موسوعة التفسير

سورةُ النَّحلِ
الآيات (35-37)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ

غريب الكلمات:

الطَّاغُوتَ: الطَّاغُوتُ هو كُلُّ ذِي طُغْيَانٍ عَلَى الله، فكلُّ مَعْبُودٍ مِن دُونِ الله إذا لم يَكُنْ كارِهًا لذلك: طاغوتٌ؛ إنسانًا كان ذلك المعبودُ، أو شَيْطانًا، أو وَثنًا، أو صَنَمًا، كَائِنًا ما كان من شيءٍ، والمُطاعُ في معصيةِ اللَّهِ طاغوتٌ، وكذلك السَّاحِرُ والكاهِنُ، واشتقاقُه من الطُّغْيان: وهو الظُّلْم والبغْيُ، يقال: طَغَا فُلانٌ يَطْغَى: إذا عَدا قَدْرَه فتجاوَز حَدَّه، وأصلُ (طغو): يدلُّ على مُجاوَزةِ الحَدِّ في العِصيانِ [415] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 128)، ((تفسير ابن جرير)) (4/558)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 316)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/412)، ((المفردات)) للراغب (ص: 520)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 37)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 113). .

المعنى الإجمالي:

يقول تعالى: وقال المُشرِكونَ: لو شاء اللهُ أن نَعبُدَه وَحدَه ما عَبدْنا أحدًا غَيرَه نحنُ ولا آباؤُنا مِن قَبلِنا، ولا حَرَّمْنا شَيئًا لم يُحَرِّمْه. مِثلَ هذا الإشراكِ، وتحريمِ ما أحلَّ الله، والاحتِجاجِ الباطِلِ، فعَل الكُفَّارُ السَّابِقونَ، فليس على الرُّسُلِ إلَّا التَّبليغُ الواضِحُ، وقد وضَّحوا لكم طريقَ الحَقِّ بما لا يَبقَى معه حُجَّةٌ لأحدٍ.
ولقد بعَثْنا في كلِّ أمَّةٍ سبقَت رَسولًا يأمُرُهم بعِبادةِ اللهِ وَحدَه وتَرْكِ عبادةِ غَيرِه، فكان منهم مَن هداه اللهُ فاتَّبَع الرُّسُلَ، ومنهم من وجَبَت عليه الضَّلالةُ فهَلَك. فامشُوا في الأرضِ، وانظروا كيف كان مآلُ هؤلاء المكَذِّبينَ؛ لتَعتَبِروا.
ثم أخبَر الله تعالى رسولَه صلَّى الله عليه وسلَّم بأنَّ حرصَه على هدايةِ المشركينَ  المصرِّينَ على ضلالِهم، لن يغيِّرَ مِن واقعِ أمرِهم شيئًا؛ لأنَّ اللهَ لا يَهدي إليه مَن قدَّر بحِكمتِه وعَدلِه دوامَ ضَلالِه، وما للضَّالِّينَ مِن ناصِرينَ.

تفسير الآيات:

وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّه لَمَّا تَمَّ ما هو عجَبٌ مِن مَقالِ المُشرِكينَ ومآلِهم، في سوءِ أحوالِهم، وخَتَم بتَهديدِهم؛ عطَفَ على قَولِه: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ مُوجِبًا آخَرَ للتهديدِ، مُعَجِّبًا مِن حالهم فيه، فقال [416] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/153). :
وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ.
أي: وقال المُشرِكونَ مُحتَجِّينَ- كَذِبًا- بالقَدَرِ على شِركِهم، وتَحريمِهم ما لم يُحَرِّمْه اللهُ: لو شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا شَيئًا مِن دُونِه، ولا حَرَّمْنا شيئًا مِن الأنعامِ التي ابتَدَعْنا تحريمَها، ففِعْلُنا إذَن لذلك دليلٌ على رِضاه عن أعمالِنا، وإلَّا لقدَّرَ غيرَ ذلك [417] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/216)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (8/455)، ((تفسير ابن كثير)) (4/570)، ((تفسير السعدي)) (ص: 440). !
كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ.
أي: مثلَ هذا الإشراكِ وتحريمِ ما أحَلَّ اللهُ والاحتجاجِ الباطِلِ الصَّادِرِ مِن المُشرِكينَ على مَشروعيَّةِ ذلك تكذيبًا للرُّسُلِ، فعَلَ مَن قَبلَهم مِن المُشرِكينَ، فأهلَكَهم اللهُ، فهلَّا استَدَلُّوا بهلاكِ أولئك على أنَّ اللهَ غيرُ راضٍ عن فِعلِهم، وعلى عدَمِ صِحَّةِ حُجَّتِهم [418] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/216)، ((تفسير ابن عطية)) (3/392)، ((تفسير ابن الجوزي)) (2/559)، ((تفسير الرازي)) (20/204)، ((تفسير القرطبي)) (10/103)، ((تفسير البيضاوي)) (3/226)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/155)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/148). ؟!
كما قال تعالى: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ * قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [الأنعام: 148-149] .
فقال اللهُ أيضًا ردًّا على شُبهتِهم:
فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ.
أي: ليس الأمرُ كما تقولونَ مِن أنَّ اللهَ رَضِيَ أفعالَكم هذه، بل أنكَرَها عليكم، ونهاكم عنها على ألسِنَةِ رُسُلِه، فإنَّما وظيفتُهم تبليغُ الرِّسالةِ تبليغًا واضِحًا مُوضِّحًا لطريقِ الحَقِّ بما لا يَبقَى معه حُجَّةٌ لأحدٍ، فقد بلَّغُوكم، وأوضَحُوا لكم، فصار وَبالُ كُفْرِكم وعِصيانِكم عليكم [419] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/605)، ((تفسير ابن كثير)) (4/570)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/155-156)، ((تفسير أبي السعود)) (5/112)، ((تفسير القاسمي)) (6/370)، ((تفسير السعدي)) (ص: 440). .
وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36).
وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ.
أي: ولقد بعَثْنا في كلِّ طائفةٍ مِن النَّاسِ رَسولًا يأمُرُهم بعبادةِ اللهِ وَحدَه، وتَرْكِ عبادةِ كُلِّ مَن دونَه، كالشَّياطينِ والأصنامِ، فحُجَّتُه سُبحانَه قد قامَتْ على جميعِ الأُمَمِ [420] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/216، 217)، ((تفسير القرطبي)) (10/103)، ((تفسير ابن كثير)) (4/570)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/156)، ((تفسير السعدي)) (ص: 440). قال ابنُ القيِّمِ: (الطاغوتُ اسمٌ لكُلِّ ما عَبَدوه مِن دونِ الله، فكلُّ مُشركٍ إلهُه طاغوتُه). ((مدارج السالكين)) (3/447). .
فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ.
أي: فمِنَ الأُمَمِ مَن هداهم اللهُ، فأرشَدَهم إلى دينِه، ووفَّقَهم للإيمانِ به، واتِّباعِ رُسُلِه وطاعتِه [421] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/217)، ((تفسير القرطبي)) (10/103)، ((تفسير السعدي)) (ص: 440)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/375). .
وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ.
أي: ومِن الأُمَمِ مَن وجَبَت عليهم الضَّلالةُ، ولَزِمَهم الكُفرُ، فأهلَكَهم اللهُ [422] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/217)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (1/127)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/150)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/375). .
كما قال تعالى: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ [هود: 105] .
وقال سُبحانه: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى: 7] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الأعراف: 28-30] .
فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ.
أي: فسِيروا في الأرضِ للاعتبارِ، فانظُروا إلى آثارِ عَذابِ اللهِ للأُمَمِ السَّابقةِ مِن الذين كَذَّبوا الرُّسُلَ، فصار آخِرَ أمرِهم الهَلاكُ [423] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/217)، ((تفسير القرطبي)) (10/104)، ((تفسير السعدي)) (ص: 440). قال ابنُ جرير: (يقولُ تعالى ذِكرُه لِمُشركي قُريشٍ: إنْ كنتُم- أيُّها النَّاسُ- غيرَ مصدِّقي رَسولِنا فيما يُخبِرُكم به عن هؤلاء الأمَمِ الذين حَلَّ بهم ما حلَّ من بأسِنا؛ بكُفرِهم بالله، وتكذيبِهم رسولَه- فسيروا في الأرضِ التي كانوا يَسكُنونها والبلادِ التي كانوا يَعمُرونها، فانظُروا إلى آثارِ اللهِ فيهم، وآثارِ سَخَطِه النَّازلِ بهم، كيف أعقبَهم تكذيبَهم رسُلَ اللهِ ما أعقَبَهم؛ فإنَّكم تَرَون حقيقةَ ذلك، وتعلمونَ به صِحَّةَ الخبرِ الذي يُخبِرُكم به محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم). ((تفسير ابن جرير)) (14/217). .
كما قال سُبحانه: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج: 45-46] .
وقال عزَّ وجلَّ: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا [محمد: 10] .
وقال تبارك وتعالى: وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ [الملك: 18] .
إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37).
القِراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التَّفسيرِ:
قولُه تعالى: يَهْدِي فيه قِراءتانِ:
1-  قراءةُ يَهْدِي بفتحِ الياءِ، وكسرِ الدالِ، والمعنى: إنَّ الله لا يَهْدِي مَن قدَّر دوامَ ضلالِه. وقيل: المعنى: إنَّ الله مَن يُضلُّ لا يَهْدي، أي: لا يَهْتَدي [424] قرأ بها حمزةُ وعاصِمٌ والكسائِيُّ. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/304). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((الحجة في القراءات السبع)) لابن خالويه (ص: 211)، ((معاني القراءات)) للأزهري (2/79)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 389)، ((تفسير ابن عاشور)) (13/122). .
2- قراءةُ يُهْدَى بضمِّ الياءِ، وفتحِ الدالِ، أي: من أضلَّهُ الله لَا يهديه أحدٌ، كما قال تعالى: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ [425] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/304). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((الحجة في القراءات السبع)) لابن خالويه (ص: 210)، ((معاني القراءات)) للأزهري (2/79)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 389). [الأعراف : 186] .
إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ.
أي: إنْ تَحرِصْ- يا مُحمَّدُ- على هدايةِ المُشرِكينَ لاتِّباعِ الحَقِّ، فإنَّ اللهَ لا يَهدي إليه مَن قدَّر بحِكمتِه وعَدلِه دوامَ ضَلالِه، فلن يهتَديَ أبدًا ولو حَرَصْتَ على هدايتِه، فلا تُجهِدْ نَفسَك في أمْرِه، وبلِّغْه ما أُرسِلْتَ به؛ لِتقومَ عليه الحُجَّةُ [426] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/217)، ((تفسير القرطبي)) (10/104)، ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/85)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/153)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/376). .
كما قال تعالى: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا [المائدة: 41] .
وقال سُبحانه: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأعراف: 186] .
وقال عزَّ وجلَّ: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [يونس: 96-97] .
  وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ.
أي: وما للضَّالِّينَ مِن ناصِرينَ يَمنَعونَ عنهم عُقوبةَ اللهِ، ويُنقِذونَهم مِن عَذابِه [427] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/219)، ((تفسير ابن كثير)) (4/571)، ((تفسير السعدي)) (ص: 440)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/153). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ فهم استدلُّوا على محبَّتِه سُبحانه لشِركِهم ورضاه عنه، بمَشيئتِه لذلك، وعارضوا بهذا الدَّليلِ أمرَه ونهيَه، وقد أنكَر اللهُ سُبحانه وتعالى عليهم؛ فالمَشيئةُ والمحبَّةُ ليسا واحِدًا؛ ولا هما مُتلازِمَينِ، بل قد يشاءُ سُبحانَه ما لا يُحبُّه؛ ويُحِبُّ ما لا يَشاءُ كَونَه [428] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/188). ، ولم يكُنْ قَصدُهم بقولِهم هذا إلَّا ردَّ الحَقِّ الذي جاءت به الرسُلُ، وإلَّا فعندهم عِلمٌ أنَّه لا حُجَّةَ لهم على الله؛ فإنَّ الله أمَرَهم ونهاهم، ومكَّنَهم من القيامِ بما كلَّفَهم، وجعلَ لهم قُوَّةً ومَشيئةً تصدُرُ عنها أفعالُهم، فاحتِجاجُهم بالقضاءِ والقَدرِ مِن أبطلِ الباطِلِ، هذا وكلُّ أحدٍ يعلَمُ بالحِسِّ قُدرةَ الإنسانِ على كُلِّ فعلٍ يُريدُه، من غيرِ أن ينازِعَه مُنازِعٌ، فجمعوا بين تكذيبِ اللهِ وتكذيبِ رسُلِه، وتكذيبِ الأمورِ العَقليَّةِ والحسِّيَّةِ [429] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 440). !
2- قَولُ الله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ يدُلُّ على أنَّه تعالى كان أبدًا في جميعِ المِلَلِ والأُمَمِ آمِرًا بالإيمانِ، وناهيًا عن الكُفرِ [430] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (20/205). .
3- البعثُ المذكورُ في قَولِه تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ هو البعثُ الدِّينيُّ، ويُقابِلُه: البعثُ الكونيُّ، كما في قَولِه تعالى: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا [431] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (11/269). [الإسراء: 5] .
4- قَولُه تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فيه دلالةٌ على إجماعِ الرُّسُلِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ على الدَّعوةِ إلى التَّوحيدِ؛ وأنَّهم أُرسِلُوا به [432] يُنظر: ((القول المفيد على كتاب التوحيد)) لابن عثيمين (1/30). ، وأنَّه أعظمُ ما دعَوْا إليه مِن أوَّلِهم؛ نوحٍ عليه الصلاةُ والسَّلامُ، إلى آخرِهم؛ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم [433] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (6/150). .
5- قال الله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ لا بُدَّ لتَحقيقِ شهادةِ (أنْ لَا إله إلَّا اللهُ) مِن اجتنابِ الطَّاغوتِ، وهو كلُّ ما عُبِدَ مِن دونِ اللهِ عزَّ وجلَّ، أو تحاكَمَ النَّاسُ إليه مِن دونِ اللهِ [434] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) لابن عثيمين (1/68). .
6- قَولُ الله تعالى: فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فيه أبيَنُ دَليلٍ على أنَّ الهاديَ والمُضِلَّ هو اللهُ تعالى؛ لأنَّه المتصَرِّفُ في عبادِه؛ يهدي من يَشاءُ، ويُضِلُّ مَن يَشاءُ، لا اعتِراضَ عليه فيما حكَمَ به لسابِقِ عِلمِه [435] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (2/230). .
7- قَولُ الله تعالى: إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ فيه ردٌّ على القَدَريَّةِ [436] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص:162). .
8- قَولُ الله تعالى: إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ فيه التَّعريضُ بالثَّناءِ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في حِرصِه على خَيرِهم، مع ما لقِيَه منهم من الأذى الذي شأنُه أن يُثيرَ الحَنَقَ في نَفسِ مَن يَلحَقُه الأذى، ولكِنَّ نفسَ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُطَهَّرةٌ مِن كُلِّ نَقصٍ ينشأُ عن الأخلاقِ الحيوانيَّةِ [437] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/151). .
9- في قَولِه تعالى: إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ بيانُ أنَّ مُجرَّدَ دُعاءِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وتبليغِه وحِرصِه على هدايةِ الخَلقِ؛ أنَّه  ليس بمُوجِبٍ لذلك، وإنَّما يحصُلُ ذلك إذا شاء اللهُ هُداهم، فشَرَح صُدورَهم للإسلامِ [438] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/591). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ
- قولُه: وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا فيه العُدولُ عن الإضمارِ إلى الموصولِ- حيثُ لم يقُلْ: (وقالوا)-؛ لتَقريعِهم بما في حيِّزِ الصِّلةِ، وذَمِّهم بذلك من أوَّلِ الأمرِ [439] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/112). .
- وضَميرُ (نحن) في قولِهم: مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا تأكيدٌ للضَّميرِ المُتَّصلِ في عَبَدْنَا، وإعادةُ حَرفِ النَّفيِ في قولِه تعالى: وَلَا آبَاؤُنَا لتأكيدِ (ما) النَّافيةِ [440] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/148). .
- قولُه: فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ الاستفهامُ بـ (هل) إنكاريٌّ بمعنى النَّفيِ؛ ولذلك جاء الاستثناءُ عَقِبَه [441] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/148). .
- والقصرُ المُستفادُ من النَّفيِ والاستثناءِ (فهل... إلَّا) قَصرٌ إضافيٌّ؛ لقلْبِ اعتقادِ المُشركينَ مِن مُعاملتِهم الرَّسولَ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ للرَّسولِ غرضًا شخصيًّا فيما يَدْعو إليه [442] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/149). .
- وفي قولِه: عَلَى الرُّسُلِ أثْبتَ الحُكمَ لعُمومِ الرُّسلِ عليهم السَّلامُ، وإنْ كان المَردودُ عليهم لم يخطُرْ ببالِهم أمْرُ الرُّسلِ الأوَّلينَ؛ لتكونَ الجُملةُ تذييلًا للمُحاجَّةِ، فتفيدَ ما هو أعمُّ من المَردودِ، والكلامُ مُوجَّهٌ إلى النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ تعليمًا وتَسليةً، ويتضمَّنُ تعريضًا بإبلاغِ المُشركينَ [443] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/149). .
2- قولُه تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ عُطِفَ على جُملةِ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وهو تَكملةٌ لإبطالِ شُبهةِ المُشركينَ؛ إبطالًا بطريقةِ التَّفصيلِ بعدَ الإجمالِ؛ لزيادةِ تَقريرِ الحُجَّةِ؛ فقولُه تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ بيانٌ لمَضمونِ جُملةِ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ، وجُملةُ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ إلى آخرِها بيانٌ لمَضمونِ جُملةِ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [444] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/149). .
- قولُه: فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فيه إسنادُ هِدايةِ بعضِهم إلى اللهِ تعالى، مع أنَّه أمَرَ جميعَهم بالهُدى؛ تَنبيهًا للمُشركينَ على إزالةِ شُبهتِهم في قولِهم: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ بأنَّ اللهَ بيَّنَ لهم الهُدى؛ فاهتداءُ المُهتدينَ بسبَبِ بيانِه، فهو الهادي لهم [445] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/150). .
- والتَّعبيرُ في جانبِ الضَّلالةِ بلفظِ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ دونَ إسنادِ الإضلالِ إلى اللهِ: إشارةٌ إلى أنَّ اللهَ لمَّا نهاهم عن الضَّلالةِ، فقد كان تَصميمُهم عليها إبقاءً لضَلالتِهم السَّابقةِ؛ فحقَّتْ عليهم الضَّلالةُ، أي: ثبَتَتْ ولم ترتفِعْ، وفي ذلك إيماءٌ إلى أنَّ بَقاءَ الضَّلالةِ مِن كَسبِ أنفُسِهم [446] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/150). .
- قولُه: فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ فيه تَرتيبُ الأمرِ بالسَّيرِ على مُجرَّدِ الإخبارِ بثُبوتِ الضَّلالةِ عليهم مِن غيرِ إخبارٍ بحُلولِ العذابِ؛ للإيذانِ بأنَّه غَنِيٌّ عن البَيانِ، وأنْ ليس الخبرُ كالعِيانِ، وتَرتيبُ النَّظرِ على السَّيرِ؛ لأنَّه بعدَه، وأنَّ مِلاكَ الأمرِ في تلك العاقبةِ هو التَّكذيبُ، والتَّعللُ بأنَّه لو شاء اللهُ ما عبَدْنا من دونِه مِن شَيءٍ [447] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/113). .
3- قولُه تعالى: إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ استئنافٌ بَيانيٌّ؛ لأنَّ تَقسيمَ كلِّ أمَّةٍ ضالَّةٍ إلى مُهتدٍ منها، وباقٍ على الضَّلالِ يُثيرُ سُؤالًا في نفْسِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن حالِ هذه الأمَّةِ: أهو جارٍ على حالِ الأُمَمِ الَّتي قبلَها، أو أنَّ اللهَ يَهديهم جميعًا؟ وذلك مِن حرصِه على خيرِهم، ورأفَتِه بهم؛ فأعلَمَه اللهُ أنَّه مع حِرْصِه على هُداهم، فإنَّهم سيَبْقَى منهم فَريقٌ على ضَلالةٍ [448] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/113). .
- والشَّرطُ- إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ- هنا ليس لتَعليقِ حُصولِ مَضمونِ الجوابِ على حُصولِ مَضمونِ الشَّرطِ؛ لأنَّ مَضمونَ الشَّرطِ معلومُ الحُصولِ؛ لأنَّ علاماتِه ظاهرةٌ بحيثُ يعلَمُه النَّاسُ، كما قال تعالى: حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ [التوبة: 128] ، وإنَّما هو لتَعليقِ العلمِ بمَضمونِ الجوابِ على دَوامِ حُصولِ مَضمونِ الشَّرطِ؛ فالمعنى: إنْ كنتَ حريصًا على هُداهم حِرصًا مُستمِرًّا، فاعلَمْ أنَّ مَن أضلَّه اللهُ لا تستطيعُ هَدْيَه، ولا تجِدُ لهَدْيه وسيلةً، ولا يَهْديه أحدٌ؛ فالمُضارعُ تَحْرِصْ مُستعمَلٌ في معنى التَّجدُّدِ لا غيرُ [449] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/151 - 152). .
- قولُه: فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ فيه جَعلُ المُسنَدِ إليه في جُملةِ الإخبارِ عن استمرارِ ضَلالِهم اسمَ الجلالةِ؛ للتَّهويلِ المُشوِّقِ إلى استطلاعِ الخبرِ، والخبرُ هو أنَّ هُداهم لا يحصُلُ إلَّا إذا أراده اللهُ، ولا يستطيعُ أحدٌ تَحصيلَه لا أنتَ ولا غيرُك، فمَن قدَّرَ اللهُ دَوامَ ضَلالِه فلا هادِيَ له، ولولا هذه النُّكتةُ لكان مُقْتضى الظَّاهِرِ أنْ يكونَ المُسنَدُ إليه ضَميرَ المُتحدَّثِ عنهم بأنْ يُقال: (فإنَّهم لا يَهْديهم غيرُ اللهِ) [450] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/151 - 152). ، وإنَّما وُضِعَ الموصولُ (مَنْ) موضِعَ الضَّميرِ في قولِه: فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ؛ للتَّنصيصِ على أنَّهم ممَّن حَقَّت عليه الضَّلالةُ، وللإشعارِ بعِلَّةِ الحُكمِ، ويجوزُ أنْ يكونَ المذكورُ عِلَّةً للجزاءِ المحذوفِ، أي: إنْ تحرِصْ على هُداهم فلسْتَ بقادرٍ على ذلك؛ لأنَّ اللهَ لا يَهْدي مَن يُضِلُّه، وهؤلاء مِن جُملتِهم [451] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/113). .