موسوعة التفسير

سورةُ العَنكَبوتِ
الآيات (48-52)

ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ

غَريبُ الكَلِماتِ:

لَارْتَابَ: أي: لَشَكَّ، والرِّيبةُ: قلَقُ النَّفْسِ واضْطِرابُها، وأصلُ (ريب): يدُلُّ على شَكٍّ، وكَوْنُ الأمرِ مشكوكًا فيه ممَّا تَقلقُ له النَّفْسُ ولا تَستقِرُّ [651] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 470)، ((تفسير ابن جرير)) (18/424)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/463)، ((تفسير الزمخشري)) (1/34)، ((المفردات)) للراغب (ص: 368)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 91). .

المعنى الإجماليُّ:

يَذكُرُ الله تعالى الأدِلَّةَ الواضحةَ على أنَّ هذا القرآنَ مِن عندِه تعالى، فيقولُ: وما كنتَ تقرأُ -يا محمَّدُ- كِتابًا مِن قبْلِ هذا القُرآنِ، ولا تَكتُبُه بيَمينِك؛ فلو كنتَ تَقرأُ أو تكتُبُ قبْلَ نبُوَّتِك لَشَكَّ في صِدقِك هؤلاء الكافِرونَ، بل هذا القُرآنُ آياتٌ واضِحاتٌ محفوظةٌ في صَدرِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم والمؤمِنينَ، وما يَجحَدُ بآياتِنا إلَّا الظَّالِمونَ.
ثمَّ يَذكُرُ تعالى طرَفًا مِن أقوالِ المشركينَ الفاسدةِ، فيقولُ: وقال مُشرِكو قُرَيشٍ: لولا أُنزِلَ على محمَّدٍ مُعجِزاتٌ مِن رَبِّه.
ثمَّ يُرشِدُ الله تعالى نبيَّه إلى الرَّدِّ عليهم، فيقولُ: قُلْ -يا محمَّدُ- لهم: إنَّما المُعجِزاتُ عندَ اللهِ، وإنَّما أنا نذيرٌ مُبينٌ، ليس مِن شأني إلَّا إنذارُكم.
 ثمَّ يقولُ الله تعالى مُنكِرًا عليهم: أوَلم يَكفِهم أنَّا أنزَلْنا عليك القُرآنَ يُتلى عليهم؟! إنَّ في ذلك لَرَحمةً وذِكرى للمُؤمِنينَ.
ثمَّ يرشِدُ الله تعالى النَّبيَّ إلى جوابٍ آخَرَ يرُدُّ به عليهم، فيقولُ: قُلْ -يا محمَّدُ- للمُشرِكين: حَسْبيَ اللهُ شاهِدًا بيْنَنا، يَعلَمُ جميعَ ما في السَّمواتِ والأرضِ، وسيُجازي كلًّا بما يَستحِقُّ، والَّذين آمَنوا بالباطِلِ وكفَروا باللهِ -وهو الحقُّ سُبحانَه- أولئك هم الخاسِرونَ في الدُّنيا والآخِرةِ.

تَفسيرُ الآياتِ:

وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أشار إلى أنَّ المنكِرَ لأصلِ الوَحيِ مُتوغِّلٌ في الكُفرِ، دلَّ على ذلك بحالِ المُنزَلِ إليه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال مُسَلِّيًا له [652] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/453). :
وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ.
أي: وما كنتَ -يا محمَّدُ- تقرأُ كتابًا مِن قبْلِ هذا القرآنِ [653] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/424)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 834)، ((تفسير القرطبي)) (13/351)، ((تفسير ابن كثير)) (6/285، 286)، ((تفسير السعدي)) (ص: 633). .
وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ.
أي: وما كنتَ -يا محمَّدُ- تُحسِنُ الكتابةَ [654] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/424)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 834)، ((تفسير ابن كثير)) (6/285)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/10). .
إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ .
أي: لو كنتَ -يا محمَّدُ- تقرأُ أو تَكتُبُ قبْلَ نبُوَّتِك، لَشَكَّ في صِدقِك الكافِرونَ [655] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/424)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 834)، ((تفسير الزمخشري)) (3/458)، ((تفسير ابن كثير)) (6/286)، ((تفسير السعدي)) (ص: 633)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/10). قيل: المرادُ بالمُبطِلينَ هنا: أهلُ الكتابِ. أي: فلو كان النَّبيُّ غيرَ أمِّيٍّ لَقالوا: الَّذي نجِدُه في كُتُبِنا أنَّه رَسولٌ أمِّيٌّ لا يكتُبُ ولا يَقرأُ. وممَّن قال بهذا القولِ: السمرقنديُّ، والقرطبيُّ. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (2/637)، ((تفسير القرطبي)) (13/351). وممَّن فسَّر المُبطِلينَ بأنَّهم اليهودُ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/386). وممَّن قال بهذا القولِ مِنَ السَّلفِ: السُّدِّيُّ. يُنظر: ((تفسير يحيى بن سلام)) (2/635(. وقيل: المرادُ بهم: كُفَّارُ قُرَيشٍ. أي: فلو كان النَّبيُّ غيرَ أمِّيٍّ لارتاب هؤلاء وقالوا: إنَّما أخَذ القُرآنَ وتَعلَّمَه مِن كِتابٍ سابقٍ. وممَّن قال بهذا المعنى: الواحديُّ، والخازنُ، والألوسيُّ. يُنظر: ((الوجيز)) للواحدي (ص: 834)، ((تفسير الخازن)) (3/383)، ((تفسير الألوسي)) (11/5). وممَّن قال بهذا القولِ مِنَ السَّلفِ: مجاهدٌ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/426). وممَّن قال بأنَّهم: أهلُ الكتابِ والعَرَبِ: البِقاعي. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/453، 454). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الزمخشري)) (3/458). وقيل: يعمُّ لفظُه كلَّ مكذبٍ بمحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم، ولكنْ عظَّم الإشارةَ به إلى قريشٍ؛ لأنَّهم الأهمُّ. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/322). .
كما قال تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ [الأعراف: 157] .
بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49).
بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ.
أي: بل [656] قال ابنُ عثيمين: («بل» هنا للإضرابِ، والإضرابُ نَوعان: انتِقاليٌّ وإبطاليٌّ، وهنا يحتَمِلُ أنَّ الإضرابَ للإبطالِ...؛ لأنَّه أبطلَ قَولَهم: إنَّه جاء به مِن عندِه. ويحتَمِلُ أن يكونَ الإضرابُ انتِقاليًّا؛ لأنَّه لَمَّا نفى ما يكونُ به مُتقَوِّلًا على الله، أثبَتَ أنَّه آياتٌ مِن الله؛ فيكون انتِقالًا مِنَ النَّفْيِ إلى الإيجابِ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 278). القُرآنُ آياتٌ واضِحاتُ الدَّلالةِ على الحَقِّ، وهو محفوظٌ في صَدرِ النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- والمُؤمِنينَ [657] يُنظر: ((تفسير يحيى بن سلام)) (2/635)، ((تفسير ابن كثير)) (6/286، 287)، ((تفسير الشوكاني)) (4/239)، ((تفسير السعدي)) (ص: 633)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/11، 12). ممَّن اختار القولَ المذكورَ -أنَّ المرادَ بقولِه: هُوَ أي: القرآنُ-: يحيى بنُ سلام، وابنُ كثير، والشوكاني، والسعدي، وابن عاشور. يُنظر المصادر السابقة. وقيل: المرادُ بقوله: هُوَ: محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم. وعلى هذا ففي المرادِ بالآيةِ قَولانِ: (أحدهما: أنَّ المعنى: بل وِجدانُ أهلِ الكتابِ في كُتُبِهم أنَّ مُحمَّدًا صَلَّى الله عليه وسلَّمَ لا يكتُبُ ولا يَقرأُ، وأنَّه أُمِّيٌّ: آياتٌ بيِّناتٌ في صدورِهم، وهذا مذهَبُ ابنِ عبَّاسٍ، والضَّحَّاكِ، وابنِ جُرَيجٍ. والثَّاني: أنَّ المعنى: بل محمَّدٌ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ذو آياتٍ بيِّناتٍ في صدورِ الَّذين أُوتوا العِلْمَ مِن أهلِ الكِتابِ؛ لأنَّهم يَجِدونَه بنَعتِه وصِفتِه. قاله قَتادةُ). ((تفسير ابن الجوزي)) (3/410). وقيل: يحتملُ أن يعودَ على أمرٍ محمد صلَّى الله عليه وسلَّم في أنَّه لم يتلُ ولا خطَّ. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/322). .
كما قال تعالى: وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ [سبأ: 6] .
وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ.
أي: وما يَجحَدُ بآياتِنا مع ظُهورِها، ودَلالتِها الواضِحةِ على الحَقِّ، ويُنكِرُها بعدَ مَعرِفتِها إلَّا المتَّصِفونَ بظُلمِ أنفُسِهم بالكُفرِ والمُكابَرةِ والعِنادِ [658] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/428)، ((تفسير البيضاوي)) (4/197)، ((تفسير ابن كثير)) (6/287)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/455)، ((تفسير السعدي)) (ص: 633)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/13)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 279-281). .
وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
بعدَ أن ذكَرَ الدَّليلَ على أنَّ القُرآنَ مِن عِندِ اللهِ، وليس بمُفترًى مِن عندِ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- أردَفَ هذا شُبهةً أُخرى لهم [659] يُنظر: ((تفسير المراغي)) (21/8). .
وأيضًا لَمَّا ذَكَر الجاحِدينَ لآيةِ القرآنِ ثلاثَ مرَّاتٍ، ووصَفَهم بالكافِرينَ والمُبطلينَ والظَّالِمينَ؛ انتَقَل الكلامُ إلى مَقالَتِهم النَّاشئةِ عن جُحودِهم [660] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/13). .
وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ.
أي: وقال مُشرِكو قُرَيشٍ: لولا أُنزِلَ على محمَّدٍ مُعجِزاتٌ مِن رَبِّه -كمُعجِزاتِ صالحٍ وموسى وعيسى- تكونُ حُجَّةً له علينا؛ فنُصَدِّقَه [661] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/428)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 835)، ((تفسير القرطبي)) (13/355)، ((تفسير ابن كثير)) (6/287)، ((تفسير السعدي)) (ص: 633). .
كما قال تعالى: وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ [الإسراء: 90 - 93] .
وقال تعالى حاكيًا عن الكفَّارِ قولَهم: فَلْيَأْتِنَا بِآَيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [الأنبياء: 5] .
قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ.
أي: قُلْ -يا مُحمَّدُ- لِمُشرِكي قَومِك: إنَّما المُعجِزاتُ عندَ اللهِ، وليست عندي، فلا يأتي بها إلَّا هو إن شاءَ [662] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/428)، ((تفسير القرطبي)) (13/355)، ((تفسير السعدي)) (ص: 633). وقيل: الضميرُ في وَقَالُوا لقريشٍ ولبعضِ اليهودِ؛ لأنَّهم كانوا يعلِّمون قريشًا مثلَ هذه الحجةِ. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/322). .
وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ.
أي: وإنَّما أنا نذيرٌ مُبينٌ [663] قوله: مُبِينٌ أي: مبِينٌ لإنذارِه مِن (أبان)، أو نذيرٌ بَيِّنُ الإنذارِ مِن (بان). يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 287). ممَّن اختار في الجملةِ أنَّه مِن أبانَ إبانةً، أي: أبانَ لكم إنذارَه وما أُوتيَه مِنَ الآياتِ بالدَّلائلِ الواضحةِ: ابنُ جرير، والرَّسْعَنيُّ، والعُلَيمي، والشوكاني، والقاسمي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/428)، ((تفسير الرسعني)) (5/625)، ((تفسير العليمي)) (5/256)، ((تفسير الشوكاني)) (4/239)، ((تفسير القاسمي)) (7/561). واختار ابنُ كثيرٍ أنَّ المعنى: بَيِّنُ النِّذارةِ. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/287). ليس مِن شأني إلَّا إنذارُكم عذابَ اللهِ، وليست لي قُدرةٌ على الإتيانِ بمُعجِزاتٍ [664] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/428)، ((الوسيط)) للواحدي (3/423)، ((تفسير ابن كثير)) (6/287)، ((تفسير الشوكاني)) (4/239، 240). .
أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه ردٌّ على الَّذينَ قالوا: لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ [665] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/362). .
أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ.
أي: أوَلم يَكْفِ هؤلاء المُشرِكينَ المُقتَرِحينَ نُزولَ الآياتِ عليك -يا محمَّدُ- أنَّا أنزَلْنا عليك القُرآنَ الَّذي تتتابَعُ قراءتُه عليهم؟! فهو كافٍ في إثباتِ صِدقِك، وهدايتِهم إلى الحَقِّ [666] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/429)، ((تفسير القرطبي)) (13/355)، ((تفسير ابن كثير)) (6/287، 288)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/457)، ((تفسير السعدي)) (ص: 633). .
كما قال تعالى: وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى [طه: 133] .
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ .
أي: إنَّ في ذلك القُرآنِ لَرَحمةً في الدُّنيا والآخرةِ للمُؤمِنينَ، وذِكرى لهم؛ يَتذكَّرونَ بما فيه مِن عِبرةٍ وعِظةٍ [667] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/429)، ((تفسير القرطبي)) (13/355)، ((تفسير البيضاوي)) (4/197)، ((تفسير ابن كثير)) (6/288)، ((تفسير السعدي)) (ص: 633). ممَّن اختار القولَ المذكورَ -أنَّ المرادَ باسمِ الإشارةِ ذَلِكَ: القرآنُ-: ابنُ جرير، والقرطبي، والبيضاوي، وابن كثير، والسعدي. يُنظر: المصادر السابقة. وقيل: الإشارةُ تعودُ إلى: إنزالِ الكِتابِ. وممَّن اختاره: الماتُريديُّ، والواحدي، والبغوي، وابن عادل، والبِقاعي. وجعله ابنُ عثيمين احتمالًا. يُنظر: ((تفسير الماتريدي)) (8/237)، ((الوسيط)) للواحدي (3/423)، ((تفسير البغوي)) (3/563)، ((تفسير ابن عادل)) (15/364)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/458)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 294، 295). قال ابن عثيمين: (فالقرآنُ في الحقيقةِ ذِكْرى مِن الوجهَينِ: مِن جهةِ أنَّه نزَل مِن عندِ الله، ومجرَّدُ شعورِ الإنسانِ بأنَّه نزَل مِن عندِ الله لا شكَّ أنَّه يَتذكَّرُ به ويُعَظِّمُه؛ لأنَّه كلامُ ربِّه، وكذلك أيضًا ما فيه مِن المعاني العظيمةِ والآثارِ الحميدةِ هي أيضًا آيةٌ مِن آياتِ الله... فاللهُ عزَّ وجلَّ أنزَلَ القرآنَ رحمةً للنَّاسِ، وأيضًا ذِكْرى، يعني: عِظةً يَتذكَّرُ به النَّاسُ، فبه يَتراحمونَ ويَرحَمون؛ فهو ذِكْرى ولكنْ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 295). .
كما قال تعالى: هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 203] .
وقال سُبحانَه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يونس: 57] .
قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52).
قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا .
أي: قُلْ -يا مُحمَّدُ- للمُشرِكينَ: حَسْبيَ اللهُ شاهِدًا يَعلَمُ المحِقَّ مِنَّا مِن المُبطِلِ، فيَحكُمُ بَيْني وبيْنَكم [668] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/430)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 835)، ((تفسير القرطبي)) (13/355)، ((تفسير البيضاوي)) (4/197)، ((تفسير ابن كثير)) (6/288)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 298، 299). .
يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.
أي: اللهُ يَعلَمُ جَميعَ ما في السَّمواتِ والأرضِ، فلا يخفَى عليه المحِقُّ مِن المُبطِلِ، وسيُجازي كلًّا بما يَستَحِقُّ [669] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/430)، ((تفسير القرطبي)) (13/355)، ((تفسير ابن كثير)) (6/288)، ((تفسير السعدي)) (ص: 633)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 301). .
وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ.
أي: والَّذين آمَنوا بما يُعبَدُ مِن دونِ اللهِ، وكَفَروا باللهِ -وهو الحَقُّ وَحْدَه-: أولئك هم المتَّصِفونَ بالخَسارةِ أبدًا في الدُّنيا والآخِرةِ [670] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/430)، ((تفسير القرطبي)) (13/356)، ((تفسير البيضاوي)) (4/197)، ((تفسير ابن كثير)) (6/288)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/462)، ((تفسير الشوكاني)) (4/240)، ((تفسير السعدي)) (ص: 634)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 302- 305). .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- قال تعالى: بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ فمَدَحَ سُبحانَه أهلَ العِلمِ وأثنى عليهم وشَرَّفَهم بأن جَعَلَ كتابَه آياتٍ بَيِّناتٍ في صُدورِهم، وهذه خاصَّةٌ ومَنقَبةٌ لهم دونَ غيرِهم [671] يُنظر: ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/50). .
2- قَولُه تعالى: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ فالكِتابُ كافٍ عن كلِّ آيةٍ لِمَن تدَبَّرَه وتعَقَّلَه، وعَرَف معانيَه، وانتَفَع بأخبارِه، واتَّعَظ بقَصَصِه؛ فإنَّه يُغْني عن كلِّ شَيءٍ مِن الآياتِ، لكِنَّ الَّذي يجعَلُنا لا نُحِسُّ بهذه الآياتِ العظيمةِ أنَّنا لا نَقرأُ القرآنَ على وجهٍ نَتدَبَّرُه ونتَّعِظُ بما فيه، كثيرٌ مِن المُسلِمينَ -إن لم يكُنْ أكثَرُ المُسلِمينَ- يَتلُونَ الكتابَ للتَّبَرُّكِ والأجرِ فقط [672] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) للعثيمين (2/142). !
3- في قَولِه تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أنَّه كُلَّما كان الإنسانُ أقوى إيمانًا كان أكثرَ انتِفاعًا بالقرآنِ، وكلَّما كان أضعَفَ إيمانًا أو أكثرَ مَعصيةً كان أبعَدَ عن فَهمِ القُرآنِ والانتِفاعِ به، بل إنَّ المعاصيَ تَحولُ بيْنَ الإنسانِ وبيْنَ فَهمِ القُرآنِ [673] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 296). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- قد أشار قولُه: يُتْلَى عَلَيْهِمْ وما بعْدَه إلى خمْسِ مزايَا للقرآنِ على غيرِه مِن المعجزاتِ:
المَزِيَّةُ الأولى: ما أشار إليه قولُه: يُتْلَى عَلَيْهِمْ مِنِ انتشارِ إعجازِه وعُمومِه في المجامعِ والآفاقِ والأزمانِ المختلِفةِ، بحيث لا يَختَصُّ بإدراكِ إعجازِه فريقٌ خاصٌّ في زمَنٍ خاصٍّ شأْنَ المُعجزاتِ المَشهودةِ، مِثلُ عصَا مُوسى، وناقةِ صالحٍ، فهو يُتْلى، ومِن ضمْنِ تِلاوتِه الآياتُ الَّتي تحدَّتِ النَّاسَ بمُعارَضتِه، وسجَّلتْ عليهم عجْزَهم عن المعارَضةِ مِن قبْلِ مُحاوَلتِهم إيَّاها، فكان كما قال؛ فهو مُعجِزةٌ باقيةٌ، والمُعجزاتُ الأخرى مُعجزاتٌ زائلةٌ.
المَزِيَّةُ الثَّانيةُ: كَوْنُه ممَّا يُتْلَى؛ فإنَّ ذلك أرفَعُ مِن كَونِ المعجزاتِ الأُخرَى أحوالًا مَرئيَّةً؛ لأنَّ إدراكَ المَتلُوِّ إدراكٌ عقْليٌّ فِكريٌّ، وهو أعلى مِن المُدرَكاتِ الحِسِّيَّةِ، فكانت مُعجزةُ القرآنِ ألْيَقَ بما يَستقبِلُ مِن عصورِ العِلْمِ الَّتي تهيَّأَت إليها الإنسانيَّةُ.
المَزِيَّةُ الثَّالثةُ: ما أشار إليه قولُه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً، فالكِتابُ المَتلُوُّ مُشتمِلٌ على ما هو رحمةٌ لهم اشتِمالَ الظَّرفِ على المظروفِ؛ لأنَّه يَشتمِلُ على إقامةِ الشَّريعةِ، وهي رحمةٌ وصلاحٌ للنَّاسِ في دُنياهم، فالقرآنُ مع كَونِه مُعجِزةً دالَّةً على صِدقِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ومُرشِدةً إلى تَصديقِه -مِثل غيرِه مِن المُعجزاتِ-؛ هو أيضًا وسيلةُ عِلْمٍ وتشريعٍ وآدابٍ للمَتلوِّ عليهم، وبذلك فضَلَ غيرَه مِن المُعجزاتِ الَّتي لا تُفيدُ إلَّا تَصديقَ الرَّسولِ الآتي بها.
المَزِيَّةُ الرَّابعةُ: ما أشار إليه قولُه: وَذِكْرَى؛ فإنَّ القرآنَ مُشتمِلٌ على مواعظَ ونُذُرٍ، وتعريفٍ بعواقبِ الأعمالِ، وإعدادٍ إلى الحياةِ الثَّانيةِ، ونحوِ ذلك ممَّا هو تَذكيرٌ بما في تذَكُّرِه خيرُ الدَّارينِ، وبذلك فضَلَ غيرَه مِن المعجزاتِ الصَّامتةِ الَّتي لا تُفيدُ أزْيَدَ مِن كَونِ الآتيةِ على يَدَيه صادقًا.
المَزِيَّةُ الخامسةُ: أنَّ كَوْنَ القرآنِ كتابًا مَتْلوًّا مُستطاعًا إدراكُ خَصائصِه لكلِّ عربيٍّ، ولكلِّ مَن حذَقَ العربيَّةَ مِن غيرِ العرَبِ، مِثلُ أئمَّةِ العربيَّةِ؛ يُبعِدُه عن مُشابَهةِ نَفَثاتِ السَّحَرةِ والطَّلاسمِ، فلا يستطيعُ طاعنٌ أنْ يَزعُمَ أنَّه تخيُّلاتٌ، كما قال قومُ فِرعونَ لمُوسى: يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ [الزخرف: 49] ، وقال تعالى حِكايةً عن المشركينَ حينَ رأَوْا مُعجِزةَ انشِقاقِ القمَرِ: وَإِنْ يَرَوْا آَيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ [القمر: 2]، فأشار قولُه: يُعْرِضُوا إلى أنَّ ذلك القولَ صدَرَ عنهم في مُعجزةٍ مرئيَّةٍ. وعُلِّقَ بالرَّحمةِ والذِّكرى قولُه: لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ؛ للإشارةِ إلى أنَّ تلك مَنافِعُ مِن القرآنِ زائدةٌ على ما في المُعجزاتِ الأُخرى مِن المنفعةِ الَّتي هي مَنفعةُ الإيمانِ بما جاء به الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. فهذه مَزايَا عظيمةٌ لمُعجزةِ القرآنِ، حاصِلةٌ في حضْرةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وغَيْبتِه، ومُستقِلَّةٌ عن الحاجةِ إلى بيانِه وتَكميلِه بالدَّعوةِ وبتَكريرِها [674] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/15، 16). .
2- قَولُ الله تعالى: وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ فيه أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان أمِّيًّا لا يقرأُ ولا يكتُبُ، وفيه ردٌّ على مَن زعَمَ أنَّه كَتَب [675] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 205). ويُنظر أيضًا: ((كتاب مناهل العرفان للزرقاني- دراسة وتقويم)) للسبت (ص: 455 - 466). .
3- قال الله تعالى: إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ سمَّاهم مُبطِلينَ؛ لأنَّ ارتيابَهم على تقديرِ أنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم يقرأُ ويَكتُبُ: ظُلْمٌ منهم؛ لِظُهورِ نَزاهتِه، ووُضوحِ مُعجزاتِه [676] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (4/239). ؛ لذا لَمْ يَقُلْ: «لارتابَ النَّاسُ»؛ لأنَّه لو فُرِضَ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَتْلُو كتابًا مِن قَبْلِ ذلك، ويَخُطُّه بيمينِه، وأتَى بهذا القرآنِ مع وُجودِ الآياتِ الدَّالَّةِ على صِدْقِه؛ فإنه لا يَحصُلُ ارتيابٌ، لكنَّ المُبْطِلَ قد يَحتجُّ بالشُّبهةِ ويَراها بَيِّنةً [677] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 272). .
وأيضًا فوَصفُ المكَذِّبينَ بالمُبطِلينَ منظورٌ فيه لحالِهم في الواقِعِ؛ لأنَّهم كَذَّبوا مع انتِفاءِ شُبهةِ الكَذِبِ، فكان تكذيبُهم الآنَ باطِلًا، فهم مُبطِلونَ مُتَوَغِّلونَ في الباطِلِ؛ فالقَولُ في وَصفِهم بالمُبطِلينَ كالقَولِ في وَصفِهم بالكافِرينَ [678] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/11). .
4- قال الله تعالى: لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ، الرَّيْبُ شكٌّ بقلَقٍ، فالمُبطِلُ شَكُّهُ مُقترِنٌ بالقلَقِ؛ لأنَّه ليس شَكًّا مَبْنيًّا على أصلٍ، فهو قَلِقٌ منه: هل يَكونُ ذلك الشَّكُّ حقيقةً أو مُجرَّدَ شبهةٍ واشتِباهٍ! بخِلافِ الشَّكِّ الَّذي له أصلٌ حقيقيٌّ؛ فنَجِدُ صاحبَه ليس بقَلِقٍ منه؛ كما لو شكَّ في عددِ ركَعاتِ الصَّلاةِ [679] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 272، 277). .
5- قال الله تعالى: وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ، ووجْهُ التَّلازُمِ بيْنَ التِّلاوةِ والكِتابةِ المُتقدِّمَينِ على نُزولِ القُرآنِ، وبيْنَ حُصولِ الشَّكِّ في نُفوسِ المشركين: أنَّه لو كان ذلك واقعًا لاحتمَلَ عندَهم أنْ يكونَ القرآنُ مِن جِنسِ ما كان يَتْلوه مِن قبْلُ مِن كُتبٍ سالِفةٍ، وأنْ يكونَ ممَّا خطَّه مِن قبْلُ مِن كلامٍ تلَقَّاهُ، فقام اليومَ يَنشُرُه ويَدْعو إليه. وإنَّما جعَلَ ذلك مُوجِبَ رَيبٍ دونَ أنْ يكونَ مُوجِبَ جزْمٍ بالتَّكذيبِ؛ لأنَّ نظْمَ القرآنِ وبلاغتَه وما احْتَوى عليه مِن المعاني يُبطِلُ أنْ يكونَ مِن نوعِ ما سبَقَ مِن الكتُبِ والقَصصِ والخُطَبِ والشِّعرِ، ولكنْ ذلك لَمَّا كان مُستدعِيًا تأمُّلًا لم يَمنَعْ مِن خُطورِ خاطرِ الارتيابِ على الإجمالِ قبْلَ إتمامِ النَّظرِ والتَّأمُّلِ بحيث يكونُ دوامُ الارتيابِ بُهتانًا ومُكابَرةً [680] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/11). .
6- في قَولِه تعالى: فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أنَّ مَحَلَّ العقلِ والوعيِ القلبُ -والقلوبُ في الصُّدورِ-، كما قال سبحانه وتعالى: وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [681] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 281). [الحج: 46] .
7- في قَولِه تعالى: بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الثَّناءُ على حَفَظةِ القرآنِ [682] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 281). .
8- في قَولِه تعالى: وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ إقرارُ المشركين بعُلُوِّ اللهِ جلَّ وعلا، فيكونُ اعتقادُ المشركين في اللهِ مِن حيثُ العُلُوُّ أكملَ مِن اعتقادِ المعتزلةِ والجهميَّةِ والأشاعرةِ؛ لأنَّ هؤلاء يُنْكِرون عُلُوَّ اللهِ الذَّاتيَّ، ويقولون: إنَّ اللهَ لا داخلَ العالَمِ ولا خارجَه، ولا مُتَّصِلًا ولا مُباينًا [683] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 288). !
9- في قَولِه تعالى: وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أنَّ مِن بلاغةِ الكلامِ أنْ يكونَ الخِطابُ موافِقًا لمقتَضى الحالِ؛ وجْهُ ذلك: الحَصرُ في ذِكْرِ الإنذارِ فقط؛ فالرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَشيرٌ ونذيرٌ، لكنَّ المقامَ مقامُ مُحَاجَّةِ الكافِرينَ؛ فكان مقتضى الحالِ ذِكْرَ صِفةِ الإنذارِ فقط، وعدَمَ ذِكرِ كَونِه بَشيرًا [684] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 290). .
10- في قَولِه تعالى: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ أنَّه بمُجرَّدِ تِلاوةِ القرآنِ على شخصٍ فقد قامتْ عليه الحُجَّةُ، ويكونُ ذلك مُلزِمًا له بالاتِّباعِ؛ لأنَّ اللهَ لم يَذْكُرْ أكثرَ مِن التِّلاوةِ، ولهذا فإنَّ الجنَّ وَلَّوْا إلى قومِهم مُنذِرِينَ بمُجرَّدِ سماعِهم القرآنَ: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ [الجن: 1، 2]، وقال تعالى: قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ [الأحقاف: 30]، لكنْ إذا كان الشَّخصُ لا يَفْهَمُ لُغةَ القرآنِ فلا تكونُ مُلْزِمةً، لقولِه عزَّ وجلَّ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إبراهيم: 4] ، ولا يَحصلُ البيانُ وهو لا يدري لغةَ القرآنِ [685] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 296). .
11- القرآنُ هو الآيةُ الكبرَى للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ لأنَّ المشركين قالوا: لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ، فقال سُبحانَه: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ [686] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (3/594). .
12- في قَولِه تعالى: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أنكَر سُبحانَه وتعالى على مَن لم يَكْتَفِ بالوحيِ عن غيرِه [687] يُنظر: ((الصواعق المرسلة)) لابن القيم (3/826). .
13- قولُه تعالى:  أَنْزَلْنَا فيه إثباتُ عُلُوِّ اللهِ عزَّ وجلَّ [688] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 295). .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قوله تعالى: وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ
- قولُه: وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ، أدخَل الجارَّ فقال مِنْ قَبْلِهِ؛ لأنَّ المرادَ نفْيُ التِّلاوةِ عن كثيرِ الزَّمنِ الماضي وقليلِه، وأكَّد استِغراقَ الكُتبِ فقال: مِنْ كِتَابٍ أصلًا [689] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/453). .
- قولُه: وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ فيه إطنابٌ لا بُدَّ منه؛ فذِكْرُ اليمينِ -وهي الجارحةُ الَّتي يُزاوَلُ بها الخطُّ-: زِيادةُ تَصويرٍ لِمَا نفى عنه مِن كَونِه كاتبًا؛ ألَا ترى أنَّك إذا قلْتَ في الإثباتِ: رأيتُ الأميرَ يخُطُّ هذا الكتابَ بيَمينِه، كان أشدَّ لإثباتِك أنَّه تَولَّى كِتابتَه؟ فكذلك النَّفيُ [690] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/458)، ((تفسير البيضاوي)) (4/197)، ((تفسير أبي حيان)) (8/361)، ((الجدول في إعراب القرآن)) لمحمود صافي (20/348)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/11)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (7/443). .
- قولُه: إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (إذًا) جوابٌ وجزاءٌ لشرْطٍ مُقدَّرٍ بـ (لو)، دلَّ عليه قولُه: وَمَا كُنْتَ تَتْلُو، وَلَا تَخُطُّهُ، والتَّقديرُ: لو كنتَ تَتْلو قبْلَه كتابًا أو تخُطُّه لَارتابَ المُبطِلون [691] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/10). .
2- قوله تعالى: بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ
- قولُه: بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ إبطالٌ لِمَا اقتضاهُ الفرْضُ مِن قولِه: إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت: 48] ، أي: بلِ القرآنُ لا ريْبَ يَتطرَّقُه في أنَّه مِن عندِ اللهِ؛ فهو كلُّه آياتٌ دالَّةٌ على صِدقِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأنَّه مِن عندِ اللهِ [692] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/11، 12). .
- قولُه: بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ على القولِ بأنَّ المُرادَ مِن: (صُدورِ الذين أُوتوا العِلْمَ) صدْرُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ عُبِّرَ عنه بالجمْعِ تعظيمًا له؛ فالمنفيُّ هو أنْ يكونَ مَتْلُوًّا قبْلَ نُزولِه. وهذا الَّذي يَقتِضيه سِياقُ الإضرابِ عن أنْ يكونَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَتْلو كِتابًا قبْلَ هذا القرآنِ بحيث يُظَنُّ أنَّ ما جاء به مِن القرآنِ ممَّا كان يَتْلوه مِن قبْلُ، فلمَّا انْتَفى ذلك ناسَبَ أنْ يُكشَفَ عن حالِ تلقِّي القرآنِ؛ فذلك هو مَوقِعُ قولِه: فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ، كما قال: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ [الشعراء: 193، 194]، وقال: كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ [الفرقان: 32]. وأمَّا الإخبارُ بأنَّه آياتٌ بيِّناتٌ فذلك تَمهيدٌ للغرَضِ، وإكمالٌ لِمُقتضاهُ؛ فالجارُّ والمجرورُ في قولِه: فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ خبرٌ ثانٍ عن الضَّميرِ، والتَّقديرُ: وما كنتَ تَتْلو مِن قبْلِه مِن كتابٍ ولا تخُطُّه بيَمينِك، بلْ هو أُلْقِيَ في صَدْرِك، وهو آياتٌ بيِّناتٌ. وعلى أنَّ المُرادَ بـ صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ صُدورُ أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وحُفَّاظِ المسلمينَ؛ فهذا يَقْتضي أنْ يكونَ قولُه: فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ تَتميمًا للثَّناءِ على القُرآنِ، وأنَّ الغرَضَ هو الإخبارُ عن القرآنِ بأنَّه آياتٌ بيِّناتٌ، فيكون المجرورُ صِفةً لـ آَيَاتٌ، والإبطالُ مُقتصِرٌ على قولِه: بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ [693] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/12). .
- قولُه: وَمَا  يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ تَذييلٌ يُؤْذِنُ بأنَّ المشركينَ جَحَدوا آياتِ القرآنِ على ما هي عليه مِن وُضوحِ الدَّلالةِ على أنَّها مِن عندِ اللهِ؛ لأنَّهم ظالِمون لا إنصافَ لهم، وشأْنُ الظَّالِمينَ جحْدُ الحقِّ، يَحمِلُهم على جَحْدِه هوَى نُفوسِهم للظُّلمِ، كما قال تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل: 14] ، فهم مُتَوَغِّلون في الظُّلمِ [694] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/13). .
3- قوله تعالى: وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ
- قولُه: وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أفادتْ (إنَّما) قصْرَ النَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ على صِفةِ النِّذارةِ، أي: الرِّسالةِ، لا يَتجاوَزُها إلى خلْقِ الآياتِ أو اقتِراحِها على ربِّه، فهو قصْرُ إفرادٍ [695] القَصرُ أو الحَصرُ: في اصطِلاح البلاغيِّينَ هو تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه؛ مِثل: إنَّما زيدٌ قائمٌ، و: ما ضربتُ إلَّا زيدًا. ويَنقسِمُ إلى قصرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقَصْرِ قَلْبٍ. ويَنقسِمُ القَصرُ أو الحَصرُ باعتبارٍ آخَرَ إلى ثلاثةِ أقسامٍ: قصْرُ إفرادٍ، وقصْرُ قَلْبٍ، وقَصْرُ تعيينٍ؛ فالأوَّل: يُخاطَبُ به مَن يَعتقدُ الشَّركةَ؛ نحو: إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ [النحل: 51] ، خُوطِبَ به مَن يَعتقدُ اشتِراكَ اللهِ والأصنامِ في الأُلوهيَّةِ. والثَّاني: يُخاطَبُ به مَن يَعتقدُ إثباتَ الحُكمِ لغيرِ مَن أثبتَه المُتكلِّمُ له؛ نحو: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [البقرة: 258] ، خُوطِبَ به نَمرودُ، الَّذي اعتَقد أنَّه هو المحييُّ المميتُ دون اللهِ. والثَّالثُ: يُخاطَبُ به مَن تَساوَى عندَه الأمْران، فلمْ يَحكُمْ بإثباتِ الصِّفةِ لواحدٍ بعَيْنِه، ولا لواحدٍ بإحْدى الصِّفتَينِ بعَيْنِها. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسَّكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقَزْويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجُرْجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني (1/525). ؛ ردًّا على زعْمِهم أنَّ مِن حقِّ المَوصوفِ بالرِّسالةِ أنْ يأتِيَ بالخَوارقِ المُشاهَدةِ. وخصَّ بالذِّكْرِ مِن أحوالِ الرِّسالةِ وصْفَ النَّذيرِ؛ تَعريضًا بالمشركينَ بأنَّ حالَهم يَقْتضي الإنذارَ، وهو توقُّعُ الشَّرِّ [696] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/13، 14)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 287). .
4- قوله تعالى: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
- قولُه: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ ... كلامٌ مُستأنَفٌ واردٌ مِن جِهَتِه تعالى ردًّا على اقتِراحِهم، وبَيانًا لِبُطلانِه. والهمزةُ للإنكارِ والنَّفيِ، والواوُ للعطفِ على مُقدَّرٍ يَقْتضيهِ المقامُ، أي: أقَصُرَ ولم يَكْفِهم آيةً مُغْنيةً عن سائرِ الآياتِ أنَّا أنزَلْنا... [697] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/362)، ((تفسير أبي السعود)) (7/43). ؟! أو: هو عطْفٌ على جُملةِ قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ [العنكبوت: 50] ، وهو ارتقاءٌ في المُجادَلةِ. والاستِفهامُ تَعجبيٌّ إنكاريٌّ، والمعنى: وهلْ لا يَكْفِيهم مِن الآياتِ آياتُ القرآنِ [698] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/14). ؟!
- و(الكِتاب): القرآنُ، وعُدِلَ عن لفْظِ (القرآنِ) الَّذي هو كالعَلَمِ عليه إلى لَفْظِ (الكتابِ) المعهودِ؛ لإيمائِه إلى معنى تَعظيمِه بأنَّه المُشتهِرُ مِن بيْنِ كُتبِ الأنبياءِ، واللَّامُ في (الكتاب) للجنْسِ؛ فدلَّ على الكَمالِ، أو للعهْدِ؛ فدلَّ على ما عُرِفَ واشتُهِرَ في البَلاغةِ [699] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/187)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/14). ، وهو القرآنُ الكريمُ العظيمُ.
- قولُه: يُتْلَى عَلَيْهِمْ مُستأنَفةٌ أو حالٌ؛ لأنَّ الكتابَ مَعلومٌ غيرُ مُحتاجٍ للوصْفِ؛ لِمَا تُشعِرُ به مادَّةُ التِّلاوةِ مِنَ الانتِشارِ والشُّيوعِ. واختِيرَ المُضارِعُ دونَ الوصْفِ بأنْ يُقالَ: مَتْلُوًّا عليهم؛ لِمَا يُؤْذِنُ به المُضارِعُ مِن الاستمرارِ، فحصَلَ مِن مادَّةِ (يُتْلى) ومِن صِيغةِ المُضارِعِ دَلالةٌ على عُمومِ الأمكنةِ والأزْمنةِ [700] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/187)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/14). . وقال: يُتْلَى عَلَيْهِمْ لَمْ يَقُلْ: «تتلوه عليهم»؛ لأنَّه أَعَمُّ، لأنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَتلوه على النَّاسِ، ثُمَّ يُعَلِّمُ بعضُهم بعضًا [701] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 294). .
- جملةُ: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وارِدةٌ مَوردَ التَّعليلِ؛ للتَّعجيبِ مِن عدَمِ اكتِفائِهم بالكتابِ، وفي التَّعليلِ تَتميمٌ لِمَا اقتضاهُ التَّعبيرُ بـ الْكِتَابَ وبـ يُتْلَى عَلَيْهِمْ، فالإشارةُ بـ ذَلِكَ إلى الكتابِ؛ لِيُسْتَحضَرَ بصِفاتِه كلِّها، وللتَّنويهِ به بما تَقْتضيهِ الإشارةُ مِن التَّعظيمِ. وتنْكيرُ (رحمة)؛ للتَّعظيمِ، أي: لا يُقادَرُ قَدْرُها [702] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/15). .
- قولُه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فيه استِحضارُ المُؤمنينَ بعُنوانِ: (قَومٍ يُؤمِنونَ) دونَ أنْ يُقالَ: (للمؤمنينَ)؛ لِمَا في لفظِ (قومٍ) مِن الإيماءِ إلى أنَّ الإيمانَ مِن مُقَوِّماتِ قَوميَّتِهم، أي: لِقَومٍ شِعارُهم أنْ يُؤمِنوا، يعني: لقومٍ شِعارُهم النَّظرُ والإنصافُ، فإذا قامَتْ لهم دَلائلُ الإيمانِ آمَنوا، ولم يُكابِروا ظُلْمًا وعُلوًّا؛ فالفِعلُ مُرادٌ به الحالُ القريبةُ مِن الاستقبالِ. وفيه تَعريضٌ بالَّذين لم يَكْتَفوا بمُعجِزتِه، واقتَرَحوا آياتٍ أُخرى لا نِسبةَ بيْنَه وبيْنَها [703] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/16). .
5- قوله تعالى: قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ هذا الكلامُ ورَدَ مَورِدَ الإنصافِ، أي: على أُسلوبِ الاستِدراجِ والكلامِ المُنصِفِ؛ وذلك أنَّ قولَه: قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ... الآيةَ، كلامٌ فيه وعيدٌ شديدٌ، وتَهديدٌ عظيمٌ، لكنْ لم يُكافِحْ به مَن خُوطِبَ بأنْ لم يَقُلْ: والَّذين آمَنوا بالباطلِ منكم، بلْ جِيءَ به عامًّا على الغَيبةِ، ولم يُصرِّحْ بما كان منهم مِن الجَحدِ والتَّكذيبِ؛ ليَتفكَّروا فيه، ويَنظُروا: هلْ هم مِن الجاحدينَ للحقِّ أو مِن المُنْصفينَ، أو مِن الَّذين آمَنوا باللهِ وكَفَروا بالطَّاغوتِ أو خِلافِه، أو كانوا مُحقِّينَ أو مُبطِلين؟ فحينَئذٍ يُنصِفون مِن أنفُسِهم، ويُذْعِنون للحقِّ [704] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/460)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/189)، ((تفسير أبي السعود)) (7/44)، ((الجدول في إعراب القرآن)) (21/8)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/16، 17). .
- والباءُ في قولِه: قُلْ كَفَى بِاللَّهِ مَزيدةٌ؛ للتَّوكيدِ [705] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/16). .
-وقال: قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا فذكَرَ سُبحانَه أنَّه «شهيدٌ بيْنَه وبيْنَهم»، ولم يَقُلْ: «شاهِدٌ علينا»، ولا «شاهِدٌ لي»؛ لأنَّه ضَمَّنَ الشَّهادةَ الحُكمَ، فهو شَهيدٌ يَحكُمُ بشَهادتِه بيْني وبيْنَكم، والحُكمُ قَدْرٌ زائدٌ على مُجرَّدِ الشَّهادةِ؛ فإنَّ الشَّاهِدَ قد يؤدِّي الشَّهادةَ، وأمَّا الحاكِمُ فإنَّه يَحكُمُ بالحَقِّ للمُحِقِّ على المُبطِلِ، ويأخُذُ حقَّه منه، ويُعامِلُ المُحِقَّ بما يَستَحِقُّه، والمُبطِلَ بما يَستحِقُّه [706] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (14/194). .
- وجُملةُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مُقرِّرةٌ لمعنى الاكتِفاءِ به شهيدًا؛ فهي تَتنزَّلُ منها مَنزِلةَ التَّوكيدِ [707] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/44)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/17). .
- قَولُه: وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ الإيمانُ بما سِوى اللهِ كُفرٌ به، فيكونُ كُلُّ مَن آمَنَ بالباطِلِ فقد كفَرَ بالله، وفي هذا العَطفِ فائدةٌ غيرُ التَّأكيدِ، وهي أنَّه ذَكَر الثَّانيَ لِبَيانِ قُبحِ الأوَّلِ، كقَولِ القائِلِ: أتَقَولُ بالباطِلِ وتَترُكُ الحَقَّ؟! لِبَيانِ أنَّ القَولَ باطِلٌ قَبيحٌ [708] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/67). .
- قولُه: أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ اسمُ الإشارةِ أُولَئِكَ يُفِيدُ التَّنبيهَ على أنَّ المُشارَ إليهم أحْرِياءُ بالحُكْمِ الواردِ بعدَ اسمِ الإشارةِ؛ لأجْلِ الأوصافِ الَّتي ذُكِرَت لهم قبْلَ اسمِ الإشارةِ [709] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/17). .
- والقصْرُ المُستفادُ مِن تَعريفِ جُزْأَيْ جُملةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ قَصْرٌ ادِّعائيٌّ [710] القَصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاءِ والمُبالَغةِ، بتنزيلِ غيرِ المذكورِ مَنزِلةَ العدَمِ، وقصْر الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسَّكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/525). ؛ للمُبالَغةِ في اتِّصافِهم بالخُسرانِ العظيمِ، بحيث إنَّ كلَّ خُسرانٍ في جانبِ خُسرانِهم كالعدَمِ، فكأنَّهم انفَرَدوا بالخُسرانِ، فأُطلِقَ عليهم المُركَّبُ المفيدُ قصْرَ الخُسرانِ عليهم؛ وذلك لأنَّهم حقَّت عليهم الشَّقاوةُ العُظْمى الأبَديَّةُ [711] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/17، 18). .