موسوعة التفسير

سُورةُ الجاثيةِ
الآيات (27-30)

ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ

غَريبُ الكَلِماتِ:

السَّاعَةُ: أي: يومُ القِيامةِ، والسَّاعةُ هي الوقتُ القَليلُ والجُزءُ مِن أجزاءِ الزَّمانِ، ويُعبَّرُ بها عن القِيامةِ؛ تَشبيهًا بذلك لسُرعةِ الحسابِ فيها، وأصْلُ (سوع): يدُلُّ على استِمرارِ الشَّيءِ ومُضِيِّه [348] يُنظر: ((تفسير الطبري)) (18/468)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/116)، ((المفردات)) للراغب (ص: 434). .
الْمُبْطِلُونَ: أي: المكَذِّبون الكافِرونَ أصحابُ الأباطيلِ، وأصلُ (بطل): يدُلُّ على ذَهابِ الشَّيءِ، وقِلَّةِ مُكثِه [349] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/258)، ((البسيط)) للواحدي (20/151)، ((المفردات)) للراغب (ص: 129- 130)، ((تفسير ابن كثير)) (7/270). .
جَاثِيَةً: أي: باركةً على الرُّكَبِ، وهي جِلسةُ المخاصَمِ بيْنَ يَدَيِ الحاكِمِ يَنتَظِرُ القضاءَ [350] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 405)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 177)، ((تفسير البغوي)) (7/246)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 351). .
نَسْتَنْسِخُ: أي: نَكتُبُ ونُثبِتُ، والنَّسخُ: إزالةُ شَيءٍ بشَيءٍ يتَعَقَّبُه، وتارةً يُفهَمُ منه الإزالةُ، وتارةً يُفهَمُ منه الإثباتُ، وتارًة يُفهَمُ منه الأمرانِ [351] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 406)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 467)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/424)، ((المفردات)) للراغب (ص: 801)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 351)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 377). .

المعنى الإجماليُّ:

يَقولُ اللهُ تعالَى مُذكِّرًا بأهوالِ يومِ القِيامةِ: وللهِ وَحْدَه مُلكُ السَّمَواتِ والأرضِ، ويَومَ تقومُ القِيامةُ يَخسَرُ الكافِرونَ أصحابُ الأباطيلِ، فيَصيرونَ إلى النَّار! وتَرى -يا محمَّدُ- كُلَّ أهلِ مِلَّةٍ في ذلك اليَومِ جالِسينَ على رُكَبِهم، مُنتَظِرينَ فَصْلَ اللهِ تعالَى بيْنَهم، كلُّ مِلَّةٍ تُدعَى إلى كتابِ أعمالِها، ويُقالُ لهم: اليومَ تَنالُونَ جَزاءَ أعمالِكم، هذا كِتابُنا يَشهَدُ عليكم بما عَمِلتُموه دونَ زيادةٍ أو نُقصانٍ، إنَّا كُنَّا نَأمُرُ الملائِكةَ أنْ تَكتُبَ أعمالَكم، فأمَّا الَّذين آمَنوا وعَمِلوا الأعمالَ الصَّالحةَ فيُدخِلُهم رَبُّهم في جَنَّتِه، وذلك هو الفَوزُ الظَّاهِرُ.

تَفسيرُ الآياتِ:

وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالَى لَمَّا احتَجَّ بكَونِه قادِرًا على الإحياءِ في المرَّةِ الأُولَى، وعلى كَونِه قادِرًا على الإحياءِ في المرَّةِ الثَّانيةِ في الآياتِ المتقَدِّمةِ؛ عَمَّمَ الدَّليلَ فقال: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، أي: للهِ القُدرةُ على جَميعِ المُمكِناتِ، سَواءٌ كانتْ مِنَ السَّمواتِ أو مِنَ الأرضِ، وإذا ثَبَت كَونُه تعالَى قادِرًا على كُلِّ المُمكِناتِ، وثَبَت أنَّ حُصولَ الحياةِ في هذه الذَّاتِ مُمكِنٌ؛ إذ لو لم يكُنْ مُمكِنًا لَمَا حَصَل في المرَّةِ الأُولى، فيَلزَمُ مِن هاتَينِ المقَدِّمَتينِ كَونُه تعالَى قادِرًا على الإحياءِ في المرَّةِ الثَّانيةِ [352] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/680). .
وأيضًا لَمَّا دَلَّ اللهُ تعالَى على قُدرتِه على الإعادةِ بهذا الدَّليلِ الخاصِّ الذي تَقديرُه: فاللهُ الَّذي ابتَدأَ خَلْقَكم مِنَ الأرضِ على هذا الوَجهِ قادِرٌ على إعادتِكم؛ عَطَف عليه دَليلًا آخَرَ جامِعًا، فقال: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، ومَن تَصَرَّفَ في مُلكِه بشَيءٍ مِن الأشياءِ كان قادِرًا على مِثْلِه ما دامَ مَلِكًا [353] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/103). .
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.
أي: وللهِ وَحْدَه مُلكُ جَميعِ السَّمَواتِ والأرضِ؛ فهو خالِقُهما والمتصَرِّفُ فيهما دونَ الدَّهرِ وغيرِه مِمَّا يَزعُمُ المُشِركونَ أنَّ له تصَرُّفًا في الكَونِ [354] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/100)، ((تفسير القرطبي)) (16/173)، ((تفسير ابن كثير)) (7/270)، ((تفسير السعدي)) (ص: 778)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/366). !
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا بَيَّنَ اللهُ تعالَى إمكانَ القَولِ بالحَشرِ والنَّشرِ؛ ذكَرَ تفاصيلَ أحوالِ القِيامةِ؛ فأوَّلُها: قَولُه تعالَى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ [355] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/680). ، ولَمَّا جَرَى ذِكرُ يَومِ القِيامةِ أُعقِبَ بإنذارِ الذين أنكَروه مِن سُوءِ عاقِبتِهم فيه [356] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/366). ، فقال:
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ.
أي: ويَومَ تَجيءُ القِيامةُ يَخسَرُ الكافِرونَ أصحابُ الأباطيلِ، فيَصيرونَ إلى النَّارِ [357] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/100)، ((الوسيط)) للواحدي (4/100)، ((تفسير القرطبي)) (16/174)، ((تفسير البيضاوي)) (5/109)، ((تفسير السعدي)) (ص: 778)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/366)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/395). ممَّن قال في الجُملةِ بأنَّ المُبطِلينَ هم: الآتونَ بالباطِلِ في مُعتقداتِهم وأقوالِهم وأعمالِهم: ابنُ جرير، والقاسمي، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/100)، ((تفسير القاسمي)) (8/433)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/366). قال الواحديُّ: (قوله تعالى: يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ قال مقاتلٌ والكلْبيُّ: يعني: المكذِّبينَ الكافرينَ، والمبْطِلونَ أصحابُ الأباطيلِ). ((البسيط)) (20/151). ويُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/841). وقال البقاعي: (الْمُبْطِلُونَ أي: الداخلونَ في الباطلِ، العريقونَ في الاتِّصافِ به). ((نظم الدرر)) (18/104). وقال السعديُّ: (يحصُلُ الخَسارُ على المُبطِلين الذين أتَوا بالباطِلِ لِيُدحِضوا به الحَقَّ، وكانت أعمالُهم باطلةً؛ لأنَّها مُتعَلِّقةٌ بالباطِلِ، فبَطَلت في يومِ القيامةِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 778). .
كما قال تعالَى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [يونس: 45] .
وقال سُبحانَه: فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ [غافر: 78] .
وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28).
وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً.
أي: وتَرى في ذلك اليَومِ -يا محمَّدُ- أهلَ كُلِّ مِلَّةٍ جالِسينَ على رُكَبِهم، مُنتَظِرينَ قَضاءَ اللهِ تعالَى وحُكمَه عليهم [358] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/101)، ((الوسيط)) للواحدي (4/100)، ((تفسير القرطبي)) (16/174)، ((تفسير ابن كثير)) (7/271)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/104)، ((تفسير السعدي)) (ص: 778)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/367). قال الشَّوكاني: (وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً الخِطابُ لِكُلِّ مَن يَصْلُحُ له، أو للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم). ((تفسير الشوكاني)) (5/12). وقال أيضًا: (ومعنى جَاثِيَةً: مُستَوفِزةً، والمُستَوفِزُ: الذي لا يُصيبُ الأرضَ منه إلَّا رُكبَتاه وأطرافُ أنامِلِه، وذلك عند الحِسابِ. وقيل: معْنى جَاثِيَةً: مُجتَمِعةً، قال الفَرَّاءُ: المعنى: وتَرى أهلَ كُلِّ ذِي دِينٍ مُجتَمِعينَ. وقال عِكرمةُ: مُتمَيِّزةٌ عن غَيرِها. وقال مُؤرِّجٌ: معناه بلُغةِ قُرَيشٍ: خاضِعةٌ. وقال الحَسَنُ: بارِكةٌ على الرُّكَبِ). ((تفسير الشوكاني)) (5/13). ويُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/48). وقال ابنُ عاشور: (الجاثي: هو البارِكُ المُستَوفِزُ، وهو هَيئةُ الخُضوعِ). ((تفسير ابن عاشور)) (25/367). وقال الشَّوكاني: (وظاهِرُ الآيةِ أنَّ هذه الصِّفةَ تكونُ لكُلِّ أمَّةٍ مِن الأُمَمِ مِن غَيرِ فَرقٍ بيْنَ أهلِ الأديانِ المتَّبِعينَ للرُّسُلِ، وغَيرِهم مِن أهلِ الشِّركِ. وقال يَحيى بنُ سلامٍ: هو خاصٌّ بالكُفَّارِ. والأوَّلُ أَولى). ((تفسير الشوكاني)) (5/13). ويُنظر: ((تفسير الماوردي)) (5/267). .
كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا.
أي: كلُّ أهلِ مِلَّةٍ تُدعَى يومَ القِيامةِ إلى صَحائِفِ أعمالِها التي كتبَتْها الملائِكةُ [359] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/101)، ((الوسيط)) للواحدي (4/100)، ((تفسير السمعاني)) (5/144)، ((تفسير ابن كثير)) (7/271)، ((تفسير الشوكاني)) (5/13)، ((تفسير السعدي)) (ص: 778)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/367). وممَّن ذهَب إلى أنَّ معنى كِتَابِهَا: كتابُ أعمالِها: ابنُ جرير، والواحديُّ، والزمخشريُّ، وابنُ جُزَي، وابنُ كثير، والعُليميُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/101)، ((الوسيط)) للواحدي (4/100)، ((تفسير الزمخشري)) (4/293)، ((تفسير ابن جزي)) (2/273)، ((تفسير ابن كثير)) (7/271)، ((تفسير العليمي)) (6/274). وقيل: المعنى: إلى الكتابِ المنزَّلِ عليها، كالقُرآنِ والتَّوراةِ والإنجيلِ. وممَّن رجَّح هذا المعنى: الشَّوكاني، واستظْهَره ابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (5/13)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/367). ويُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 778). قال ابن عاشور: (فمعنى تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا: تُدعَى لِتُعرَضَ أعمالُها على ما أُمِرَتْ به في كِتابِها). ((تفسير ابن عاشور)) (25/367). وممَّن جمَع بيْن القولينِ: البقاعيُّ، فقال: (تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا أي: الذي أُنزِلَ إليها وتعَبَّدَها اللهُ به، والذي نسَخَتْه الحفَظةُ مِن أعمالِها؛ لِيُطابَقَ أحدُهما بالآخَرِ، فمَن وافَق كِتابُه ما أُمِرَ به من كتابِ رَبِّه نجا، ومَن خالَفَه هَلَك). ((نظم الدرر)) (18/105)، ويُنظر: ((تفسير السعدي)) (778). .
كما قال تعالَى: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء: 13، 14].
وقال سُبحانَه: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا [الإسراء: 71].
الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
أي: يُقالُ للأُمَمِ يومَ القِيامةِ: اليومَ تَنالُونَ جَزاءَ ما كنتُم تَعمَلونَه في الدُّنيا مِن خَيرٍ أو شَرٍّ [360] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/103)، ((تفسير ابن عطية)) (5/89)، ((تفسير القرطبي)) (16/175)، ((تفسير ابن كثير)) (7/271)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/368). .
هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29).
هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ.
أي: يُقالُ للأُمَمِ يومَ القِيامةِ: هذا كِتابُنا يَشهَدُ عليكم بجَميعِ أعمالِكم التي كتَبَتْها الملائِكةُ، فيُبَيِّنُها بما هو مُوافِقٌ للحَقيقةِ والواقِعِ دونَ زِيادةٍ أو نُقصانٍ [361] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/103)، ((الوسيط)) للواحدي (4/100)، ((تفسير القرطبي)) (16/175)، ((تفسير ابن كثير)) (7/271). قال ابنُ القيِّم: (قولُه: هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ والمرادُ: جميعُ الكُتُبِ التي أُحصِيَت فيها أعمالُهم). ((بدائع الفوائد)) (4/2). .
كما قال تعالَى: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف: 49] .
وقال سُبحانَه: وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [المؤمنون: 62] .
إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
أي: إنَّا كُنَّا نَأمُرُ الملائِكةَ أنْ تَكتُبَ ما كنتُم تَعمَلونَه في الدُّنيا مِن خَيرٍ أو شَرٍّ [362] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/103)، ((الوسيط)) للواحدي (4/100)، ((تفسير الزمخشري)) (4/293)، ((تفسير القرطبي)) (16/175)، ((تفسير ابن كثير)) (7/271)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/106). قال السَّمعاني: (وقَولُه: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فيه أقوالٌ: أحَدُها: نَستَكتِبُ ما كُنتُم تَعمَلونَ، أي: نأمُرُ الكَتَبةَ أن يَكتُبوا ويَحفَظوا أعمالَكم. والقَولُ الثَّاني: نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي: نأخُذُ نُسخةً مِمَّا كَتَبَت الملائِكةُ عليكم. والقَولُ الثَّالِثُ: وهو المعروفُ، وهو مرويٌّ عن ابنِ عَبَّاسٍ، قال: يأمُرُ اللهُ تعالَى الملائكةَ بأنْ يأخُذوا نُسخةً مِن اللَّوحِ المحفوظِ على ما يَعمَلُه العَبدُ في يومِه ولَيلتِه، ثمَّ يَكتُبونَ ما عَمِلَه العَبدُ، ثمَّ يُقابِلونَ ما كَتَبوا على العَبدِ بما نَسَخوا مِنَ اللَّوحِ المحفوظِ، فيكونانِ سَواءً لا زِيادةَ ولا نُقصانَ فيه، قال ابنُ عباسٍ: انظُروا هل يكونُ الاستِنساخُ إلَّا مِن أصلٍ؟!). ((تفسير السمعاني)) (5/145). ممَّن اختار في الجُملةِ أنَّ المعنى: إنَّا كنَّا نَستكتِبُ الحفظةَ أعمالَكم، ونَأمرُ الملائكةَ بنسْخِها، أي: بكَتْبِها، وإثْباتِها عليكم: ابنُ جرير، والواحديُّ، وابنُ الجوْزي، والرازيُّ، وابنُ جُزَي، والخازنُ، وابنُ كثير، والشوكانيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/104)، ((الوسيط)) للواحدي (4/100)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/100)، ((تفسير الرازي)) (27/681)، ((تفسير ابن جزي)) (2/273)، ((تفسير الخازن)) (4/125)، ((تفسير ابن كثير)) (7/271)، ((تفسير الشوكاني)) (5/13). قال ابنُ القيِّم: (أكثَرُ المُفَسِّرين على أنَّ هذا الاستِنساخَ من اللَّوحِ المحفوظِ، فتَستنسِخُ الملائكةُ ما يكونُ مِن أعمالِ بَني آدمَ قبْل أن يَعمَلوها، فيَجِدونَ ذلك مُوافِقًا لِما يَعمَلونَه، فيُثبِتُ اللهُ تعالى منه ما فيه ثَوابٌ أو عقابٌ، ويَطرَحُ منه اللَّغوَ). ((شفاء العليل)) (ص: 24). ويُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/100)، ((تفسير السمعاني)) (5/145). وقال ابنُ القيِّم أيضًا: (قال عطاءٌ عن ابنِ عَبَّاسٍ في قَولِه تعالى: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ قال: كَتَب اللهُ أعمالَ بني آدمَ وما هم عامِلون إلى يومِ القيامةِ. قال: والملائِكةُ تَستنسِخُ ما يَعمَلُ بنو آدَمَ يومًا بيومٍ، فذلك قَولُه تعالى: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. وفي الآيةِ قولٌ آخَرُ: أنَّ استِنساخَ الملائكةِ هو كِتابتُهم لِما يَعمَلُ بنو آدمَ بعْدَ أنْ يَعمَلوه، وقد يُقالُ -وهو الأظهَرُ-: إنَّ الآيةَ تَعُمُّ الأمرينِ؛ فيَأمُرُ اللهُ ملائكتَه فتَستنسِخُ مِن أُمِّ الكتابِ أعمالَ بني آدمَ، ثمَّ يَكتُبونَها عليهم إذا عَمِلوها، فلا تَزيدُ على ما نَسَخوه مِن أمِّ الكتابِ ذَرَّةً ولا تُنقَصُها). ((طريق الهجرتين)) (ص: 66). وقال ابن عاشور: (يجوزُ أن يكونَ السِّين والتَّاء في نَسْتَنْسِخُ للمُبالغةِ في الفِعلِ، مثلُ استجابَ. ويجوزُ أن يكونَ السِّين والتَّاء للطَّلبِ والتَّكليفِ، أي: نُكَلِّفُ الملائكةَ نَسْخَ أعمالِكم، وعلى هذا المحمَلِ حَمَل المُفَسِّرون السينَ والتاءَ هنا، أي: للطَّلَبِ، ثمَّ يجوزُ أن يكونَ النَّسخُ على معنى نَقلِ كِتابةٍ عن كتابةٍ سابقةٍ... ويجوزُ أن يكونَ النَّسخُ بمعنى كتابةِ ما تعمَلُه النَّاسُ دونَ نَقلٍ عن أصلٍ، والمعنى: إنَّا كنَّا نَكتُبُ أعمالَكم). ((تفسير ابن عاشور)) (25/370). .
فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
بعْدَ أنْ ذَكَر الله تعالى أهوالَ العَرضِ والحِسابِ، وأنَّ أعمالَ كُلِّ أُمَّةٍ تُعرَضُ عليها؛ فصَّلَ سُبحانَه حالَيِ السُّعَداءِ والأشقياءِ، وبدَأ بالسُّعَداءِ الَّذين آمَنوا وعَمِلوا الصَّالِحاتِ، وأنَّه يُدخِلُهم جنَّاتِ النَّعيمِ [363] يُنظر: ((تفسير المراغي)) (25/164، 165). ، فقال:
فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ.
أي: فأمَّا الَّذين آمَنوا باللهِ تعالى وبكلِّ بما يجِبُ عليهم الإيمانُ به، وعَمِلوا الأعمالَ الصَّالحةَ الخالِصةَ الموافِقةَ لِشَرعِه: فيُدخِلُهم رَبُّهم في جَنَّتِه [364] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/105)، ((تفسير القرطبي)) (16/176)، ((تفسير ابن كثير)) (7/272)، ((تفسير السعدي)) (ص: 778). .
عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((تحاجَّتِ الجنَّةُ والنَّارُ؛ فقالت النَّارُ: أُوثِرتُ بالمتكَبِّرينَ والمتجَبِّرينَ! وقالت الجنَّةُ: ما لي لا يَدخُلُني إلَّا ضُعَفاءُ النَّاسِ وسَقَطُهم [365] وسَقَطُهم: أي: أردَؤُهم وأكثَرُهم خُمولًا، وأقلُّهم اعِتبارًا، المُحقَّرونَ فيما بيْنهم، السَّاقِطونَ عن أعيُنِهم. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (9/3628). ؟! قال اللهُ تَبارك وتعالَى للجنَّةِ: أنتِ رَحْمتي أرحَمُ بكِ مَن أشاءُ مِن عِبادي. وقال للنَّارِ: إنَّما أنتِ عَذابي أعَذِّبُ بكِ مَن أشاءُ مِن عِبادي، ولكُلِّ واحِدةٍ منهما مِلؤُها؛ فأمَّا النَّارُ فلا تَمتلِئُ حتى يَضَعَ رِجْلَه، فتقولُ: قَطْ قَطْ [366] قَطْ: حَسْبي، أي: يَكْفيني هذا. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (17/182). ، فهنالك تَمتَلِئُ ويُزوَى [367] ويُزْوَى: أي: يُضمُّ بعضُها إلى بعضٍ فتجتمِعُ وتَلْتقي على مَن فيها. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (17/182). بعضُها إلى بعضٍ، ولا يَظلِمُ اللهُ عزَّ وجَلَّ مِن خَلْقِه أحدًا، وأمَّا الجنَّةُ فإنَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ يُنشِئُ لها خَلْقًا )) [368] رواه البخاري (4850) واللفظ له، ومسلم (2846). .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((لنْ يُدخِلَ أحدًا منكم عَمَلُه الجنَّةَ. قالوا: ولا أنتَ يا رسولَ اللهِ؟! قال: ولا أنا إلَّا أنْ يَتغَمَّدَني اللهُ منه بفَضلٍ ورَحمةٍ )) [369] رواه البخاري (5673)، ومسلم (2816) واللفظ له. .
ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ.
أي: دُخولُ المُؤمِنينَ الجنَّةَ يومَ القِيامةِ هو الفَوزُ البَيِّنُ الظَّاهِرُ [370] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/106)، ((تفسير ابن كثير)) (7/272)، ((تفسير السعدي)) (ص: 778). .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- قَولُه تعالَى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ قال ابنُ أبي حاتمٍ: (قَدِمَ سُفيانُ الثَّوريُّ المدينةَ، فسَمِعَ المَعافِريَّ يَتكَلَّمُ ببَعضِ ما يُضحِكُ به النَّاسَ! فقال له: يا شَيخُ، أمَا عَلِمتَ أنَّ للهِ يومًا يَخسَرُ فيه المُبطِلونَ؟! قال: فما زالت تُعرَفُ في المعافِريِّ حتى لحِقَ باللهِ عزَّ وجَلَّ) [371] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/270). !
2- قَولُ اللهِ تعالَى: وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَصَف تعالَى شِدَّةَ يومِ القِيامةِ وهَوْلَه؛ لِيَحذَرَه العِبادُ، ويَستَعِدُّوا له [372] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:778). ، حيث يَصيرُ النَّاسُ على الرُّكَبِ جُثاةً، في هيْئةِ المذنْبِ الخائفِ المُعَظِّمِ [373] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/88)، ((تفسير أبي السعود)) (8/74). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- في قَولِه تعالَى: وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا أنَّ كُلَّ أُمَّةٍ تكونُ وَحْدَها يوْمَ القِيامةِ [374] يُنظر: ((القول المفيد على كتاب التوحيد)) لابن عثيمين (1/109). .
2- قَولُ اللهِ تعالَى: وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فيه سُؤالٌ: الجُثُوُّ على الرُّكبةِ إنَّما يَليقُ بالخائِفِ، والمُؤمِنونَ لا خَوفٌ عليهم يومَ القِيامةِ؟
الجَوابُ: أنَّ المُحِقَّ الآمِنَ قد يُشارِكُ المُبطِلَ في مِثلِ هذه الحالةِ إلى أنْ يَظهَرَ كَونُه مُحِقًّا [375] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/680). .
3- في قَولِه تعالَى: هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ حُجَّةٌ على المعتزلةِ والقَدَرِيَّةِ -المُنكِرِينَ للكِتابةِ السَّابقةِ لأعمالِ العِبادِ-؛ إذِ النَّسخُ لا يكونُ إلَّا ممَّا قدْ فُرِغ منه مَرَّةً، ولو كانتْ كِتابةَ ابتداءٍ: كان -واللهُ أعلمُ- (إنَّا كُنَّا نَكتُبُ ما كنتُم تعملونَ) [376] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/142). ، وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ.
4- قَولُه تعالَى: فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ * وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ إلى آخِرِ القِصَّةِ؛ فيه حُجَّةٌ على المُعتَزلةِ والقَدَريَّةِ في بابِ الوَعيدِ، حيثُ زعَموا أنَّ اللهَ -في القُرآنِ كلِّه- لم يُوجِبِ الرَّحمةَ والفوزَ والجنَّةَ إلَّا لِمَن لم يَعْصِه طَرْفةَ عَينٍ، أو عصاهُ فمات تائِبًا. ووَجْهُ ذلك: أنَّه قال في أوَّلِ القِصَّةِ: وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا، ثمَّ أخبَرَ بمَثْوَى كلِّ فريقٍ ومُجازاتِه، فقال: فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ولم يَقُلْ: «ولم يُذنِبوا». والمؤمنُ إذا صلَّى وصامَ وتَوضَّأَ واغتَسلَ مِن الجَنابةِ؛ فقدْ عَمِلَ الصَّالحاتِ، ولا تَرى مُؤمِنًا -وإنْ أذنَبَ- إلَّا وقدْ فَعَلَ كُلَّ هذا وزِيادةً، وقال في الفِرقةِ الأُخرى: وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا [الجاثية: 31] ، فحَقَّ الوَعيدُ عليهم بتَعريتِهم مِن الإيمانِ، فمَن أوجَبَ اللهُ له الفَوزَ، ووعَدَه الإدخالَ في رَحمتِه؛ فقدْ أمِنَ مَثوَى الآخَرينَ وجَزاءَهم [377] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/142). .
- قال تعالَى: فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ * وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فذكَر الله تعالى حالَ الطَّائفتينِ مِن المؤمنينَ والكافِرينَ، وقرَن بينَهم في الذِّكرِ؛ ليَبينَ الأمرُ في نفسِ السَّامعِ؛ فإنَّ الأشياءَ تتبيَّنُ بذكرِ أضدادِها [378] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/89). .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قولُه تعالَى: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ
- قولُه: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كَلامٌ مُستأنَفٌ مَسوقٌ لِتَعميمِ القُدْرةِ بعْدَ تَخصيصِها بالإحياءِ والإماتةِ والجمْعِ؛ لأنَّ معنى المالِكِ: أنْ يَتصرَّفَ بما يَملِكُ كما يَشاءُ [379] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/109)، ((تفسير أبي السعود)) (8/74)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/158). . أو هو اعْتِراضُ تَذييلٍ لِقَولِه: قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ [الجاثية: 26] ، أي: للهِ لا لِغَيرِه مُلْكُ السَّمواتِ والأرْضِ، أي: فهو المُتصرِّفُ في أحوالِ ما حَوَتْه السَّمواتُ والأرضُ؛ مِن إحياءٍ وإماتةٍ، وغيرِ ذلك بما أوجَدَ مِن أُصولِها وما قدَّرَ مِن أسْبابِها ووَسائلِها؛ فليْس للدَّهرِ تَصرُّفٌ، ولا لِمَا سِوى اللهِ تعالَى [380] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/366). .
- وتَقديمُ المَجرورِ وَلِلَّهِ على المُسنَدِ إليه مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لإفادةِ التَّخصيصِ؛ لِرَدِّ مُعتقَدِ الكافرينَ مِن خُروجِ تَصرُّفِ غَيرِه في بَعضِ ما في السَّمواتِ والأرضِ، كقولِهم في الدَّهرِ [381] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/366). .
- وقولُه: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ ظَرفٌ مُتعلِّقٌ بـ يَخْسَرُ، وقُدِّمَ عليه للاهتِمامِ به، واسْتِرعاءِ الأسماعِ لِمَا يَرِدُ مِن وَصْفِ أحوالِه [382] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/366). .
- وقولُه: يَوْمَئِذٍ تَوكيدٌ لـ (يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ)، وتَنوينُه عِوَضٌ عن المُضافِ إليه المَحذوفِ؛ لِدَلالةِ ما أُضِيفَ إليه (يَوم) عليه، أي: يَومَ إذ تَقومُ السَّاعةُ يَخسَرُ المُبطِلون؛ فالتَّأكيدُ لِتَحقيقِ مَضمونِ الخبَرِ، ولِتَهويلِ ذلك اليومِ [383] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/366). .
2- قولُه تعالَى: وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
- قولُه: كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا اسْتِئنافٌ بَيانيٌّ؛ لأنَّ جُثُوَّ الأُمَّةِ يُثِيرُ سُؤالَ سائلٍ عمَّا بعْدَ ذلك الجُثُوِّ [384] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/368). .
- قولُه: كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا، أي: إلى قِراءةِ كِتابِ أعْمالِها، وأضافَ الكِتابَ إلى الأُمَّةِ، ثمَّ أضافَه إليه تعالَى في قولِه: هَذَا كِتَابُنَا [الجاثية: 29] ؛ لأنَّ الإضافةَ تَحصُلُ بأدَقِّ مُلابَسةٍ، فأضافَه إلى الأُمَّةِ لِكَونِ أعمالِهم مُثبَتةً فيه، وأضافَه إليه تعالَى لِكَونِه مالِكَه، وآمِرَ مَلائكتِه بكِتابتِه، وللإشارةِ إلى أنَّ كُلَّ ما ثبَتَ فيه صِدْقٌ وحَقٌّ وعدْلٌ، وأنَّه تعالَى يُجازِيها على القَليلِ والكَثيرِ؛ ولذلك عُقِّبَ بقولِه: يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ، وذُيِّلَ بالجمْعِ، ثمَّ قُسِّمَ بقولِه: فَأَمَّا وَأَمَّا [385] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/293)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/258)، ((تفسير أبي حيان)) (9/425)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 520، 521)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/368). .
- وعلى القَولِ بأنَّ المرادَ بـ كِتَابِهَا كِتابُ تَسجيلِ الأعمالِ لكلِّ واحدٍ، أو المرادُ به الجِنسُ، فتكونُ إضافتُه إلى ضَميرِ الأُمَّةِ على إرادةِ التَّوزيعِ على الأفرادِ؛ لأنَّ لكلِّ واحدٍ مِن كُلِّ أُمَّةٍ صَحيفةَ عمَلِه خاصَّةً به، كما قال تعالَى: اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء: 14] ، وقال: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ [الكهف: 49] ، أي: كلُّ مُجرمٍ يُشفِقُ ممَّا في كِتابِه، إلَّا أنَّ هذه الآيةَ الأخيرةَ وقَعَ فيها (الكتاب) مُعرَّفًا باللَّامِ فقَبِلَ العمومَ. وأمَّا آيةُ (الجاثيةِ) فعُمومُها بَدَليٌّ بالقَرينةِ؛ فالمرادُ: خُصوصُ الأُممِ التي أُرسِلتْ إليها الرُّسُلُ، ولها كتُبٌ وشَرائعُ؛ لقولِه تعالَى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [386] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/293)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/367). [الإسراء: 15] .
- وفي قَولِه: كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا أُعِيدَت كَلمةُ كُلُّ أُمَّةٍ -دونَ اكْتِفاءٍ بقولِه: تُدْعَى أو (يُدْعون)-؛ للتَّهويلِ، ولو قِيل: وتَرَى كلَّ أُمَّةٍ جاثيةً تُدْعَى إلى كِتابِها، لَأوهَمَ أنَّ الجُثُوَّ والدُّعاءَ إلى الكِتابِ يَحْصُلانِ مَعًا، معَ ما في إعادةِ الخَبَرِ مَرَّةً ثانيةً مِن التَّهويلِ [387] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/368). .
- وجُملةُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بَدَلُ اشتِمالٍ مِن جُملةِ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا بتَقديرِ قَولٍ مَحذوفٍ، أي: يُقالُ لهم: اليومَ تُجْزَون، أي: يكونُ جَزاؤُكم على وَفْقِ أعْمالِكم، وجَرْيُها على وَفْقِ ما يُوافِقُ كِتابَ دِينِكم مِن أفْعالِكم في الحَسَناتِ والسَّيِّئاتِ، وهذا البدَلُ وقَعَ اعتِراضًا بيْن جُملةِ وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً وجُملةِ فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [الجاثية: 30] الآياتِ [388] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/368). .
3- قولُه تعالَى: هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
- قولُه: هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ مِن مَقولِ القولِ المُقدَّرِ، وهي مُستأنَفةٌ استِئنافًا بَيانيًّا لتَوقُّعِ سُؤالِ مَن يقولُ منهم: ما هو طَريقُ ثُبوتِ أعْمالِها [389] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/368). ؟
- وأُضِيفَ الكِتابُ إلى نُونِ العَظَمةِ كِتَابُنَا؛ تَفخيمًا لِشَأْنِه وتَهْويلًا لِأمْرِه [390] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/109)، ((تفسير أبي السعود)) (8/74). .
- ولِتَضمُّنِ فِعلِ يَنْطِقُ معنى (يَشهَدُ) عُدِّيَ بحَرْفِ (على). ولَمَّا كان المَقامُ للتَّهديدِ، اقتُصِرَ فيه على تَعديةِ يَنْطِقُ بحَرْفِ (على) دُونَ زِيادةِ: (ولكمْ)؛ إيثارًا لِجانبِ التَّهديدِ [391] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/369). .
- وقولُه: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ اسْتِئنافٌ بَيانيٌّ؛ لأنَّهم إذا سَمِعوا هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ خطَرَ بِبالِهم السُّؤالُ: كيف شَهِدَ عليهمُ الكِتابُ اليومَ وهمْ قدْ عَمِلوا الأعمالَ في الدُّنيا؟ فأُجِيبُوا بأنَّ اللهَ كان يَأمُرُ بنَسْخِ ما يَعمَلونَه في الصُّحفِ في وَقْتِ عَمَلِه. وإنْ حُمِلَ (الكِتابُ) على كُتبِ الشَّريعةِ كانتْ جُملةُ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ تَعليلًا للجُملةِ قبْلَها، باعْتِبارِ تَقْييدِ النُّطقِ بأنَّه بالحقِّ، أي: لأنَّ أعْمالَكم كانتْ مُحصاةً، مُبيَّنٌ ما هو مِنْها مُخالِفٌ لِمَا أمَرَ به كِتابُهم [392] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/74)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/369). .
4- قولُه تعالَى: فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ
- قولُه: فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ الفاءُ في فَأَمَّا لِعَطْفِ المُفصَّلِ على المُجمَلِ، وهو تَفصيلٌ لِمَا أُجمِلَ في قولِه: وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً [الجاثية: 28] ، وما بيْنَهما اعتِراضٌ؛ فالكلامُ هنا هو مُتَّصِلٌ بقولِه: وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً، كما دلَّ عليه قولُه: وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ [393] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/75)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/370، 371). [الجاثية: 31] .
- وابتُدِئَ في التَّفصيلِ بوَصْفِ حالِ المُؤمِنينَ، معَ أنَّ المَقامَ للحَديثِ عن المُبطِلينَ في قولِه: يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ [الجاثية: 27] ؛ تَنْويهًا بالمُؤمِنينَ، وتَعجيلًا لِمَسرَّتِهم، وتَعجيلًا لِمَساءةِ المُبطِلينَ؛ لأنَّ وَصْفَ حالِ المُؤمِنينَ يُؤذِنُ بمُخالَفةِ حالِ الآخَرِينَ لِحالِهم [394] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/371). .