موسوعة التفسير

سورةُ النَّحلِ
الآيتان (33-34)

ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ

غريب الكلمات:

وَحَاقَ: أي: أحاطَ، ونزَل، وأصلُ (حيق): يدُلُّ على نُزولِ الشَّيءِ بالشَّيءِ [398] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 187)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/125)، ((المفردات)) للراغب (ص: 266)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 93). .

المعنى الإجمالي:

يقول تعالى: ما ينتظِرُ المُشرِكونَ إلَّا أن تأتيَهم الملائِكةُ؛ لِتَقبِضَ أرواحَهم وهم على الكُفرِ، أو يأتيَ أمرُ اللهِ بحَشرِهم يومَ القيامةِ، كذلك أصَرَّ الكافِرونَ مِن قَبلِهم على الكُفرِ، فأتاهم أمرُ اللهِ فهَلَكوا، وما ظَلَمَهم اللهُ، ولكِنَّهم كانوا يَظلِمونَ أنفُسَهم، فاستحَقُّوا عذابَ اللهِ، فأصابَتْهم عُقوبةُ ذُنوبِهم التي عَمِلوها، وأحاط بهم العَذابُ الذي كانوا يَسخَرونَ منه، ومن الرسلِ إذا توعَّدوهم به.

تفسير الآيتين:

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا طعَن القَومُ في القُرآنِ بأن قالوا: إنَّه أساطيرُ الأوَّلينَ، وذكَرَ اللهُ تعالى أنواعَ التَّهديدِ والوعيدِ لهم، ثمَّ أتبَعَه بذِكرِ الوَعدِ لِمَن وصفَ القُرآنَ بكَونِه خَيرًا وصِدقًا وصَوابًا- عاد إلى بيانِ أنَّ أولئك الكُفَّارَ لا يَنزَجِرونَ عن الكُفرِ بسَبَبِ البياناتِ التي ذَكَرناها، بل كانوا لا يَنزَجِرونَ عن تلك الأقوالِ الباطِلةِ إلَّا إذا جاءَتهم الملائِكةُ بالتَّهديدِ، وأتاهم أمرُ رَبِّك، وهو عذابُ الاستِئصالِ [399] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (20/203). .
وأيضًا فلَمَّا أخبَرَ اللهُ تعالى عن أحوالِ الكُفَّارِ السَّائلينَ في نُزولِ الملائكةِ بعدَ أن وهَّى شُبَهَهم، وأخبَرَ عن تَوفِّي الملائِكةِ لهم ولأضدادِهم المُؤمِنينَ، مُشيرًا بذلك إلى أنَّ سُنَّتَه جَرَت بأنَّهم لا يَنزِلونَ إلَّا لإنزالِ الرُّوحِ مِن أمْرِه على مَن يختَصُّه لذلك، أو لأمرٍ فَيصلٍ لا مُهلةَ فيه- قال مُنكِرًا عليهم [400] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/149). :
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ.
أي: هل يَنتَظِرُ هؤلاء المُشرِكونَ- المُتقاعِسونَ عن الإيمانِ بالرُّسُلِ فيما أنزلَ إليهم ربُّهم- إلَّا أن تأتيَهم الملائِكةُ لِقَبضِ أرواحِهم وهم ظالِمونَ لأنفُسِهم [401] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/214)، ((تفسير القرطبي)) (10/102)، ((تفسير ابن كثير)) (4/569)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/149)، ((تفسير السعدي)) (ص: 439). ؟
أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ.
أي: أو يأتي أمرُ اللهِ بحَشرِهم يومَ القيامةِ [402] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/214)، ((تفسير ابن كثير)) (4/569). وممن قال بهذا المعنى: ابنُ جريرٍ، وابنُ كثير. يُنظر: المصدران السابقان. وقيل: المعنى: أو يأتيَ أمرُ الله بعذابهم في الدُّنيا. وممن قال بذلك: مقاتلُ بنُ سليمان، والواحدي، والرازي، والقرطبي، وأبو السعود، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (2/468)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 605)، ((تفسير الرازي)) (20/203)، ((تفسير القرطبي)) (10/102)، ((تفسير أبي السعود)) (5/111)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/145). .
كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ.
أي: كما يفعَلُ هؤلاءِ المُشرِكونَ فعَل أسلافُهم الكفرةُ ذلك أيضًا، فأصرُّوا على كفرِهم، وتَمادَوا في شركِهم إلى أن هلكوا [403] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/214)، ((تفسير القرطبي)) (10/102)، ((تفسير ابن كثير)) (4/569)، ((تفسير السعدي)) (ص: 439). وقال ابن جرير: (يقولُ جلَّ ثناؤُه: كما يفعلُ هؤلاء مِن انتظارِهم ملائكةَ اللَّهِ لقبضِ أرواحِهم، أو إتيانِ أمرِ اللَّهِ فَعَلَ أسلافُهم مِنَ الكفرَةِ باللَّهِ؛ لأنَّ ذلك في كُلِّ مشرِكٍ باللَّهِ). ((تفسير ابن جرير)) (14/214). .
وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ.
أي: وما ظلَمَ اللهُ الكافرينَ بعدَ أن أقامَ عليهم الحُجَّةَ بإرسالِ الرُّسُلِ، وإنزالِ الكتُبِ، ولكِنْ كانوا يَظلِمونَ أنفُسَهم بالكُفرِ والمعاصي، ومُخالَفةِ الرُّسُلِ، فاستحَقُّوا عذابَ اللهِ [404] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/214)، ((تفسير القرطبي)) (10/102)، ((تفسير ابن كثير)) (4/569). .
فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34).
فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا.
أي: فأصاب أولئك الكافرينَ مِن الأُمَمِ الماضيةِ- الذين فَعَلوا فِعلَ مُشرِكي قُرَيشٍ- عُقوباتُ كُفرِهم، وأعمالِهم السَّيِّئةِ التي اكتَسَبوها [405] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/215)، ((تفسير القرطبي)) (10/103)، ((تفسير السعدي)) (ص: 439)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/146). .
وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ.
أي: ونزَل وأحاطَ بالكافرينَ عذابُ اللهِ الذي كانوا يَسخَرونَ منه، ومِن الرُّسُلِ إذا توعَّدوهم به [406] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/215)، ((تفسير القرطبي)) (10/103)، ((تفسير ابن كثير)) (4/569)، ((تفسير السعدي)) (ص: 439)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/147). .

الفوائد العلمية واللطائف:

قال الله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ القَومُ لم ينتَظِروا هذه الأشياءَ؛ لأنَّهم ما آمَنوا بها، ولكِنَّ امتِناعَهم عن الإيمانِ أوجبَ عليهم العذابَ، فأُضيفَ ذلك إليهم، أي: عاقِبَتُهم العذابُ [407] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (10/102). .

بلاغة الآيتين:

1- قولُه تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
- قولُه: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ استئنافٌ بَيانيٌّ ناشئٌ عن جُملةِ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، والاستفهامُ إنكاريٌّ في معنى النَّفيِ؛ ولذلك جاء بعدَه الاستثناءُ. ويَنْظُرُونَ هنا بمعنى الانتظارِ، وهو النَّظِرَةُ، والكلامُ مُوَجَّهٌ إلى النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ تذكيرًا بتَحقيقِ الوعيدِ، وعدَمِ استبطائِه، وتعريضًا بالمُشركينَ بالتَّحذيرِ من اغتِرارِهم بتأخُّرِ الوعيدِ، وحَثًّا لهم على المُبادرةِ بالإيمانِ، وهذا قَريبٌ من تأكيدِ الشَّيءِ بما يُشْبِهُ ضِدَّه، وما هو بذلك [408] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/145). .
- وإسنادُ الانتظارِ المذكورِ إليهم جارٍ على خِلافِ مُقْتضَى الظَّاهِرِ بتَنزيلِهم منزلةَ مَن ينتظِرُ أحدَ الأمرينِ؛ لأنَّ حالَهم من الإعراضِ عن الوعيدِ، وعدَمِ التَّفكُّرِ في دَلائلِ صِدْقِ الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، مع ظُهورِ تلك الدَّلائلِ، وإفادتِها التَّحقُّقَ- كحالِ مَن أيقَنَ حُلولَ أحدِ الأمرينِ به، فهو يترقَّبُ أحدَهما [409] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/145). .
- وجُملةُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ مُعترِضةٌ بينَ جُملةِ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وجُملةِ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا؛ ووَجْهُ هذا الاعتراضِ: أنَّ التَّعرُّضَ إلى ما فعَلَه الَّذين مِن قبلِهم يُشيرُ إلى ما كان مِن عاقبتِهم، وهو استئصالُهم، فعُقِّبَ بقولِه تعالى: وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ، أي: فيما أصابَهم، ولمَّا كان هذا الاعتراضُ مُشتمِلًا على أنَّهم ظَلموا أنفُسَهم، صار تَفريعُ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا عليه أو على ما قبلَه، وهو أسلوبٌ مِن نَظْمِ الكلامِ عزيزٌ. وتَقديرُ أصلِه: كذلك فعَلَ الَّذين من قبلِهم وظَلموا أنفُسَهم، فأصابَهم سَيِّئاتُ ما عَمِلوا، وما ظَلَمهم اللهُ؛ ففي تَغييرِ الأُسلوبِ المُتعارفِ تَشويقٌ إلى الخبرِ، وتَهويلٌ له بأنَّه ظُلْمُ أنفُسِهم، وأنَّ اللهَ لم يظلِمْهم، فيترَقَّبُ السَّامعُ خبرًا مُفظِعًا، وهو: فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا [410] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/146). .
- قولُه: وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ كان الظَّاهرُ أنْ يُقال: وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ كما في سُورةِ الزُّخرفِ (آية: 76)، لكنَّه أُوثِرَ هنا ما عليه النَّظمُ الكريمُ؛ لإفادةِ أنَّ غائِلةَ ظُلْمِهم آيلةٌ إليهم، وعاقِبَتَه مَقصورةٌ عليهم، مع استلزامِ اقتصارِ ظُلْمِ كلِّ أحدٍ على نفسِه مِن حيثُ الوقوعُ اقتصارَه عليه من حيث الصُّدورُ [411] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/111). .
2- قوله تعالى: فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ
- قولُه: فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ فيه مُناسَبةٌ حَسنةٌ، حيث قال هنا وفي الجاثيةِ: مَا عَمِلُوا [الجاثية: 33] ، أمَّا في سُورةِ الزُّمرِ فقال: مَا كَسَبُوا [الزمر: 51] ؛ مُوافقةً لِمَا قبلَ كلٍّ منها، أو بعدَ، أو قبلَه وبعدَه؛ إذْما هنا قبلَه: مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ [النحل: 28] وتَعْمَلُونَ مرَّتينِ، وقبلَ ما في الجاثيةِ: مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية: 28] وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [الجاثية: 30] ، وبعدَه سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا [الجاثية: 33] ، وقبلَ ما في الزُّمرِ وَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ [الزمر: 24] وبعدَه: فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [412] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 304-305). ويُنظر كذلك: ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 159)، ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (2/298). [الزمر: 50] .
-  فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وإصابةُ السَّيِّئاتِ إمَّا بتَقديرِ مُضافٍ، أي: أصابهم جزاؤُها، أو جُعِلَت أعمالُهم السَّيِّئةُ كأنَّها هي الَّتي أصابَتْهم؛ لأنَّها سبَبُ ما أصابَهم [413] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/146). .
- قولُه: وَحَاقَ بِهِمْ، أي: أحاط بهم، مِن: الحَيْقِ الَّذي هو إحاطةُ الشَّرِّ، وهو أبلغُ مِن الإصابةِ، وأفظَعُ [414] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/111). .