موسوعة التفسير

سُورةُ الأعرافِ
الآيات (26-30)

ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ

غريب الكلمات:

وَرِيشًا: الرِّيشُ المَتَاعُ والأموالُ [254] قال ابنُ تيميَّةَ: (الصَّحيحُ أنَّ «الرِّيشَ» هو الأثاثُ والمتاعُ ... وبعضُ المفسِّرينَ أطلَقَ عليه لفظَ المال، والمرادُ به مالٌ مخصوصٌ، قال ابن زيد: جَمالًا؛ وهذا لأنَّه مأخوذٌ مِن رِيشِ الطَّائِرِ، وهو ما يَرُوشُ به، ويدفَعُ عنه الحَرَّ والبردَ، وجَمالُ الطَّائِرِ رِيشُه، وكذلك ما يبيتُ فيه الإنسانُ مِنَ الفَرشِ، وما يَبسُطُه تحته، ونحو ذلك). ((مجموع الفتاوى)) (12/255). ، ويُطلَقُ على ما ظهَر مِنَ اللِّباسِ، ولِباسِ الزِّينةِ، وكلِّ ما ستَرَ الإِنسانَ في جِسمِه ومَعِيشَتِه، ورُبَّمَا اسْتُعْمِلَ فِي الثِّيَابِ والكِسْوَةِ دونَ سائِرِ المَالِ، وأَصْلُ (ريش): يَدُلُّ على حُسْنِ الحالِ، وما يَكتَسِبُ الإنسانُ مِن خيرٍ [255] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 166)، ((تفسير ابن جرير)) (10/123)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 246)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/466)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 109)، ((زاد المسير)) لابن الجوزي (2/109). .
لَا يَفْتِنَنَّكُمُ: أي: لا يَخدَعَنَّكم، أو لا يَصْرِفَنَّكم، والفِتنةُ تُطلَق على: الشِّرْك والكُفر، والشَّرِّ والعَذابِ، وهي في الأصلُ: الاختِبارُ والابتلاءُ والامتِحانُ، مأخوذةٌ مِنَ الفَتْنِ: وهو إدخالُ الذَّهَبِ النَّارَ؛ لتظهَرَ جودَتُه مِن رَداءتِه [256] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (1 /76، 101)، ((تفسير ابن جرير)) (10/132)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/472 - 473)، ((المفردات)) للراغب (ص: 624)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (1 /29، 139 - 140)، ((تفسير القرطبي)) (7/186). .
يَنْزِعُ: نزْعُ الشَّيءِ: جذْبُه مِن مَقرِّه، وفَصلُه عنه أو اقتِلاعُه، وأصلُ (نزع): يَدُلُّ على قلْعِ شيءٍ [257] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/415)، ((المفردات)) للراغب (ص: 798)، ((تفسير الراغب الأصفهاني)) (2/490)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/415). .
وَقَبِيلُهُ: أي: أصحابُه وجُندُه، وجِيلُه وأمَّتُه، وصِنْفُه وجِنسُه الَّذي هو منه، وهم الجِنُّ، وقَبيلُ القَومِ: عَريفُهم؛ وسُمِّيَ بذلك؛ لأنَّه يُقبِل عليهم يَتعرَّفُ أُمورَهم، وأصل (قبل): يدلُّ على مُواجهةِ الشَّيءِ للشَّيءِ [258] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 166)، ((تفسير ابن جرير)) (10/136)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 375)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/51، 53). .
فَاحِشَةً: أي: فِعلةً مُتناهِيةً في القُبحِ، وأصلُ (فحش) يدلُّ على قُبحٍ في شَيءٍ وشَناعةٍ [259] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (1 /361)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4 /478)، ((المفردات)) للراغب (ص: 626)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 701). .
الضَّلَالَةُ: أي: الضَّلالُ، وهو العُدولُ عن الطَّريقِ المُستقيمِ، وأصل (ضلل): ضَياعُ الشَّيءِ، وذَهابُه في غيرِ حقِّه [260] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/356)، ((المفردات)) للراغب (ص: 509)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 576). .

مشكل الإعراب:

قوله تعالى: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ
وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ: قُرِئ بالرَّفْع ولِبَاسُ التَّقْوَى وقُرِئ بالنَّصبِ وَلِبَاسَ التَّقْوَى، فعلى قراءةِ الرَّفْعِ فقولُه: لِبَاسُ مُبتدأٌ مرفوعٌ، وذَلِكَ مُبتدأٌ ثانٍ، وخَيْرٌ خبرُ المبتدأِ الثاني، والمبتدأُ الثَّاني وخبرُه ذَلِكَ خَيْرٌ خبرٌ للمُبتدأِ الأوَّل لِبَاسُ، والرابطُ هنا اسمُ الإشارةِ. أَوْ يكونُ لِبَاسُ مبتدأً، وذَلِكَ بَدلًا منه، أو عَطْفَ بيانٍ له، ويكونُ خَيْرٌ خبرًا لـلِبَاسُ، وقِيلَ غيرُ ذلك. وأمَّا على قِراءةِ النَّصبِ وَلِبَاسَ التَّقْوَى، فهو حِينئذٍ معطوفٌ على لِبَاسًا، أي: أَنْزَلْنا لِباسًا يُوارِي سَوآتِكم، وأَنْزلْنا أَيضًا لِبَاسَ التَّقْوى، وعلى هذا الوَجهِ فجُملةُ ذَلِكَ خَيْرٌ استئنافيَّةٌ لا مَحَلَّ لها من الإعرابِ، أو حالٌ مِن لِبَاسًا وما عُطِفَ عليه [261] يُنظر: ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (1/286)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (1/562)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (5/287-289)، ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/75). .

المعنى الإجمالي:

يُخبِرُ اللهُ تعالى بني آدَمَ أنَّه خلقَ لهم لباسًا يستُرُ عَوراتِهم، ورَزَقَهم الأثاثَ واللِّباسَ الفاخِرَ الذي يتزيَّنونَ به، وأعلَمَهم أنَّ لِباسَ التَّقوى خيرٌ مِن  ذلك، وأخبَرَ أنَّ ما مَنَّ به مِن ذلك عليهم هو مِن آياته التي خَلَقَها لهم؛ لعَلَّهم يتذكَّرونَ.
ثم حذَّرَ اللهُ بني آدَمَ مِن أن يخدَعَهم الشَّيطانُ بِتَزيينِه المعاصِيَ لهم، كما خدَعَ أبَوَيهِم آدَمَ وحوَّاءَ، فكان سببًا في خروجِهما مِنَ الجنَّةِ؛ ينزِعُ عنهما لِباسَهما؛ لِيُرِيَهما عَوْراتِهما التي كانت مستترةً، وأعلَمَهم تعالى أنَّ الشَّيطانَ يَراهم هو وذُرِّيتُه مِن حيثُ لا يرونَهم هم، وأنَّه جعلَ الشَّياطينَ أولياءَ للَّذين لا يؤمنون.
وإذا فعل الكُفَّارُ ما يُستفحَشُ ويُستقبَحُ- كَطَوافِهم عُراةً- اعتذروا أنَّهم وَجَدوا آباءَهم كذلك يفعلونَ، واللهُ أمَرَهم به، فأمَرَ اللهُ نَبيَّه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يُبَيِّنَ لهم أنَّ الله لا يأمُرُ بالفَحشاءِ، أيقولونَ على اللهِ ما لا يعلمونَ، وأمَرَه أن يقولَ لهم إنَّ رَبَّه جَلَّ وعلا أمَرَ بالعَدلِ، وليتوجَّهوا في صلاتِهم إلى اللهِ وحده، في أيِّ مسجدٍ كانوا، ولْيَدعوه مُخلصينَ له الدِّينَ، ثمَّ ذكَّر الله تعالى بالمبدأ والنهايةِ، وأنَّه كما خَلَقَكم أوَّلَ مَرَّةٍ بعد أن كُنتم عَدمًا، فكذلك ستَعودونَ إليه يومَ القيامةِ.
فريقًا منهم هداهم الله، وفريقًا وجَبَتْ عليهم الضَّلالة، هؤلاء الذين وَجَبَت عليهم الضَّلالةُ اتَّخذوا الشَّياطينَ أولياءَ مِن دُونِ الله، ويظنُّون أنَّهم مُهتدونَ.

تفسير الآيات:

يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)
مُناسبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا بيَّنَ أنَّه أمر آدَمَ وحوَّاءَ بالهُبوطِ إلى الأرضِ، وجعَلَ الأرضَ لهما مُستقَرًّا؛ بَيَّنَ بَعده أنَّه تعالى أنزَلَ كلَّ ما يحتاجونَ إليه في الدِّينِ والدُّنيا، ومن جُملَتِها اللِّباسُ الذي يُحتاجُ إليه في الدِّينِ والدُّنيا [262] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (14/221)، ((تفسير أبي حيان)) (5/29). .
وأيضًا لَمَّا ذكر تعالى واقعةَ آدَمَ في انكشافِ العَورةِ أنَّه كان يخصِفُ الوَرَقَ عليها؛ أتبَعَه بأن بَيَّنَ أنَّه خَلقَ اللِّباسَ للخَلقِ؛ ليستُرُوا به عَورَتَهم، ونَبَّه به على المِنَّةِ العظيمةِ على الخَلقِ؛ بِسَبَب أنَّه أقدَرَهم على التستُّرِ [263] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (14/221)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (7/378). ، فقال تعالى:
يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا
أي: يا بني آدَمَ، قد خَلَقْنا لكم ورَزَقْناكم ما تَلْبَسون مِنَ الثِّيابِ [264] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/119، 130)، ((تفسير ابن كثير)) (3/399)، ((تفسير السعدي)) (ص: 285). وتفسيرُ أَنْزَلْنَا بمعنى خلَقْنا، هو اختيارُ ابنِ جريرٍ والشوكانيِّ، وهو مذكورٌ عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، وذلك كقولِه:  وَأَنْزَلَ لَكُم مِّنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ أي: خلَق. يُنظر: ((التفسير البسيط)) للواحدي (9/73)، ((تفسير القرطبي)) (7/184)، ((تفسير الشوكاني)) (2/224). قال الرازي: (فإنْ قيل: ما معنى إنزالِ اللِّباسِ؟ قلنا: إنَّه تعالى أنزَلَ المطَرَ، وبالمَطَرِ تتكوَّنُ الأشياءُ التي منها يحصُلُ اللِّباسُ، فصار كأنَّه تعالى أنزَلَ اللِّباسَ، وتحقيقُ القَولِ أنَّ الأشياءَ التي تحدُثُ في الأرض لَمَّا كانت مُعَلَّقةً بالأمورِ النَّازلةِ من السَّماءِ؛ صار كأنَّه تعالى أنزَلَها مِنَ السَّماءِ). ((تفسير الرازي)) (14/221). وقال ابنُ تيميَّةَ: (امتَنَّ سبحانه عليهم بما ينتفِعونَ به من الأنعامِ في اللِّباسِ والأثاثِ، وهذا- والله أعلم- معنى إنزالِه؛ فإنَّه يُنزِلُه مِن ظُهورِ الأنعامِ، وهو كسوةُ الأنعامِ مِنَ الأصوافِ والأوبارِ والأشعارِ، وينتفِعُ به بنو آدَمَ مِنَ اللِّباسِ والرِّياشِ). ((مجموع الفتاوى)) (12/255- 256).  .
يُوَارِي سَوْآتِكُمْ
أي: لباسًا يَستُرُ عَوْراتِكم [265] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/119،130)، ((تفسير ابن كثير)) (3/399-400). قال ابنُ جريرٍ: (إنَّما ابتدأ اللهُ الخبَرَ عن إنزالِه اللِّباسَ الذي يواري سَوآتِنا والرِّياشَ؛ توبيخًا للمشركين الذين كانوا يتجرَّدون في حالِ طَوافِهم بالبيتِ، ويأمُرُهم بأخذِ ثِيابِهم والاستتارِ بها في كلِّ حالٍ، مع الإيمانِ به واتِّباعِ طاعَتِه، ويُعلِمُهم أنَّ كُلَّ ذلك خيرٌ مِن كلِّ ما هم عليه مُقيمونَ؛ مِن كُفرِهم باللهِ وتعرِّيهم). ((تفسير ابن جرير)) (10/130). .
وَرِيشًا
أي: وخَلَقْنا لكم ورَزَقْناكم الأثاثَ واللِّباسَ الفاخِرَ الذي تتزَيَّنونَ وتتجَمَّلونَ به [266] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/123)، ((الصحاح)) للجوهري (3/1008)، ((تفسير البغوي)) (2/186)، ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/75). 
وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ
القراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
في قوله تعالى: وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ قراءتان:
قراءةُ وَلِبَاسَ عطفًا على رِيشًا، والمعنى: قد أنزَلْنَا عليكم لباسًا يُوارِي سوآتِكم وريشًا، وأنزَلْنا لباسَ التَّقوى [267] قرأ بها المدنيان وابن عامر والكسائي. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (ص: 256). ويُنظَر لِمَعنى هذه القراءة: ((تفسير ابن جرير)) (10/128)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (5/287). .
قراءة وَلِبَاسُ مبتدأٌ و(ذلك) بدلٌ منه، أو عَطفُ بيانٍ له، و(خَيْرٌ) خبَرُه، والمعنى: لباسُ التقوى ذلك الذي قد عَلِمْتُموه خيرٌ لكم يا بني آدَمَ مِن لِباسِ الثِّيابِ التي تُوارِي سَوْآتِكم، ومِنَ الرِّياشِ التي أنزَلْناها إليكم؛ فالبَسُوه [268] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (ص: 256). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((تفسير ابن جرير)) (10/128)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (5/288). .
وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ
أي: واستشعارُ النُّفوسِ تقوى اللهِ: بالإيمانِ والعَمَلِ الصَّالِحِ، والحياءِ وخَشيةِ اللهِ، والسَّمتِ  الحَسَنِ؛ خيرٌ لصاحِبِه من اللِّباسِ والرِّياشِ الذي يُتجَمَّلُ به [269] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/130)، ((البسيط)) للواحدي (9/82-83)، ((تفسير البغوي)) (2/186)، ((تفسير القرطبي)) (7/185)، ((تفسير ابن كثير)) (3/400-401). قال ابنُ جريرٍ: (مَنِ اتَّقى اللهَ كان به مؤمنًا، وبما أمَرَه به عاملًا، ومنه خائفًا، وله مُراقِبًا، ومِن أن يُرى عند ما يَكرَهُه مِن عبادِه مُستَحيِيًا، ومَن كان كذلك ظَهَرَت آثارُ الخَيرِ فيه، فحَسُنَ سَمتُه وهَدْيُه، ورُئِيَتْ عليه بهجةُ الإيمانِ ونُورُه). ((تفسير ابن جرير)) (10/130). وقال السَّعدي: (وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ مِنَ اللِّباسِ الحِسِّيِّ؛ فإنَّ لِباسَ التَّقوى يستمِرُّ مع العبدِ، ولا يبلى ولا يَبيدُ، وهو جمالُ القَلبِ والرُّوحِ، وأمَّا اللِّباسُ الظَّاهريُّ، فغايَتُه أن يستُرَ العورةَ الظَّاهرةَ، في وقتٍ مِنَ الأوقاتِ، أو يكونَ جمالًا للإنسانِ، وليس وراءَ ذلك منه نفعٌ، وأيضًا، فبتقديرِ عَدَمِ هذا اللِّباسِ، تنكَشِفُ عَورَتُه الظَّاهرةُ، التي لا يضرُّه كَشفُها، مع الضَّرورةِ، وأمَّا بتقديرِ عَدَمِ لِباسِ التَّقوى، فإنَّها تنكشِفُ عَورَتُه الباطِنةُ، وينالُ الخِزيَ والفضيحةَ). ((تفسير السعدي)) (ص: 285). .
ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ
أي: ذلك اللِّباسُ والرِّياشُ مِن آياتِ اللهِ الدَّالَّةِ على رَحمَتِه بعبادِه؛ خَلَقَه لهم لكي يعرِفوا عَظيمَ النِّعمة فيه، ولِيَتَّعِظوا ويعتَبِروا في صُنعِه، فيُوحِّدوه سبحانه، ويُنِيبوا إلى الحَقِّ، ويترُكوا الباطِلَ [270] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (2/33)، ((تفسير ابن جرير)) (10/132)، ((الوسيط)) للواحدي (2/359)، ((تفسير الرازي)) (14/222)، ((تفسير القرطبي)) (7/185). .
قال تعالى: إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ * وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ [الجاثية: 3-6] .
وقال سبحانه: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ * وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ [غافر: 79-81] .
وقال عزَّ وجلَّ: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [النحل: 17] .
يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)
يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ
أي: يا بني آدَمَ؛ لا تُمكِّنوا الشَّيطانَ مِن خِداعِكم بتزيينِه المعاصِيَ لكم، كما خدَعَ أباكم آدَمَ وأُمَّكُم حوَّاءَ، فأطاعاه وعَصَيا ربَّهما، فأخرَجَهما بمَكْرِه مِنَ الجنَّةِ [271] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/132)، ((الاستقامة)) لابن تيمية (2/170)، ((تفسير ابن كثير)) (3/402)، ((تفسير السعدي)) (ص: 286)، ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/77). وقال ابن عاشور: (الأبوانِ تثنيةُ الأبِ، والمرادُ بهما الأبُ والأمُّ على التَّغليبِ، وهو تغليبٌ شائِعٌ في الكلامِ). ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/77). .
يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا
أي: نزع الشَّيطانُ عن آدمَ وحَوَّاءَ ما رزَقَهما اللهُ مِنَ اللِّباسِ؛ ليكشف عَورةَ كُلِّ واحدٍ منهما بعد أن كانَتْ مُستَترةً، ويُظهِرَها لأعيُنِهما [272] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/132)، ((تفسير البغوي)) (2/186). قال الشنقيطي: (أسنَدَ جلَّ وعلا إبداءَ ما وُورِيَ عنهما مِن سوءاتِهما إلى الشَّيطانِ في قوله: لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا، كما أسنَدَ له نزَعَ اللِّباسِ عنهما في قَولِه تعالى: كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا؛ لأنَّه هو المتسبِّبُ في ذلك بوَسوَسَتِه وتَزيِينِه). ((أضواء البيان)) (4/114)، ويُنظر: ((البسيط)) للواحدي (9/84). وقال ابنُ تيمية: (لَمَّا نَزَعَ عن الأبوين لباسهما، فكذلك قد ينزِعُ عن الذريَّةِ لباسَ التَّقوى ولِباسَ البَدَنِ). ((الاستقامة)) (2/170). .
إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ
أي: إنَّ الشَّيطانَ يراكم هو وذُرِّيتُه، وأنتم لا تَرونَهم [273] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/136)، ((تفسير البغوي)) (2/186)، ((تفسير السعدي)) (ص: 286). .
إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ
أي: إنَّا سلَّطْنا الشَّياطينَ على الكفَّارِ، فيزيدونَهم ضلالًا [274] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/137)، ((الوسيط)) للواحدي (2/360)، ((تفسير القرطبي)) (7/187)، ((تفسير السعدي)) (ص: 286)، ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/80). .
كما قال تعالى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف:36-37] .
وقال سبحانه: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا [مريم: 83] .
وقال عزَّ وجلَّ: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [النحل: 99-100] .
وقال تبارك وتعالى: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ [الأنعام: 121] .
وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28)
وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً
أي: وإذا فعَلَ الكُفَّارُ ما يُستفحَشُ ويُستقبَحُ مِنَ الأفعالِ؛ مثل طوافِهِم بالبَيتِ عُراةً [275] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/138)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (21/276)، ((فتح الباري)) لابن رجب (2/335)، ((تفسير السعدي)) (ص: 286). قال ابن عاشور: (غلبَتِ الفاحِشةُ في الأفعالِ الشَّديدةِ القُبحِ، وهي التي تنفِرُ منها الفِطرةُ السَّليمةُ، أو ينشأُ عنها ضُرٌّ وفسادٌ، بحيث يأباها أهلُ العُقولِ الرَّاجحةِ، ويُنكِرُها أولو الأحلامِ، ويستحيي فاعِلُها مِنَ النَّاسِ، ويتستَّرُ مِن فِعلِها، مثل البِغاءِ والزِّنا والوَأْدِ والسَّرقة، ثم تَنهى عنها الشَّرائِعُ الحقَّةُ). ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/82). .
قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا
أي: قالوا وَجَدْنا آباءَنا يفعلونَ هذا، فنحنُ نقتدي بهم، واللهُ أمَرَنا به، فنحن نتَّبِعُ أمْرَه [276] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/138)، ((تفسير ابن كثير)) (3/402)، ((تفسير السعدي)) (ص: 286). قال ابنُ تيميَّةَ: (كان أولياءُ الشَّيطانِ إذا فعلوا هذه الفاحِشةَ- وهي إبداءُ السَّوءاتِ في الطَّوافِ- يحتجُّونَ بشَيئينِ: يقولون: وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا، وهذا هو الرُّجوعُ إلى العادةِ، والتَّقليدُ للأسلافِ، ويقولون: وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا، وهذا قولٌ بغيرِ عِلمٍ). ((الاستقامة)) (2/174). .
قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ
أي: قُلْ- يا مُحمَّدُ- لِمَن ادَّعى ذلك: إنَّ اللهَ لا يأمُرُ عبادَه بقبائِحِ الأفعالِ، ولا يليقُ ذلك بكَمالِه وحِكمَتِه، كهذا التَّعرِّي الذي تصنَعونَه، وتزعمونَ أنَّ اللهَ سبحانه أمَرَكم به [277] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/138)، ((تفسير ابن كثير)) (3/402)، ((تفسير السعدي)) (ص: 286). .
أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ
أي: أَتَزعمونَ أنَّ اللهَ أمَرَكم بالفاحشةِ- مثلَ زَعمِكم أنَّه أمَرَكم بالتَّعَرِّي في الطَّوافِ- وأنتم لا تَعلمونَ أنَّه أمَرَكم بذلك [278] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/138)، ((الاستقامة)) لابن تيمية (2/175)، ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/84-85). .
قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29)
قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ
أي: قُل- يا مُحمَّدُ- لهؤلاءِ الذين يَزعمونَ أنَّ اللهَ أمَرَهم بالفَحشاءِ: ما أمَرَ رَبِّي بما تَزعُمونَ، بل أمَرَ بالعَدلِ في العِباداتِ بتَوحيدِه، وفي المُعاملاتِ بأداءِ حُقوقِ عِبادِه [279] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/139)، ((البسيط)) للواحدي (9/89)، ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 293)، ((تفسير ابن كثير)) (3/402)، ((تفسير السعدي)) (ص: 286). .
وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ
أي: تَوَجَّهوا في صلاتِكم إلى اللهِ وَحدَه، في أيِّ مَسجدٍ كُنتم، واجتَهِدوا في إقامَةِ الصَّلاةِ ظاهِرًا وباطِنًا وَفقَ ما شَرَعه اللهُ تعالى [280] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/141)، ((تفسير القرطبي)) (7/188)، ((جامع المسائل)) لابن تيمية (5/163)، ((تفسير ابن كثير)) (3/403)، ((تفسير السعدي)) (ص: 286). .
كما قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا [الروم: 30] .
 وقال سبحانه: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام: 79] .
وعن عليِّ بنِ أبي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان إذا قام إلى الصَّلاةِ، قال: ((وجَّهْتُ وَجهِيَ لِلَّذي فطَرَ السَّمواتِ والأرضَ حنيفًا، وما أنا مِنَ  المُشركينَ، إنَّ صَلاتي ونُسُكي، ومَحْياي ومماتي، لله رَبِّ العالَمينَ، لا شريكَ له، وبذلك أُمِرْتُ، وأنا مِنَ المُسلمينَ )) [281] رواه مسلم (771). .
وعن البَراء بنِ عازبٍ رَضِيَ الله عنهما، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أوصى رجلًا، فقال: ((إذا أرَدْتَ مَضجَعَك فقل: اللهُمَّ أسلَمْتُ نَفْسي إليك، وفوَّضْتُ أمري إليك، ووجَّهْتُ وَجْهي إليك، وألجَأْتُ ظَهري إليك؛ رغبةً ورهبةً إليك، لا ملجَأَ ولا منجا منك إلَّا إليك، آمنْتُ بكتابِك الذي أنزَلْتَ، وبنبِيِّكَ الذي أرسَلْتَ؛ فإنْ مُتَّ مُتَّ على الفِطرةِ )) [282] رواه البخاري (6313) ومسلم (2710).
وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ
أي: وادْعُوا اللهَ، واعبُدُوه وَحدَه لا شريكَ له [283] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/141)، ((تفسير ابن كثير)) (3/403)، ((تفسير السعدي)) (ص: 286). .
كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ
أي: كما خَلَقَكم اللهُ أوَّلَ مَرَّةٍ، فجَعَلكم أحياءً بعد أنْ كُنتم عَدَمًا؛ فكذلك تَعودونَ إليه يومَ القِيامةِ، فيبعَثُكم مِن قُبُوركم أحياءً بعد مَوتِكم [284] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/146، 148)، ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 292، 293)، ((تفسير السعدي)) (ص: 286)، ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/89)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/13). .
كما قال تعالى: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء: 104] .
وقال سبحانه: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام: 94] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم: 27] .
وقال تبارك وتعالى: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس: 78-79] .
وعنِ ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((إنَّكم مَحشُورونَ حُفاةً عُراةً غُرْلًا، ثمَّ قرأ: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء: 104] )) [285] رواه البخاري (3349) ومسلم (2860). .
فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)
فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ
أي: طائفةً منكم وفَّقَها اللهُ تعالى، ويسَّرَ لها أسبابَ الهِدايةِ، وطائفةً وَجَبتْ عليها الضَّلالةُ، ولَزِمَتْها بعد أن بَيَّنَ لها الهُدى، فلم تَقبَلْ به، وعَمِلَتْ بأسبابِ الغَوايةِ [286] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/148)، ((الوسيط)) للواحدي (2/361)، ((تفسير السعدي)) (ص: 286)، ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/90). .
كما قال الله تعالى: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ [الزمر: 36-37] .
وقال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [يونس: 96-97] .
إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
أي: إنَّ الفَريقَ الذي ثبتَتْ عليهم الضَّلالةُ إنَّما ضَلُّوا بسبَبِ اتِّخاذِهم الشَّياطينَ أنصارًا وأعوانًا يتولونهم مِن دُونِ اللهِ، فأطاعوهم فيما يخالفُ ما شرعَه، فطابَتْ نُفُوسُهم بوَسْوَسَتِهم، وأْتَمَروا بأَمرِهم [287] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/148-149)، ((تفسير أبي حيان)) (5/39)، ((تفسير ابن كثير)) (3/405)، ((فتح البيان)) للقنوجي (4/331)، ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/91)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/13). .
كما قال تعالى: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [إبراهيم: 22] .
وقال عزَّ وجلَّ: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ [محمد: 25-26] .
وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ
أي: ويظنُّ أولئك الضَّالُّونَ أنَّهم على الهُدى [288] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/149)، ((الوسيط)) للواحدي (4/72)، ((تفسير السعدي)) (ص: 286). .
كما قال تعالى: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف: 103- 105] .
وقال سُبحانه: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [فاطر: 8] .

الفوائد التربوية:

1- قوله تعالى: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ فيه إيماءٌ إلى عُلُوِّ رُتبةِ لِباسِ التَّقوى، وحُسنِ عاقِبَتِه؛ لكونِه أهمَّ اللِّباسَينِ؛ لأنَّ نَزعَه يكون بكَشفِ العَورةِ الحِسِّيَّةِ والمعنويَّة، فلو تجمَّلَ الإنسانُ بأحسَنِ المَلابِسِ، وهو غيرُ مُتَّقٍ؛ كان كلُّه سَوْءاتٍ، ولو كان مُتَّقيًا وليس عليه إلَّا خُريقةٌ تُواري عَوْرَتَه، كان في غايةِ الجَمالِ والسِّترِ والكَمالِ [289] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (7/379). .

2- أنعَمَ على عبادِه بزينتَينِ ولِباسَينِ: زينةٌ تُجَمِّلُ ظواهِرَهم، وزينةٌ مِنَ التَّقوى تُجَمِّلُ بواطِنَهم؛ قال تعالى: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ [290] يُنظر: ((الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة)) لابن القيم (4/1376).

3- في قولِه تعالى: يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ شَبَّه الفُتُونَ الصَّادِرَ مِنَ الشَّيطانِ للنَّاسِ، بفَتْنِه آدَمَ وزَوجَه؛ إذ أقدَمَهما على الأكلِ مِنَ الشَّجرةِ المنهيِّ عنها، فأخرَجَهما مِن نعيمٍ كانا فيه- تذكيرًا للبَشَرِ بأعظَمِ فِتنةٍ فَتَنَ الشَّيطانُ بها نوعَهم؛ إذ حَرَمَهم مِنَ النَّعيمِ الذي كان يتحَقَّقُ لهم لو بَقِيَ أبَواهم في الجنَّةِ وتناسَلا فيها، وفيه أيضًا تذكيرٌ بأنَّ عَداوةَ البَشَرِ للشَّيطانِ مَوروثةٌ، فيكونُ أبعَثَ لهم على الحَذَرِ مِن كَيدِه [292] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/77). .

4- قولُ اللهِ تعالى: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ فيه أنَّ الشَّيطانَ أقدَرُ على فِتنةِ بني آدَمَ بوسائِلِه الخفيَّةِ؛ فهم مُحتاجونَ إلى شِدَّةِ الاحتياطِ، وإلى مُضاعَفةِ اليَقَظة، وإلى دَوامِ الحَذَر، كي لا يأخُذَهم على غِرَّةٍ [293] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 286) ، قال مالكُ بنُ دينار: (إنَّ عَدُوًّا يراك ولا تَراه؛ لَشديدُ المَئُونةِ، إلَّا مَن عَصَم اللهُ) [294] يُنظر: ((تفسير البغوي)) (2/186). .

5- عدمُ الإيمانِ هو الموجِبُ لعَقدِ الوِلايةِ بين الإنسانِ والشَّيطانِ؛ قال اللهُ تعالى: إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ [295] يُنظر: ((تفسير السعدي)) ( ص: 286). .

6- قولُه تعالى: قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ فيه الأمرُ بالعَدلِ والاعتدالِ في الأمورِ كُلِّها؛ في العباداتِ والمعاملاتِ، وتركِ الظلمِ والجَورِ، والبُعدِ عَنِ الفُحشِ والتَّجاوُزِ [296] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 286).

7- قولُه: وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ  فيه الأمرُ بالتوجهِ لله، والاجتهادِ في تكميلِ العباداتِ، خصوصًا الصلاة، وإقامتِها ظاهرًا وباطنًا، وتنقيتِها مِن كلِّ نقصٍ ومفسدٍ [297] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 286). .

8- يُرشِدُنا قولُ اللهِ تعالى: وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ إلى تجريدِ التَّوحيدِ مِن كلِّ شائبةٍ، والإخلاصِ للهِ في العبادةِ [298] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (8/334)

9- في قولِه تعالى: كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ تذكيرٌ بالبعثِ والجَزاءِ على الأعمالِ، ودعوةٌ إلى الإيمانِ به، في إثْرِ بيانِ أصْلِ الدِّينِ، ومَناطِ الأمْرِ فيه، والنَّهيِ الوارِدِ في سياقِ أصلِ تَكوينِ البَشَرِ، واستعدادِهم للإيمانِ والكُفرِ والخَيرِ والشَّرِّ، وما للشَّيطانِ في ذلك مِن إغواءِ الكَافرينَ الذينَ يتَوَلَّونَه، وعدم سُلطانِه على المؤمنينَ الذين يتولَّونَ اللهَ ورسولَه [299] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (8/334). .

10- في قولِه تعالى: فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ هذا كُلُّه إنذارٌ مِنَ الوُقوعِ في الضَّلالةِ، وتحذيرٌ مِنِ اتِّباعِ الشَّيطانِ، وتَحريضٌ على تَوَخِّي الاهتداءِ الذي هو مِنَ الله تعالى؛ فالفريقُ المُفلِحُ هو الفريقُ الذين هداهم اللهُ تعالى، والفريقُ الخاسِرُ هم الذين حَقَّتْ عليهم الضَّلالةُ، واتَّخذوا الشَّياطينَ أولياءَ مِن دُونِ اللهِ [300] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/90). .

11- الهِدايةُ تكونُ بِفَضلِ اللهِ تعالى، ومَنِّه على العَبدِ، والضَّلالةُ تكون بخِذْلانِه للعبدِ، إذا تولَّى- بجَهلِه وظُلمِه- الشَّيطانَ، وتسبَّبَ لنَفسِه بالضَّلالِ، وأنَّ مَن حَسِبَ أنَّه مهتدٍ وهو ضالٌّ، فإنَّه لا عُذرَ له؛ لأنَّه متمَكِّنٌ مِنَ الهدى، وإنمَّا أتاه حُسبانُه مِن ظُلمِه بتَركِ الطَّريقِ المُوصِل إلى الهُدى، يُرشِدُنا إلى ذلك قولُه تعالى: فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [301] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:286). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا خاطَبَ اللهُ تعالى بني آدَمَ في هذه الآيةِ وأمثالِها بالنِّداءِ الذي يُخاطَبُ به البعيدُ؛ لِمَا كان عليه عَرَبُهم وعَجَمُهم عند نُزُولِ هذه السُّورةِ في مَكَّةَ مِنَ البُعدِ عَنِ الفِطرةِ السَّليمةِ، والشِّرعةِ القَويمةِ؛ تنبيهًا للأذهانِ بما يقرَعُ الآذانَ، فامتَنَّ عليهم- بعد أنْ أنبَأَهم بما كان مِن عُرْيِ سَلَفِهم الأوَّلِ- بما أنعَمَ به عليهم مِنَ اللِّباسِ على اختلافِ دَرَجاتِه وأنواعِه، مِنَ الأدنى الذي يستُرُ السَّوءةَ عن أعيُنِ النَّاسِ، إلى أنواعِ الحُلَلِ التي تُشبِهُ رِيشَ الطَّيرِ في وِقايةِ البَدَنِ مِنَ الحَرِّ والبَردِ بِسَترِ جَميعِ البَدَنِ [302] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (8/319). .

2- قال اللهُ تعالى: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا امتنانُ اللهِ تعالى على بَني آدَمَ بلِباسِ الزِّينةِ يدُلُّ على استحبابِها [303] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (8/320). ، وأنَّ الزِّينةَ غَرَضٌ صَحيحٌ [304] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (14/222). .

3- قوله تعالى: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا فيه امتنانُ الله على عبادِه بما يسَّرَ لهم مِنَ اللِّباسِ الضروريِّ، واللباسِ الذي المقصودُ منه الجمالُ، وبيانُ أنَّ هذا ليس مقصودًا بالذات، وإنَّما أنزله الله ليكونَ معونةً لهم على عبادتِه وطاعتِه، ولهذا قال: وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ من اللباسِ الحسيِّ، فإنَّ لباسَ التقوَى يستمرُّ مع العبدِ، ولا يبلَى ولا يبيدُ، وهو جمالُ القلبِ والرُّوح [305] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 285). .

4- في قَولِه تعالى: وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ دلالةٌ على جَوازِ إطلاقِ الثِّيابِ على العَمَلِ، ومِنه قولُه تعالى: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر: 4] على أحدِ الأقوالِ فيها [306] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (11/383). .

5- اللِّباسُ مِن أصلِ الفِطرةِ الإنسانيَّةِ، وهو ممَّا كَرَّمَ اللهُ به الإنسانَ منذُ ظُهُورِه في الأرضِ، والعُرْيُ والتكشُّفُ عَمَلٌ مِن أعمالِ الفِتنةِ الشَّيطانيَّةِ؛ قال الله تعالى: يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا [307] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) ( 8-ب/74)

6- قولُ الله تعالى: يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا استُدِلَّ به على وُجوبِ سَترِ العَورةِ [308] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (9/67). .

7- في قَولِه تعالى: يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إشارةٌ إلى أنَّ الشَّيطانَ كما نَزَعَ عن الأبَوَينِ لباسَهما بمعصيةِ اللهِ وطاعَةِ الشَّيطانِ؛ فكذلك قد يَنزِعُ عن الذُّريَّةِ لِباسَ التَّقوى، ولباسَ البَدَنِ؛ لِيُرِيَها سَوْآتِها [309] يُنظر: ((الاستقامة)) لابن تيمية (2/170). .

8- استُدلَّ بقَولِه تعالى: كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ على أنَّ الجدَّ يُسمَّى أبًا [310] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (19/199). .

9- لَمَّا سُلِّطَ إبليسُ وجُنودُه على بني آدَمَ هذا التَّسليطَ العظيمَ الذي لا يكادُ يَسلَمُ معه أحدٌ؛ قال الله تعالى- مُخَفِّفًا لأمرِهم، مُوهِيًا في الحقيقةِ لكَيدِهم- إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ، أي: وأمَّا أولياؤُنا الذين مَنَعناهم بقُوَّتِنا منه، أو فَتنَّاهم يسيرًا بهم، ثمَّ خَلَّصْناهم بلُطْفِنا منهم؛ فليسوا لهم بأولياءَ [311] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (7/382). .

10- في قولِ الله تعالى: قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ دليلٌ على أنَّ الأوامِرَ والنَّواهيَ الإلهيَّةَ تابعةٌ للحِكمةِ والمصلحةِ؛ حيث ذكر تعالى أنَّه لا يُتصَوَّر أن يأمُرَ بما تستفحِشُه وتُنكِرُه العُقولُ، وأنَّه لا يأمُرُ إلَّا بالعدلِ والإخلاصِ [312] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:286). .

11- حُصِرَت جميعُ الواجباتِ في قولِه تعالى: قُلْ أَمَرَ رَبِّي باِلقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، فالواجِبُ كُلُّه محصورٌ في حقِّ الله وحَقِّ عِبادِه؛ وحَقُّ اللهِ على عِبادِه أن يعبُدوه ولا يُشرِكوا به شيئًا، وحقوقُ عبادِه العَدلُ [313] يُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (6/415). .

12- قَولُ اللهِ تعالى: وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ يدلُّ على أنَّ الكافِرَ- الذي يظُنُّ أنَّه في دينِه على الحقِّ- والجاحِدَ المعانِدَ؛ سواءٌ [314] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (9/87). .

13- قال تعالى: وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ هذا مِن أبيَنِ الدَّلالةِ على خطأِ قَولِ مَن زَعَمَ أنَّ اللهَ لا يُعَذِّبُ أحدًا على معصيةٍ رَكِبَها، أو ضلالةٍ اعتَقَدها؛ إلَّا أن يأتِيَها بعد عِلمٍ منه بصوابِ وَجهِها فيَركَبها عنادًا منه لرَبِّه فيها؛ لأنَّ ذلك لو كان كذلك، لم يكُنْ بَينَ فَريقِ الضَّلالةِ- الذي ضَلَّ وهو يحسَبُ أنَّه مهتدٍ- وفريقِ الهُدى؛ فَرْقٌ، وقد فَرَّقَ اللهُ بين أسمائِهما وأحكامِهما في هذه الآيةِ [315] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/149). .

14- قولُ الله تعالى: أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ضمَّن (تقولونَ) معنَى (تكذِبون) أو معنى (تتقوَّلونَ)، فلذلك عُدِّي بـ(على)، وكان حقُّه أن يعدَّى بـ (عن) لو كان قولًا صحيحَ النِّسبةِ [316] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/85). .

15- في قوله تعالى: أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ إذا كان التوبيخُ واردًا على أن يَقولوا على اللهِ ما لا يَعلمونَ؛ كان القولُ على اللهِ بما يتحقَّقُ عدَمُ ورُودِه مِنَ اللهِ أحرَى [317] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/85). .

16- قال الله تعالى: فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ، عَطْفُ جُملةِ: وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ على جملة: إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، واعتبارُهما سواءً في الإخبارِ عَنِ الفَريقِ الذين حَقَّتْ عليهم الضَّلالةُ؛ لِقَصدِ الدَّلالةِ على أنَّ ضَلالَهم حاصِلٌ في كُلِّ واحدٍ مِنَ الخَبَرينِ؛ فوِلايةُ الشَّياطينِ ضَلالةٌ، وحِسْبانُهم ضَلالَهم هُدًى، ضلالةٌ أيضًا، سواءٌ كان ذلك كُلُّه عن خطأٍ أو عَن عِنادٍ؛ إذ لا عُذرَ للضَّالِّ في ضَلالِه بالخَطَأِ؛ لأنَّ اللهَ نَصَبَ الأدلَّةَ على الحَقِّ، وعلى التَّمييزِ بَينَ الحَقِّ والباطِلِ [318] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/92). .

بلاغة الآيات:

قوله: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا فيه تكريرُ النِّداءِ؛ للإيذانِ بكَمالِ الاعتناءِ بمَضمونِ ما صُدِّرَ به، وقد ابتُدِئَ الخِطابُ بالنِّداءِ؛ ليقعَ إقبالُهم على ما بَعدَه بهِمَمِ قُلوبِهم [319] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/73). .
وكان لاختيارِ استحضارِهم عند الخِطابِ بعنوانِ (بني آدم) مرَّتينِ وَقْعٌ عَجيبٌ بعدَ الفَراغِ مِن ذِكرِ قِصَّةِ خَلقِ آدَمَ، وما لَقِيَه مِن وَسوَسةِ الشَّيطان؛ وذلك أنَّ شأنَ الذريَّةِ أن تَثْأَرَ لآبائِها، وتُعادِيَ عَدُوَّهم، وتحتَرِسَ مِنَ الوُقوعِ في شَرَكِه [320] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/73). .
وفيه: تعريضٌ بالمُشركينَ؛ إذ جَعلوا مِن قُرُباتِهم نَزعَ لِباسِهم بأن يحُجُّوا عُراةً [321] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/74). .
قوله: وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ أُطلِقَ على تقْوى الله وخَشيَتِه اسمُ اللِّباسِ؛ تَشبيهًا لمُلازَمةِ تقوى اللهِ بملازَمةِ اللَّابِسِ لِباسَه [322] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/75). .
واسمُ الإشارةِ ذَلِكَ- على القَولِ بأنَّه مُبتدأٌ ثانٍ- استُعمِلَ مكانَ الضَّميرِ في الرَّبطِ، وجُعِلَتْ جملةُ ذَلِكَ خَيْرٌ خبرًا لِقَولِه: وَلِبَاسُ التَّقْوَى؛ فدلَّ على تأكيدِ مَضمُونِها بتَكرارِ الإسنادِ [323] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (8/321). ، وأيضًا في الفَصْلِ باسمِ الإشارةِ ذَلِكَ المُقتَرِن بأداةِ البُعدِ؛ إيماءٌ إلى عُلُوِّ رُتبةِ لِباسِ التَّقوى، وحُسنِ عاقِبَتِه [324] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (7/379). .
قوله: ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فيه التفاتٌ مِنَ الخطابِ إلى الغَيبةِ؛ إذ كان مُقتضى الظَّاهِر أن يُقال: (لعلَّكم تَذكَّرون)، وفي هذا الالتفاتِ تَعريضٌ بمَن لم يتذكَّرْ مِن بني آدم، فكأنَّه غائِبٌ عن حَضرةِ الخِطابِ [325] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/76). .
قوله: يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا نُهُوا عن أن يفتِنَهم الشَّيطانُ، أي: لا تُمكِّنوا الشَّيطانَ من أنْ يَفتِنَكم، والمعنى النَّهيُ عن طاعتِه، وهذا مِن مبالغةِ النَّهيِ؛ فالمعنى: لا تُطيعوا الشَّيطانَ في فَتْنِه فيفتِنَكم، ومثلُ هذا كنايةٌ عن النَّهيِ عن فِعلٍ، والنَّهيِ عن التعرُّضِ لأسبابِه [326] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/77). .
وقوله: يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا استئنافٌ لتَعليلِ النَّهيِ، وتأكيدِ التَّحذيرِ منه [327] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/222). ، والتَّعبيرُ عمَّا مضَى بالفِعلِ المُضارعِ في قوله: يَنْزِعُ؛ لاستحضارِ الصُّورةِ العَجيبةِ مِن تمكُّنِه مِن أنْ يترُكَهما عُرْيانَينِ، ونزْعُ اللِّباسِ تَمثيلٌ لحالِ التَّسَبُّب في ظُهورِ السَّوءةِ [328] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/78). .
قولُه: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هو وَقَبِيلُهُ فيه تأكيدُ الخَبَرِ بحَرَفِ التَّوكيد إِنَّ لتنزيلِ المُخاطَبينَ في إعراضِهم عن الحذَرِ مِنَ الشَّيطانِ وفِتنَتِه منزلةَ مَن يتردَّدونَ في أنَّ الشَّيطانَ يراهم، وفي أنَّهم لا يَرونَه [329] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/79). .
وجملة: إِنَّه يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ واقعةٌ موقِعَ التَّعليلِ للنَّهيِ عن الافتتانِ بفِتنةِ الشَّيطانِ، والتحذيرِ من كيدِه؛ لأنَّ شَأنَ الحَذِرِ أن يَرصُدَ الشَّيءَ المَخُوفَ بنَظَرِه؛ ليحتَرِسَ منه إذا رأى بوادِرَه، فأخبَرَ اللهُ النَّاسَ بأنَّ الشَّياطينَ ترى البَشرَ، وأنَّ البَشَرَ لا يرونَها، إظهارًا للتَّفاوُتِ بين جانِبِ كَيدِهم، وجانِبِ حَذَرِ النَّاسِ؛ فإنَّ جانِبَ كيدِهم قَوِيٌّ متمَكِّنٌ، وجانِبَ حَذَرِ النَّاسِ منهم ضعيفٌ؛ لأنَّهم يأتون المَكيدَ مِن حيثُ لا يدري [330] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/ 79). .
قوله: إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أولِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ جملةٌ مستأنفةٌ استئنافًا ابتدائيًّا؛ قُصِدَ منه الانتقالُ إلى أحوالِ المُشركينَ في ائتِمارِهم بأمرِ الشَّيطانِ؛ تَحذيرًا للمؤمنينَ مِن الانتظامِ في سِلكِهم، وتنفيرًا مِن أحوالِهم [331] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/80). ، وهي تعليلٌ آخَرُ للنَّهيِ، وتأكيدٌ للتَّحذيرِ إثرَ تَحذيرٍ [332] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/223). .
وفيه: تأكيدُ الخَبَر بحَرفِ التَّأكيدِ (إِنَّ)؛ للاهتمامِ بالخَبَر بالنِّسبة لِمَن يَسمَعُه مِنَ المؤمنينَ [333] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/80). .
قوله: وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا فيه إيجازٌ؛ إذ المفهومُ أنَّهم إذا فَعَلوا فاحشةً فأنكَرْتَ عليهم أو نُهُوا عنها؛ قالوا: وَجَدْنا عليها آباءَنا... [334] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/83). .
وجاء الشَّرطُ بحَرْفِ إِذَا الذي مِن شَأنِه إفادةُ اليَقينِ بوُقوعِ الشَّرطِ؛ ليُشِيرَ إلى أنَّ هذا حاصِلٌ منهم لا محالةَ [335] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/82). .
قولُه: أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ الاستفهامُ في قولِه: أَتَقُولُونَ إنكاريٌّ، وفيه تَوبِيخٌ لهم على كَذِبِهم، وتَوقيفٌ على ما لا عِلْمَ لهم به، ولا رِوايةَ لهم فيه، بل هي دَعْوَى واختلاقٌ [336] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/99)، ((تفسير البيضاوي)) (3/10)، ((تفسير أبي حيان)) (5/34)، ((تفسير أبي السعود)) (3/223). .
قوله: قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ
فُصِلَتْ جُملةُ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ عن التي قبلَها، ولم يُعطَفِ القَولُ على القَولِ، ولا المَقولُ على المَقولِ؛ لأنَّ في إعادةِ فِعلِ القَولِ، وفي تَركِ عَطفِه على نظيرِه؛ لَفْتًا للأذهانِ إليه [337] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/86). .
وقولُه: وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ إقامةُ الوُجوهِ تمثيلٌ لِكَمالِ الإقبالِ على عِبادةِ اللهِ تعالى في مواضِعِ عِبادَتِه، بحالِ المُتَهيِّئِ لمُشاهَدةِ أمرٍ مُهِمٍّ حين يوجِّه وَجهَه إلى صَوْبِه، لا يلتفِتُ يَمنةً ولا يَسرةً [338] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/87). .
وقوله: كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ كَمَا مُركَّبَةٌ من الكاف و(ما)؛ فالكافُ لِتَشبيهِ عَودِ خَلْقِهم ببَدئِه، و(ما) مصدريةٌ، والتقديرُ: تَعودونَ عَودًا جديدًا كبَدْئِه إيَّاكم، وقَدَّمَ المُتعَلِّقَ الدَّالَّ على التَّشبيهِ، على فِعلِه تَعُودُونَ؛ للاهتمامِ به [339] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/89). .
قوله: فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ
فيه تَقديمُ فَرِيقًا الأوَّلِ والثَّاني على عامِلَيهِما؛ للاهتمامِ بالتَّفصيلِ [340] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/90). .
قوله: فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ، فيه مناسبةٌ حسَنةٌ، حيثُ قال هنا في سُورةِ الأعراف: فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ، بينما قال في سُورةِ النَّحل: فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ [النحل: 36] ؛ وذلك لوجَهينِ: لفظي ومعنوي؛ أمَّا اللَّفظيُّ: فهو أنَّ الحروفَ الحواجزَ بينَ الفِعلِ والفاعِل في قوله: حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ أكثرُ منها في قولِه: حَقَّتْ عَلَيْهِ والحذفُ مع كثرةِ الحواجزِ أحسنُ. وأمَّا المعنويُّ: فإنَّ (مَن) في قوله: وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ واقعةٌ على الأمَّةِ والجماعةِ، وهي مؤنَّثةٌ لفظًا؛ فإنَّه قال: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا ثمَّ قال: وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ، أي: مِن تِلك الأُممِ أممٌ حقَّتْ عليهم الضلالةُ، ولو قال بدَلَ ذلك: (ضلَّت) لتعيَّنتِ التاءُ، ومعنى الكلامين واحد، وإذا كان معنى الكلامينِ واحدًا كان إثباتُ التاءِ أحسنَ مِن ترْكِها؛ لأنَّها ثابتةٌ فيما هو في معنى الكلامِ الآخَرِ. وأمَّا: فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ فالفريقُ مُذكَّر، ولو قال: (فريقًا ضلُّوا) لكان بغيرِ تاءٍ، وقوله: حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ في معناه؛ فجاءَ بغيرِ تاءٍ، وهذا أسلوبٌ لطيفٌ من أساليبِ العربيَّةِ؛ فإنَّ العرَبَ تدَعُ حُكمَ اللَّفظِ الواجبِ له في قِياسِ لُغتها إذا كان في مَعنَى كلمةٍ لا يجبُ لها ذلك الحُكمُ؛ كقولهم: (هو أحسنُ الفتيانِ وأجملُه)؛ لأنَّه في معنى هو أحسنُ فتًى وأجملهُ، وأحسنُ مِن هذا أنْ يُقال: إنَّهم أرادوا (أحسن شيءٍ وأجمله)، فجَعَلوا مكانَ (شيء) قولهم: (الفتيان)؛ تنبيهًا على أنَّه أحسنُ شيءٍ من هذا الجِنس، فلو اقتَصروا على ذِكرِ شيءٍ، لم يَدُلَّ على الجِنس المفضَّلِ عليه؛ فإذا حَسُنَ الحملُ على المعنَى فيما كان القياسُ لا يُجوِّزه؛ فكيفَ الظنُّ فيما يُجوِّزُه القياسُ والاستِعمالُ [341] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيِّم (1/126). ؟!
وقوله: إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أولِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ... استئنافٌ مُرادٌ به التَّعليلُ لجُملة حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ [342] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/91). .