِ في الخَبَرِ مَنزِلَةَ المُتردِّدِ، وهذا التَّنزيلُ كِنايةٌ عن جَدارةِ حالَتِهم بالتَّعجيبِ مِنِ اختِلالِ تَفكيرِهم، وتَناقُضِ عَقائِدِهم [133] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/167). .
- وكرَّرَ الفِعلَ في الجَوابِ في قولِه: خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ؛ مُبالَغةً في التَّوكيدِ [134] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/361). .
- قيل: حَذَف سُبحانَه المَوصوفَ، وهو اللهُ تعالَى، وأقامَ صِفاتِه مُقامَه؛ لأنَّ الكَلامَ مُجَزَّأٌ؛ فبَعضُه مِن قَولِهم، وبَعضُه مِن قَولِ اللهِ تعالَى؛ فالَّذي هو مِن قَولِهم: خَلَقَهُنَّ، وما بَعدَه هو مِن قَولِ اللهِ تعالى، وأصلُ الكلامِ: أنَّهم قالوا: خَلَقَهُنَّ اللهُ؛ بدَلالةِ قَولِه في آيةٍ أُخرى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان: 25] و[الزمر: 38] ، ثمَّ لَمَّا قالوا: خلَقهُنَّ اللهُ؛ وَصَف اللهُ تعالى ذاتَه بهذه الصِّفاتِ، وأُقيمَت مُقامَ المَوصوفِ كأنَّه كَلامٌ واحِدٌ، ونَظيرُ هذا أنْ تَقولَ للرَّجُلِ: مَنْ أكرَمَك مِنَ القَومِ؟ فيَقولُ: أكرَمَني زَيدٌ، فتَقولُ أنت واصِفًا له: الكَريمُ الجَوَادُ المِفضالُ الَّذي مِن صِفَتِه كذا وكذا [135] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/69). . وأيضًا عُدِل عن الاسمِ العَليِّ إلى الصِّفتينِ؛ زِيادةً في إفحامِهم بأنَّ الَّذي انصَرَفوا عن تَوحيدِه بالعِبادةِ عَزيزٌ عليمٌ؛ فهو الَّذي يجِبُ أنْ يَرجُوَه النَّاسُ للشَّدائدِ؛ لعِزَّتِه، وأنْ يُخلِصوا له باطِنَهم؛ لأنَّه لا يَخفَى عليه سِرُّهم، بخِلافِ شُركائِهم؛ فإنَّها أذِلَّةٌ لا تَعلَمُ، وأنَّهم لا يُنازِعون في وَصفِه بالعَزيزِ العليمِ. وتَخصيصُ هاتَينِ الصِّفَتَينِ بالذِّكرِ مِن بَينِ بَقِيَّةِ الصِّفاتِ الإلهيَّةِ؛ لأنَّها مُضادَّةٌ لصِفاتِ الأصنامِ؛ فإنَّ الأصنامَ عاجِزةٌ عن دَفعِ الأيدِي [136] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/237)، ((تفسير البيضاوي)) (5/87)، ((تفسير أبي حيان)) (9/360)، ((تفسير أبي السعود)) (8/40)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/168). .
- وقيل: الظَّاهرُ أنَّ: خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ نفْسُ المَحْكِيِّ مِن كَلامِهم، ولا يدُلُّ كَونُهم ذَكَروا في مكانٍ: خلَقَهنَّ اللهُ، ألَّا يَقولوا في سُؤالٍ آخَرَ: خلَقَهنَّ العزيزُ العليمُ [137] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/360). .
2- قولُه تعالَى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ كلامٌ مُوَجَّهٌ مِن اللهِ تعالى، وهو تَخَلُّصٌ مِنَ الاستِدلالِ على تَفَرُّدِه بالإلهيَّةِ بأنَّه المُنفَرِدُ بخَلقِ السَّمواتِ والأرضِ، إلى الاستِدلالِ بأنَّه المُنفَرِدُ بإسْداءِ النِّعَمِ الَّتي بها قِوامُ أَوَدِ حَياةِ النَّاسِ؛ فالجُملةُ استِئنافٌ حُذِفَ منها المُبتَدَأُ، والتَّقديرُ: هو الَّذي جَعَل لكمُ الأرضَ مَهْدًا؛ وهذا الاستِئنافُ مُعتَرَضٌ بيْنَ جُملةِ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ [الزخرف: 9] الآيةَ، وجُملةِ وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا [الزخرف: 15] الآيةَ [138] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/168، 169). .
- واسمُ المَوصولِ الَّذِي خَبرٌ لمُبتدَأٍ مَحذوفٍ تَقديرُه: هو الَّذي جَعَل لكم، وهو مِن حَذفِ المُسنَدِ إليه الوارِدِ على مُتابَعةِ الاستِعمالِ [139] وذلك أنَّ العرَبَ إذا أجْرَوا حَديثًا على شَيءٍ، ثمَّ أخبَروا عنه، الْتَزَموا حَذفَ ضَميرِه الَّذي هو مُسنَدٌ إليه؛ إشارةً إلى التَّنويهِ به كأنَّه لا يَخْفى. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 176)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/ 347). ، حيث تَقدَّمَ الحديثُ عن اللهِ تعالى فيما قبْلَ هذه الجُملةِ، واجتِلابُ المَوصولِ؛ للاشتِهارِ بمَضمونِ الصِّلَةِ، فساوَى الاسمَ العَلَمَ في الدَّلالةِ [140] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/169). .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ ذُكِرت صِلَتانِ فيهما دَلالةٌ على الانفرادِ بالقُدرةِ العَظيمةِ وعلى النِّعمةِ عليهم: جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا؛ ولذلك جيءَ بلَفظِ لَكُمْ في المَوضِعَينِ، ولم يُقَلْ: (الَّذي جَعَل الأرضَ مَهْدًا وجعَلَ فيها سُبُلًا)، كما في قَولِه: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا [النبأ: 6، 7]؛ لأنَّ ذلك المَقامَ مَقامُ الاستِدلالِ على مُنكِرِي البَعثِ، فسِيقَ لهم الاستِدلالُ بإنشاءِ المَخلوقاتِ العَظيمةِ الَّتي لا تُعَدُّ إعادةُ خَلقِ الإنسانِ بالنِّسبَةِ إليها شَيئًا عَجيبًا [141] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/169). .
- وأيضًا لم يُكَرِّرِ اسمَ المَوصولِ في قَولِه: وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا؛ لأنَّ الصِّلَتَينِ تَجتَمِعانِ في الجامِعِ الخَياليِّ؛ إذ كِلْتاهُما مِن أحوالِ الأرضِ، فجَعْلُهما كجَعْلٍ واحِدٍ [142] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/169). .
- وأعاد فِعلَ (جَعَل)؛ تنبيهًا على تمكُّنِه تعالى مِن إقامةِ الأسبابِ لتيسيرِ الأمورِ الصِّعابِ؛ إعلامًا بأنَّه لا يُعجِزُه شَيءٌ [143] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/390). .
3- قولُه تعالَى: وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ
- أُعِيدَ اسمُ الموصولِ وَالَّذِي؛ للاهتِمامِ بهذه الصِّلَةِ اهتِمامًا يَجعَلُها مُستَقِلَّةً؛ فلا يَخطِرُ حُضورُها بالبالِ عندَ حضورِ الصِّلَتينِ اللَّتَينِ قبْلَها؛ فلا جامِعَ بيْنَها وبيْنَهما في الجامِعِ الخَياليِّ، فأُعيدَ اسمُ المَوصولِ؛ لأنَّ مِصداقَه هو فاعِلُ جَميعِها [144] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/170، 171). .
- قولُه: فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ في التَّعبيرِ عن إخراجِ النَّباتِ بالإنشارِ الَّذي هو إحياءُ المَوتَى، وعن إحيائِها بالإخراجِ؛ تَفخيمٌ لشَأنِ الإنباتِ، وتَهوينٌ لأمرِ البَعثِ؛ لتَقويمِ سَنَنِ الاستِدلالِ، وتَوضيحِ مِنهاجِ القِياسِ [145] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/41). .
- وضَميرُ فَأَنْشَرْنَا الْتِفاتٌ مِن الغَيْبةِ إلى التَّكَلُّمِ بنُونِ العَظَمةِ؛ لإظهارِ كَمالِ العِنايةِ بأمرِ الإحياءِ، والإشعارِ بعِظَمِ خَطَرِه. وأيضًا لَمَّا وَقَع الانتِقالُ مِن كَلامِهم إلى كَلامِ الله عزَّ وجلَّ، جاء أوَّلُه على لَفظِ الغَيبةِ، وآخِرُه على الانتِقالِ منها إلى التَّكَلُّمِ في قَولِه: فَأَنْشَرْنَا؛ افتِنانًا في أَفانينِ البَلاغةِ، ولتَسجيلِ المِنَّةِ على عِبادِه، وقَرْعِ أسماعِهم بها [146] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/41)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/171)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/69). .
- ولعلَّه أنَّثَ البلدَ وذكَّرَ الميتَ في قولِه: بَلْدَةً مَيْتًا؛ إشارةً إلى أنَّ بُلوغَها في الضَّعفِ والموتِ بلَغَ الغايةَ؛ بضَعْفِ أرْضِه في نفْسِها، وضعْفِ أهْلِه عن إحيائِه، وقَحْطِ الزَّمانِ، واضمِحلالِ ما كان به مِن النَّباتِ [147] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/392). .
- وجُملةُ كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ مُعتَرِضةٌ بيْنَ المُتعاطِفَينِ، وهو استِطرادٌ بالاستِدلالِ على ما جاء به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن إثباتِ البَعثِ، بُمناسَبةِ الاستِدلالِ على تفرُّدِ اللهِ تعالَى بالإلهيَّةِ بدَلائلَ في بعضِها دَلالةٌ على إمكانِ البَعثِ، وإبطالِ إحالَتِهم إيَّاه [148] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/171). .
- والإشارةُ بـ (ذَلِكَ) إلى الانتِشارِ المَأخوذِ مِن فَأَنْشَرْنَا، أي: مِثلَ ذلك الانتِشارِ الَّذي هو في الحقيقةِ إخراجُ النَّباتِ مِنَ الأرضِ، تُخرَجون مِن الأرضِ بعْدَ فَنائِكم، ووَجْهُ الشَّبَهِ هو إحداثُ الحيِّ بعْدَ مَوتِه، والمَقصودُ مِن التَّشبيهِ إظهارُ إمكانِ المُشَبَّهِ [149] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/41)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/171). .
4- قولُه تعالَى: وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ
- أُعِيدَ اسمُ الموصولِ وَالَّذِي؛ للاهتِمامِ بهذه الصِّلَةِ اهتِمامًا يَجعَلُها مُستَقِلَّةً؛ فلا يَخطِرُ حُضورُها بالبالِ عندَ حُضورِ الصِّلاتِ الَّتي قبْلَها؛ فلا جامِعَ بيْنَها وبيْنَها في الجامِعِ الخَياليِّ، فأُعيدَ اسمُ المَوصولِ؛ لأنَّ مِصداقَه هو فاعِلُ جَميعِها [150] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/170- 172). .
- ولَمَّا كان المُتبادرُ مِن الأزواجِ بادِئَ النَّظرِ أزواجَ الأنعامِ، وكان مِن أهَمِّها عِندَهم الرَّواحِلُ؛ عَطَف عليها ما هو منها وَسائِلُ للتَّنَقُّلِ بَرًّا، وأدمَجَ معها وَسائِلَ السَّفَرِ بَحرًا؛ فقال: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ؛ فالمرادُ بـ مَا تَرْكَبُونَ بالنِّسبةِ إلى الأنعامِ هو الإبِلُ -على قولٍ-؛ لأنَّها وَسيلةُ الأسفارِ، وقد قالوا: الإبِلُ سَفائِنُ البَرِّ [151] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/172). .
- وجِيءَ بفِعلِ (جَعَل)؛ مُراعاةً لأنَّ الفُلكَ مَصنوعةٌ، وليستْ مَخلوقةً، والأنعامُ قد عُرِف أنَّها مَخلوقةٌ [152] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/173). .
- وقدَّمَ سُبحانه الفُلكَ على الأنعامِ؛ لأنَّها لم يَشملْها لَفظُ الأزواجِ؛ فذِكْرُها ذِكرُ نِعمةٍ أُخرى، ولو ذَكَر الأنعامَ لَكان ذِكرُه عَقِبَ الأزواجِ بمَنزِلةِ الإعادةِ؛ فلمَّا ذَكَر الفُلكَ بعُنوانِ كَونِها مَركوبًا، عَطَف عليها الأنعامَ؛ فصار ذِكرُ الأنعامِ مُتَرَقَّبًا للنَّفْسِ لمُناسَبةٍ جَديدةٍ [153] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/173). .
- وقَولُه: مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ بَيانٌ لإبهامِ (ما) المَوصولَةِ في قَولِه: مَا تَرْكَبُونَ، وحُذِف عائدُ الصِّلَةِ، وإذ قد كان مَفعولُ تَرْكَبُونَ هنا مُبَيَّنًا بالفُلكِ والأنعامِ، كان حقُّ الفِعلِ أنْ يُعَدَّى إلى أحَدِهما بنَفْسِه وإلى الآخَرِ بـ (في)؛ فغُلِّبَت التَّعديةُ المُباشِرةُ على التَّعديةِ بواسِطةِ الحَرفِ؛ لظُهورِ المُرادِ، وحُذِفَ العائِدُ بِناءً على ذلك التَّغليبِ [154] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/173). . فقَولُه: مَا تَرْكَبُونَ أي: ما تَركبونَه؛ تَغليبًا للأنعامِ على الفُلكِ؛ فإنَّ الرُّكوبَ مُتَعَدٍّ بنَفْسِه، واستِعمالُه في الفُلكِ ونَحوِها بكَلِمةِ (في) للرَّمزِ إلى مَكانِتها، وكَونِ حَرَكَتِها غيرَ إرادِيَّةٍ [155] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/41). . والرُّكوبُ حَقيقَتُه: اعتِلاءُ الدَّابَّةِ للسَّيرِ، وأُطلِقَ هنا على الحُصولِ في الفُلكِ؛ لتَشبيهِهِم الفُلكَ بالدَّابَّةِ بجامِعِ السَّيرِ [156] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/173). .
5- قولُه تعالَى: لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ
- قَولُه: لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ تَوطِئَةٌ وتَمهيدٌ للإشارةِ إلى ذِكْرِ نِعمةِ اللهِ في قَولِه: ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ، أي: حِينَئِذٍ؛ فإنَّ ذِكْرَ النِّعمةِ في حالِ التَّلَبُّسِ بمَنافِعها أوقَعُ في النَّفْسِ، وأَدْعَى للشُّكرِ عليها، وأجدَرُ بعَدَمِ الذُّهولِ عنها [157] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/174). .
- والاستِواءُ: الاعتِلاءُ. والظُّهورُ: جَمعُ ظَهرٍ، والظَّهرُ مِن علائِقِ الأنعامِ لا مِن عَلائِقِ الفُلكِ؛ فهذا أيضًا مِن التَّغليبِ، والمعنى: على ظُهورِه وفي بُطونِه؛ فضَميرُ ظُهُورِهِ عائِدٌ إلى (ما) المَوصولَةِ الصَّادِقِ بالفُلكِ والأنعامِ، كما هو قَضِيَّةُ البَيانِ، على أنَّ السَّفائِنَ العَظيمةَ تكونُ لها ظُهورٌ، وهي أعالِيها المَجعولَةُ كالسُّطوحِ؛ لِتَقِيَ الرَّاكِبينَ المَطَرَ وشِدَّةَ الحَرِّ والقَرِّ؛ ولذلك فجَمْعُ الظُّهورِ مِن جَمْعِ المُشتَرَكِ، والتَّعدِيةُ بحَرفِ (على) بُنِيَت على أنَّ للسَّفينةِ ظَهرًا [158] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/173، 174). .
- قولُه: ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ أي: يَحمَدوا عليها بألْسِنَتِهم، وفي العُدولِ عن (تَحمَدوا) إلى تَذْكُرُوا تَصويرُ حالةِ كَونِ المَركوبِ مُذَلَّلًا مُنقادًا، وأنَّه لولا تَمكينُ اللهِ لم يُتَمَكَّنْ منه [159] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/106). .
- والذِّكرُ هنا هو التَّذَكُّرُ بالفِكرِ لا الذِّكرُ باللِّسانِ؛ وهذا تَعريضٌ بالمُشرِكين؛ إذ تقلَّبوا في نِعَمِ اللهِ وشَكَروا غَيرَه؛ إذ اتَّخَذوا له شُرَكاءَ في الإلهيَّةِ، وهمْ لم يُشارِكوه في الإنعامِ [160] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/174). .
- وذُكْرُ النِّعمةِ كِنايةٌ عن شُكرِها؛ لأنَّ شُكرَ المُنعِمِ لازِمٌ للإنعامِ عُرفًا؛ فلا يَصرِفُ عنه إلَّا نِسيانُه، فإذا ذَكَره شَكَر النِّعمةَ [161] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/174). .
- وقَولُه: وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ مَعطوفٌ على قَولِه: تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ، أي: لِتَشكُروا اللهَ في نُفوسِكم، وتُعلِنُوا بالشُّكرِ بألسِنَتِكم، فلقَّنَهم صِيغَةَ شُكرٍ عِنايةً به [162] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/174). .
- قَولُه: وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا كلمةُ تَعجُّبٍ، وفي لَفظِ هَذَا مَزيدُ تَقريرٍ لمعنى التَّعَجُّبِ [163] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/106). .
- وافتُتِح هذا الشُّكرُ اللِّسانيُّ بالتَّسبيحِ؛ لأنَّه جامِعٌ للثَّناءِ؛ إذ التَّسبيحُ تَنزيهُ اللهِ عمَّا لا يَلِيقُ؛ فهو يدُلُّ على التَّنزيهِ عن النَّقائصِ بالصَّريحِ، ويدُلُّ ضِمنًا على إثباتِ الكَمالاتِ للهِ في المقامِ الخطابيِّ [164] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/174). .
- واستِحضارُ الجَلالَةِ بطَريقِ المَوصوليَّةِ: الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا؛ لِمَا يُؤذِنُ به المَوصولُ مِن عِلَّةِ التَّسبيحِ حتَّى يَصيرَ الحمدُ الَّذي أَفادَه التَّسبيحُ شُكرًا لتَعليلِه بأنَّه في مُقابَلةِ التَّسخيرِ لنا [165] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/174). .
- قَولُه: وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ هذا مِن تَمامِ ذِكْرِ نِعمَتِه تعالى؛ إذ بدونِ اعتِرافِ المُنعَمِ عليه بالعَجزِ عن تَحصيلِ النِّعمةِ لا يَعرِفُ قدْرَها، ولا حقَّ المُنعِمِ بها [166] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/87)، ((تفسير أبي السعود)) (8/41). .
6- قولُه تعالَى: وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ خُتِم الشُّكرُ والثَّناءُ بالاعتِرافِ بأنَّ المَرجِعَ إلى اللهِ، أي: بعْدَ المَوتِ بالبَعثِ للحِسابِ والجَزاءِ، وهذا إدماجٌ [167] الإدماجُ: أنْ يُدمِجَ المتكلِّمُ غَرَضًا في غرضٍ، أو بديعًا في بديعٍ، بحَيثُ لا يَظهرُ في الكلامِ إلَّا أحدُ الغرَضينِ أو أحدُ البَديعَينِ، بمعنى: أن يَجعلَ المتكلِّمُ الكلامَ الَّذي سِيق لمعنًى -مِن مَدحٍ أو غيرِه- مُتضمنًا معنًى آخَرَ، كقولِه تعالى: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ [القصص: 70]؛ فهذا مِن إدماجِ غرَضٍ في غرَضٍ؛ فإنَّ الغرَضَ منها تَفرُّدُه تعالى بوصْفِ الحمدِ، وأُدمِجَ فيه الإشارةُ إلى البعثِ والجزاءِ. وقيل: أُدمِجتِ المُبالَغةُ في المُطابَقةِ؛ لأنَّ انفِرادَه بالحمدِ في الآخِرَةِ -وهي الوقتُ الَّذي لا يُحمَدُ فيه سِواهُ- مُبالَغةٌ في الوَصفِ بالانفرادِ بالحَمدِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/ 298)، ((علوم البلاغة البيان المعاني البديع)) للمراغي (ص: 344)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرَّحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/ 427). لتَلقينِهم الإقرارَ بالبَعثِ [168] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/175). .
- وفيه تَعريضٌ بسُؤالِ إرجاعِ المُسافِرِ إلى أهلِه؛ فإنَّ الَّذي يَقدِرُ على إرجاعِ الأمواتِ إلى الحياةِ بعْدَ الموتِ يُرجَى لإِرجاعِ المُسافِرِ سالِمًا إلى أَهلِه [169] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/175). .
- والانقِلابُ: الرُّجوعُ إلى المكانِ الَّذي يُفارِقُه، والجُملةُ مَعطوفةٌ على جُملةِ التَّنزِيهِ عَطْفَ الخَبَرِ على الإنشاءِ، وفي هذا تَعريضٌ بتَوبيخِ المُشرِكين على كُفرانِ نِعمةِ الله بالإشراكِ، وبنِسبةِ العَجْزِ عن الإحياءِ بعْدَ المَوتِ؛ لأنَّ المعنى: وجَعَل لكم مِن الفُلكِ والأنعامِ ما تَركبونَ؛ لِتَشكُروا بالقَلبِ واللِّسانِ فلمْ تَفعَلُوا، ولِمُلاحَظةِ هذا المعنى أُكِّد الخبَرُ بـ (إنَّ)، واللَّامِ، والجُملةِ الاسميَّةِ [170] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/175). .
- وفيه تَعريضٌ بالمُؤمنينَ بأنْ يَقولُوا هذه المَقالةَ كما شَكَروا لِلهِ ما سخَّر لهم مِن الفُلكِ والأنعامِ [171] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/175). .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال هنا: وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ، وقال في سُورةِ (الشُّعراءِ): قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ [الشعراء: 50] ، فأكَّدَ قَولَه هنا: لَمُنْقَلِبُونَ، ولم يُؤكِّدْ في سُورةِ (الشُّعراءِ)، فلمْ تَدخُلِ اللَّامُ على خَبَرِ (إنَّا) دُخولَها في الأوَّلِ؛ وذلك لأنَّ معنى قَولِه: وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا إلى آخِرِ الآيةِ: لِتَذكُروا إنعامَ الله عليكُم وتَشكُروه، وتُخالِفوا الكُفَّارَ بأنْ تُقِرُّوا بما أنكَروه، فتُؤمِنوا بالبَعثِ والحَياةِ بعْدَ المَوتِ، وهذا خِطابٌ لكُلِّ مَن كان في ذلك العَصرِ، ومَن يكونُ بَعدَهم إلى انقِضاءِ الدَّهرِ؛ فالتَّوكيدُ لِمِثلِه لازِمٌ، وفي الكلامِ الَّذي يَأتي للتَّأبيدِ واجِبٌ. والَّذي في سُورةِ (الشُّعَراءِ) إنَّما هو خَبرٌ عن السَّحَرةِ لَمَّا آمَنوا، ووَصَفوا حالَهم واستِهانَتَهم بما خُوِّفوا أنْ يَنالَهم مِن عُقوبةِ فِرعونَ؛ إذ كان مُنقَلَبُهم إلى رَبِّهم، وكانوا مُجازَينَ على إيمانِهم وصِدقِهم وصَبرِهم؛ فلم يَحتَجْ مِن التَّوكيدِ إلى ما احتاجَ إليه ما هو على التَّأبيدِ [172] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (ص: 1171، 1172)، ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 225)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (1/423). .