موسوعة التفسير

سُورةُ يُونُس
الآيات (96-100)

ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ

غريب الكلمات:

الرِّجْسَ: أي: العذابَ، ويُطلَقُ أيضًا على: القذرِ المنتنِ، وأصلُ (رجس): يَدُلُّ على اختِلاطٍ [1153] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 145)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/490)، ((المفردات)) للراغب (ص: 342)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 102، 158)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 199). .

المعنى الإجمالي:

يُخاطِبُ اللهُ نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم قائلًا له: إنَّ الذين وجَبَت عليهم كَلِمةُ رَبِّك- أيُّها الرَّسولُ- بمَوتِهم على الكُفرِ وطَردِهم مِن رَحمتِه وعذابِه لهم، لا يؤمنونَ إيمانًا ينفَعُهم قبل مَوتِهم، ولو جاءتْهم كلُّ مَوعظةٍ وعِبرةٍ، حتى يُعايِنوا العذابَ المُوجِعَ، فحينئذٍ يُؤمِنونَ، ولا ينفَعُهم إيمانُهم، وما آمَنَ أهلُ قريةٍ مِن القُرى الهالكةِ في وقتٍ ينفَعُهم إيمانُهم فيه، إلَّا قَوم النَّبيِّ يُونُسَ عليه الصَّلاة والسَّلامُ، فإنَّهم لـمَّا أيقَنوا أنَّ العذابَ نازِلٌ بهم تابوا إلى الله تعالى توبةً نَصوحًا، فكشفَ اللهُ عنهم عذابَ الخِزيِ بعد أن رأَوا بعضَ الآياتِ الدالةِ على نزولِه، وتَرَكهم في الدُّنيا يَستمتِعونَ إلى وقتِ انتهاءِ آجالِهم، ولو شاء ربُّك- أيُّها الرَّسولُ- الإيمانَ لأهلِ الأرضِ كُلِّهم، لآمَنوا جميعًا بما جئتَهم به، ولكِنْ له تعالى حكمةٌ في ذلك؛ فإنَّه يهدي من يشاءُ، ويُضِلُّ من يشاء وَفْقَ حِكمتِه، وليس في استطاعتِك أن تُكرِهَ النَّاسَ على الإيمانِ، وما ينبغي أن تُؤمِنَ نفسٌ إلَّا بمشيئةِ الله وقضائِه وقدرِه، فلا تُجهِدْ نفسَك في ذلك؛ فإنَّ أمرَهم إلى اللهِ، ويجعَلُ اللهُ غَضَبَه وعذابَه على الذينَ لا يَعقِلونَ أمْرَه ونَهيَه.

تفسير الآيات :

إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ (96).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا كان ما مضَى من الآياتِ وما كان مِن طرازِها، قاضيًا بأنَّه لا تُغني الآياتُ عن المُشرِكينَ- صرَّح به هنا بقَولِه [1154] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (9/207). :
إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ.
أي: إنَّ الذين وجبَت عليهم كَلِمةُ رَبِّك- يا مُحمَّدُ- بأنَّهم يصيرونَ إلى ما قدَّرَه اللهُ لهم مِن الاستمرارِ على الكُفرِ والموتِ عليه؛ لا يُؤمِنونَ إيمانًا ينفَعُهم قبل مَوتِهم [1155] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/290)، ((تفسير ابن كثير)) (4/296)، ((تفسير الشوكاني)) (2/538)، ((تفسير السعدي)) (ص: 374)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/287). .
وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ (97).
أي: ولو جاءتْهم كلُّ آيةٍ مِن الآياتِ الكونيَّةِ المُعجِزة الخارِقةِ، والآياتِ الشَّرعيَّةِ المُنزَّلةِ كالقُرآنِ، فإنَّهم لا يُؤمِنونَ حتى يُعايِنوا العذابَ المُوجِعَ فيُؤمِنوا، وحينئذٍ لا ينفَعُهم الإيمانُ [1156] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/290)، ((البسيط)) للواحدي (11/318)، ((تفسير القرطبي)) (8/383)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (11/393)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/287، 288). .
فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا بيَّنَ مِن قَبلُ أنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ؛ أتبَعَه بهذه الآيةِ؛ لأنَّها دالَّةٌ على أنَّ قَومَ يُونُسَ آمَنوا بعد كُفرِهم، وانتَفَعوا بذلك الإيمانِ، وذلك يدُلُّ على أنَّ الكُفَّارَ فَريقانِ؛ منهم من حُكِمَ عليه بخاتمةِ الكُفرِ، ومنهم من حُكِمَ عليه بخاتمةِ الإيمانِ، وكُلُّ ما قضَى اللهُ به فهو واقِعٌ [1157] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (17/303-304). .
وأيضًا فهذه الآيةُ والآيتانِ بعدَها تفريعٌ على الآياتِ السابقةِ، وتكميلٌ لها في بيانِ سُنَّةِ اللهِ في الأمَمِ مع رُسُلِهم، وفي خَلْقِ البَشَرِ مُستعِدِّينَ للأمورِ المتضادَّةِ من الإيمانِ والكُفرِ، وفي تعلُّقِ مَشيئةِ اللهِ وحِكمتِه بأفعالِه وأفعالِ عِبادِه، ووقوعِها على وَفْقِهما [1158] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (11/393). .
فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ.
أي: ما آمَنَ أهلُ قريةٍ مِن القُرى الهالكةِ في وقتٍ ينفَعُهم إيمانُهم فيه، إلَّا قَومَ النَّبيِّ يُونُسَ عليه الصَّلاة والسَّلامُ، آمَنوا كُلُّهم في وقتٍ يَنفَعُهم فيه الإيمانُ، حين رأَوا آيةً تدُلُّ على العذابِ قبل نُزولِه بهم [1159] يُنظر: ((معاني القرآن)) للزجاج (3/34)، ((تفسير ابن عطية)) (3/144)، ((تفسير القرطبي)) (8/384)، ((تفسير ابن كثير)) (4/297)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/289). وممن ذهَب إلى المعنَى المذكورِ، وهو أنَّهم رأوا علاماتٍ دالةً على العذابِ دونَ العذابِ عينِه، فآمنوا فتاب الله عليهم: الزجاجُ، والواحدي، وابنُ عطيةَ، والرازي، والقرطبي، وابن تيمية، وابنُ كثيرٍ، والشوكاني، والقاسمي، ومحمد رشيد رضا، وابنُ عاشور. يُنظر: ((معاني القرآن)) للزجاج (3/34)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 508)، ((تفسير ابن عطية)) (3/144)، ((تفسير الرازي)) (17/303)، ((تفسير القرطبي)) (8/384- 385)، ((جامع المسائل)) لابن تيمية (ص: 364- المجموعة الثامنة)، ((تفسير ابن كثير)) (4/297)، ((تفسير الشوكاني)) (2/539)، ((تفسير القاسمي)) (6/64)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (11/394)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/289). وقيل: إنَّ قَومَ يُونُسَ خُصُّوا من بين الأمَمِ بأنْ تِيبَ عليهم لما آمنوا بعدَ مُعاينةِ العَذابِ، وممَّن ذهب إلى ذلك: ابنُ جرير، والواحدي، والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/291)، ((الوسيط)) (2/560)، ((الوجيز)) (ص: 508)، ((تفسير السعدي)) (ص: 374). وممن قال بهذا القولِ مِن السلفِ: ابنُ عبَّاس، وسعيدُ بنُ جبيرٍ، وقتادةُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/292، 293، 295). .
لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ.
أي: لَمَّا آمَنَوا رَفَعْنا عنهم عذابَ الذُّلِّ الذي وعدَهم به نبيُّهم في الحياةِ الدُّنيا- وكان قد قرُبَ نُزولُه بهم- وتَرَكْناهم يستَمتِعونَ في الدُّنيا إلى آخِرِ أعمارِهم المكتوبةِ [1160] يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (2/133)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 508)، ((تفسير ابن عطية)) (3/144)، ((تفسير ابن الجوزي)) (2/351)، ((تفسير القرطبي)) (8/385)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (11/394). .
وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ (99).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان ما مضَى ربَّما أوجبَ اعتقادَ أنَّ إيمانَ مِثلِ أولئك مُحالٌ، جاءت هذه الآيةُ في مَقامِ الاحتراسِ منه مع البيانِ؛ لأنَّ حِرصَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على إيمانِهم لا ينفعُ، ومبالغتَه في إزالةِ الشُّبُهاتِ وتقريرِ الدَّلائِلِ لا تفيدُ إلَّا بمَشيئةِ الله تعالى لِتَوفيقِهم وهدايتِهم، ولو كان ذلك وَحْدَه كافيًا لآمنوا بهذه السُّورةِ؛ فإنَّها أزالت شُبُهاتِهم، وبَيَّنَت ضلالاتِهم، وحقَّقَت بقصَّتَي نوحٍ وموسى عليهما السَّلامُ ضَعْفَهم، ووَهَنَ مُدافعاتِهم [1161] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (9/209). .
وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا.
أي: ولو شاء ربُّك- يا محمَّدُ- لألهَمَ كلَّ من في الأرضِ الإيمانَ فآمنوا باللهِ، وبما جِئتَ به، لكنَّه لم يشَأْ ذلك؛ لِمُخالفتِه مقتضَى حِكمتِه سُبحانَه [1162] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/297)، ((تفسير القرطبي)) (8/385)، ((تفسير ابن كثير)) (4/298)، ((تفسير القاسمي)) (6/65)، ((تفسير السعدي)) (ص: 374). .
كما قال تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود: 118- 119] .
وقال سُبحانه: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ [الأنعام: 35] .
أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ.
أي: أفأنت- يا مُحمَّدُ- تُلزِمُ النَّاسَ، وتضطرُّهم إلى الإيمانِ، حتى يكونوا مُؤمِنينَ بما جئتَهم به؟ ليس ذلك إليك، ولا قُدرةَ لك عليه، بل اللهُ تعالى هو من يَهدي ويُضِلُّ مَن يشاءُ مِن عِبادِه، لا بإكراهِك لهم على ذلك [1163] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/299)، ((تفسير ابن كثير)) (4/298)، ((تفسير أبي السعود)) (4/177)، ((تفسير السعدي)) (ص: 374). .
كما قال تعالى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة: 272] .
وقال سُبحانه: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص: 56] .
وقال عزَّ وجلَّ: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [فاطر: 8] .
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ (100).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ هذه الآيةَ عَطفٌ على جملةِ: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ لتقريرِ مَضمونِها؛ لأنَّ مَضمونَها إنكارُ أن يَقدِرَ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم على إلجاءِ النَّاسِ إلى الإيمانِ؛ لأنَّ اللهَ هو الذي يَقدِرُ على ذلك [1164] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/294). .
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ.
أي: وما ينبغي لنفسٍ أن تؤمِنَ وتهتديَ إلَّا بقضاءِ اللهِ وقَدَرِه ومَشيئتِه، فلا تُجهِدَنَّ نفسَك- يا مُحمَّدُ- في طلَبِ هُداها، وبلِّغْها وعيدَ اللهِ، ثمَّ خَلِّها؛ فإنَّ هُداها بِيَدِ خالِقِها، ولا تكفي دعوتُك في حصولِ الإيمانِ حتى يأذَنَ اللهُ لِمَن دَعَوتَه أن يؤمِنَ [1165] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/299، 300)، ((تفسير القرطبي)) (8/386)، ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 60)، ((تفسير السعدي)) (ص: 374). .
وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ.
أي: ويجعَلُ اللهُ غضَبَه وعذابَه على الذينَ لا يَعقِلونَ آياتِه، وحُجَجَه، ومواعِظَه، وأوامِرَه ونواهِيَه [1166] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/300)، ((البسيط)) للواحدي (11/325، 326)، ((تفسير ابن عطية)) (3/145)، ((تفسير القرطبي)) (8/386)، ((تفسير ابن كثير)) (4/298)، ((تفسير السعدي)) (ص: 374). .

الفوائد التربوية :

الدَّليلُ لا يهدي إلَّا بإعانةِ الله تعالى، وإذا لم تحصُلْ تلك الإعانةُ ضاعت تلك الدَّلائِلُ؛ نستفيد ذلك مِن قَولِ الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [1167] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (2/38). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ الله تعالى: فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ فيه سؤالٌ: أنَّ الله تعالى حكى عن فِرعونَ أنَّه تاب في آخِرِ الأمرِ ولم يَقبَلْ تَوبتَه، وحكى عن قومِ يُونُسَ أنَّهم تابوا وقَبِلَ تَوبتَهم فما الفَرقُ؟ والجوابُ: أنَّ فِرعونَ إنَّما تاب بعد أن شاهدَ العذابَ، وأمَّا قَومُ يُونُسَ فإنَّهم تابوا قبل ذلك، فإنَّهم لَمَّا ظَهَرت لهم أماراتٌ دلَّت على قُربِ العَذابِ تابوا قبل أن يُشاهِدوه [1169] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (17/303). .
2- قَولُ الله تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ فيه ردٌّ على القَدَريَّةِ [1170] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص:149). .
3- في قَولِه تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ دلالةٌ على أنَّ مُجرَّدَ الدَّعوةِ لا تكفي في حصولِ الإيمانِ، حتى يأذنَ اللهُ لِمَن دُعِيَ أن يؤمِنَ [1171] يُنظر: ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 60). .
4- الإذنُ في قَولِه تعالى: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ إذنٌ قَدَريٌّ- أي: قضاؤُه وقَدَرُه - لا مجرَّد أمْرِه وشَرْعِه [1172] يُنظر: ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 60). .
5- الجَعْلُ المذكورُ في قولِه تعالى: وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ هو جَعْلٌ كونيٌّ، ويُقابِلُه: الجعلُ الدينيُّ، كما في قَولِه تعالى: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ [المائدة: 103] أي: ما شَرَعَ ذلك ولا أَمَرَ به، وإلَّا فهو مخلوقٌ له، واقعٌ بقدَرِه ومَشيئتِه [1173] يُنظر: ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 282). .
6- قَولُ اللهِ تعالى: وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ أبهَمَ حِينٍ؛ لأنَّه مختلِفٌ باختلافِ آجالِ آحادِهم [1175] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/291). .
7- قَولُ الله تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا فائدةُ ذِكرِ جَمِيعًا بعدَ كُلُّهُمْ، مع أنَّ كُلًّا منهما يفيدُ الإحاطةَ والشُّمولَ، هي الدَّلالةُ على وجودِ الإيمانِ منهم بصفةِ الاجتماعِ الذي لا يدُلُّ عليه كُلُّهُمْ كقولك: جاء القومُ جمَيعًا، أي: مجتَمِعينَ، ونظيرُه قَولُه تعالى: فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ [1176] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص:254-255). .

بلاغة الآيات:

قولُه تعالى: فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ
قولُه: فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ... كلامٌ مُستأنَفٌ؛ لتقريرِ ما سبَق مِن استِحالةِ إيمانِ مَن حقَّت عليهم كلمتُه تعالى؛ لِسُوءِ اختِيارِهم مع تَمكُّنِهم مِن التَّدارُكِ [1177] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/176). ، و(لولا) حرفٌ يَرِدُ لِمَعانٍ مِنها التَّوبيخُ، وهو هنا مُستعمَلٌ في لازمِ التَّوبيخِ، كِنايةً عن التَّغليطِ؛ لأنَّ أهْلَ القُرى قد انقَضَوْا، وذلك أنَّ أصلَ معنى (لولا) التَّحضيضُ، وهو طلبُ الفعلِ بحَثٍّ، فإذا دخلَت على فعلٍ قد فات وقوعُه كانت مُستعمَلةً في التَّغليطِ، والتَّنديمِ، والتَّوبيخِ على تَفْويتِه، ويكونُ ما بَعدَها في هذا الاستعمالِ فِعْلَ مُضيٍّ؛ فهي هنا مُستعمَلةٌ في لازمِ التَّوبيخِ، كنايةً عن التَّغليطِ [1178] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/107)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/288). .
قوله تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ
قولُه: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا... فيه حذفُ مفعولِ المشيئةِ؛ لِوُجودِ ما يَقْتَضيه مِن وقوعِها شرطًا، وكونِ مَفعولِها مضمونَ الجزاءِ، وألَّا يكونَ في تَعلُّقِها به غرابةٌ، والتَّقديرُ: لو شاء سبحانه إيمانَ مَن في الأرضِ مِن الثَّقلَين لآمَن [1179] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4 /177). .
وفيه التَّأكيدُ بـكُلُّهُمْ؛ للتَّنصيصِ على العمومِ المستفادِ مِن مَنْ الموصولةِ؛ فإنَّها للعُمومِ، والتَّأكيدُ بـجَمِيعًا؛ لزِيادةِ رَفْعِ احتِمالِ العُمومِ العُرفيِّ دونَ الحقيقيِّ [1180] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/292). .