موسوعة التفسير

سورةُ غافِرٍ
الآيات (77-81)

ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ

غريب الكلمات:

الْمُبْطِلُونَ: أي: الذين جادَلوا بالباطِلِ، والباطِلُ: نَقيضُ الحَقِّ، وهو ما لا ثَباتَ له عِندَ الفَحصِ عنه، وأصلُ (بطل): يدُلُّ على ذَهابِ الشَّيءِ، وقِلَّةِ مُكثِه [1112] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/424)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/258)، ((المفردات)) للراغب (ص:129، 130)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/213). .
الْفُلْكِ: السُّفنِ، وواحِدُه وجمْعُه بلفظٍ واحدٍ، وأصلُ الفلكِ: الاستدارةُ في الشَّيءِ، ولعلَّ السُّفنَ سُمِّيت فُلكًا؛ لأنَّها تُدارُ في الماءِ [1113] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 67)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/453)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 162)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 99). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ اللهُ تعالَى مُوصيًا نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالصَّبرِ: فاصبِرْ -يا مُحمَّدُ- على أذى الكُفَّارِ؛ إنَّ وَعدَ اللهِ حَقٌّ، وهو مُنجِزٌ لك ما وعَدَك؛ فإنْ نُرِكَ بَعضَ العَذابِ الذي نَعِدُ به أولئك الكُفَّارَ في الدُّنيا، ونُعجِّلْ به في حَياتِك؛ أو نُمِتْكَ قبْلَ أنْ يَحُلَّ بهم ذلك: فإلينا يُرجَعونَ، فنُجازيهم.
ثمَّ يقولُ تعالَى مُسلِّيًا نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ولقدْ أرسَلْنا -يا مُحمَّدُ- في الأُمَمِ الماضيةِ رُسُلًا مِن قَبلِك، مِنهم مَن قصَصْناهم عليك، ومِنهم مَن لم نَقصُصْ عليك أخبارَهم، وليس لِرَسولٍ أنْ يَأتيَ النَّاسَ بآيةٍ إلَّا بأمْرِ اللهِ، فإذا جاء أمرُ اللهِ بالفَصلِ بيْنَ الرُّسُلِ وأقوامِهم قَضى اللهُ بيْنهم بالعَدلِ، وخَسِرَ عِندَ ذلك المُشرِكونَ المتَّبِعونَ للباطِلِ.
ثمَّ يقولُ تعالَى مُمتَنًّا على عِبادِه: اللهُ وَحْدَه هو الَّذي خَلَق لكم الأنعامَ، فتَركَبونَ بَعضًا منها، وتَأكُلونَ بَعضًا، ولكمْ فيها مَنافِعُ أُخرى، ولِتُسافِروا عليها إلى أماكِنَ بَعيدةٍ تُريدونَها، وعلى تِلك الأنعامِ وعلى السُّفُنِ تَركَبونَ، ويُريكم اللهُ آياتِه الدَّالَّةَ على وَحدانيَّتِه وقُدرتِه؛ فأيَّ آياتِه سُبحانَه تُنكِرونَ؟!

تفسير الآيات:

فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّ اللهَ تعالَى لَمَّا تكَلَّم مِن أوَّلِ السُّورةِ إلى هذا الموضِعِ في تَزييفِ طَريقةِ المجادِلينَ في آياتِ اللهِ؛ أمَرَ في هذه الآيةِ رَسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأنْ يَصبِرَ على إيذائِهم وإيحاشِهم بتلك المجادَلاتِ [1114] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/533). .
وأيضًا فقدْ كان فيما سَبَق مِن السُّورةِ ما فيه تَسليةٌ للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم على ما تلَقَّاه به المُشرِكونَ مِن الإساءةِ والتَّصميمِ على الإعراضِ، ابتِداءً مِن قَولِه في أوَّلِ السُّورةِ: فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ [غافر: 4] ، ثمَّ قَولِه: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ [غافر: 21] ، ثمَّ قَولِه: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا [غافر: 51] ، ثُمَّ قَولِه: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [غافر: 55] الآيةَ؛ ففَرَّع هنا على جَميعِ ما سَبَق وما تخَلَّله مِن تَصريحٍ وتَعريضٍ: أنْ أمَرَ اللهُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالصَّبرِ على ما يُلاقيه منهم [1115] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/207-208). .
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ.
أي: فاصبِرْ -يا مُحمَّدُ- على أذى الكُفَّارِ؛ فإنَّ اللهَ مُنجِزٌ -لا مَحالةَ- ما وعَدَك به مِن عُقوبةِ الكافِرينَ، ونَصْرِ المؤمِنينَ في الدُّنيا والآخِرةِ [1116] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/367)، ((تفسير القرطبي)) (15/334)، ((تفسير ابن كثير)) (7/158)، ((تفسير السعدي)) (ص: 743). .
فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ.
أي: فإنْ نُرِكَ بَعضَ العَذابِ الذي نَعِدُ به الكُفَّارَ في الدُّنيا، ونُعجِّلْ به في حياتِك؛ أو نُمِتْك قَبْلَ أنْ يَحُلَّ بهم ذلك: فإلينا مَصيرُهم وعَلَيْنا حِسابُهم، فيَنالونَ حِينَها نَصيبَهم مِن عذابِ الآخِرةِ [1117] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/367)، ((تفسير ابن كثير)) (7/158)، ((تفسير السعدي)) (ص: 743). قولُه تعالَى: فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ أصْلُه: فإنْ نُرِك، و(ما) مَزيدةٌ لتأكيدِ معْنى الشَّرطِ؛ ولذلك أُلحِقَت النُّونُ بالفِعلِ. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/179). وقولُه تعالى: فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ قيل: هو جَوابُ الشَّرطِ نُرِيَنَّكَ والمعطوفِ عليه نَتَوَفَّيَنَّكَ، وهو ظاهِرُ اختيارِ مُقاتلِ بنِ سُليمانَ، وابنِ جَريرٍ، والسَّمرْقنديِّ، وابنِ أبي زَمَنِين، ومكِّيٍّ، والبغويِّ، والقرطبيِّ، والعُلَيميِّ، والشَّوكانيِّ، والقاسميِّ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/721)، ((تفسير ابن جرير)) (20/367)، ((تفسير السمرقندي)) (3/215)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/142)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (10/6466)، ((تفسير البغوي)) (4/123)، ((تفسير القرطبي)) (15/334)، ((تفسير العليمي)) (6/136)، ((تفسير الشوكاني)) (4/575)، ((تفسير القاسمي)) (8/320). وقيل: جَوابُ الشَّرطِ لقولِه تعالَى: فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ مَحذوفٌ تَقديرُه: فذاك، أي: فذاك المرادُ، أو المطلوبُ، أو نحْوُ ذلك، وقيل: فذاكَ إلينا، وهو علينا هيِّنٌ، وممَّن قال بذلك في الجُملةِ: الزَّمخشريُّ، والرازيُّ، والبيضاويُّ، والنَّسَفيُّ، وابنُ جُزَيٍّ، وجَلال الدينِ المحلِّيُّ، والبقاعيُّ، وأبو السعودِ، والألوسيُّ، والسعدي، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/179)، ((تفسير الرازي)) (27/533)، ((تفسير البيضاوي)) (5/64)، ((تفسير النسفي)) (3/222)، ((تفسير ابن جزي)) (2/235)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 628)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/119)، ((تفسير أبي السعود)) (7/285)، ((تفسير الألوسي)) (12/340)، ((تفسير السعدي)) (ص: 743)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/209). وقال ابنُ جُزَيٍّ: (وجَوابُ الشَّرطِ مَحذوفٌ، تَقديرُه: إنْ أَرَيْناك بعضَ الذي نَعِدُهم مِن العذابِ قرَّت عيْنُك بذلك). ((تفسير ابن جزي)) (2/235). ويُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/570). .
كما قال تعالَى: وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ [يونس: 46] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ [الرعد: 40] .
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قبْلها:
لَمَّا انْقَضى تَفصيلُ الإبطالِ لِضَلالِهم بالأدلَّةِ البيِّنةِ، والتَّذكيرِ بالنِّعمةِ، والإنذارِ بالتَّرهيبِ والتَّرغيبِ، وضَرْبِ الأمْثالِ بأحوالِ الأُمَمِ المكذِّبةِ، ثمَّ بوَعْدِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والمؤمنينَ بالنَّصرِ، وتَحقيقِ الوعْدِ؛ أُعقِبَ ذلك بتَثبيتِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأنَّه ما كان شأْنُه إلَّا شأْنَ الرُّسلِ مِن قبْلِه؛ ألَّا يَأْتوا بالآياتِ مِن تِلْقاءِ أنفُسِهم ولا استِجابةً لِرَغائبِ مُعانِديهم [1118] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/210). .
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ.
أي: ولقدْ أرسَلْنا -يا مُحمَّدُ- إلى الأُمَمِ الماضيةِ رُسُلًا مِن قَبْلِك يَدْعونَهم إلى اللهِ تعالَى [1119] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/367)، ((تفسير القرطبي)) (15/334)، ((تفسير السعدي)) (ص: 743). .
مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ.
أي: مِن أُولئك الرُّسُلِ مَن أَنْبأناكَ بقَصَصِهم وأخْبارِهم، ومِنهم مَن لم نُنَبِّئْك بقَصَصِهم ولا أخْبارِهم [1120] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/367- 369)، ((تفسير القرطبي)) (15/334)، ((تفسير ابن كثير)) (7/158، 159)، ((تفسير الشوكاني)) (4/575). .
كما قال تعالَى: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا * وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء: 163، 164].
وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ.
أي: وليس لأيِّ رَسولٍ مِن رُسُلِ اللهِ أنْ يَأتيَ النَّاسَ بآيةٍ تَدُلُّ على صِدقِه وصِحَّةِ ما جاء به مِن الحَقِّ إلَّا بأمرِ اللهِ تعالَى ومَشيئتِه [1121] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/369)، ((تفسير القرطبي)) (15/334)، ((تفسير ابن كثير)) (7/159)، ((تفسير السعدي)) (ص: 743)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/212). .
فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ.
أي فإذا جاء الوَقتُ المحَدَّدُ للفَصلِ بيْنَ الرُّسُلِ وأقوامِهم، قَضى اللهُ بيْنهم بالعَدلِ [1122] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/369)، ((تفسير القرطبي)) (15/334)، ((تفسير ابن كثير)) (7/159)، ((تفسير السعدي)) (ص: 743). ممَّن اختار أنَّ المرادَ بأمْرِ اللهِ: القِيامةُ: السمعاني، والزمخشري، والرازي، والرَّسْعني، والنَّسَفي، والثعالبي، والشِّنقيطي. يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (5/33)، ((تفسير الزمخشري)) (4/180)، ((تفسير الرازي)) (27/533)، ((تفسير الرسعني)) (6/633)، ((تفسير النسفي)) (3/222)، ((تفسير الثعالبي)) (5/123)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/395). وقال مكِّيٌّ، والواحديُّ، والبَغويُّ، وابنُ الجوزيِّ، والخازنُ، والسعديُّ: أمْرُ اللهِ: هو قضاؤُه بيْنَ الأنبياءِ وأُممِهم. يُنظر: ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (10/6468)، ((الوسيط)) للواحدي (4/22)، ((تفسير البغوي)) (4/123)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/44)، ((تفسير الخازن)) (4/80)، ((تفسير السعدي)) (ص: 743). وممَّن اختار أنَّ المرادَ به: العذاب: السَّمرقنديُّ، والقرطبيُّ، والعُلَيميُّ. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/215)، ((تفسير القرطبي)) (15/334)، ((تفسير العليمي)) (6/138). وذكَرَ البيضاويُّ والشَّوكانيُّ أنَّه العذابُ في الدُّنيا أو الآخِرة. يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/64)، ((تفسير الشوكاني)) (4/575). وخصَّ مقاتلُ بنُ سليمان هذا العذابَ بالقتلِ ببدرٍ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/722). قال البقاعي: (و«أمرُه» ما توعَّد به مِن العذابِ عندَ العنادِ بعدَ الإجابةِ إلى المقترحِ، ومِن القيامةِ وما فيها). ((نظم الدرر)) (17/121). وقال ابنُ عطيةَ: (قال تعالى: فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ أي: إذا أراد الله إرسالَ رَسولٍ وبَعثةَ نبيٍّ، قضَى ذلك وأنفذَه). ((تفسير ابن عطية)) (4/570). .
وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ.
أي: وهَلَك عندَ ذلك المُشرِكونَ المُتَّبِعونَ للباطِلِ؛ فما رَبِحَت تجارتُهم [1123] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/722)، ((تفسير ابن جرير)) (20/369)، ((الوسيط)) للواحدي (4/22)، ((تفسير القرطبي)) (15/334)، ((تفسير ابن جزي)) (2/236)، ((تفسير السعدي)) (ص: 743). .
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
هو انتِقالٌ مِن الامتِنانِ على النَّاسِ بما سُخِّرَ لأجْلِهم مِن نِظامِ العوالمِ العُلْيا والسُّفلَى، وبما منَحَهم مِن الإيجادِ، وما في ذلك مِن الألْطافِ بهم، وما أُدمِجَ فيه مِن الاستِدلالِ على انفِرادِه تعالَى بالتَّصرُّفِ، فكيْف يَنصرِفُ عن عِبادتِه الذين أشْرَكوا به آلهةً أُخرى؟! إلى الامتِنانِ بما سُخِّرَ لهم مِن الأنعامِ لِمَنافعِهم [1124] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/214). .
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79).
أي: اللهُ المُستَحِقُّ وَحْدَه للعِبادةِ هو الذي خَلَق لكم [1125] هذه الآية امتِنانٌ مِن اللهِ على العِبادِ. وممَّن ذهَب إلى هذا المعنى: ابنُ كثير، والشَّوكانيُّ، والسعديُّ، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/159)، ((تفسير الشوكاني)) (4/575)، ((تفسير السعدي)) (ص: 743)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/214). وجعَل ابنُ جريرٍ الخِطابَ هنا لِمُشركي قُرَيشٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/369). الأنعامَ؛ فمِنها تَركَبونَ، ومنها تَأكُلونَ [1126] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/159)، ((تفسير السعدي)) (ص: 743)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/396). قيل: (مِن) في قَولِه تعالى: مِنْهَا في كِلا الموضعينِ: للتبعيض، والمعنى: تَرْكبونَ بَعضًا منها، وتأكُلونَ بَعضًا. وممَّن قال بهذا: ابنُ جَريرٍ، ورجَّحه الشَّوكانيُّ، وذهَب إليه ابنُ عُثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/369)، ((تفسير الشوكاني)) (4/575)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 535). قال الشَّوكانيُّ: (لِتَرْكَبُوا مِنْهَا «مِنْ»: للتَّبعيضِ، وكذلك في قَولِه: وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ، ويجوزُ أن تكونَ لابتداءِ الغايةِ في الموضِعَينِ، ومعناها: ابتداءُ الرُّكوب وابتداءُ الأكلِ، والأوَّلُ أَوْلى، والمعنى: لِتَركبوا بَعضَها وتأكُلوا بَعضَها). ((تفسير الشوكاني)) (4/575). وقيل: مِنْهَا الأُولى للتَّبعيضِ؛ لأنَّ المركوبَ ليس كُلَّ الأنعامِ، بل الإبِلُ خاصَّةً. وَمِنْهَا الثَّانيةُ لِبَيانِ الجِنسِ؛ لأنَّ الجميعَ منها يُؤكَل. وممَّن قال بهذا: ابنُ عطية. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/571). وذهَب أبو حيَّانَ إلى أنَّ الأُولى للتَّبعيضِ، وأنَّه يجوزُ أن تكونَ الثَّانيةُ للتَّبعيضِ ولابتداءِ الغايةِ، وأنَّه لا يَظهَرُ كَونُها لبيانِ الجنسِ، خِلافًا لابنِ عطيَّةَ. يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/275). وقال البيضاويُّ: (مِن جِنسِها ما يُؤكَلُ كالغَنَمِ، ومنها ما يُؤكَلُ ويُركَبُ كالإبِلِ والبَقَرِ). ((تفسير البيضاوي)) (5/64). وقيل: المرادُ بالأنعامِ هنا: الإبِلُ والبقَرُ والغَنَمُ. وممَّن ذهَب إلى هذا: مقاتلُ بن سليمان، وابنُ كثير، إلَّا أنَّ مُقاتِلًا ذهَب إلى أنَّ التي تُركَبُ هي الإبِلُ والبَقَرُ، والتي تُؤكَلُ منها هي الغنَمُ، وذهَب ابنُ كثير إلى أنَّ التي تُركَبُ هي الإبِلُ، والتي تُؤكَلُ هي البَقَرُ والغَنَمُ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/722)، ((تفسير ابن كثير)) (7/159). وقيل: المرادُ بالأنعامِ: الإبِلُ خاصَّةً. وممَّن ذهَب إلى هذا: الزجَّاج، وابن عاشور. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) (4/378)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/214). قال السَّمعاني: (قال أهلُ التَّفسيرِ: الأنعامُ: هي الإبلُ والبَقَرُ والغَنَمُ في اللُّغةِ، إلَّا أنَّها الإبِلُ خاصَّةً في هذه الآيةِ). ((تفسير السمعاني)) (5/33). وقال ابنُ عاشور: (أُريد بالركوبِ هنا الركوبُ للراحةِ مِن تعَبِ الرِّجلينِ في الحاجةِ القريبةِ؛ بقرينةِ مقابلتِه بقولِه: وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ). ((تفسير ابن عاشور)) (24/214، 215). وقيل: المرادُ: الإبِلُ والبَقَرُ والغَنَمُ والخَيلُ، وغيرُ ذلك من البهائِمِ التي يَقتنيها أهلُ الإسلامِ لِمَركبٍ أو لِمَطعمٍ. وممَّن ذهَب إلى هذا العُمومِ: ابن جرير، واستظْهَره ابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/369)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 534). قال ابنُ عثيمين: (الظَّاهِرُ ما هو أعَمُّ مِن ذلك، وهو ما أنعَمَ اللهُ به علينا من الحيوانِ الذي سَخَّرَه لنا؛ مِن إبِلٍ وبقَرٍ، وغنَمٍ وفِيَلةٍ، وغَيرِها، وكُلِّ شَيءٍ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 534). .
وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80).
وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ.
أي: ولكمْ في الأنعامِ مَنافِعُ؛ فتَتَّخِذونَ منها لِباسًا وأثاثًا، وتَنتَفِعونَ بنَسْلِها والحِراثةِ بها... وغَيرِ ذلك مِنَ المنافِعِ [1127] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/370)، ((تفسير القرطبي)) (15/335)، ((تفسير ابن كثير)) (7/159)، ((تفسير السعدي)) (ص: 743)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/215، 216). .
كما قال تعالَى: وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [النحل: 5 - 7].
وقال سُبحانَه: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ [المؤمنون: 21] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ [يس: 73] .
وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ.
أي: ولِتُسافِروا عليها إلى أماكِنَ بَعيدةٍ مِمَّا في صُدورِكم حاجةٌ للوُصولِ إليها [1128] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/370)، ((تفسير السمرقندي)) (3/215)، ((تفسير القرطبي)) (15/335)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/123)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/216). .
كما قال تعالَى: وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [النحل: 7] .
وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ.
أي: وعلَى الأنعامِ في البَرِّ، وعلى السُّفُنِ في البَحرِ تَركَبونَ، وتَحمِلونَ مَتاعَكم [1129] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/370)، ((تفسير القرطبي)) (15/335)، ((تفسير السعدي)) (ص: 743). .
كما قال سُبحانَه: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ [الزخرف: 12، 13].
وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَأَيَّ آَيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81).
وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ.
أي: ويُريكم اللهُ آياتِه الدَّالَّةَ على وَحدانيَّتِه وقُدرتِه وغيرِ ذلك مِن صِفاتِه، فيُظهِرُها ويُجَلِّيها لكم [1130] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/370)، ((تفسير القرطبي)) (15/335)، ((تفسير ابن كثير)) (7/159)، ((تفسير السعدي)) (ص: 743). .
فَأَيَّ آَيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ.
أي: فأيَّ آياتِ اللهِ تَقدِرونَ على إنكارِها وعَدَمِ الاعترافِ بها، حتى يحِقَّ لكم اتِّباعُ الباطِلِ أو المجادَلةُ في الحَقِّ مِن شأنِ التَّوحيدِ أو البَعثِ أو غيْرِهما؟! فقدْ تقَرَّر عِندَكم أنَّ جَميعَ الآياتِ مِنَ اللهِ تعالى؛ فلمْ يَبْقَ مَجالٌ لإنكارِها أو الإعراضِ عنها إلَّا أنْ تُعانِدوا وتُكابِروا [1131] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/370)، ((تفسير القرطبي)) (15/335)، ((تفسير ابن كثير)) (7/159)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/125)، ((تفسير السعدي)) (ص: 743). !

الفوائد التربوية:

قَولُ اللهِ تعالَى: وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ فيه الامتِنانُ بما سَخَّرَ اللهُ تعالَى لهم مِنَ الأنعامِ؛ لِمَنافِعِهم الجَمَّةِ خاصَّةً وعامَّةً، وفائِدةُ هذا الامتِنانِ: تَقريبُ نُفوسِهم مِنَ التَّوحيدِ؛ لأنَّ شَأنَ أهلِ المروءةِ: الاستِحياءُ مِن المُنعِمِ [1132] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/214). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- لا بأسَ أنْ نَفْرَحَ إذا أصابَ اللهُ عَدوَّنا بمُصيبةٍ؛ لأنَّ الظَّاهرَ أنَّ قولَه تعالَى: فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ لأجْلِ أنْ تَقَرَّ عيْنُه بذلك، فإذا أُصيبُ أعداؤُنا بخسْفٍ، أو صَواعقَ، أو فَيضاناتٍ، أو ما أشبهَ ذلك، وفَرِحْنا بهذا؛ فلا لَوْمَ علينا لأنَّهم أعداؤُنا، ويَفرَحونَ بما يُصيبُنا؛ فالجزاءُ مِن جِنسِ العَملِ [1133] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص:517). .
2- قولُه تعالَى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ استَنبَط منه بعضُ أهلِ العِلمِ أنَّ كلَّ مَن قَصَّه اللهُ في القرآنِ فهو رَسولٌ، وإنْ كان لم يَرِدْ ذِكْرُه إلَّا بلفْظِ النُّبُوَّةِ، وقال تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ إلى أنْ قال: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء: 163- 165] ، وأوَّلُ الرُّسلِ نوحٌ عليه السَّلامُ، وآخِرُهم محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأفاد قولُه تعالَى: وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ أنَّه ليس كلُّ الرُّسُلِ قدْ عَلِمْناهم [1134] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/199)، ((مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين)) (1/311)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/334). .
3- في قولِه تعالَى: وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ تَسليةُ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ فإنَّ الكُفَّارَ يَطلُبون منه آياتٍ، ولكنَّ اللهَ تعالَى يقولُ: وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ [العنكبوت: 50] ، يُسَلِّي الرَّسولَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ وأنَّ هذا الأمرَ ليْس إليك؛ بلْ هو إلى اللهِ، إذا شاء أنْ يُؤتيَك آيةً آتاكَ، وإلَّا فهو الحكيمُ [1135] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص:529). .
4- في قَولِه تعالى: بِإِذْنِ اللَّهِ إثباتُ الإذْنِ للهِ عزَّ وجَلَّ، والإذنُ نَوعانِ: إذْنٌ شَرعيٌّ، وإذْنٌ كَونيٌّ؛ فالإذْنُ الكَونيُّ: ما يَتَعَلَّقُ بالمَخلوقاتِ وإيجادِها وإعدامِها وتَغييرِها وما أشْبَهَ هذا، والإذْنُ الشَّرعيُّ: ما يَتعَلَّقُ بالمَشروعاتِ؛ فقَولُه تعالى: قُلْ آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ [يونس: 59] الإذنُ فيهُ شَرْعيٌّ، ولا يَصِحُّ أنْ يكونَ كَونيًّا؛ لأنَّنا نَعلَمُ أنَّه إذا فَعَلوه فقدْ أَذِنَ اللهُ فيه إذْنًا كَوْنيًّا، وقَولُه تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى: 21] الإذنُ فيهُ شَرعيٌّ، أي: لم يَأْذَنْ به شَرعًا، ولا يجوزُ أنْ يكونَ إذْنًا كَونِيًّا؛ لأنَّه وقَعَ، فقدْ أذِنَ اللهُ تعالَى فيما شَرَعَ هؤلاء إذْنًا كَونيًّا، وقال اللهُ تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة: 255] الشَّفاعةُ تُطلَبُ مِن اللهِ عزَّ وجَلَّ: أنْ يُخَفِّفَ العَذابَ عن شَخصٍ أو ما أشْبهَ ذلك، أو يَرفَعَ دَرَجاتِه، وهذا إذْنٌ كَوْنيٌّ لا شَكَّ [1136] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص:529). .
5- قَولُه تعالى: فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ فيه إثباتُ أفعالِ اللهِ الاختياريَّةِ، يعني: أنَّ اللهَ تعالى قدْ يُحدِثُ مِن أمْرِه ما شاء، و«إذا» هنا شَرطِيَّةٌ للمُستقبَلِ؛ إذَنِ الأمرُ لم يَأتِ بَعدُ، وهذا يدُلُّ على أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالىَ مُتَّصِفٌ بالأفعالِ الاختياريَّةِ، خِلافًا للأشاعِرةِ ونَحوِهم؛ الذين قالوا: إنَّ اللهَ تعالَى لا يُوصَفُ بالأفعالِ الاختياريَّةِ [1137] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص:530). .
6- قولُه تعالى: قُضِيَ بِالْحَقِّ فيه أنَّ ما قَضَى اللهُ مِن عِقابٍ أو عَذابٍ فإنَّه حقٌّ؛ وعلى هذا فيَنْتفي بذلك أنْ يكونَ اللهُ تعالَى ظالِمًا لِمَن عاقَبَه، فإنْ قال قائلٌ: أليْستِ العقوبةُ تَنْزِلُ بالأُمَّةِ وفيهمُ الصَّالحون؟
فالجوابُ: بلَى، تَنْزِلُ العقوبةُ على الأُمَّةِ وفيهم الصَّالحون؛ لكنَّها تكونُ عُقوبةً على المسيءِ، ورِفْعَةَ درَجاتٍ وتَكفيرَ سيِّئاتٍ على الصَّالحِ؛ ولهذا لَمَّا قالتْ إحْدى أُمهاتِ المؤمنِينَ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((أنَهْلِكُ وفينا الصَّالحونَ؟ قال: نعمْ؛ إذا كَثُرَ الخَبَثُ [1138] الخَبَثُ أي: الفُسُوقُ والفُجورُ والمعاصي. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (18/3). ) [1139] أخرجه البخاري (3346)، ومسلم (2880) من حديث زينب بنت جحش رضي الله عنها. ، فإذا غَلَبَ الخَبَثُ على الطَّيِّبِ حَلَّتِ العقوبةُ بالجميعِ [1140] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص:532). .
7- في قولِه تعالى: وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ أنَّ الأصلَ جَوازُ كلِّ ما يُنتفَعُ به مِن وُجوهِ الانتِفاعِ في هذه الأنعامِ، وبِناءً على ذلك يَجوزُ أنْ يُركَبَ ما لا يُركَبُ عادةً إذا لم يَشُقَّ عليه؛ لأنَّ ذلك مِن المنافِعِ، فإنْ شَقَّ عليها كان مَمنوعًا؛ لأنَّ إيذاءَ الحيوانِ مُحَرَّمٌ [1141] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص:536). ويُنظر أيضًا: ((الإنصاف)) للمَرْداوي (9/306). .
8- في قَولِه تعالَى: وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ نِعمةُ اللهِ سُبحانَه وتعالَى على عِبادِه بأنْ يُرِيَهم الآياتِ الدَّالَّةَ عليه، ولو شاء اللهُ تعالَى لَأخفَى عنَّا ذلك، ووَكَلَنا إلى ما في نُفوسِنا وفِطَرِنا، ولكِنْ مِن رَحمتِه أنَّه يُظهِرُ الآياتِ حتَّى يكونَ هذا عَونًا على ما في الفِطرةِ مِن مَعرفةِ آياتِ اللهِ عزَّ وجَلَّ [1142] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص:540). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ
- قولُه: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ قدْ كان فيما سبَقَ مِن السُّورةِ ما فيه تَسليةٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على ما تَلقَّاه به المشْرِكون مِن الإساءةِ والتَّصميمِ على الإعراضِ، ابتداءً مِن قولِه في أوَّلِ السُّورةِ: فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ [غافر: 4] ، ثم قولِه: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآَزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ [غافر: 18] ، ثم قولهِ: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ [غافر: 21] ، ثم قولِه: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا [غافر: 51] ، فلمَّا حصَلَ الوعدُ بالانتصافِ مِن مُكذِّبي النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في الدُّنيا والآخِرةِ، أعقَبَ بقولِه: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ؛ فإنَّ مُناسَبةَ الأمْرِ بالصَّبرِ عقِبَ ذلك أنْ يكونَ تَعريضًا بالانتصارِ له؛ ولذلك فُرِّعَ على الأمْرِ بالصَّبرِ الشَّرطُ المردَّدُ بيْنَ أنْ يُرِيَه بعْضَ ما تَوعَّدَهم اللهُ به وبيْن ألَّا يَراهُ؛ فإنَّ جَوابَ الشَّرطِ حاصلٌ على كِلْتا الحالتَين، وهو مَضمونُ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ، أي: أنَّهمْ غَيْرُ مُفْلِتِينَ مِن العِقابِ [1143] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/548)، ((تفسير أبي حيان)) (9/274)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/207، 208). .
- وجُملةُ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ جَوابٌ للشَّرطِ الثَّاني، وهو نَتَوَفَّيَنَّكَ، وجَوابُ الشَّرطِ الأوَّلِ مَحذوفٌ -وذلك على قولٍ-، والتَّقديرُ: فإمَّا نُرِينَّك بعضَ الذي نَعِدُهم مِن العذابِ -وهو القَتْلُ والأسْرُ يومَ بدْرٍ- فذاك، أو أنْ نَتوفَّينَّك قبْلَ يومِ بدْرٍ، فإلينا يُرْجَعون يومَ القِيامةِ، فنَنتقِمُ منهم أشدَّ الانتقامِ، وإنَّما حُذِفَ جَوابُ الأوَّلِ دونَ الثَّاني؛ لأنَّ الأوَّلَ إنْ وقَعَ فذاك غايةُ الأمَلِ في إنْكائِهم؛ فالثَّابتُ على تَقديرِ وُقوعِه مَعلومٌ، وهو حُصولُ المرادِ على التَّمامِ، وأمَّا إنْ لم يقَعْ ووَقَعَ الثَّاني -وهو تَوفِّيه قبْلَ حُلولِ المجازاةِ بهم- فهذا هو الذي يَحتاجُ إلى ذِكرِه للتَّسليةِ، وتَطمينِ النَّفْسِ، على أنَّه وإنْ تَأخَّرَ جَزاؤُهم عن الدُّنيا فهو حَتْمٌ في الآخِرةِ، ولا بُدَّ منه [1144] يُنظر: ((تفسير الزمخشري - الحاشية)) (4/180)، ((تفسير البيضاوي)) (5/64)، ((تفسير أبي السعود)) (7/285)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/209)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/521). .
- وللتَّأكيدِ بـ (إنَّ) في قولِه: إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ مَوقعُه؛ وذلك أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والمؤمنينَ استَبْطؤوا النَّصرَ، كما قال تعالَى: وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ [البقرة: 214] ، فنُزِّلوا مَنزلةَ المتردِّدِ فيه، فأكَّدَ وعْدَه بحَرْفِ التَّوكيدِ [1145] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/208). .
- قولُه: فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ فيه تَقديمُ المجرورِ فَإِلَيْنَا؛ للرِّعايةِ على الفاصلةِ، وللاهتمامِ [1146] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/208، 209). .
- وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ تَقدَّمَ نَظيرُ هذَين الشَّرطينِ اللَّذينِ في قولِه: فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ في سُورةِ (يُونسَ)، إلَّا أنَّ في سُورةِ (يُونسَ): فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ [يونس: 46] ، وهنا في سُورةِ (غافرٍ) فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ [غافر: 77] ، والمخالفةُ بيْن الآيتَين تَفنُّنٌ، ولأنَّ ما في (يُونسَ) اقْتَضى تَهديدَهم بأنَّ اللهَ شَهيدٌ على ما يَفعَلون، أي: علَى ما يَفعَلُه الفريقانِ مِن قولِه: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ [يونس: 42] ، وقولِه: وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ [يونس: 43] ؛ فكانتِ الفاصِلةُ حاصلةً بقولِه: عَلَى مَا يَفْعَلُونَ [يونس: 46] ، وأمَّا هنا فالفاصلةُ مُعاقِبةٌ للشَّرطِ؛ فاقتَضَت صَوغَ الرُّجوعِ بصِيغةِ المضارعِ المختتَمِ بواوٍ ونونٍ، على أنَّ مَرْجِعُهُمْ [يونس: 46] مُعرَّفٌ بالإضافةِ؛ فهو مُشعِرٌ بالمرجِعِ المعهودِ، وهو مَرجِعُهم في الآخِرةِ، بخِلافِ قولِه: يُرْجَعُونَ المشعِرِ برُجوعٍ مُتجدِّدٍ [1147] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/209). .
2- قولُه تعالَى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ فيه تَثبيتُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأنَّه ما كان شأْنُه إلَّا شأْنَ الرُّسلِ مِن قبْلِه، وأنَّ الآياتِ عندَ اللهِ يُظهِرُ ما شاء منها بمُقْتضى إرادتِه الجاريةِ على وَفْقِ عِلْمِه وحِكمتِه؛ فالرُّسلُ لا يَأتون بها مِن تِلْقاءِ أنفُسِهم. وفي ذلك تَعريضٌ بالرَّدِّ على المجادِلين في آياتِ اللهِ، وتَنبيهٌ لهمْ على خَطأِ ظَنِّهم أنَّ الرُّسلَ تَنتصِبُ لِمُناقَشةِ المعانِدينَ؛ فالمقصودُ الأهمُّ مِن هذه الآيةِ هو قولُه: وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، وأمَّا قولُه: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ ... إلخ، فهو كمُقدِّمةٍ للمقصودِ؛ لِتأكيدِ العُمومِ مِن قولِه: وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، وهو معَ ذلك يُفِيدُ بتَقديمِه معنًى مُستقِلًّا مِن رَدِّ مُجادَلتِهم؛ فإنَّهم كانوا يَقولونَ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 91] ، فدُمِغَت مَزاعِمُهم بما هو مَعلومٌ بالتَّواتُرِ مِن تَكرُّرِ بَعثةِ الرُّسلِ في العُصورِ والأُمَمِ الكثيرةِ [1148] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/210). .
- وتَنكيرُ رُسُلًا مُفيدٌ للتَّعظيمِ والتَّكثيرِ، أي: أرْسَلْنا رُسلًا عدَدُهم كثيرٌ، وشأْنُهم عظيمٌ [1149] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/212). .
- وعطْفُ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ ... بالواوِ دونَ الفاءِ يُفِيدُ استقلالَ هذه الجُملةِ بنفْسِها؛ لِما فيها مِن معنًى عَظيمٍ حَقيقٍ بألَّا يكونَ تابعًا لِغَيرِه، ويُكْتفَى في الدَّلالةِ على ارتباطِ الجُملتَينِ بمَوقعِ إحداهما مِن الأُخرى [1150] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/212). .
- والباءُ في بِإِذْنِ اللَّهِ هي باءُ السَّببيَّةِ دخَلَتْ على مُسْتثنًى مِن أسبابٍ مَحذوفةٍ في الاستِثناءِ المفرَّغِ، أي: ما كان له أنْ يَأتِيَ بآيةٍ بسَببٍ مِن الأسبابِ إلَّا بسَببِ إذْنِ اللهِ تعالَى. وهذا إبطالٌ لِما يَتعنَّتون به مِن المُقترَحاتِ [1151] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/212). .
- قولُه: فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ في العُدولِ عن (إذْنِ اللهِ) إلى أَمْرُ اللَّهِ تَعريضٌ بأنَّ ما سيُظْهِرُه اللهُ مِن الإذْنِ لمحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هي آياتُ عِقابٍ لِمُعانِديه، كآيةِ الجُوعِ سَبْعَ سِنينَ حتى أكَلوا الميتةَ، وآيةِ السَّيفِ يَومَ بَدْرٍ إذ استأصَلَ صَناديدَ المكذِّبينَ مِن أهلِ مَكَّةَ. وفي إيثارِ قُضِيَ بِالْحَقِّ بالذِّكرِ دونَ غَيرِه، مِن نحْوِ: ظهَرَ الحقُّ، أو تبيَّنَ الصِّدقُ؛ تَرشيحٌ [1152] التَّرشيحُ: هو أنْ يأتيَ المتكلمُ بكلمةٍ لا تصلُحُ لضربٍ مِن المحاسنِ، حتَّى يُؤتَى بلفظةٍ ترشِّحُها وتؤهِّلُها لذلك.  يُنظر: ((تحرير التحبير)) لأبن أبي الأصبع (ص: 271). لِمَا في قولِه: أَمْرُ اللَّهِ مِن التَّعريضِ بأنَّه أمرُ انتصافٍ مِن المكذِّبين؛ ولذلك عُطِفَ عليه وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ، أي: خسِرَ الذين جادَلوا بالباطلِ؛ لِيُدْحِضوا به الحقَّ. [1153] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/213).
- قولُه: وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (هنالك) أصْلُه اسمُ إشارةٍ إلى المكانِ، وعُبِّرَ به هنا عن الإشارةِ إلى الزَّمانِ المعبَّرِ عنه بـ (إذا) في قولِه: فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ، وفي ذلك نُكتةٌ بَديعةٌ؛ وهي الإيماءُ إلى أنَّ المبطِلينَ مِن قُريشٍ ستَأْتِيهم الآيةُ في مَكانٍ مِن الأرضٍ، وهو مكانُ بَدْرٍ وغيرِه مِن مَواقعِ إعمالِ السَّيف فيهم؛ فكانتْ آياتُ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حُجَّةً على مُعانِديه أقْوى مِن الآياتِ السَّماويةِ، نَحْو الصَّواعقِ أو الرِّيحِ، وعن الآياتِ الأرضيَّةِ، نَحْو الغرَقِ والخَسْفِ؛ لأنَّها كانتْ مع مُشاركتِهم ومُداخلتِهم حتَّى يَكونَ انْغِلابُهم أقطَعَ لِحُجَّتِهم وأخْزى لهم، نَظيرَ آيةِ عَصا مُوسى مع عِصِيِّ السَّحرةِ [1154] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/213، 214). .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ ختَمَ هذه الآيةَ هنا بقولَه: وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ، وختَمَ السُّورةَ بقولِه: وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ؛ ووَجْهُه أنَّ الأوَّلَ مُتَّصِلٌ بقولِه: قُضِيَ بِالْحَقِّ، ونَقيضُ الحقِّ الباطلُ، والثَّاني مُتَّصلٌ بإيمانٍ غيرِ نافعٍ، ونَقيضُ الإيمانِ الكُفْرُ [1155] يُنظر: ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص:221)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (1/411، 412)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 503). .
3- قولُه تعالَى: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ امْتنَّ اللهُ تعالَى عليهم بما سخَّرَ لهم، وأُدمِجَ في الامتِنانِ استِدلالٌ على دَقيقِ الصُّنعِ وبَليغِ الحِكمةِ، كما دلَّ عليه قولُه: وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ [غافر: 81] ، أي: في ذلك كلِّه [1156] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/214). .
- اللَّامُ في لَكُمُ لامُ التَّعليلِ، أي: لأجْلِكم، وهو امتنانٌ مُجمَلٌ يَشمَلُ بالتَّأمُّلِ كلَّ ما في الإبلِ لهم مِن مَنافِعَ، وهم يَعلَمونها إذا تَذكَّروها وعَدُّوها، ثم فُصِّلَ ذلك الإجمالُ بعضَ التَّفصيلِ بذِكرِ المهمِّ مِن النِعَمِ التي في الإبلِ بقولِه: لِتَرْكَبُوا مِنْهَا إلى تُحْمَلُونَ [1157] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/215). .
- قولُه: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ تَقديمُ لَكُمُ على الْأَنْعَامَ، مع أنَّ المفعولَ أشَدُّ اتِّصالًا بفِعلِه مِن المجرورِ؛ لِقَصْدِ الاهتِمامِ بالمنعَمِ عليهم [1158] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/217). .
- وأيضًا تَغييرُ النَّظْمِ الكَريمِ بتَقديمِ المجرورِ في قولِه: وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ؛ للرِّعايةِ على الفاصلةِ؛ إذ لو جِيءَ على ظاهرِه لاختلَّتْ، وكذلك جرَى في الفاصلةِ الآتيةِ، مع الاهتمامِ بما هو المقصودُ في السِّياقِ، والإشعارِ بأصالةِ الرُّكوبِ في الانتفاعِ بالأنعامِ. وقيل: لأنَّه في حيِّزِ الضَّرورةِ، وقيل: لأنَّه يُقصَدُ به التَّعيُّشُ، وهو مِن الضَّرورياتِ، والتَّلذُّذُ والرُّكوبُ والمسافرةُ عليها قدْ تكونُ لأغراضٍ دِينيَّةٍ واجبةٍ أو مَندوبةٍ، أو للفرْقِ بيْن العَينِ والمنفَعةِ [1159] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/64)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/552)، ((تفسير أبي السعود)) (7/286)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/217). .
وقيل: إنَّما قال: وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ ولم يقل: (لِتأكُلوا منها ولِتَصِلوا إلى المنافِعِ)؛ لأنَّهم في الحالِ آكِلونَ وآخِذونَ المنافِعَ، وأمَّا الرُّكوبُ وبُلوغُ الحاجةِ فأمرانِ مُنتَظرانِ؛ فجِيءَ بما يدُلُّ على الاستقبالِ [1160] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/550). .
4- قولُه تعالَى: وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ
- جُملةُ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ عطْفٌ على جُملةِ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ، والمعنى على اعتِبارِ التَّعليلِ، كأنَّه قِيل: ولِتَجْتَنُوا مَنافعَها المجْعولةَ لكمْ، وإنَّما غُيِّرَ أُسلوبُ التَّعليلِ؛ تَفنُّنًا في الكلامِ، وتَنشيطًا للسَّامعِ؛ لئلَّا يَتكرَّرَ حرْفُ التَّعليلِ تَكْراراتٍ كثيرةً [1161] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/215). .
- قولُه: وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ المنافِعُ شامِلةٌ للرُّكوبِ الذي في قولِه: لِتَرْكَبُوا مِنْهَا؛ فذِكْرُ المنافعِ بعْدَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا تَعميمٌ بعْدَ تَخصيصٍ، فذكَرَ هنا الشَّائعَ المطروقَ عِندَهم، ثمَّ ذكَرَ مَثِيلَه في الشُّيوعِ، وهو الأكْلُ منها، ثمَّ عاد إلى عُمومِ المنافِعِ، ثم خَصَّ مِن المنافعِ الأسفارَ؛ فإنَّ اشتدادَ الحاجةِ إلى الأنعامِ فيها تَجعَلُ الانتفاعَ برُكوبِها للسَّفرِ في مَحلِّ الاهتِمامِ [1162] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/216). .
- ولَمَّا كانتِ المنافعُ ليْستْ مُنْحصِرةً في أجزاءِ الأنعامِ، جِيءَ في مُتعلَّقِها بحرْفِ (في) دونَ (مِن)، فتَشمَلُ كلَّ ما يُعَدُّ كالشَّيءِ المحْويِّ في الأنعامِ [1163] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/216). .
- وتَقْديمُ المجرورَيْنِ في قولِه: وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ؛ للاهتِمامِ بالمنعَمِ عليهم والمُنعِمِ بها؛ لأنَّه الغرَضُ الأوَّلُ مِن قولِه: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ [1164] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/217). .
- وأنبَأَ فِعلُ (لِتَبْلُغُوا) أنَّ الحاجةَ التي في الصُّدورِ حاجةٌ في مَكانٍ بعيدٍ يَطلُبُها صاحبُها [1165] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/216). .
- وقولُه: فِي صُدُورِكُمْ إشارةٌ إلى أنَّ حاجةً واحدةً ضاقتْ عنها قُلوبُ الجميعِ حتى فاضَتْ منها، فمَلَأت مَساكِنَها [1166] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/124). .
- ولَمَّا كان الرُّكوبُ منها هو أعْظمَ مَنفعةٍ؛ إذ فيه مَنفعةُ الأكْلِ والرُّكوبِ -وذَكَر أيضًا أنَّ في الجَميعِ منافِعَ مِن شُربِ لَبَنٍ واتِّخاذِ دِثارٍ وغيرِ ذلك-؛ أكَّدَ مَنفعةَ الرُّكوبِ بقولِه: وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ [1167] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/275). .
- ولَمَّا كان الرُّكوبُ وبُلوغُ الحَاجةِ المترتِّبةِ عليه قدْ يُتوصَّلُ به إلى الانتِقالِ لأمْرٍ واجِبٍ، أو مَندوبٍ، كالحَجِّ وطَلبِ العِلمِ؛ دخَلَ حرْفُ التَّعليلِ (اللام) على الرُّكوبِ وعلى المترتِّبِ عليه مِن بُلوغِ الحاجاتِ؛ فجعَلَ ذلك عِلَّةً لجَعْلِ الأنعامِ لنا. ولَمَّا كان الأكلُ وإصابةُ المنافِعِ مِن جِنسِ المُباحاتِ، لم يَجعَلْ ذلك عِلَّةً في الجَعْلِ، بلْ ذَكَر أنَّ منها نأكُلُ، ولنا فيها منافِعَ مِن شُرْبِ لَبَنٍ واتِّخاذِ دِثارٍ وغيرِ ذلك، كما أَدْخَل لامَ التَّعليلِ في لِتَرْكَبُوا، ولم يُدْخِلْها على الزِّينةِ في قولِه: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً [1168] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/275، 276). [النحل: 8] .
- وأُعقِبَ الامتِنانُ بالأنعامِ بالامتنانِ بالفُلْكِ؛ لِمُناسَبةِ قولِه: وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ، فقال: وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ، وهو انتقالٌ مِن الامتنانِ بجَعْلِ الأنعامِ إلى الامتنانِ بنِعمةِ الرُّكوبِ في الفُلْكِ في البِحارِ والأنهارِ؛ فالمقصودُ هو قولُه: وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ. وأمَّا قولُه: وَعَلَيْهَا فهو تَمهيدٌ له، وهو اعتراضٌ بالواوِ الاعتراضيَّةِ؛ تَكريرًا للمِنَّةِ، على أنَّه قدْ يَشمَلُ حمْلَ الأثْقالِ على الإبلِ، كقولِه تعالَى: وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ [النحل: 7] ؛ فيكونُ إسنادُ الحمْلِ إلى ضَميرِ النَّاسِ تَغليبًا. وقيل: لعلَّ المرادَ به حمْلُ النِّساءِ والوِلدانِ عليها بالهوْدَجِ، وهو السِّرُّ في فصْلِه عن الرُّكوبِ [1169] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/286)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/216). .
وقيل: قَولُه: وَعَلَيْهَا تَوطِئةٌ لِقَولِه سُبحانَه: وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ لِيَجمَعَ بيْنَ سَفائِنِ البَرِّ وسَفائِنِ البَحرِ، فكأنَّه قيل: وعليها في البَرِّ وعلى الفُلكِ في البَحرِ تُحمَلونَ؛ فلا تَكرارَ [1170] يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (12/342). .
- وإنَّما قال: وَعَلَى الْفُلْكِ، ولم يقُلْ: وفي الفُلْكِ، كما قال: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ [العنكبوت: 65] ؛ للمُزاوَجةِ والمشاكَلةِ مع لَفظِ وَعَلَيْهَا، وإنَّما أُعِيدَ حرْفُ (على) في الفُلْكِ؛ لأنَّها هي المقصودةُ بالذِّكرِ، وكان ذِكرُ وَعَلَيْهَا كالتَّوطئةِ لها، فجاءتْ على مِثالِها [1171] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/181)، ((تفسير البيضاوي)) (5/64)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/217). .
- وتَقديمُ المجرورِ في قولِه: وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ؛ للرِّعايةِ على الفاصِلةِ، مع الاهتِمامِ بما هو المقصودُ في السِّياقِ [1172] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/217). .
- وأشارَ بالبِناءِ للمَفعولِ تُحْمَلُونَ أنَّه سخَّرَ ذلك تَسخيرًا عظيمًا، لا يُحتاجُ معه إلى عِلاجٍ في نفْسِ الحمْلِ [1173] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/124). .
5- قولُه تعالَى: وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَأَيَّ آَيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ عطْفٌ على جُملةِ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ [غافر: 79] ، أي: اللهُ الذي يُرِيكم آياتِه، وهذا انتقالٌ مِن مُتعدَّدِ الامتِنانِ بما تَقدَّمَ مِن قولِه: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ [غافر: 61] ، اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا [غافر: 64] ، هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ [غافر: 67] ؛ فإنَّ تلك ذُكِرَت في مَعرِضِ الامتنانِ تَذكيرًا بالشُّكرِ، فنُبِّهَ هنا على أنَّ في تلك المِنَنِ آياتٍ دالَّةً على ما يَجِبُ للهِ مِن الوَحدانيَّةِ والقُدْرةِ والحِكمةِ؛ ولذلك كان قولُه: وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ مُفيدًا مُفادَ التَّذييلِ؛ لِما في قولِه: آَيَاتِهِ مِن العُمومِ؛ لأنَّ الجمْعَ المُعرَّفَ بالإضافةِ مِن صِيَغِ العُمومِ، أي: يُرِيكم آياتِه في النِّعَمِ المذكوراتِ وغيرِها مِن كلِّ ما يَدلُّ على وُجوبِ تَوحيدِه، وتَصديقِ رُسلِه، ونَبْذِ المُكابَرةِ فيما يَأْتونهم به مِن آياتِ صِدقِهم [1174] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/217، 218). .
- وأيضًا في قولِه: وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَأَيَّ آَيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ جِيءَ في جانبِ إراءةِ الآياتِ بالفِعلِ المضارِعِ؛ لِدَلالتِه على التَّجدُّدِ؛ لأنَّ الإنسانَ كلَّما انتفَعَ بشَيءٍ مِن النِّعَمِ عَلِمَ ما في ذلك مِن دَلالةٍ على وَحدانيَّةِ خالِقِها وقُدرتِه وحِكْمتِه. والإراءةُ هنا بَصَريَّةٌ، عبَّرَ بها عن العِلمِ بصِفاتِ اللهِ؛ إذ كان طَريقُ ذلك العِلمِ هو مُشاهدةَ تلك الأحوالِ المختلِفةِ، فمِن تلك المشاهَدةِ يَنتقِلُ العقْلُ إلى الاستِدلالِ. وفيه إشارةٌ إلى أنَّ دَلالةَ وُجودِ الخالِقِ ووَحدانيَّتِه وقُدرتِه بُرهانيَّةٌ تَنْتهي إلى اليَقينِ والضَّرورةِ [1175] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/218). .
- وإضافةُ الآياتِ إلى ضَميرِ الجلالةِ والاسمِ الجَليلِ في قولِه: وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَأَيَّ آَيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ؛ لِتَربيةِ المَهابةِ، وتَهويلِ إنْكارِها، ولزِيادةِ التَّنويهِ بها، والإرشادِ إلى إجادةِ النَّظرِ العقْليِّ في دَلائلِها. وأمَّا كونُها جائِيةً مِن لَدُنِ اللهِ، وكونُ إضافتِها مِن الإضافةِ إلى ما هو في معنَى الفاعلِ، فذلك أمْرٌ مُستفادٌ مِن إسنادِ فِعلِ وَيُرِيكُمْ إلى ضَميرِه تعالَى [1176] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/286)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/218). .
- وفُرِّعَ على إراءةِ الآياتِ قولُه: فَأَيَّ آَيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ وهو استِفهامٌ إنْكاريٌّ عليهم مِن أجْلِ إنْكارِهم ما دلَّت عليه تلك الآياتُ، وهو هنا مُستعمَلٌ في إنكارِ أنْ يكونَ شَيءٌ مِن آياتِ اللهِ يُمكِنُ أنْ يُنكَرَ دونَ غيْرِه مِن الآياتِ؛ فيُفِيدُ أنَّ جميعَ الآياتِ صالحٌ للدَّلالةِ على وَحدانيَّةِ اللهِ وقُدْرتِه، لا مَساغَ لادِّعاءِ خَفائِه، وأنَّهم لا عُذْرَ لهمْ في عَدمِ الاستِفادةِ مِن إحْدَى الآياتِ [1177] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/218). .