موسوعة التفسير

سُورَةُ البَقَرَةِ
الآيات (266- 274)

ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ

غريب الكلمات:

أَيَوَدُّ: أيحبُّ ويتمنَّى؛ فالودُّ: محبَّة الشَّيء، وتمنِّي كونَه [2636] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/75)، ((المفردات)) للراغب (ص: 860)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 86). .
إِعْصَارٌ: الإعصار هو: ريح شَديدة تَعصِف، تَرفَع تُرابًا إلى السَّماء، كأنَّه عمودُ نارٍ، أو هو الغُبار الذي يَسطَع مُستديرًا، أو رِيح عاصفة تنعكس من الأرض إلى السَّماء، ملتفَّة في الهواء، حاملة للتراب، مستديرة كالعمود [2637] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 97)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 101)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/343)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 116)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 152). .
وَلَا تَيَمَّمُوا: لا تَقصِدوا الرَّديء، ولا تَعمِدوا إليه [2638] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 98)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 135)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/152)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 38)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 116). .
تُغْمِضُوا فِيهِ: تترخَّصوا، وتتسامحوا، وأَصْل الغَمْض: النَّوم العَارِض، ثم استُعير للتَّغافُل والتَّساهُل [2639] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 161)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/396)، ((المفردات)) للراغب (ص: 615)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 116). .
الْفَحْشَاءِ: هي كلُّ شيء مُستقبَح ومُستشنَع، من قولٍ أو فِعلٍ [2640] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 361)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/478)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 38). .
الْحِكْمَةَ: العِلم والفِقه، وإصابة الحقِّ بالعِلم والعَقل، وأصل حَكم: المنع، وأوَّل ذلك الحَكْم، وهو المنع من الظُّلم، والإحكام هو الفصل والتمييز، والفرق والتحديد الذي به يتحقَّق الشيء ويحصُل إتقانُه؛ ولهذا دخل فيه معنى المنْع كما دخَل في الحدِّ، فالمنعُ جزءُ معناه لا جميع معناه. والحِكمة اسمٌ للعَقل، وإنَّما سُمِّي حِكمة؛ لأنَّه يمنع صاحبه من الجَهل [2641] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 148)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/91)، ((المفردات)) للراغب (ص: 249)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 38)، ((الإكليل في المتشابه والتأويل)) لابن تيمية (ص: 11)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 94). .
الْأَلْبَابِ: العقول الزكيَّة، مفردها لُبٌّ، وأصْل اللُّبِّ: الخُلُوص والجَوْدة، والشَّيء المُنتقَى [2642] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 51)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/199)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 102). .
نَذْرٍ: إيجابُ المرءِ على نَفْسِه ما ليس بواجبٍ [2643] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/414)، ((المفردات)) للراغب (ص: 797)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (5/34)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 912). .
تُبْدُوا: تُظهِروا، مِن بدَا بدوًّا وبداءً، أي: ظهَر ظُهُورًا بيِّنًا [2644] يُنظر: ((المفردات)) للراغب (ص: 113)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/212). .
فَنِعِمَّا هِيَ: فنِعمَ شيئًا أو فنِعم الشيءُ هي، وأصْل النِّعمة: التَّرفُّه، وطِيبُ العَيش، والصَّلاح [2645] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/446)، ((المفردات)) للراغب (ص: 784)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 38). .
يُوَفَّ إِلَيْكُم: تُوفَّوْا أجْرَه، وأصْل التَّوفية: بلوغ التَّمام [2646] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 98)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/129). .
أُحْصِرُوا: أي: مُنِعوا وحُبِسوا عن التَّصرُّف في مَعايِشِهم؛ خَوفَ العَدُوِّ، وأصْل الحَصْر: التَّضييق والمنْع [2647] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 368)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/72)، ((المفردات)) للراغب (ص: 238)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 39)، ((تفسير القرطبي)) (3/340)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 116). .
ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ: ذَهابًا فيها، أي: تِجارةً وغيرها كالسَّفر [2648] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 312)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/398)، ((المفردات)) للراغب (ص: 505)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 52). .
التَّعَفُّفِ: تَرْك السُّؤال، والكفُّ عمَّا لا ينبغي، والعِفَّة كذلك: حصولُ حالة للنَّفس تَمتنِع بها عن غَلبةِ الشَّهوة [2649] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/3)، ((المفردات)) للراغب (ص: 573). .
بِسِيمَاهُمْ: بعلاماتهم وآثارهم؛ فأصْل الوَسْم: الأَثَر والمَعلَم [2650] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/110)، ((المفردات)) للراغب (ص: 871)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 116). .
إِلْحَافًا: إلحاحًا، وأصْله: الاشتمال والمُلازَمة [2651] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 98)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 101)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/238)، ((المفردات)) للراغب (ص: 737)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 116). .

مشكل الإعراب:

1- قوله فَنِعِمَّا هِي: نِعِمَّا: مركَّبة من (نِعم) و(ما)؛ فأمَّا نِعم: ففعل ماضٍ جامد لا يتصرَّف، مبنيٌّ على الفتْح. وما: نكرة موصوفة بمعنى شيئًا، منصوبة على التمييز. والفاعل ضمير مستِتر في نِعْم، تقديرُه: هي، عائدٌ على الصَّدقات. وقيل: (ما) معرفة تامَّة، فاعل نعم، أي: نِعْم الشيءُ. وهي: ضمير مبنيٌّ في محل رفع مبتدأ، والجملة قبله (نِعما) في محل رفْع خبر له، والتقدير: إن تبدوا الصدقات فهِيَ نِعم شيئًا، أو فهي نعم الشيءُ [2652] يُنظر: ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (1/141)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (1/221)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (2/608-609). .
2- قوله: وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ
ويُكفِّرُ: فعل مضارع، يجوز فيه الجزمُ والرَّفْع؛ فمَن جزَمه عطَفَه على موضِع الفاء في قوله: فَهُوَ خَيرٌ لَكُمْ. ومَن رفَع فعلى القَطْع بتقدير مبتدأ؛ فمَن قرأ بالنون ورفع قدَّره: ونحن نُكفِّرُ، ومَن قرأ بالياء ورفع قدَّره: والله يُكفِّرُ عنكم [2653] يُنظر: ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (1/141)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (1/221)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (2/610). .

المعنى الإجمالي :

أيرغبُ أحدُكم- يا مَن تَمُنُّون وتُراؤون- أن يَملِك بستانًا من أشجار النخيل والعِنَب، تجري فيه الأنهار، وقد احتوى أيضًا على جميع أصناف الثِّمار، وكَبِرت سنُّ صاحبه، فازداد حِرْصُه عليه؛ لضَعْفه عن التَّكسُّب، وكان له ذرية يَعولهم لا يستطيعون لضَعْفهم القيامَ بأمورهم، ومع تلك الحاجة الماسَّة إلى ذلك البُستان، حلَّت عليه كارثةٌ، فاجتاحته ريح قويَّة فيها نار، فأَحرقتْ ذلك البُستانَ، فإذا عايَن صاحبُها ما آل إليه بُستانُه، فكم سيكون في قلبه من الغمِّ والحَسرة، والألمِ والحزنِ، فكذلك حالُ مَن أنفق لوجهِ اللهِ أولًا؛ حتى حقَّق الأجرَ العظيم، ثم أَفسَد ذلك بما يُبطِل أجرَه كالمنِّ والأذى، وفي الوقتِ الذي هو أَحْوجُ ما يكون إليها بعد موته يجِد تلك الأجورَ قد تلاشتْ، وبمِثْل هذا البيان يُوضِّح الله الآياتِ؛ ليتفكَّر العبادُ ويتدبَّروا.
ثم يَحُثُّ الله عبادَه المؤمنين أنْ يُخرِجوا زَكواتِهم وصدقاتِهم من أجود أموالهم التي اكتسبوها بالحلال، وممَّا أخرج الله لهم مِن الأرضِ من ثِمار وزُروع وركِاز ومَعادن، مُتْبِعًا ذلك الحثَّ بنهيهم عن أنْ يَقصِدوا الرَّديءَ من أموالهم ليتصدَّقوا به، ذلك الرَّديءُ من الأموال الذي لو كانوا هم في مقامِ آخِذ الصَّدقةِ، فلن يأخذوه إلَّا بإغماضِ بعض بَصَرهم عنه، وأمرهم أن يتيقَّنوا أنَّ الله غنيٌّ حميد.
ثم يُخبِر تعالى عبادَه المؤمنين أنَّ الشيطان يُخوِّفهم الفقرَ إنْ هم تَصدَّقوا، ويأمرهم بالبخلِ وبجميعِ المعاصي والمُنكَرات، والله سبحانه يَعِدُكم- أيُّها المؤمنون- مغفرةً لما يَصدُر منكم، ويَعِدُكم أن يُخلِف عليكم ما تصدَّقتم به، ويَزيد في أجوركم وأرزاقكم، والله واسع عليم؛ يُعطي سبحانه الحِكمةَ مَن يشاء من عباده، ومَن يُكرِمه الله بالحِكمة، فقد أُعْطي خيرًا عظيمًا، ولا يتَّعِظ بمواعظِ الله تعالى- فيذكُر وعْدَه ووعيدَه، فيَمتثِل لِمَا أُمر به، ويَنتهي عمَّا نُهي عنه- إلَّا أصحابُ العقولِ الكاملة.
ثم يُخبِر الله تعالى عبادَه أنَّ أيَّ صَدقةٍ تصدَّقوا بها، أو أي نَذْر أَلزَموا به أنفسَهم، فإنَّ ذلك تحت عِلْم الله، الذي لا يَخْفى عليه شيء، ويُجازيهم عليها، وليس لمَنْ لم يُنفِق ما وجَب عليه ولم يُوفِ بما نذَره أحدٌ يَنصُره من الله يوم القيامة.
ثم يُخاطِب عبادَه سبحانه بأنَّهم إنْ أَظهَروا الصَّدقاتِ، فأَعطَوها علانيةً فنِعْم الشيء هي، ما دام أنَّها لله، وقد حصَل المقصودُ منها، وإن أَخْفَوا الصَّدقات، وأَعْطَوها الفقراءَ سرًّا فهو أفضل من الإظهار، ويُكفِّر الله السيِّئاتِ بهذه الصَّدقات المُعلَنة منها والمخفيَّة، واللهُ مُطَّلِعٌ على ما يعملون من أعمالٍ، فيُحصيها ويُجازيهم بها.
ثم يتوجَّه الخطابُ إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ، فيُخبِره تعالى أنَّه ليس عليه هداية الخَلْق هدايةَ التَّوفيق، ولكن عليه البلاغ والإرشاد؛ فالله هو الذي يَهدي مَن يشاء إلى دِينه. ثم يُخبِر تعالى أنَّ ما يتصدَّق به المُنفِقون من خير فنَفْعه الحقيقي عائدٌ عليهم، وأنَّ النَّفقة النَّافعة لصاحبها هي ما كانت خالصةً لله تعالى، وابتغى بها صاحبُها النظرَ إلى وَجْه الله الكريم، وأنَّ ما يتصدَّقون به من مالٍ يؤدَّى إليهم أجْرُه في الآخرة كاملًا، فلا يَضيعُ عند الله شيء.
ثم أَرْشد سبحانه إلى أنْ تُعطى تلك النَّفقات لمن لا يَملِكون شيئًا يَسُدُّ حاجتَهم، ممن حبَسوا أنفسَهم على الجهاد في سبيل الله، وحبَسهم أيضًا تَربُّص أعدائهم بهم، فلا يستطيعون التصرُّف في أشغال الدُّنيا، ولا الضرب في الأرض طلبًا للرِّزق، يَظُنُّهم مَن يَجهَل أمرَهم، أغنياءَ من شِدَّة تَرْكهم التَّعرضَ لسؤال الناس، وما يُميِّزهم هو آثار الحاجة التي تظهر عليهم، ويَلمَحها ذَوو الفِطنة من خلال ملامح وجوههم، أو نظراتهم، أو بعض عباراتهم، وهم لا يسألون النَّاس مطلقًا، لا مُلْحِفِين مُلِحِّين في المسألة ولا غير مُلِحِّين. ثم أخبَر تعالى أنَّ ما يَبذُلونه من مال قليلًا أو كثيرًا، فإنَّ الله يَعلَمه، وسيُحصيه، وسيَجزيهم عليه أتمَّ الجزاء.
ثم وعَد الله الذين يَبذُلون أموالَهم صدقةً في أيِّ وقت كان، من ليل أو نهار، سواء في السِّرِّ أو العَلَن، بأنَّ لهم يومَ القيامة أجرًا عظيمًا، ولا يُصيبهم خوفٌ على ما يُستقْبَل، ولا يحزنون على ما مضَى.

تفسير الآيات:

أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
هذا استئنافٌ بياني أَثارَه ضربُ المثَل العجيب للمُنفِق في سبيل الله بمَثَل حبَّة أنبتت سبع سنابل، ومَثَل جنَّة برَبوة، إلى آخِر ما وصف من المثَلين، ولَمَّا أَتْبع بما يُفيد أنَّ ذلك إنَّما هو للمُنفِقين في سبيل الله الذين لا يُتْبِعون ما أنفقوا منًّا ولا أذًى، ثم أَتْبع بالنهي عن أن يُتْبِعوا صدقاتِهم بالمنِّ والأذى، استشرفت نَفْس السامع لتلقِّي مَثَلٍ لهم يُوضِّح حالَهم الذميمة كما ضرَب المَثَل لمن كانوا بضدِّ حالهم في حالة محمودة [2654] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (3/53). فقال:
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ.
أي: هل يرغب أحدٌ منكم في أن يمتلك بُستانًا ذا أشجارٍ كثيرة، تَستُر ما بداخله من كثرتها، ويحوي أفضلَ أنواعِ الأشجار، وأشرفَ أنواع الثمار، وأكثرها نفعًا، ممَّا لا يوجد عادةً مجتمعًا في موضعٍ واحدٍ، ألَا وهي أشجار النَّخيل والعِنَب، وتجري في أرض هذا البستان المدهش المياهُ العَذْبة المتفرِّقة في أنحائه، فتسقيه بلا تعبٍ ولا مؤونة، ليس هذا فحسبُ، بل يشتمل أيضًا على جميع أصناف الثِّمار الشهيَّة؛ فهو بُستانٌ ذو مشهدٍ عجيب، متكاملٌ من جميع نواحيه، ممَّا يُوجِب لصاحبه الفرح العظيم، والابتهاج الشديد به [2655] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (4/679-680)، ((طريق الهجرتين)) لابن القيِّم (ص: 370-371)، ((تفسير ابن كثير)) (1/695- 696)، ((تفسير السعدي)) (ص: 114)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/330-331). .
وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ.
أي: كبِرتْ سنُّ صاحبِ الجنةِ، فغدا شديدَ التشبُّث بها؛ إذ لم يعُدْ قادرًا بعدُ على مباشرةِ التكسُّب، ومعاناة التجارةِ؛ للحصولِ على قُوته بنفسِه، وقد اشتدَّ حرصُه مع تقدُّمِه في العمرِ، وله عيالٌ يقومُ بحاجاتهم، لا سيَّما وأنهم عاجزون عن القيامِ بذلك بأنفسِهم؛ إمَّا لصغرهم، أو لغير ذلك من أسبابِ العجزِ، فهم كَلٌّ عليه، فكُلُّ هاتيك الشدائدِ مجتمعةً تدفعه نحوَ شدَّةِ التعلُّق بجنَّتِه، فهو أحوجُ ما يكونُ إليها في مِثل هذه الأحوالِ العصيبة، فبينما هو على ذلك إذ حلَّت الكارثةُ بها، حين اجتاحتها ريحٌ عاصفٌ تستديرُ في الأرضِ، ثم ترتفعُ في طبقاتِ الجوِّ كالعمود، وقد احتوت على نارٍ أحرقتْ تلك الجنةَ، فتلفتْ دفعةً واحدةً، فلا تسألْ بعدَها عن فظاعةِ حالِه وسوءِ ما حلَّ به مِن الهمومِ والغمومِ والأحزانِ، وقد أصبح صِفرَ اليدين بلا شيء يملكُه.
فكذلك مَن أنفق لوجهِ الله تعالى بادئَ الأمرِ، فنفقتُه بمنزلةِ البذرِ للزُّروعِ والثِّمارِ، ولا يزال ُكذلك حتى يحقِّقَ مِن عملِه هذا حسناتٍ عظيمةً، بمثابة جنةٍ غنَّاء، في غايةِ الحسنِ والبهاءِ، لكنه أفسدَ نفقاتِه بما يُبطلُ الأجرَ، كالمنِّ والأذَى، وذلك بمنزلةِ الإعصارِ الذي فيه نارٌ، فأحرق جنتَه، وهو أحوجُ ما يكون إليها، فكذلك إذا مات أصبح في حالٍ لا يقدرُ معها على العملِ الصالحِ، ولا له نصيرٌ أو شفيعٌ، فيجدُ أنَّ نفقاتِه التي يرجو نفعَها قد صارت هباءً منثورًا [2656] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (4/680-681، 689-693)، ((طريق الهجرتين)) لابن القيم (ص: 372-373)، ((تفسير ابن كثير)) (1/696)، ((تفسير السعدي)) (ص: 114، 956، 957)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/331-332). .
عن عُبَيد بن عُمَير قال: قال عمرُ رضي الله عنه يومًا لأصحاب النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ: (فيمَ تَرون هذه الآية نزلتْ: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ؟ قالوا: الله أعلم، فغضِب عمرُ، فقال: قولوا: نعلم أو لا نعلم، فقال ابن عبَّاس: في نفْسي منها شيء يا أمير المؤمنين، قال عمر: يا أخي، قُلْ ولا تَحقِر نَفْسك، قال ابن عبَّاس: ضُربت مَثَلًا لعمل، قال عمر: أي عمل؟ قال ابن عبَّاس: لعملٍ. قال عمر: لرجل غني يَعمل بطاعة الله عزَّ وجلَّ، ثم بعث الله له الشيطان، فعمِل بالمعاصي حتى أغرق أعمالَه) [2657] رواه البخاري (4538). .
كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ.
أي: كما بيَّن لكم ربُّكم جلَّ وعلا أمرَ النَّفقة في سبيله،  كذلك يُبيِّن لكم الآياتِ التنزيليَّة والكونيَّة، فيعرِّفكم أحكامَها وحلالَها وحرامها، ويُوضِّح لكم حُججَها؛ لتتفكَّروا بعقولكم فتتدبَّروا وتعتبِروا وتَفهَموا الأمثالَ والمعاني، وتُنزِلوها على المراد منها؛ لتُطيعوا الله جلَّ وعلا، فلو تَصوَّر مَن له أدنى مُسْكة من عقل هذا المَثَل حقَّ تَصوُّره، وتأمَّلَه كما ينبغي، لم يُقدِم على ما فيه مضرَّته وندامته، ولَمَا سوَّلت له نفْسه إحراقَ أعماله الصالحة، وإضاعة أجورها [2658] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (4/693)، ((طريق الهجرتين)) لابن القيِّم (ص: 372)، ((تفسير ابن كثير)) (1/696)، ((تفسير السعدي)) (ص: 114-115)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/332). .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
بعد أنْ ذكَر الله عزَّ وجلَّ فضيلةَ الإنفاق في سبيله ابتغاءَ وَجْهه، وسوء العاقبة لمن منَّ بصَدقته، أو أنفق رياءً، حثَّ على الإنفاق؛ مُبيِّنًا ما يُنفَق منه [2659] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/338). .
سبب النُّزول:
عن البَراء رضي الله عنه، أنَّه قال في قوله تعالى: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ: (نزلت فينا -معشر الأنصار- كنَّا أصحابَ نَخْل، فكان الرجلُ يأتي من نخله على قَدْر كَثْرته وقلَّته، وكان الرجلُ يأتي بالقِنْو [2660] القِنْو: العِذْق (السُّباطة) بِما فيه منَ الرُّطَب. وهو من النَّخل كالعُنقود من العنب. ((النهاية)) لابن الأثير (4/116)، ((معجم اللغة العربية المعاصرة)) (3/1866). والقِنْوين فيُعلِّقه في المسجد، وكان أهل الصُّفَّة ليس لهم طعامٌ، فكان أحدهم إذا جاء أتى القِنْو فضربه بعصاه، فيَسقُط البُسْر والتَّمر فيأكل، وكان ناسٌ ممَّن لا يَرغَب في الخير يأتي الرجل بالقِنْو فيه الشِّيص [2661] الشِّيصُ: التَّمر الذي لا يَشتدُّ نَواه ويَقوَى، وقد لا يكونُ له نوَى أصلًا؛ وإنَّما يَتَشَيَّصُ إذَا لم تُلقح النَّخل. ((الصحاح)) للجوهري (3/1044)، ((النهاية)) لابن الأثير (2/518). والحَشَف [2662] الحَشَف: أَردأُ التَّمر، واليَابِس الفاسِد مِنه. وقيلَ: الضَّعِيفُ الَّذي لا نَوَى له كالشِّيص. ((الصحاح)) للجوهري (4/1344)، ((النهاية)) لابن الأثير (1/391). والقِنْو قد انكسر، فيُعلِّقه فأنزل الله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ، قال: لو أنَّ أحدكم أُهْدِي إليه مِثْل ما أَعْطى، لم يأخذْه إلَّا على إغماضٍ أو حياءٍ)، قال: فكنَّا بعد ذلك يأتي الرَّجل بصالح ما عنده )) [2663] أخرجه الترمذي (2987). قال الترمذيُّ: حسنٌ غريبٌ صحيح. وصحَّحه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2987)، وقال الوادعيُّ في ((الصحيح المسند)) (146): حسنٌ غريب. .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ.
أي: يَحُثُّ الله تعالى عبادَه المؤمنين على أن يُزكُّوا ويتصدَّقوا من أجود أموالهم التي اكتسبوها حلالًا بالتِّجارة، وأمرهم أن يُنفِقوا من الثِّمار والزروع والرِّكاز والمعادن التي أخرجها لهم سبحانه من الأرض، فكما منَّ عليهم بتيسير الحصول على ذلك، فلْيُنفِقوا منه شكرًا له عزَّ وجلَّ [2664] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (4/694-696)، ((طريق الهجرتين)) لابن القيِّم (ص: 373)، ((تفسير ابن كثير)) (1/697)، ((تفسير السعدي)) (ص: 115-957)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/338-339). .
وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ.
أي: لا تَقصِدوا الرَّديء من أموالكم فتتصدَّقوا منه، وتُمسِكوا الجيِّد لأنفسكم؛ فإنَّ هذا ليس من العدل في شيء، ولكن تصدَّقوا من الطيِّب الجيِّد، فإنَّكم لو كنتم مكانَ آخذ الصَّدقة والحالة هذه، فلستم بآخذيها إلَّا على وَجْه التَّسامح والتغاضي عن ذلك، فإنَّكم لكَراهتِكم إيَّاه تُغمِضون بَعضَ بَصَركم عنه؛ إذ لا يملأ أعينَكم لرداءته، فالله عزَّ وجلَّ أحقُّ أن يُبذَل لأجلِه أطايبُ المال؛ فإنَّه سبحانه طيِّبٌ لا يَقْبل إلا طيِّبًا [2665] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (4/698-699، 703-709)، ((طريق الهجرتين)) لابن القيِّم (ص: 374)، ((تفسير ابن كثير)) (1/697)، ((تفسير السعدي)) (ص: 115، 957)، ((تفسير ابن عثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/339-340). وممَّن قال مِن السَّلف في معنى: الخبيث بنحوٍ ممَّا ذُكر: قتادة، والحسن. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (4/701). .
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ.
أي: اعلموا أيُّها النَّاس، أنَّ الله عزَّ وجلَّ غنيٌّ عنكم وعن أعمالكم، ومنها صدقاتكم، فلا حاجةَ له بها، وإنَّما أمركم بها؛ رحمةً منه لكم، فنفْعها عائدٌ إليكم؛ إذ يُغْني بها فقيرَكم، ويُقوِّي بها ضعيفَكم، ويُثيبكم عليها.
واعلموا أيضًا أنَّه سبحانه المحمودُ على جميع صِفاته وأفعاله وأقواله وشَرْعه وقَدَره، ومن ذلك غناه، فإنَّه يُحمَد عليه سبحانه، ومن ذلك أيضًا ما يأمركم به من الأوامر الحميدة، والأخلاق الجميلة، وهو عزَّ وجلَّ يَحمَد مَن يَستحِقُّ الحمد؛ فأثنى على أنبيائه، ورسله، والصالحين من عباده [2666] ينظر: ((طريق الهجرتين)) لابن القيم (ص: 374). .
كما أنَّ غناه وحمْده يَأبيَان قَبُول الرَّديء، فإنَّ مَن يأخذه؛ إمَّا أنْ يَقْبله لحاجته إليه، وإمَّا أنَّ نفسه لا تأباه؛ لعدم كمالها وشرفها، وأمَّا الغنيُّ عنه الكامل الأوصاف سبحانه، فإنَّه لا يَقْبله [2667] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (4/711)، ((تفسير ابن كثير)) (1/699)، ((تفسير السعدي)) (ص: 115-957)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/340-341). .
الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا رغَّب اللهُ في إنفاق أجودِ ما يَملِكه الإنسان، حذَّر بعد ذلك من وسوسة الشَّيطان [2668] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (7/55). فقال:
الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ.
أي: إنَّ الشيطان يخوِّفكم- أيُّها المؤمنون- بالافتقار إن تصدَّقتم، فإذا صوَّر لكم هذه الصورة أَمَركم بالبُخل الذي هو من أقبح الفواحش؛ لتُمسِكوا ما بأيديكم فلا تُنفِقوه في مرضاة الله تعالى، وتشمل الفحشاء أيضًا ما سوى البُخل، من قبائح المعاصي والمنكرات [2669] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/5)، ((طريق الهجرتين)) لابن القيِّم (ص: 374-375)، ((تفسير ابن كثير)) (1/700)، ((تفسير السعدي)) (ص: 115، 957)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/346-347). قال ابن القيِّم: (هذا إجماع من المفسِّرين أنَّ الفحشاء هنا البخل) ((طريق الهجرتين)) (ص: 375). ممَّن قال من السَّلف: إنَّ (الفحشاء) المقصود بها البُخل: ابن عبَّاس في رواية عنه. ((تفسير ابن أبي حاتم)) (2/530). وممَّن قال: إنَّ (الفحشاء) المقصود بها المعاصي: سعيد بن جُبَير، ومقاتل بن حيَّان، وابن المبارك. يُنظر: ((تفسير ابن أبي حاتم)) (2/350). .
وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا.
أي: إنَّ الله عزَّ وجلَّ يَعِدُكم- أيُّها المؤمنون- بأنْ يَسترَ عليكم ما ارتكبْتُموه مِن فحشاء، ويتجاوزَ عن مؤاخذتِكم بها؛ لما تقدِّمونه مِن صدقاتٍ وغيرِها، وهذا في مقابلةِ أمرِ الشيطانِ لكم بالفحشاءِ،كما يعدُكم اللهُ تعالى بأن يعوِّضَكم عمَّا تصدقتم به، بمنحِكم المزيدَ مِن الأجورِ والأرزاقِ في الدنيا والآخرة، وذلك في مقابلةِ تخويفِ الشَّيطانِ لكم بالفقرِ [2670] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/5)، ((طريق الهجرتين)) لابن القيم (ص: 375)، ((تفسير ابن كثير)) (1/700)، ((تفسير السعدي)) (ص: 115)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/346- 347). .
وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ.
أي: إنَّ الله تعالى واسع الفضل، واسع الصِّفات، ومن ذلك سَعَةُ عِلْمه؛ فهو عليمٌ بمن يَستحِقُّ فضْله منكم، وعليم بنفقاتكم التي تُنفِقون، فيُحصيها لكم ويُجازيكم بها من سَعَة فضله [2671] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/8)، ((طريق الهجرتين)) لابن القيِّم (ص: 375)، ((تفسير السعدي)) (ص: 115، 957)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/350). .
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا أمَر تعالى بهذه الأوامر العظيمة المُشتمِلة على الأسرار والحِكَم، وكانت معرفة ذلك لا تَحصُل لكلِّ أحد، بل لمن منَّ عليه فآتاه الحكمة، ولَمَّا ذَكَر أحوال المنفقين للأموال، وأنَّ الله أعطاهم، ومنَّ عليهم بالأموال التي يُدرِكون بها النَّفقات في مسالك الخيرات، وينالون بها سَنِيَّ المقامات، ذكَر ما هو أفضلُ من ذلك، ولَمَّا كان بذْل النَّفقات المالية التي سبق ذِكْرها، وبذْل الحِكمة العلميَّة، من أفضل ما يتقرَّب به المتقرِّبون إلى الله تعالى، كما جاء عن عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: ((لا حسدَ إلَّا في اثنتين: رجلٌ آتاه اللهُ مالًا؛ فسلَّطَه على هَلَكَتِه في الحقِّ، ورجلٌ آتاه اللهُ الحِكمةَ؛ فهو يَقضي بها ويُعلِّمُها )) [2672] رواه البخاري (73) واللفظ له، ومسلم (816). - قال تعالى [2673] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 115، 957). :
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ.
أي: يُعطي الوهَّابُ عزَّ وجلَّ مَن يشاء من عباده معرفةَ الحقِّ، ومعرفة المقصود منه، والعمل به، وبذلك يتمكَّن من الإصابة في القول والعمل، وتنزيل الأمور منازِلَها في نفْسه وفي غيره، ووضْعها في مواضِعها اللائقة بها؛ فإنَّ الإصابةَ في الأمور إنَّما تكون بفَهْم القرآن والفقه في حقائق الإيمان وشرائع الإسلام، مع الخشية لله تعالى، والنُّبوة من الحكمة؛ لأنَّ الأنبياء مُسدَّدون، مُفهَّمون، ومُوفَّقون لإصابة الصَّواب [2674] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/8، 12)، ((مدارج السالكين)) لابن القيِّم (1 /231)، ((تفسير ابن كثير)) (1/701)، ((تفسير السعدي)) (ص: 115، 957)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/351). .
وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا.
أي: إنَّ من يُعطَى تلك الحِكمة من العباد، فيخرج من ظُلْمة الجهل إلى نورِ الهُدى، ومن حُمْق السَّفه والانحراف في الأقوال والأفعال، إلى إصابة الصَّواب فيهما، وحصول التَّوفيق والسَّداد، فقد مُنح خيرًا عظيمًا لا يُقدَّر؛ فإنَّ الحكمة أفضلُ الأُعطيات، وهي أجلُّ المنح والهِبات [2675] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/8، 12)، ((تفسير السعدي)) (ص: 115، 957)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/351). .
وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ.
أي: لا يتَّعظ بما وعظ به الله تعالى في آياتِه المُنفِقين أموالَهم وغيرَهم، فيَذكُر وعدَه ووعيدَه، فيَنزجِر عمَّا زجره عنه ربُّه، ويُطيعه فيما أمره به سبحانه، إلَّا أصحابُ العقول الكاملة، الذين يَعقِلون بها عن الله عزَّ وجلَّ أمرَه ونهيه [2676] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/12-13)، ((تفسير ابن كثير)) (1/701)، ((تفسير السعدي)) (ص: 115، 957)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/351). .
وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ الله يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا بيَّن الله تعالى أنَّ الإنفاق يجب أن يكون من أجود المال، ثمَّ حثَّ أولًا: بقوله وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ، وثانيًا: بقوله: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ، حثَّ عليه ثالثًا [2677] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (7/59). فقال:
وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ.
أيْ: أَيَّ صدقة بذلتموها، أو أيَّ نَذْر نَذرتموه ممَّا أَلزَم المرءُ به نفسَه، فإنَّ الله تعالى لا يَخْفى عليه من ذلك شيء، فيعلم نيَّتَكم بها، ويعلم ما قدَّمتم منها، فيُحصيه عليكم ويُجازيكم به، إنْ خيرًا فخير، وإنْ شرًّا فشر [2678] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/13، 14)، ((تفسير ابن كثير)) (1/701)، ((تفسير السعدي)) (ص: 115، 957، 958)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/354، 355). .
وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ.
أي: ليس لِمَن لم يُنفِق ما وجب عليه من النَّفقات ولم يوفِّ ما أَوجَبه على نفسه من المنذورات، أو كانت نفقتُه أو نَذْره في غير طاعة الله عزَّ وجلَّ، ما له أحد يَنْصُره من الله يوم القيامة؛ لأنَّه ظالم بوضْعه إنفاقَ ماله أو نَذْرَه في غير موضِعه الصَّحيح، وعلى غير الصِّفة المأمور بها شرعًا [2679] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/13، 14)، ((تفسير ابن كثير)) (1/701)، ((تفسير السعدي)) (ص: 115، 116، 958)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/354، 355). .
إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا بيَّن الله تعالى أولًا أنَّ الإنفاق منه ما يَتْبَعه المنُّ والأذى، ومنه ما لا يكون كذلك، وذكر حُكْمَ كلِّ واحد من القِسْمين، ثم ذكر أنَّ الإنفاق قد يكون من جيِّدٍ، أو من رَديء، وذكَر حُكْمَ كلِّ واحد من القسمين- ذكر في هذه الآية أنَّ الإنفاق قد يكون ظاهرًا، وقد يكون خفيًّا [2680] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (7/61). فقال:
إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ.
أي: إنْ تُظهِروا الصَّدقاتِ فتُعطوها علانيةً، فنِعْم الشيءُ هي؛ لحصول المقصود بها، ما دام أنَّها لأجْل الله تعالى [2681] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/14)، ((طريق الهجرتين)) لابن القيِّم (ص: 376)، ((تفسير ابن كثير)) (1/701)، ((تفسير السعدي)) (ص: 116). .
وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ.
أي: إنْ تَستروا صدقتَكم غيرَ المفروضة عليكم، فتُعْطوها الفقراءَ في السرِّ، فإخفاؤكم إيَّاها أفضلُ لكم من إظهارها وإعلانها، ففي إخفائها: السَّترُ على الفقير، وحِفْظ ماء وجهه بعدم تَخجيله وفضيحته بين الناس، وهذا قدْرٌ زائدٌ عن الإحسان إليه بمجرَّد الصَّدقة، مع كونه أَدْعى إلى إخلاص صاحبها، وأَبْعدَ له عن الرِّياء.
وقيَّد تعالى الإخفاءَ بإيتاء الفقراء خاصَّة؛ لأنَّ من الصَّدقة ما لا يُمكِن إخفاؤه كتجهيز الجيش، أو يتَرتَّب على الإظهار مصلحةٌ راجحةٌ، كإظهار شعائر الدِّين، وحصول اقتداء النَّاس به [2682] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/14-17)، ((طريق الهجرتين)) لابن القيِّم (ص: 376)، ((تفسير ابن كثير)) (1/701-702)، ((تفسير السعدي)) (ص: 116، 958). قال ابنُ جرير: (الواجب من الفرائض قد أجمَع الجميع على أنَّ الفضل في إعلانه وإظهاره سِوى الزكاة، التي ذكرنا اختلافَ المختلفين فيها، مع إجماع جميعهم على أنَّها واجبة، فحُكمُها-في أنَّ الفضلَ في أدائها علانيةً-حُكمُ سائر الفرائض غيرها) ((تفسير ابن جرير)) (5/17). وقال الواحديُّ: (جمهور المفسِّرين على أنَّ المراد بالصدقات في هذه الآية: التطوُّع، لا الفرض؛ لأنَّ الفرض إظهاره أفضلُ من كتمانه، والتطوُّع كتمانه أفضل) ((التفسير الوسيط)) (1/385). وقال ابن عطيَّة: (ذهب جمهور المفسِّرين إلى أنَّ هذه الآية هي في صدقة التطوع) ((تفسير ابن عطية)) (1/365). وقال ابن العربي: (أمَّا صدقة الفرض، فلا خلافَ أنَّ إظهارها أفضل، كصلاة الفرض وسائر فرائض الشريعة؛ لأنَّ المرء يُحرِز بها إسلامَه، ويعصم مالَه، وليس في تفضيل صدقة العلانية على السرِّ، ولا في تفضيل صدقة السرِّ على العلانية حديثٌ صحيح يُعوَّل عليه، ولكنَّه الإجماع الثابت. فأمَّا صدقة النفل فالقرآن صرَّح بأنها في السرِّ أفضلُ منها في الجهر؛ بَيدَ أنَّ علماءنا قالوا: إنَّ هذا على الغالب مخرجه، والتحقيق فيه: أنَّ الحال في الصَّدقة تختلف بحال المعطي لها، والمُعطَى إيَّاها، والناسِ الشاهدين لها) ((تفسير القرطبي)) (1/315). .
عن أبي هُرَيرَة رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: ((سبعةٌ يُظِلُّهُم اللهُ تعالى في ظِلِّه يومَ لا ظِلَّ إلا ظِلُّه: إمامٌ عَدْلٌ، وشابٌّ نشأَ في عبادةِ اللهِ، ورجلٌ قلبُه مُعَلَّقٌ في المساجدِ، ورجلانِ تَحابَّا في اللهِ؛ اجتَمَعا عليه، وتفرَّقا عليه، ورجلٌ دعَتْهُ امرأةٌ ذاتُ منصبٍ وجمالٍ، فقال: إنِّي أخافُ اللهَ، ورجلٌ تصدَّقَ بصدقة، فأخفاها حتى لا تعلمَ شمالُه ما تُنْفِقْ يمينُه، ورجلٌ ذَكَرَ اللهَ خاليًا ففاضتْ عَيناه )) [2683] رواه البخاري (1423) واللفظ له، ومسلم (1031). .
عن أنسٍ رضي الله عنه، قال: ((لَمَّا نزلت هذه الآية لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران: 92] أو الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا، قال أبو طلحة- وكان له حائط- فقال: يا رسول الله، حائطي لله، ولو استطعتُ أنْ أُسِرَّه لم أُعْلِنه، فقال: اجعلْه في قرابتك أو أقربيك )) [2684] أخرجه الترمذي (2997)، وأحمد (13793). قال الترمذي: حسن صحيح. وقال ابن القطان في ((الوهم والإيهام)) (5/620): صحيح أو حسن. وصحَّحه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2997). .
وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ.
القراءات ذات الأثر في التفسير:
في قوله تعالى: ويكفِّر قراءات:
1- قراءة (وَنُكَفِّرُ)، على معنى الإخبارِ مِن الله عزَّ وجلَّ عن نفسِه، على وجهِ التفخيمِ والتعظيمِ [2685] قرأ بها ابن كثير، وأبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم، ويعقوب. ينظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/236). ويُنظر لمعنى هذه القِراءة: ((معاني القراءات)) للأزهري (1/230)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 147)، ((الكشف)) لمكي (1/317)، ((تفسير أبي حيان)) (2/692)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (2/613). .
2- قراءة (وَيُكَفِّرُ) بإضمارِ ضميرٍ يعودُ على اللهِ تعالى في الفعلِ؛ لأنَّه هو المكفِّرُ حقيقةً. وهو الراجح بحمله على قراءة (وَنُكَفِّرُ)، وقيل: إنَّه يعودُ على صرفِ الصَّدقاتِ، أي: ويكفرُ صرفُ الصدقاتِ. وقيل: إنَّه يعودُ على الإخفاءِ المفهومِ من قوله: (وإن تخفوها)، ويجوزُ أن ينسب التَّكفيرِ للصرفِ والإخفاءِ؛ لأنَّهما سببٌ للتكفيرِ، وكما يجوزُ إسنادِ الفعلِ إلى فاعلِه، يجوزُ إسنادُه إلى سببِه [2686] قرأ بها ابن عامر، وحفص عن عاصم. ينظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/236). ويُنظر لمعنى هذه القِراءة: ((معاني القراءات)) للأزهري (1/230)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 147)، ((الكشف)) لمكي (1/317)، ((تفسير أبي حيان)) (2/692)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (2/613). .
3- قراءة (وَنُكَفِّرْ) معطوفًا على جوابِ الشرطِ الثاني في قوله تعالى: (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ)، إيذانًا بدخولِ التكفيرِ للسيئاتِ في الجزاءِ، إنْ أُخفِيت الصدقةُ [2687] قرأ بها نافع، وحمزة، والكسائي. ينظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/236). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((معاني القراءات)) للأزهري (1/230)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 147)، ((الكشف)) لمكي (1/317)، ((تفسير أبي حيان)) (2/692)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (2/613). .
وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ.
أي: إنَّه لَمَّا امتدَح اللهُ تعالى الصدقةَ عَلَنًا كانت أو سرًّا، لا سيَّما إن كانت سرًّا؛ لأنَّها أفضل للمُتصدِّق، وتضمَّن ذلك حصولُ الثَّواب، بيَّن أنَّه يَسْتُر بها السيِّئاتِ جميعَها، أو بعضَها؛ دفعًا للعقاب [2688] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (1/703)، ((تفسير السعدي)) (ص: 958)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/357). ذهب الواحديُّ إلى أنَّ مِنْ في قوله تعالى: ويُكفِّر عَنكُم من سيِّئاتِكم صلة للكلام، أي: جميع سيئاتكم. يُنظر: ((التفسير الوسيط)) (1/385). وذهب ابن عطيَّة إلى أنها للتبعيض. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (1/367). .
وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ.
أي: إنَّ الله عزَّ وجلَّ مُطَّلِعٌ على ما تعملون في صدقاتِكم، من إعلانٍ بها وإسرار، وعلى غير ذلك من أعمالكم، فيُحصيها لكم ويُجازي كلًّا بعمله، فهو سبحانه ذو علمٍ ببواطن الأمور وظواهِرها، لا يَخْفى عليه شيءٌ من أعمالكم ونيَّاتِكم [2689] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/18، 19)، ((طريق الهجرتين)) لابن القيِّم (ص: 376)، ((تفسير ابن كثير)) (1/703)، ((تفسير السعدي)) (ص: 116، 958)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/358). .
لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272).
سبب النُّزول:
عن سعيد بن جُبير عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما، قال: ((كانوا يَكْرَهون أن يَرضَخوا [2690] يَرضَخوا: أي: يعطوهم عطاءً غير كثير، والرَّضْخ. العطية القليلة. ومنه الرَضخ من الغنائم؛ لأنه عطيةٌ دون السهم. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (2/228)، ((تاج العروس)) للزبيدي (7/258). لأنسابهم من المشركين، فسألوا فرُخِّص لهم، فنزلت هذه الآية لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ إلى قوله: وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُون)) [2691] أخرجه البزار (5042)، والطبراني (12/54) (12453)، والحاكم (2/313). صحَّح إسناده أحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/327)، وصحَّحه الوادعي في ((الصحيح المسند)) (630). .
وعن ابن عبَّاس رضي الله عنهما، قال: ((كان يأمرنا ألَّا نَتصدَّق إلَّا على أهلِ الإسلام، حتى نزلت هذه الآية، فأمَرَنا بالصَّدقة بعدها على كلِّ مَن سألك من كل دِين)) [2692] أخرجه ابن أبي حاتم في ((تفسيره)) (2/537). قال ابن كثير في ((تفسير القرآن)) (4/27): غريب. وصحَّح إسناده أحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/327)، وحسَّن إسنادَه الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (6/629). .
لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ.
أي: ليس عليك- يا محمَّد- هداية الخَلْق إلى الإسلام هدايةَ توفيقٍ، وإنَّما عليك البلاغ وهو هداية الإرشاد، فلا تَمتنِعْ من بذْل الصَّدقة للكفَّار والمشركين؛ كي يَدخلوا في الإسلام حاجةً منهم إليها، ولكنَّ الله تعالى هو الَّذي يَهدي وحده مَن يشاء من خلْقه إلى الإسلام فيُوفِّقهم له، فلا تمنعهم الصَّدقة ولو لم يهتدوا [2693] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/19)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/387)، ((تفسير السعدي)) (ص: 116، 958)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/361-362). .
عن أسماءَ بنت أبي بكرٍ رضي الله عنهما، قالت: (قَدِمتْ أُمِّي وهي مُشرِكَةٌ، في عهدِ قُريشٍ ومُدَّتِهِم إذ عاهَدوا النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، مع أبيها، فاستَفتَيتُ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ فقُلْتُ: إنَّ أُمِّي قَدِمَت وهي راغِبَةٌ؟ قال: نعم، صِلِي أُمَّكِ ) [2694] رواه البخاري (5979) واللفظ له، ومسلم (1003). .
وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ.
أي: إنَّ كلَّ ما تَبذُلونه صدقةً من الأموال- قليلةً أو كثيرةً- على أيِّ شخص- مسلمًا كان أو كافرًا- فنفْعُه في الحقيقة عائدٌ إليكم، وليس لله تعالى حاجةٌ به، والنفقة النافعة لصاحبها والمعتدُّ بها، هي ما كانت خالصةً لله تعالى، وطلَب بها صاحبُها الفوزَ في الآخرة بالنظر إلى وجهه الكريم سبحانه، وتلك هي صدقات المؤمن؛ فإنَّ إيمانهم يُحتِّم عليهم الإخلاصَ لله عزَّ وجلَّ، وإذا تَصدَّق بهذه النيَّة فقد وقع أجرُه على الله تعالى، ولا عليه في نَفْس الأمْر لمن أصاب: ألِبَرٍّ أو فاجرٍ، فهو مُثابٌ في جميع الأحوال على قصْده [2695] يُنظر: ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/387-388)، ((تفسير ابن عطية)) (1/367-368)، ((طريق الهجرتين)) لابن القيِّم (ص: 377)، ((تفسير ابن كثير)) (1/704)، ((تفسير السعدي)) (ص: 116، 958)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/362). .
عن أبي هُرَيرَة رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: ((قال رجلٌ: لأتصدَّقنَّ الليلةَ بصدقةٍ، فخرج بصدقتِه فوضعها في يدِ زانيةٍ، فأصبحوا يتحدَّثون: تُصُدِّق الليلةَ على زانيةٍ، قال: اللهمَّ لك الحمد على زانيةٍ، لأَتصدَّقنَّ بصدقةٍ. فخرج بصدقتِه فوضعها في يدِ غَنيٍّ، فأصبحوا يتحدَّثون: تُصُدِّق على غنيٍّ، قال: اللهمَّ لك الحمدُ على غنيٍّ، لأَتصدقنَّ بصدقةٍ. فخرج بصدقتِه فوضعها في يد سارقٍ، فأصبحوا يتحدَّثون: تُصُدِّقَ على سارقٍ، فقال: اللهمَّ لك الحمد على زانيةٍ، وعلى غنيٍّ وعلى سارقٍ، فأُتِيَ فقيل له: أمَّا صدقتُك فقد قُبِلَتْ، أما الزَّانيةُ فلعلَّها تستَعِفُّ بها عن زِناها، ولعلَّ الغنيَّ يَعتَبِر فيُنفِق ممَّا أعطاه اللهُ، ولعلَّ السارقَ يَستعِفُّ بها عن سرقتِه )) [2696] رواه مسلم (1022). .
وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ.
أي: إنَّ أيَّ مالٍ تَتصدَّقون به، قليلًا كان أو كثيرًا؛ فإنَّ أجره يُؤدَّى إليكم في الآخرة كاملًا من غير نَقْص؛ فلا يَضيع عنده سبحانه مثقالُ ذرَّةٍ من ذلك [2697] يُنظر: ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/388)، ((تفسير ابن عطية)) (1/368)، ((طريق الهجرتين)) لابن القيِّم (ص: 377)، ((تفسير السعدي)) (ص: 116)، ((تفسير ابن عثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/363). .
لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (273).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا بيَّنَ الله تعالى في الآيةِ الأولى أنَّه يجوز صَرْفُ الصَّدقة إلى أيِّ فقير كان، بيَّن في هذه الآية مَن هو أشدُّ النَّاسِ استحقاقًا بصرف الصَّدقة إليه [2698] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (7/67) ويُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (4/104).. ، فقال:
لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ.
أي: اجعلوا صدقاتِكم للمُعْدَمين، الخاليةِ أيديهم من أيِّ شيء يقوم بمعيشتهم، لمَن حبَسوا أنفسَهم على الجهادِ في سبيل الله تعالى، فحبَسهم ذلك بدوره- مع خوفهم مِن تَربُّص أعدائهم بهم- عن التَّصرُّف في أشغال الدنيا، فلا يستطيعون تقلُّبًا في الأرض، وسفرًا في البلاد؛ ابتغاءَ المعاش وطلب الرزق [2699] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/22-25)، ((طريق الهجرتين)) لابن القيِّم (ص: 377)، ((تفسير السعدي)) (ص: 116). .
يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا.
أي: يَحسَبهم الجاهلُ بأمرهم وحالهم ممَّن لا فِطْنة لديه، أغنياء من شدَّة تَرْكهم التَّعرض لما في أيدي الناس، وكِتمانهم حاجتهم صبرًا منهم على البأساء والضَّراء، لكن بإمكان ذوي الألباب تمييزُهم بالتَّوسُّم والتَّفرُّس فيهم، وعلى رأسهم محمد صلَّى الله عليه وسلَّمَ، فيعلمون حقيقةَ حالهم من خلال علاماتهم، وآثار الحاجة البادية عليهم، من ملامِح وجوههم، أو نظراتهم، أو بعض عباراتهم، أو غير ذلك.
ونفَى اللهُ تعالى عنهم بالكلِّيَّة طلبَ حاجةٍ من الناس، وخاصَّةً الطلب المُصاحِب للشَّرَهِ والضَّراعة التي تكون في المُلحِّين، فهم بعيدون عن ذلك تمامًا؛ لأنهم يَستَمِدُّون العَونَ من الله تعالى وحده.
فهذا الصِّنف من الفقراء هو أَوْلى المستحِقِّين للصَّدقة؛ لدَفْع حاجتهم، وإعانتهم على مَقصِدهم، وشكرًا لهم على ما اتَّصفوا به من جميل الأخلاق،  وقصْر أنظارِهم على الخلَّاق [2700] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/26-30)، ((طريق الهجرتين)) لابن القيِّم (ص: 377-378)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/367-369). .
عن أبي هُرَيرَة رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: ((ليس المِسكينُ الذي تَرُدُّه التمرةُ والتَّمرتان، ولا اللُّقمةُ ولا اللُّقمتان، إنَّما المِسكينُ الذي يَتَعَفَّفُ، واقرَؤوا إن شِئتُم- يعني قولَه: لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا)) [2701] رواه البخاري (4539) واللفظ له، ومسلم (1039). .
وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ.
أي: إنَّ كلَّ ما تُنفِقونه من أيِّ خيرٍ كان قليلًا أو كثيرًا، فإنَّ الله تعالى يعلمه، ويُحصيه لكم، وسيَجزيكم عليه أتمَّ الجزاء [2702] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (1/707)، ((تفسير السعدي)) (ص: 116)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/369). .
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
قيل لَمَّا حضَّ سبحانه وتعالى على النَّفقة، وبيَّن أنَّ أكمل من تُصرَف إليه النفقة من هو، بيَّن في هذه الآية أنَّ أكمل وجوه الإنفاق كيف هو [2703] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (7/71). ، فقال:
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274).
أي: إنَّ الإنفاق في أيِّ وقتٍ كان ليلًا أو نهارًا، وعلى أيِّ حالٍ وُجِد سرًّا أو علانيةً، فإنَّه سبب الجزاء على كلِّ حال؛ فليبادرْ إليه العبد- ولا يؤخِّره- في جميع الأوقات والأحوال، فإنَّ مَن يقوم بذلك، له يوم القيامة أجرٌ عظيمٌ، ولا يُصيبه خوفٌ على ما يُستقبَل، ولا يَعْتريه حزنٌ على ما مضَى، فيفوز بحصول المرغوب، والنَّجاة من المرهوب [2704] يُنظر: ((طريق الهجرتين)) لابن القيِّم (ص: 366)، ((تفسير ابن كثير)) (1/707-708)، ((تفسير السعدي)) (ص: 116-958)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/372). .

الفوائِد التربويَّة:

1- الحثُّ على التفكُّر فيما يُمكِن الوصول إليه بالتَّفكُّر فيه، كما في قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ [2705] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/336). .
2- أنَّ مِن مُقتضى الإيمان امتثالَ أمر الله، واجتنِابَ نهيه؛ ووجْهه أنَّ الله تعالى قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا؛ فلولا أنَّ للإيمان تأثيرًا، لكان تصدير الأمر بهذا الوصف لغوًا لا فائدة منه [2706] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/341). .
3- فضيلةُ العقل؛ لقوله تعالى: وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ؛ لأنَّ التَّذكُّر- بلا شكٍّ- يُحمَد عليه الإنسان؛ فإذا كان لا يقع إلَّا مِن صاحب العقل دلَّ ذلك على فضيلة العقل [2707] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/353). .
4- أنَّه لا يتَّعِظ بالمواعظ الكونيَّة أو الشَّرعيَّة إلَّا أصحابُ العقول، الذين يتدبَّرون ما حصل من الآيات سابقًا ولاحقًا فيَعتبِرون بها، وأمَّا الغافل فلا تَنفْعه؛ قال تعالى: وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ [2708] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/353). .
5- أنَّه ينبغي للإنسان إذا أَنفَق نفقةً أن يَحتسِب الأجرَ على الله؛ لقوله تعالى: فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ؛ لأنَّ مَن أنفَق وهو يَشْعُر أنَّ الله يعلم هذا الإنفاقَ، فسوف يَحتسِب الأجرَ على الله [2709] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/355). .
6- أنَّ إخفاءَ الصَّدقة أفضلُ من إبدائها؛ لأنَّه أقربُ إلى الإخلاص، وأَسْتر ُللمُتصدِّق عليه؛ لكن إذا كان في إبدائها مصلحةٌ تَرجُح على إخفائِها- مِثْل أن يكون إبداؤها سببًا لاقتِداء النَّاس بعضهم ببعض، أو يكون في إبدائها دَفْع ملامة عن المُتصدِّق، أو غير ذلك من المصالِح- فإبداؤها أفضل [2710] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/358). .
7- إنَّ شأن المؤمن أنه لا ينفق رياءً أو سمعةً؛ طلبًا للتعالي على الناس، أو إرضاءً لأحدٍ منهم، أو إرادةَ تكريمهم له، أو لنيل أيِّ غرضٍ دنيويٍّ آخر، وإنما ينفق ما ينفق خالصًا لله جلَّ وعلا، كما قال سبحانه: وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ [2711] يُنظر:  ((تفسير ابن عثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/365). .
8- الإشارة إلى الفراسة، والفِطْنة؛ لقوله تعالى: تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ؛ فإنَّ السِّيما هي العلامة التي لا يَطَّلِع عليها إلَّا ذوو الفراسةِ [2712] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/370). .
9- في قوله تعالى: الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ   بيانُ عَداوةِ الشَّيطان للإنسان؛ لأنَّه في الواقع عدوٌّ له في الخبر، وعدوٌّ له في الطَّلب؛ في الخبر: يَعِدُه الفقر؛ وفي الطلب: يأمُره بالفحشاء؛ فهو عدوٌّ مخبرًا وطالبًا، والعياذ بالله [2714] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/348). .
10- أنَّ مَن أَمَر شخصًا بالإمساك عن الإنفاق المشروع، فهو شبيهٌ بالشَّيطان، وكذلك مَن أمَر غيره بالإسراف، فالظَّاهر أنَّه شيطان؛ لقوله تعالى: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ [الإسراء: 27] [2715] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/348). .
11- أنَّ هذه المغفرةَ التي يَعِدُنا الله بها مغفرةٌ عظيمة؛ لقوله تعالى: مِنْهُ؛ لأنَّ عِظَم العطاءِ مِن عِظَم المُعطي [2716] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/349). .
12- أنَّه ينبغي للمُنفِق أنْ يتفاءل بما وعَد الله؛ لقوله تعالى: وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا؛ فإذا أَنْفَق الإنسانُ وهو يُحسِن الظنَّ بالله عزَّ وجلَّ أنَّ الله يَغْفِر له الذُّنوبَ، ويَزيده من فضله- كان هذا من خير ما تنطوي عليه السَّريرة [2717] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/350). .
13- أنَّ ما في الإنسان من العِلْم والرُّشد فهو فَضْل من الله عزَّ وجلَّ؛ لقوله تعالى: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ؛ فإذا مَنَّ الله سبحانه وتعالى على العبد بعِلم، ورُشْد، وقوَّة، وقُدرة، وسَمْع، وبصر فلا يترفَّع؛ لأنَّ هذه الصفات من الله عزَّ وجلَّ؛ ولو شاء الله لحَرَمه إيَّاها، أو لسَلبه إيَّاها بعد أن أعطاه إيَّاها؛ فقد يسلُب اللهُ العِلْمَ من الإنسان بعد أنْ أعطاه إيَّاه؛ وربما يَسلُب منه الحكمةَ؛ فتكون كلُّ تصرُّفاته طيشًا وضلالًا وهَدَرًا [2718] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/352). .
14- تحذيرُ العبد من المخالَفة؛ لقوله تعالى: وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ؛ فإنَّ إخبارَه إيَّانا بذلك يَستلزِم أن نخشَى من خِبرته عزَّ وجلَّ؛ فلا يَفقِدنا حيث أَمَرنا، ولا يرانا حيث نهانا [2719] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/361). .

الفوائد العلمية واللَّطائف :

1- بيانُ تثبيت المعاني المعقولة بالأمور المحسوسة؛ لأنَّه أَقْرب إلى الفَهْم؛ وَجْه ذلك أنَّ الله سبحانه ضرَب مَثَلًا للمانِّ بالصَّدقة بصاحب الجَنَّة، كما قال تعالى: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ [2722] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/332). .
2- وجوب الزكاة في عُروض التَّجارة؛ لقوله تعالى: مَا كَسْبْتُمْ؛ ولا شكَّ أن عُروض التِّجارة كَسْب؛ فإنَّها كَسْب بالمعاملة [2723] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/341). .
3- يُستفادُ من قوله: أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ  أنَّ المال الحرام لا يُؤمَر بالإنفاق منه؛ لأنَّه خبيث؛ والله تعالى طَيِّب لا يَقْبَل إلَّا طيِّبًا [2724] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/341). .
4- الردُّ على الجَبْريَّة؛ لقوله تعالى: أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ؛ ووَجْه الدَّلالة: أنَّه لو كان الإنسان مُجبَرًا على عملِه لم يَصِحَّ أنْ يُوجَّه إليه الأمر بالإنفاق؛ لأنَّه لا يَقدِر على زعْم هؤلاء الجبرية؛ ولأنَّ الله أضاف الكسبَ إلى المخاطَب في قوله تعالى: مَا كَسْبْتُمْ؛ ولو كان مُجبَرًا عليه لم يَصِحَّ أن يكون مَن كَسْبه [2725] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/342). .
5- وجوب الزَّكاة في الخارج من الأرض؛ لقوله تعالى: وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ [2726] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/342). .
6- في قوله تعالى: مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ  أضاف سبحانه الكسبَ إليهم، وإنْ كان هو الخالقَ لأفعالهم؛ لأنَّه فِعْلُهم القائم بهم، وأَسْنَد الإخراج إليه؛ لأنَّه ليس فِعْلًا لهم، ولا هو مقدورًا لهم، فأضاف مقدورَهم إليهم، وأضاف مفعوله الذي لا قُدْرة عليه إليه، ففي ضِمْنه الردُّ على مَن سوَّى بين النَّوعين، وسلَب قدرةَ العبد وفِعْله وتأثيره عنه بالكُليَّة [2727] يُنظر: ((طريق الهجرتين)) لابن القيِّم (ص: 373)، ((تفسير ابن عثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/343). .
7- قال تعالى: في قوله تعالى: مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ، خصَّ سبحانه هذين النَّوعين، وهما: الخارجُ من الأرض، والحاصلُ بكسب التجارة دون غيرهما من المواشي؛ إمَّا بحسَب الواقع؛ فإنَّهما كانَا أغلبَ أموالِ القوم إذ ذاك، فإنَّ المهاجرين كانوا أصحابَ تِجارة وكسْب، والأنصار كانوا أصحابَ حَرْث وزَرعِ؛ فخصَّ هذين النَّوعين بالذِّكر لحاجتهم إلى بيان حُكْمهما، وعموم وجودهما، وإمَّا لأنَّهما أصولُ الأموال، وما عداهما فعنهما يكون، ومنهما ينشأ؛ فإنَّ الكسْب يدخل فيه التِّجاراتُ كلُّها، على اختلاف أصنافها وأنواعها من: الملابس، والمطاعم، والرقيق، والحيوانات، والآلات، والأمتعة، وسائر ما تتعلَّق به التِّجارة، والخارج من الأرض يتناول حبَّها وثمارَها، ورِكازها ومَعْدِنها، وهذان هما أصولُ الأموال وأغلبها على أهل الأرض؛ فكان ذِكْرهما أهمَّ [2728] يُنظر: ((طريق الهجرتين)) لابن القيِّم (ص: 373). .
8- وجوب الزكاة في المعادن؛ لدخولها في عموم قوله تعالى: وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ [2729] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/344). .
9- إثبات القياس؛ وذلك لقوله تعالى: وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ؛ يعني إذا كنتَ لا ترضاه لنَفْسك، فلا ترضاه لغيرك، أي: قِسْ هذا بهذا [2730] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/345). .
10- إثبات إغواء الشَّياطين لبني آدم؛ لقوله تعالى: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ، وأنَّ للشَّيطان تأثيرًا على بني آدم إقدامًا، أو إحجامًا؛ أمَّا الإقدام: فيأمره بالزِّنا مثلًا، ويُزيِّن له حتى يُقدِم عليه، وأما الإحجام: فيأمره بالبُخل، ويَعِدُه الفقرَ لو أَنْفق، وحينئذ يُحجِم عن الإنفاق [2731] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/347، 348). .
11- من مباحث اللَّفظ في الآية: استعمالُ الوعد في الخير والشَّر، وهو شائع لغة، ثم جرى عُرْف النَّاس أن يَخُصُّوا الوعدَ بالخير، والإيعادَ بالشرِّ، فإذا ذكَروا الوعدَ مع الشرِّ أرادوا به التَّهكُّم، على أنَّ ما يَعِدُ به الشَّيطان من الفقر هو على تقدير الإنفاق، ويلزمه الوعد بالغنى مع البخل الذي يأمر به؛ كما في قوله تعالى: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ [2732] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (3/63). .
12- إثبات الحكمة لله عزَّ وجلَّ؛ لأنَّ الحكمةَ كمالٌ؛ ومُعْطي الكمال أَوْلى به؛ فيُؤخذ من الآية إثباتُ الحِكمة لله بهذا الطَّريق كما في قوله: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ [2733] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/352). .
13- في قوله تعالى: وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ: أنَّ مَن دعا على أخيه وهو ظالم له، فإنَّ الله لا يُجيب دعاءه؛ لأنَّه لو أُجيب لكان نَصْرًا له، وقد قال تعالى: إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [2734] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/357). [الأنعام: 21] .
14- قوله: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ، أي: فنِعْم شيء هي، وهذا مدْح لها موصوفة بكونها ظاهرةً بادية، فلا يَتوهَّم مُبديها بُطلانَ أثرِه وثوابِه، فيمنعه ذلك من إخراجها، وينتظر بها الإخفاء، فتفوت أو تَعترِضه الموانعُ، ويُحال بينه وبين قلبه، أو بينه وبين إخراجها، فلا يؤخِّر صدقتَه العلانيَّة بعد حضور وقتها إلى وقت السرِّ، وهذه كانت حالَ الصحابة [2735] يُنظر: ((طريق الهجرتين)) لابن القيِّم (ص: 376). .
15- في قوله: وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ  أَطلَق لفْظَ (الفقراء)، ولم يَقُل: (فقراءكم)، فدلَّ ذلك على أنَّ الصَّدقة تُستَحَبُّ على كلِّ فقير- وإن كان كافرًا- فكما وسَعتْ رحمته الكافرَ فلم يَحرِمه لكُفْره من الرِّزق بسعيه، كذلك لم يُحرِّم عليه الصَّدقةَ عند عجزه عن الكسْب الذي يكفيه [2736] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (3/69). .
16- تَفاضُل الأعمال، أي: إنَّ بعض الأعمال أفضلُ من بعض؛ لقوله تعالى: فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [2737] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/360). .
17- في قوله تعالى: إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ إثبات وجه الله عزَّ وجلَّ؛ وهو وجه حقيقي لا يُماثِل أوجهَ المخلوقين على ما يليق بجلاله وعظمته سبحانه؛ وهو من الصِّفات الذاتيَّة الخبريَّة؛ التي لم يَزْل، ولا يزال مُتَّصِفًا بها [2743] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/365). .
18- أنَّ الإنفاق يكون سببًا لشَرْح الصَّدر، وطرْد الهمِّ، والغمِّ؛ لقوله تعالى: لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس: 62] ؛ وهذا أمْر مُجرَّب مُشاهَد أنَّ الإنسان إذا أَنْفق يبتغي بها وجهَ الله انشرَح صدرُه، وسُرَّتْ نفْسُه، واطمأنَّ قلبه [2744] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/373). .
19- في تقديم اللَّيل على النَّهار، والسِّر على العلانية إيذانٌ بتفضيل صدقةِ السرِّ، وذلك في قوله تعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً [2745] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (3/77). .

بلاغة الآيات:

1- أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فيه عدد من أوجه البلاغة [2746] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/313-314)، ((تفسير الرازي)) (7/51)، ((تفسير البيضاوي)) (1/159)، ((تفسير أبي حيان)) (2/673)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (2/598)، ((تفسير أبي السعود)) (1/260)، ((تفسير ابن عاشور)) (3/53-54)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (1/411-412). :
فيه مناسبةٌ حسَنة، حيث ضرب الله هذا مثلًا في مقابل مَثل النفقة لمرضاة الله والتَّصديق، وهو نفقة الرِّئاء، ووجه الشَّبه هو حصولُ خيبةٍ ويَأْسٍ في وقت تمام الرَّجاء وإشراف الإنتاج، فهذا مقابل قوله: وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ [البقرة: 265] الآية [2747] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (3/53-54). .
وجاز عطفُ الماضي على المستقبَل -حيث عطف وَأَصَابَه الكِبَرُ على أَيَوَدُّ-؛ لأنَّ (الواو) للحال لا للعطف، ومعناه: أيودُّ أحدكم أن تكون له جَنَّةٌ حالَ ما أصابه الكِبَر، ثم إنَّها تُحرق، أو حُمل العطف على المعنى-  لأنَّه يصح أن يقال: وددت أن يكون كذا، ووددت لو كان كذا- كأنَّه قيل: أيودُّ أحدُكم أن تكون له جنَّةٌ-إنْ كان له جَنَّة- وأصابه الكِبَر [2748] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (7/51). .
قوله: جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ فيه ذكر الخاصِّ بعد العامِّ، حيث خصَّ جنَّة النخيل والأعناب بالذِّكر، مع أنَّهما من ضِمن الجنَّات؛ لأنَّ النخيل والأعناب أكرمُ الشَّجر، وأكثرها منافعَ، وجعل الجَنَّة منهما - وإن كانت محتويةً على سائر الأشجار - تغليبًا لهما على غيرهما، ثم أرْدَفهما ذِكر كلِّ الثَّمرات [2749] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/313-314)، ((تفسير الرازي)) (7/51)، ((تفسير البيضاوي)) (1/159). .
قوله: فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ الإتيان بفعل (أصاب) في هذه الآيات كلِّها: (فأصابه وابل - وأصابه الكبر - فأصابها إعصار)؛ لأنَّه أبلغ وأدلُّ على التأثير بوقوع الفعل على ذلك الشيء، ولو قيل: (وَبِلَ - وكَبِر - وأعصرت)، لم يكُن فيه ما في لفظ الإصابة من المبالَغة [2750] يُنظر: ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (2/598). .
2- يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ
قوله: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ... في هذه الآية من أنواع البلاغة ما يُعرف بـ(التتميم) [2751] التتميم: هو الإتيان بكلمة أو كلام متمِّم للمقصود، أو لزِيادةٍ حسنة، بحيث إذا طُرح من الكلام نقص معناه في ذاته، أو في صِفاته، أو في صُوَره، مع بقاء الكلام سليمًا. ينظر: ((البحر المحيط في التفسير)) (1/120)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحي الدين درويش (1/44). ، وقد اندرَج التتميم في هذه الآية في صُور كالتالي:
أ- لَمَّا ذكَر سبحانه الجنة لم يكتفِ بذكرها مجرَّدةً من كلِّ قيد؛ لأنَّ الجنة في اللغة لفظ يصدُق على كلِّ شجرٍ متكاثِف ملتفٍّ، يَستر مَن يتفيَّأ بظلاله الوريفة، فتمَّم ذلك النقص بقوله: مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ، ثم تمَّم ذلك بذكر الأنهار الجارية؛ للدَّلالة على ديمومة الخصب؛ إذ لا فائدةَ منها إذا نضَبتْ فيها الأمواه، وكان مآلها إلى اليبس والذُّبول، ولدفْع الإيهام الذي يُخيَّل الى السَّامعين أنَّ هذه الجنة قد تكون مقتصرةً على هذين الضربين من الثمرات- وهما: النَّخيل والأعناب- تمَّم بقوله: لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ؛ فالحسرة -إذن- على احتراقها أشدُّ، والأسف على فنائها أعمُّ.
ب- ووصف الحادِث المهلِك الذي أدَّى الى فناء الجنة بقوله: فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ يجتاح الأخضرَ واليابس، على أنَّ الإعصار مهما يبلغ تأثيره فإنَّه ربما كان مؤجَّلَ الإهلاك، فدفع هذا الإيهام بقوله: فِيهِ نَارٌ فأحرقها بعد أن أوْدَى بأشجارها، ولم يكتفِ بذكر النار؛ لأنَّها قد تأتي على شيء ممَّا تحرقه، ويبقَى بعد ذلك شيءٌ آخر منها، فدفَع هذا الإيهامَ مرةً أخرى بذِكر الاحتراق فَاحْتَرَقَتْ [2752] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (1/411). .
قوله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ... في هذه الآية من طُرق البلاغةِ في الخِطاب: الإفضاء إلى المقصود، حيث أمَر بالصَّدقات بعد أنْ قدَّم بين يديه بمواعظَ وترغيبٍ وتحذير. وهذا من ارتكاب خلاف مقتضى الظاهر في ترتيب الجُمل، ونُكتة ذلك: أنَّه قد شاع بين النَّاس الترغيبُ في الصَّدقة، وتكرَّر ذلك في نزول القرآن، فصار غرضًا دينيًّا مشهورًا، وكان الاهتمامُ بإيضاحه، والترغيبُ في أحواله، والتنفير من نقائصه، أَجدرَ بالبيان [2753] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (3/55). .
قوله: أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ... وَلَا تَيَمَّمُوا فيه تأكيدُ الأمر بالنهي بعده عن ضدِّه، وعبَّر بصيغة التفعُّل (تيمَّموا)، أي: لا تتكلَّفوا أن تقصدوا، وفيه مبالغة أيضًا [2754] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (2/678)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (4/89-90). .
قوله: أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ فيه تخصيص المكتسَب دون الموروث؛ لأنَّ الإنسان بما يكتسبه أضنُّ به ممَّا يرثه؛ فالموروث معقولٌ من فحواه؛ إذ هو أَوْلى، وهو من محاسن البلاغة [2755] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (2/677). .
قوله: طَيِّباتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ فيه إيجاز بالحذف في ومِمَّا أَخْرَجْنَا، والتقدير: من طيِّبات ما أخرجنا، وحُذِف لدلالة ما قبله وما بعده عليه. وكُرِّر حرف الجرِّ (مِن) على سبيل التوكيد، أو إشعارًا بتقدير عامل آخَر، حتى يكون الأمرُ مرَّتين [2756] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (2/678). .
قوله: مِنْهُ تُنفِقُونَ فيه تقديم الجار والمجرور (منه) على الفعل (تنفقون)؛ للتخصيص، لتوبيخهم بما كانوا يتعاطونه من إنفاقِ الخبيث خاصَّةً، لا لتسويغ إنفاقه مع الطيِّب [2757] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (1/267). .
قوله: إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ فيه تأكيد الشيء بما يُشبه ضِدَّه - على قول مَن جعَل النفي هنا بمعنى النهي، أي: لا تأخذوه إلَّا إذا تغاضيتم عن النهي وتجاهلتموه. والتعبير بالإغماض: للمبالغة في التغافُل عن المكروه الشَّديد [2758] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (3/57). .
قوله: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ تذييلٌ مقرِّر لمضمون ما قبله، وافتتحه بـ(اعلموا)؛ للاهتمامِ بالخبر، أو نُزِّل المخاطبون الذين نُهوا عن الإنفاق من الخبيث منزلةَ مَن لا يعلم أنَّ الله غني، فأَعطوا لوجهه ما يقبله المحتاج بكلِّ حال، ولم يَعلموا أنَّه يحمد من يُعطي لوجهه من طيِّب الكسب [2759] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (3/58). .
قوله: حَمِيدٌ عبَّر بصيغة (فعيل)؛ للمبالغة، أي: شديد الحمد؛ لأنَّه يُثني على فاعلي الخيرات، ويجوز أن يكون المراد: أنَّه محمود، فيكون حميد بمعنى مفعول، أي: فتخلَّقوا بذلك؛ لأنَّ صفات الله تعالى كمالات [2760] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (4/91). .
3- قوله: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ قدَّم هنا اسم الشَّيْطان مسندًا إليه؛ لأنَّ تقديمَه مؤذِنٌ بذمِّ الحُكم الذي سِيق له الكلام، وشؤمه لتحذير المسلمين من هذا الحُكم، ولأنَّ في تقديم المسنَد إليه على الخبر الفعلي تقويَّ الحُكم وتحقيقَه [2761] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (3/59). .
4- قوله: وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ فيه توكيد الجملة الأولى بالجملة الثانية [2762] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (2/682). .
وعطفها على جملة الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ؛ لإظهار الفرق بين ما تدعو إليه وساوسُ الشيطان، وبيْن ما تدعو إليه أوامرُ الله تعالى، والوعد فيه حقيقةٌ لا محالة [2763] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (3/60). .
5- قوله تعالى: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا
قوله: وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فقد أوتي خيرًا كثيرًا الجملة اعتراض وتذييلٌ لِمَا تضمَّنتْه آياتُ الإنفاق من المواعظ والآداب وتلقين الأخلاق الكريمة؛ ممَّا يُكسب العاملين به رجاحةَ العقل، واستقامة العمل [2764] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (3/60). .
والتنكير في قوله: خَيْرًا كَثِيرًا: للتعظيم، كأنَّه قال: فقد أُوتي أيَّ خير كثير [2765] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/316)، ((تفسير أبي حيان)) (2/685)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (2/606). .
6- قوله: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ تذييلٌ للكلام السَّابق المسوق للأمْر بالإنفاق وصِفاته المقبولة، والتحذير من المثبِّطات عنه، والمقصود من هذا التذييل: التذكيرُ بأنَّ الله لا يَخفى عليه شيء من النَّفقات وصفاتها، وأدمج النَّذر مع الإنفاق فكان الكلام جديرًا بأن يكون تذييلًا [2766] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (3/65-66). .
وقوله: فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ خبرٌ يُفيد- على اختصاره- الوعدَ العظيم للمطيعين، والوعيدَ الشَّديد للمتمرِّدين [2767] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (7/60)، ((تفسير ابن عاشور)) (3/65-66). . وتصدير الجملة بـ(إنَّ) لتأكيد مضمونها؛ إفادة لتحقيق الجزاء؛ فإنَّه تعالى يجازيكم عليه ألبتةَ، إنْ خيرًا فخير، وإنْ شرًّا فشر؛ فهو ترغيبٌ وترهيب، ووعْد ووعيد [2768] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (1/263). .
7- قوله: وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ
فيه استعمال العامِّ المراد به الخاصُّ - على القول بأنَّهم هم المشرِكون. أو: هم المنفِقون بالمنِّ والأذى والرِّياء، والمبذِّرون في المعصية. أو: المنفِقو الحرام [2769] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (2/687). .
وإيراد صِيغة الجمْع (أنصار) لمقابلة (الظالمين)، أي: وما لظالم من الظالمين نصيرٌ من الأنصار، والجملة اسئنافٌ مقرِّر لـِمَا قبله من الوعيد، مفيدٌ لفظاعة حال مَن يَفعل ما يُفْعَل مِن الظالمين [2770] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (1/263). .
8- قوله تعالى: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
قوله: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ... فيه نوعُ تفصيل لبعض ما أُجمل في الشرطيَّة، وبيان له؛ ولذلك ترك العطف بينهما بالواو [2771] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (1/263)، ((تفسير القاسمي)) (2/209-210). . والألف واللام في الصَّدقات لتعريف الجنس، ومحمله على العموم، فيشمل كلَّ الصَّدقات؛ فرْضَها ونفْلَها، وهو المناسب لموقع هذه الآية عقبَ ذِكر أنواع النفقات [2772] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (3/66-67). .
وقوله: فنِعِمَّا هِي (ما) في (نعما) نكرة غير موصولة ولا موصوفة، في تأويل الشيء، أي: نعم الشيءُ هو، وتمثيله بالنَّكرة أبينُ، والتقدير: نعم شيئًا هي إبداء الصدقات، فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه [2773] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/316)، ((تفسير الرازي)) (7/62). . وقوله: فنِعِمَّا هي فيه جمْع الأمداح المبهَمة؛ لأنَّ (نِعم) كلمة مبالغة تَجمع المدحَ كلَّه، و(ما) كلمة مُبهمَة تجمع الممدوح؛ فتطابقتَا في الإبهام؛ فإنَّ (نِعْم) و(بئس) للمبالغة، فالمراد بهما التناهي في المدح والذمِّ، ولاختصاصهما بهذا المعنى مُنعِتَا التصرُّف، واقتُصر بهما على المعنى؛ لأنَّ المدح والذمَّ إنما يكونانِ متعلِّقينِ بما ثبَت واستقرَّ، ولا يُمدح الإنسانُ بما لم يقعْ منه [2774] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (4/99). .
كذلك قوله: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هي... استئناف بيانيٌّ ناشئ عن قوله: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ؛ إذ أشْعَر تعميم مِن نَفقةٍ بحال الصَّدقات الخفيَّة، فيتساءل السامع في نفسه: هل إبداء الصدقات يُعدُّ رياءً، وقد سمع قبل ذلك قوله: كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئاءَ النَّاسِ؛ ولأنَّ قوله: فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ قد كان قولًا فصلًا في اعتبار نيَّات المتصدِّقين، وأحوال ما يُظهرونه منها، وما يُخفونه من صَدقاتهم، فهذا الاستئناف يدفَع توهمًا من شأنه تعطيلُ الصَّدقات والنفقات، وهو أن يُمسك المرءُ عنها إذا لم يجد بُدًّا من ظهورها، فيخشى أن يصيبه الرياء [2775] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (3/66-67). .
قوله: مِن سيِّئاتكم دخول (مِن)؛ لإفادة التبعيض، أي: ونُكفِّر عنكم بعض سيِّئاتكم؛ لأنَّ السيِّئاتِ كلَّها لا تُكفَّر بذلك، وإنما يُكفَّر بعضها، ثم أَبْهَم الكلامَ في ذلك البعض؛ لأنَّ بيانه كالإغواء بارتكابها إذا عُلِم أنها مكفَّرة، أو تكون (مِن) بمعنى مِن أَجْل، أي: ونكفِّر عنكم مِن أجْل ذنوبكم، كما تقول: ضربتُك من سوء خُلقك، أي: من أجْل ذلك [2776] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (7/65)، ((تفسير أبي السعود)) (1/264). .
قوله: وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ خبرٌ مرادٌ منه الترغيبُ في الإسرار [2777] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (1/160). .
وفيه مناسبةٌ حسَنة في ختْم هذه الآية بهذه الصِّفة؛ لأنها تدلُّ على العلم بما لَطُف من الأشياء وخفي، فناسَب الإخفاء في قوله: وَإِنْ تُخْفُوهَا ختْمها بالصِّفة المتعلِّقة بما خفي (خبير) [2778] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (2/693). .
9- قوله: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ
قوله: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ فيه الخِطاب بما ظاهره خاصٌّ -وفي ذلك تسلية له صلَّى الله عليه وسلَّمَ- والمراد منه العامُّ؛ فظاهر قوله لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ خطاب للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، ولكن المراد به هو وأمَّته، بدليل قوله: إنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ، وهذا خطاب عام، ثم قال: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ، وهو في الظاهر خاصٌّ، ثم قال بعده: ومَا تُنْفِقُوا من خَيرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ، وهذا عامٌّ؛ فيُفهم من عموم ما قبل الآية وعمومِ ما بعدها عُمومُها أيضًا [2779] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (7/66). .
قوله: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ تقديم الخبَر المسنَد (عَلَيْكَ) على اسمِ (لَيْسَ) المسنَد إليه (هُداهم)؛ إمَّا لمجرَّد الاهتمام، بنفي كون هُداهم حقًّا على الرسول، تهوينًا للأمر عليه، وإمَّا أن يكون جرى على خِلاف مقتضى الظاهر، بتنزيلِ السَّامعين منزلةَ مَن يَعتقد أنَّ إيجاد الإيمان في الكفَّار يكون بتكوين الله، وبالإلجاء من المخلوق، فقصر هداهم على عدم الكون في إلجاء المخلوقين إيَّاهم، لا على عدم الكون في أنَّه على الله، فيلزم من ذلك أنَّه على الله، أي: مُفوَّض إليه [2780] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (3/71-72). .
قوله: ولَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ
فيه مع قوله: هُداهم جناس مغاير؛ لأنَّ إحدى الكلمتين اسم، والأخرى فِعل [2781] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (2/694)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (2/614). .
وجِيء فيه بحرف الاستدراك (لكن)؛ لِمَا في الكلام المنفيِّ من توهُّم إمكان هديهم بالحِرص أو بالإلجاء، فمصبُّ الاستدراك هو الصِّلة (مَن يشاء)، أي: فلا فائدةَ في إلجاء مَن لم يشأ الله هدايته، والتقدير: ولكن هداهم بيدِ الله، وهو يَهدي من يشاء، فإذا شاء أن يَهديهم هداهم [2782] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (3/72). .
وفيه: تلوينُ الخطاب؛ إذ الجملة معترضة، جيء بها على تلوين الخِطاب وتوجيهه إلى رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ، مع الالتفات إلى الغَيبة فيما بين الخِطابات المتعلِّقة بالمكلَّفين؛ مبالغةً في حمْلهم على الامتثال؛ فإنَّ الإخبار بعدم وجوب تدارُك أمرهم على النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ مؤذنٌ بوجوبه عليهم حسبما ينطق به ما بعدَه من الشرطيَّة. وعلى القول بأنَّ المعنى: ليس عليك هُدَى مَن خالفَك حتى تمنعَهم الصَّدقة؛ لأجْل دخولهم في الإسلام، فلا التفاتَ حينئذٍ في الكلام، وضمير الغَيبة للمعهودين من فقراء المشركين، بل فيه تلوين للخطاب فقط [2783] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (1/264). .
قوله: وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ أسلوبٌ ظاهره الخبر، ولكن معناه النَّهي، أي: ولا تُنفقوا إلَّا ابتغاءَ وجه الله [2784] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (7/66-67)، ((تفسير البيضاوي)) (1/161). .
وتَكرار فِعل النَّفقة - وَمَا تُنْفِقُوا، وَمَا تُنْفِقون، وَمَا تُنْفِقُوا - ثلاثَ مرَّات في الآية؛ لمزيدِ الاهتمام بمدلولِه، وجِيء به مرَّتين بصِيغة الشَّرْط عندَ قصْد بيان الملازمة بين الإنفاق والثَّواب، وجِيء به مرةً في صِيغة النَّفي والاستثناء؛ لأنَّه قصد الخبر بمعنى الإنشاء، أي: النَّهي عن أن يُنفقوا إلَّا لابتغاء وجه الله [2785] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (3/72-73). .
وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ: تقديم (وَأَنْتُم) على الخبر الفِعلي (لا تُظْلَمون)؛ لمجرَّد التقوِّي، وزيادة في التنبيه على أنَّهم لا يُظلمون، وإنَّما يَظلمون أنفسهم [2786] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (3/72-73). .
وجعلت هذه الأحكام جملًا مستقلًّا بعضها عن بعض، ولم تُجعل جملةً واحدةً مقيَّدةً فائدتُها بقيود جميع الجُمل، وأُعيد لفظ الإنفاق في جميعها بصِيغ مختلفة؛ تكريرًا للاهتمام بشأنه؛ لتكون كلُّ جملة مستقلةً بمعناها، قصيرة الألفاظ كثيرة المعاني، فتجري مجرى الأمثال [2787] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (3/72-73). .
10- قوله تعالى: لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ
قوله: لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ فيه إيجازٌ بالحذف لفَهمِه من السِّياق؛ فالجارُّ (للفقراء) متعلِّق بمحذوف، والتقدير: اعجَبُوا للفقراء، أو اقصدوا الفقراءَ، واجعلوا ما تُنفقون للفقراء [2788] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/318)، ((تفسير الرازي)) (7/67)، ((تفسير البيضاوي)) (1/161)، ((تفسير أبي السعود)) (1/265). .
وفيه كناية، حيث عبَّر بالضَّرب في الأرض عن التِّجارة؛ لأنَّ شأنَ التاجر أن يسافِر ليبتاع ويبيع، فهو يضرب الأرض برجليه أو دابَّته [2789] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (3/75). .
قوله: يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ فيه عِدَّة أوجه بلاغيَّة:
فقوله: التَّعَفُّفِ التعبير بصيغة (التفعُّل) في (التعفُّف)؛ لإفادة الاجتهاد في العِفَّة والمبالغة فيها [2790] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (4/106). .
وقوله: تَعْرِفُهم بسِيماهُم الجملة بيانٌ لجملة يَحْسَبُهُمُ الجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ، كأنَّه قيل: فبماذا تصِل إليهم صدقاتُ المسلمين إذا كان فقرُهم خفيًّا، وكيف يُطَّلع عليهم؟ فأُحيل ذلك على مظنَّة المتأمِّل [2791] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (3/75). .
وقوله: بِسيمَاهُم جاءَ التعبير بصيغة (فيعال)؛ للمبالغة من السِّمة والوسم، وهي العلامة الخفيَّة التي تتراءى للمستبصر [2792] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (4/105)، ((تفسير أبي السعود)) (1/265). .
قوله: لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحافًا فيه من بديع البيان: ما يُسمَّى بـ(نفي الشيء بإيجابه)، وهو إثبات شيء في ظاهر الكلام، ثم نفْي ما هو مِن سببه؛ ففي هذه الآية: المنفيُّ في ظاهر الكلام هو الإلحاف في السُّؤال، لا نفْس السؤال مجازًا، والمنفيُّ في باطن الكلام حقيقةُ نفْس السؤال؛ إلحافًا كان أو غيرَ إلحاف [2793] يُنظر: ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (2/624)، ((تفسير القاسمي)) (2/213)، ((تفسير ابن عاشور)) (3/76-77)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (1/425-426). ، وقد يَرِد نفيُ الشيءِ في القُرآن مُقيَّدًا، والمرادُ نفيُه مطلقًا؛ كما نفَى هنا عنهم السُّؤالَ بنفي صورةٍ مستكرَهة، وهي الإلحافُ في المسألة، والمقصود نفيُ السؤال مطلقًا [2794] يُنظر: ((قواعد التفسير)) للسبت (2/527). .
قوله: وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ فيه إعادة التحريض على الإنفاق، حيث ذكر مرةً رابعة، وقوله: فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ كنايةٌ عن الجزاء عليه؛ لأنَّ العلم يُكنى به عن أثره كثيرًا، فلمَّا كان الإنفاق مرغَّبًا فيه من الله، وكان عِلم الله بذلك معروفًا للمسلمين، تعيَّن أن يكون الإخبارُ بأنه عليمٌ به، أنه عليم بامتثال المنفِق، أي: فهو لا يُضيِّع أجره؛ إذ لا يمنعه منه مانعٌ بعد كونه عليمًا به؛ لأنَّه قدير عليه، وقد حصَل بمجموع هذه المرَّات الأربع من التحريض ما أفاد شدَّةَ فضْل الإنفاق بأنَّه نفْع للمنفِق، وصِلة بينه وبين ربِّه، ونوال الجزاء من الله، وأنَّه ثابتٌ له في عِلم الله [2795] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (3/77). .
10- قوله تعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ
قوله: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فيه تقديم اللَّيل على النهار، والسِّرِّ على العلانية، ولعلَّه يدلُّ على تلك الأفضلية؛ فاللَّيل مظنَّة صَدَقة السرِّ، فقُدِّم الوقت الذي كانت الصَّدقة فيه أفضلَ، والحال التي كانت فيها أفضل [2796] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (2/701)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (4/108)، ((تفسير القاسمي)) (2/215). .
قوله: فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ.. فيه إدخالُ الفاء في خبَر الموصول (الذين)؛ للتنبيه على تسبُّب استحقاق الأجْر على الإنفاق؛ لأنَّ المبتدأ لَمَّا كان مشتملًا على صلة مقصود منها التَّعميم، والتَّعليل، والإيماء إلى عِلَّة بناء الخبر على المبتدأ - وهي ينفقون - صحَّ إدخال الفاء في خبره، كما تدخُل في جواب الشَّرط؛ لأنَّ أصل الفاء الدَّلالةُ على التسبُّب [2797] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (2/701)، ((تفسير ابن عاشور)) (3/77). .