موسوعة التفسير

سورةُ العَنكَبوتِ
 الآيات (45-47)

ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ

المعنى الإجماليُّ:

يقولُ تعالى: اقرَأْ -يا محمَّدُ- ما أُنزِلَ إليك مِن هذا القُرآنِ واتَّبِعْه واعمَلْ به، وأقِمِ الصَّلاةَ؛ إنَّ الصَّلاةَ تُبعِدُ صاحِبَها مِنَ الوُقوعِ في الفَحشاءِ والمُنكَرِ، وما في الصَّلاةِ مِن ذِكرِ اللهِ أكبَرُ مِن كَونِها تنهَى عن الفَحشاءِ والمُنكَرِ، واللهُ يعلَمُ ما تصنَعونَ.
ولا تُجادِلوا -أيُّها المُسلِمونَ- اليهودَ والنَّصارى إلَّا بأحسَنِ طريقةٍ -وذلك بالرِّفقِ واللِّينِ- إلَّا المعانِدينَ المُعتَدينَ منهم. وقُولوا لهم: آمَنَّا بالقُرآنِ الَّذي أنزَلَه اللهُ إلينا، وبما أنزَلَه اللهُ إليكم مِن التَّوراةِ والإنجيلِ غيرِ المحرَّفَينِ، ومَعبودُنا ومَعبودُكم واحِدٌ، وهو اللهُ سُبحانَه، ونحن له تعالى خاضِعونَ مُنقادونَ بالطَّاعةِ والعبادةِ.
ثمَّ يُبيِّنُ الله سبحانَه موقفَ النَّاسِ مِن الكتابِ الَّذي أنزلَه على رسولِه، فيقولُ: وكما أنزَلْنا على الرُّسُلِ السَّابِقينَ كُتُبًا أنزَلْنا إليك -يا محمَّدُ- كِتابًا، وهو القُرآنُ، فعُلماءُ أهلِ الكتابِ مِن اليَهودِ والنَّصارى يُؤمِنونَ بالقُرآنِ، ومِن هؤلاءِ الَّذين هم بيْنَ ظَهرانَيْكَ مَن يُؤمِنُ بالقُرآنِ، وما يَجحَدُ بأدِلَّتِنا وحُجَجِنا إلَّا الكافِرونَ.

تَفسيرُ الآياتِ:

اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه بعدَ أن ضَرَب اللهُ للنَّاسِ المَثَلَ بالأُمَمِ السَّالِفةِ، وجاء بالحُجَّةِ المُبيِّنةِ فَسادَ مُعتَقَدِ المُشرِكينَ، ونَوَّهَ بصِحَّةِ عَقائِدِ المؤمِنينَ بمُنتهَى البيانِ الَّذي ليس وراءَه مَطلَبٌ- أقبَل على رَسولِه بالخِطابِ الَّذي يَزيدُ تثبيتَه على نَشرِ الدَّعوةِ، ومُلازَمةِ الشَّرائِعِ، وإعلانِ كَلِمةِ اللهِ بذلك، وما فيه زيادةُ صلاحِ المؤمِنينَ الَّذين انتَفَعوا بدَلائِلِ الوحدانيَّةِ؛ وما الرَّسولُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إلَّا قُدوةٌ للمُؤمِنينَ وسَيِّدُهم، فأمْرُه أمْرٌ لهم [581] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/257). .
اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ.
أي: اقرَأْ -يا مُحمَّدُ- ما أُنزِلَ إليك مِن هذا القُرآنِ بتدَبُّرٍ، واتَّبِعْه واعمَلْ به، وأبلِغْه للنَّاسِ [582] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/407)، ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/42)، ((تفسير ابن كثير)) (6/280)، ((تفسير السعدي)) (ص: 632)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/257، 258). قال ابن القيم: (حقيقةُ التِّلاوَةِ ... هي التِّلاوةُ المُطْلَقةُ التَّامَّةُ، وهي تلاوةُ اللَّفظِ والمعنَى، فتلاوةُ اللَّفْظِ جُزْءُ مُسَمَّى التِّلاوةِ المُطْلقةِ، وحقيقةُ اللَّفظِ إنَّما هي الاتِّباعُ ... وسُمِّيَ تالي الكلامِ تاليًا؛ لأنَّه يُتبِعُ بعضَ الحروفِ بعضًا، لا يُخرِجُها جُملةً واحدةً، بل يُتبِعُ بعضَها بعضًا مُرَتَّبةً، كلَّما انقضَى حرفٌ أو كلمةٌ أتْبَعَه بحرفٍ آخَرَ وكلمةٍ أخرَى، وهذه التِّلاوةُ وسيلةٌ وطريقةٌ، والمقصودُ التِّلاوةُ الحقيقيَّةُ، وهي تِلاوةُ المعْنى واتِّباعُه؛ تصديقًا بخَبَرِه، وائْتِمارًا بأمْرِه، وانتِهاءً بنَهْيِه، وائْتِمامًا به، حيثُ ما قادك انقَدْتَ معه؛ فتِلاوةُ القرآنِ تَتناوَلُ تِلاوةَ لَفظِه ومعناه، وتِلاوةُ المعْنى أشرَفُ مِن مُجَرَّدِ تِلاوةِ اللَّفظِ). ((مفتاح دار السعادة)) (1/42). .
كما قال تعالى: وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ [الكهف: 27] .
وقال سُبحانَه: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآَنَ ... [النمل: 91، 92].
وَأَقِمِ الصَّلَاةَ .
أي: وأَدِّ -يا مُحمَّدُ- الصَّلَواتِ تامَّةً بشُروطِها وأركانِها وواجباتِها [583] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/407)، ((تفسير السمرقندي)) (2/635)، ((تفسير القرطبي)) (13/347)، ((تفسير أبي السعود)) (7/41)، ((تفسير الشوكاني)) (4/236). .
إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ.
أي: إنَّ الصَّلاةَ المُقامةَ بحُدودِها وخُشوعِها مِن شأنِها أن تَدعُوَ صاحِبَها إلى اجتِنابِ الوُقوعِ في الفَحشاءِ والمُنكَرِ [584] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 338)، ((تفسير ابن جرير)) (18/409، 410)، ((تفسير ابن عطية)) (4/319)، ((تفسير الرازي)) (25/61)، ((تفسير البيضاوي)) (4/196)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/30)، ((تفسير ابن جزي)) (2/126)، ((تفسير ابن كثير)) (6/280)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 237، 238). قال ابن جرير: (فإنْ قال قائل: وكيف تَنهى الصَّلاةُ عن الفَحشاءِ والمُنكَرِ إن لم يكُنْ مَعْنِيًّا بها ما يُتْلَى فيها؟ قيل: تَنهى مَن كان فيها، فتَحولُ بيْنَه وبيْنَ إتيانِ الفَواحشِ؛ لأنَّ شُغلَه بها يَقطَعُه عن الشُّغلِ بالمُنكَرِ؛ ولذلك قال ابنُ مسعودٍ: «مَن لم يُطِعْ صلاتَه، لم يَزْدَدْ مِنَ الله إلَّا بُعدًا»؛ وذلك أنَّ طاعتَه لها إقامتُه إيَّاها بحدودِها، وفي طاعتِه لها مُزْدَجَرٌ عن الفَحشاءِ والمُنكَرِ). ((تفسير ابن جرير)) (18/410). وقال ابن عطية: (وعندي أنَّ المعنى وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ على الإطلاقِ أي هو الذي ينهَى عن الفحشاءِ والمنكرِ، فالجزءُ الذي منه في الصلاةِ يفعلُ ذلك، وكذلك يفعلُ في غيرِ الصلاةِ؛ لأنَّ الانتهاءَ لا يكونُ إلَّا مِن ذاكرٍ مراقبٍ). ((تفسير ابن عطية)) (4/320). وقد ذكر ابنُ القيِّمِ أنَّ الفحشاءَ هي ما ظهَر قُبحُه لكلِّ أحدٍ، واستَفحَشَه كلُّ ذي عقلٍ سليمٍ، وأنَّ المُنكَرَ هو الَّذي تَستنكِرُه العُقولُ والفِطَرُ. فما استقَرَّ قُبحُه في الفِطَرِ والعقولِ واشتدَّ الإنكارُ له فهو فاحشةٌ، وما لم يُعرَفْ حُسْنُه ولم يُؤْلَفْ فهو المُنكَرُ. يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/377). ويُنظر أيضًا: ((تفسير السعدي)) (ص: 632). وقال الواحدي: (الفَحشاءُ: ما قَبُح مِن العَمَلِ، والمنكَرُ: ما لا يُعرَفُ في شريعةٍ ولا سُنَّةٍ). ((الوسيط)) (3/421). .
عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((جاء رجُلٌ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: إنَّ فُلانًا يُصَلِّي باللَّيلِ، فإذا أصبَحَ سَرَق! قال: إنَّه سيَنْهاهُ ما تَقولُ)) [585] أخرجه أحمد (9778)، والبزار (9217)، وابن حبان (2560). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (2/261): رجالُه رجالُ الصحيح. وصَحَّح إسنادَه الألبانيُّ في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (1193)، والأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (9778)، وصَحَّح الحديثَ الوادعيُّ في ((الصحيح المسند)) (1393) وقال: رجاله رجالُ الصَّحيحِ. .
وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان النَّاهي في الحَقيقةِ إنَّما هو ذِكرُ اللهِ؛ أتْبَع ذلك الحثَّ على رُوحِ الصَّلاةِ والمَقصدِ الأعظَمِ منها، وهو المُراقَبةُ لِمَن يُصَلِّي له، حتَّى كأنَّه يراه؛ لِيَكونَ بذلك في أعظَمِ الذِّكْرِ، فقال [586] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/448). :
وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ.
أي: وما في الصَّلاةِ مِن ذِكرِ اللهِ أكبَرُ مِن كَونِها تنهَى عن الفَحشاءِ والمُنكَرِ [587] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (15/344) و (20/193)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/398)، ((تفسير ابن كثير)) (6/282)، ((تفسير السعدي)) (ص: 632). وممَّن ذهب إلى القَولِ بأنَّ ذِكرَ الله -الَّذي في الصَّلاةِ- أكبَرُ وأعظَمُ مقصودًا مِن كَونِها تَنهى عن الفَحشاءِ والمنكَرِ؛ فتحصيلُ المحبوبِ أكبَرُ وأهَمُّ مِن دَفعِ المكروهِ: ابنُ تيميَّةَ، وابن كثير، والسعدي. يُنظر: المصادر السابقة. وممَّن قال بنحو هذا القولِ مِنَ السَّلفِ: ابنُ عون. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/416). وقيل: المعنى: ولَذِكرُ اللهِ إيَّاكم أفضَلُ من ذِكرِكم إيَّاه. وممَّن ذهَب إلى هذا القولِ: ابنُ جرير، والراغب الأصفهانيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/407)، ((المفردات)) للراغب (ص: 329). وممَّن قال بهذا القولِ مِنَ السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ عنه، وعبدُ الله بنُ مسعودٍ، وسَلْمانُ في روايةٍ عنه، وعِكْرِمةُ، وسعيدُ بنُ جُبَيرٍ، وعطيَّةُ العَوْفيُّ، ومُجاهدٌ، وأبو قُرَّةَ، وشُعْبةُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/411)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/409). قال الرَّسْعَنيُّ: (وإلى هذا المعنى ذهَب ابنُ عبَّاسٍ ومجاهدٌ وعطيَّةُ وجمهورُ المفسِّرينَ). ((تفسير الرسعني)) (5/619). وقيل: المعنى: ولذِكرُ اللهِ أكبَرُ وأفضَلُ مِن كُلِّ شَيءٍ في الدُّنيا. وممَّن ذهب إلى ذلك: الواحديُّ. يُنظر: ((الوجيز)) للواحدي (ص: 834). وممَّن قال بهذا القولِ مِنَ السَّلفِ: أبو الدَّرْداءِ، وسَلْمانُ في روايةٍ عنه، وقَتادةُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/413)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/409). وقيل غيرُ ذلك. يُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (3/517)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/409). .
وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر الله تعالى أمرينِ، وهما تلاوةُ الكتابِ، وإقامةُ الصَّلاةِ؛ بَيَّن ما يُوجِبُ أنْ يكونَ الإتيانُ بهما على أبلغِ وُجوهِ التَّعظيمِ فقال: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ فيَنْبَغي أنْ يكونَ على أبلغِ وُجوهِ التَّعظيمِ، وأمَّا الصَّلاةُ فكذلك؛ لأنَّ اللَّهَ يعلمُ ما تَصنعونَ [588] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/62). .
وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
أي: واللهُ يَعلَمُ ما تَصنَعونَه -أيُّها النَّاسُ- وسيُجازيكم عليه [589] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/417)، ((تفسير ابن كثير)) (6/282)، ((تفسير السعدي)) (ص: 632)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/261). .
وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بيَّن اللهُ تعالى طريقةَ إرشادِ المُشرِكينَ؛ بيَّن طَريقةَ إرشادِ أهلِ الكِتابِ، فقال [590] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/63). :
وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.
أي: ولا تُجادِلوا -أيُّها المُسلِمونَ- اليَهودَ والنَّصارى إلَّا بأحسَنِ طَريقةٍ، وذلك بدُعائِهم إلى الحَقِّ بالرِّفقِ واللِّينِ، والقَولِ الحَسَنِ، وبأقرَبِ الحُجَجِ وأقْواها المُوصِلةِ للمَقصودِ [591] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/417)، ((تفسير القرطبي)) (13/350)، ((الجواب الصحيح)) لابن تيمية (3/72)، ((تفسير ابن كثير)) (6/283)، ((تفسير السعدي)) (ص: 632)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 245-247). .
كما قال تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: 125].
إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ.
أي: إلَّا المُعانِدينَ للحَقِّ مِنَ اليَهودِ والنَّصارى، المُعتَدينَ الَّذين لم يَقبَلوا النُّصحَ، ولم يَنفَعْ فيهم الرِّفقُ [592] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/457)، ((الجواب الصحيح)) لابن تيمية (1/219)، ((تفسير الشوكاني)) (4/236)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 250، 251). قال الماوَرْدي: (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فيه أربعةُ أقاويلَ؛ أحدُها: أنَّهم أهلُ الحربِ، قاله مجاهدٌ. الثَّاني: مَن منَعَ الجِزيةَ منهم، رواه خُصَيْفٌ. الثَّالثُ: ظَلَموا بالإقامةِ على كُفرِهم بعدَ قيامِ الحُجَّةِ عليهم، قاله ابنُ زَيدٍ. الرَّابعُ: ظلَموا في جِدالِهم فأغلَظوا لهم، قاله ابنُ عيسى). ((تفسير الماوردي)) (4/286). ممَّن اختار أنَّ المرادَ: الَّذين منَعوا الجِزيةَ، ونصَبوا الحربَ: ابنُ جريرٍ، والواحدي، وابنُ الجوزي، والعُلَيمي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/420)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 834)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/409)، ((تفسير العليمي)) (5/253). قال الرَّسْعَني: (وقال أكثرُ المفسِّرينَ: معناه: إلَّا الذين ظلَموا بالإقامةِ على الكفرِ، ونَصْبِ رايةِ الحربِ، فقاتِلوهم حتَّى يُسْلِموا أو يُعطُوا الجِزيةَ). ((تفسير الرسعني)) (5/620). وممَّن اختار في الجملةِ أنَّ المرادَ: الَّذين ظلَموا في جِدالِهم بالفُحشِ في المقالِ أو العِنادِ وعدَمِ قَبولِ النُّصحِ، أو جادَلوا على وجهِ المُشاغَبةِ والمُغالَبةِ: الزمخشريُّ، والشوكاني، والقاسمي، والسعدي. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/457)، ((تفسير الشوكاني)) (4/236)، ((تفسير القاسمي)) (7/557)، ((تفسير السعدي)) (ص: 632). وقال ابن عثيمين: (وهل الآيةُ تدُلُّ على أنَّهم يُترَكون، أم أنَّ الآيةَ تدُلُّ على أنَّهم يُجادَلونَ بالَّتي هي أسْوَأُ؟ اختلَف كلامُ المفَسِّرينَ في هذه المسألةِ؛ فمنهم مَن قال: إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فاترُكوهم ولا تُجادِلوهم؛ لأنَّه لا فائدةَ مِن جِدالِهم ما دام قد ظهَرَ عِنادُهم وظُلمُهم. ومنهم مَن قال... فجادِلوهم بالسَّيفِ حتَّى يُسلِموا أو يُعطُوا الجِزيةَ. وعندي أنَّ الآيةَ تحتَمِلُ المعنيينِ جميعًا، وأنَّه ينبغي أن تُنَزَّلَ على الحالينِ، وتُستعمَلَ كلُّ حالٍ بما يليقُ ويُناسِبُ؛ فإذا كان المقامُ يقتضي أن نجادِلَهم بالسَّيفِ، وذلك بأن يكونَ لدينا مِنَ القُوَّةِ والقُدرةِ ما نَتمكَّنُ به مِن ذلك، وإذا لم يكُنْ لنا قدرةٌ وكانت المصلحةُ تقتضي تَرْكَهم فإنَّنا نَتركُهم، وهذا -واللهُ أعلم- هو السِّرُّ في أنَّ الله عزَّ وجَلَّ لم يذكُرْ حُكمَ هذا المُستثنى صريحًا، فلم يَقُلْ: إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فجادِلوهم بالَّتي هي أسوأُ، ولم يَقُل: إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فلا تُجادِلوهم. بل جعَلَه صالحًا للأمْرَينِ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 250، 251). .
وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ.
أي: وقولوا لهم: آمَنَّا بالقُرآنِ الَّذي أنزَلَه اللهُ إلينا، وآمَنَّا بما أنزَلَه إليكم مِنَ التَّوراةِ والإنجيلِ، ممَّا لم يُحَرَّفْ ويُبَدَّلْ [593] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/421)، ((الوسيط)) للواحدي (3/422)، ((تفسير الشوكاني)) (4/237)، ((تفسير السعدي)) (ص: 632). قال البقاعي: (يعني في أنَّ أصلَه حَقٌّ، وإن كان قد نُسِخَ منه ما نُسِخَ). ((نظم الدرر)) (14/450). وقال الشوكاني: (لا يَدخُلُ في ذلك ما حرَّفوه وبدَّلوه). ((تفسير الشوكاني)) (4/237). .
وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ.
أي: ومَعبودُنا ومَعبودُكم واحِدٌ، وهو اللهُ سُبحانَه [594] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/421)، ((تفسير السمرقندي)) (2/636)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/451)، ((تفسير أبي السعود)) (7/42). .
وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ.
أي: ونحن -مَعشَرَ المُسلِمينَ- خاضِعونَ لله مُنقادونَ، ومُتذَلِّلونَ له بالطَّاعةِ، لا نُشرِكُ به شَيئًا [595] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/421)، ((تفسير البيضاوي)) (4/196)، ((تفسير الشوكاني)) (4/237)، ((تفسير السعدي)) (ص: 632). .
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47).
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ.
أي: وكما أنزَلْنا على الرُّسُلِ السَّابِقينَ كُتُبًا أنزَلْنا إليك -يا مُحمَّدُ- كِتابًا، وهو القُرآنُ [596] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/423)، ((تفسير ابن كثير)) (6/285)، ((تفسير السعدي)) (ص: 633). .
فَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ.
أي: فعُلَماءُ أهلِ الكِتابِ مِنَ اليَهودِ والنَّصارى يُؤمِنونَ بالقُرآنِ [597] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/423)، ((تفسير ابن عطية)) (4/321)، ((تفسير ابن كثير)) (6/285)، ((تفسير السعدي)) (ص: 633). قيل: المعنى: الَّذين آتَيْناهم الكِتابَ مِن قَبْلِك مِن بني إسرائيلَ كانوا يؤمِنونَ بك وبالقُرآنِ؛ لِما في كتُبِهم مِن صِفتِك. وممَّن قال بذلك: ابنُ جرير، والواحديُّ، وابنُ عطية. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/423)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 834)، ((تفسير ابن عطية)) (4/321). وممَّن قال مِن السلفِ: إنَّ المرادَ اليهودُ والنَّصارى: قَتادةُ. يُنظر: ((تفسير ابن أبي حاتم)) (9/3070). وقيل: المرادُ: فالَّذين آتَيْناهم الكِتابَ؛ كعبدِ اللهِ بنِ سَلامٍ وأمثالِه ممَّن أسلَمَ مِن اليهودِ والنَّصارى. وممَّن قال بذلك: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جُزَي، وابنُ كثير، والبِقاعي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/385)، ((تفسير ابن جزي)) (2/127)، ((تفسير ابن كثير)) (6/285)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/452). .
كما قال تعالى: وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ [الرعد: 36] .
وقال عزَّ وجلَّ: الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آَمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ [القصص: 52، 53].
وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ.
أي: ومِن هؤلاء الَّذين هم بينَ ظَهرانَيْكَ [598] قيل: المرادُ: مَن أسلمَ مِن أهلِ الكتابِ؛ كعبدِ اللهِ بنِ سلامٍ. وممَّن قال بذلك: ابنُ جرير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/423). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن عطية)) (4/321). وقيل: العَرَبُ مِن قُرَيشٍ وغيرِهم. وممَّن قال بذلك: ابنُ كثير، والبقاعي، والقاسمي. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/285)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/452)، ((تفسير القاسمي)) (7/559). وقيل: المرادُ: أهلُ مكَّةَ. وممَّن قال بذلك: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والسمعانيُّ، والبغوي، والزمخشري، وابن الجوزي، والنسفي، والعليمي، والشوكاني، وابن عاشور، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/386)، ((تفسير السمعاني)) (4/185)، ((تفسير البغوي)) (3/563)، ((تفسير الزمخشري)) (3/458)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/410)، ((تفسير النسفي)) (2/680)، ((تفسير العليمي)) (5/254)، ((تفسير الشوكاني)) (4/239)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/9)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 262). -يا محمَّدُ- مَن يؤمِنُ بالقُرآنِ [599] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/423)، ((تفسير ابن عطية)) (4/321)، ((تفسير ابن كثير)) (6/285)، ((تفسير السعدي)) (ص: 633)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/9). .
وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ.
أي: وما يَجحَدُ بأدِلَّتِنا وحُجَجِنا مع ظُهورِها إلَّا الرَّاسِخونَ في الكُفرِ، فيَستُرونَ الحقَّ ويُنكِرونَه بعدَ مَعرِفتِه [600] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/424)، ((تفسير البيضاوي)) (4/196)، ((تفسير ابن كثير)) (6/285)، ((تفسير السعدي)) (ص: 633)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/9). قال ابن عاشور: (وعَبَّر عن الكتابِ بـ «الآيات»؛ لأنَّه آياتٌ دالَّةٌ على أنَّه مِن عندِ اللهِ بسببِ إعجازِه وتَحَدِّيه وعجزِ المعاندينَ عن الإتيانِ بسورةٍ مِثْلِه). ((تفسير ابن عاشور)) (21/9). وقال ابن عثيمين: (وقوله: بِآَيَاتِنَا أي: الشَّرعيةِ والكَونيَّةِ؛ فإنَّ مِن النَّاسِ مَن جَحَد الآياتِ الكونيَّةَ؛ جَحَد أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى يُحيي الموتى، بل مِنَ النَّاسِ مَن جَحَد أن تكونَ هذه الخليقةُ بخَلقٍ! وأمَّا جَحدُ الآياتِ الشَّرعيَّةِ فكثيرٌ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 263). .
كما قال تعالى: الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة: 146].
وقال سُبحانَه: فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام: 33] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل: 14] .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- قَولُ الله تعالى: إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ فيه أنَّ الصَّلاةَ مِن شَأنِها أنَّها إذا أُدِّيَت على ما يجِبُ مِن فُروضِها وسُنَنِها والخُشوعِ فيها، والتدَبُّرِ لِما يتلو فيها، وتقديرِ المُثولِ بيْنَ يَدَيِ اللهِ تعالى- أن تنهَى عن الفَحشاءِ والمُنكَرِ [601] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/359). ، ووجهُ كَونِ الصَّلاةِ تَنهَى عن الفَحشاءِ والمُنكَرِ: أنَّ العَبدَ المُقيمَ لها، المتمِّمَ لأركانِها وشُروطِها وخُشوعِها: يَستنيرُ قَلبُه، ويتطَهَّرُ فؤادُه، ويَزدادُ إيمانُه، وتَقوى رغبتُه في الخيرِ، وتَقِلُّ أو تَعدَمُ رَغبتُه في الشَّرِّ؛ فبالضَّرورةِ مُداومتُها والمحافظةُ عليها على هذا الوَجهِ تَنهى عن الفَحشاءِ والمُنكَرِ، فهذا مِن أعظَمِ مَقاصِدِها وثَمَراتِها [602] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:632). .
2- في قَولِه تعالى: وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ أنَّ الظَّالمَ لم يُؤْمَرْ بجِدالِه بالَّتي هي أحسَنُ؛ فمَن كان ظالِمًا مُستَحِقًّا للقِتالِ غيرَ طالبٍ للعِلمِ والدِّينِ، فهو مِن هؤلاء الظَّالِمينَ الَّذين لا يُجادَلون بالَّتي هي أحسَنُ، بخِلافِ مَن طلَبَ العِلمَ والدِّينَ، ولم يَظهَرْ منه ظُلمٌ، سواءٌ كان قَصْدُه الاستِرشادَ، أو كان يَظُنُّ أنَّه على حقٍّ يَقصِدُ نَصْرَ ما يَظُنُّه حَقًّا. ومَن كان قَصْدُه العِنادَ، ويَعلمُ أنَّه على باطلٍ ويُجادِلُ عليه؛ فهذا لم يُؤْمَرْ بمُجادَلتِه بالَّتي هي أحسَنُ، لكنْ قد نُجادِلُه بطُرُقٍ أخرى نُبَيِّنُ فيها عِنادَه وظُلمَه وجَهلَه؛ جزاءً له بموجَبِ عمَلِه [603] يُنظر: ((الجواب الصحيح)) لابن تيمية (1/219). .
3- قَولُ الله تعالى: وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فيه النَّهيُ عن مُجادَلةِ أهلِ الكتابِ إذا كانت مِن غيرِ بَصيرةٍ مِن المجادِلِ، أو بغيرِ قاعدةٍ مَرْضيَّةِ، وألَّا يُجادَلوا إلَّا بالَّتي هي أحسَنُ؛ بحُسنِ خُلُقٍ، ولُطفٍ ولِينِ كَلامٍ، ودَعوةٍ إلى الحَقِّ وتَحسينِه، ورَدٍّ عن الباطِلِ وتهجينِه، بأقرَبِ طريقٍ مُوصِلٍ لذلك، وألَّا يكونَ القَصدُ منها مُجرَّدَ المجادَلةِ والمغالَبةِ وحُبِّ العُلُوِّ، بل يكونُ القَصدُ بيانَ الحَقِّ، وهِدايةَ الخَلقِ، إلَّا مَن ظلَمَ مِن أهلِ الكِتابِ، بأن ظهَرَ مِن قَصدِه وحالِه أنَّه لا إرادةَ له في الحَقِّ، وإنَّما يُجادِلُ على وَجهِ المُشاغَبةِ والمُغالَبةِ، فهذا لا فائِدةَ في جِدالِه؛ لأنَّ المقصودَ منها ضائِعٌ [604] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:632). .
4- قَولُ الله تعالى: وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ أي: ولْتكُنْ مُجادَلتُكم لأهلِ الكِتابِ مَبنيَّةً على الإيمانِ بما أُنزِلَ إليكم وأُنزِلَ إليهم، وعلى الإيمانِ برَسولِكم ورَسولِهم، وعلى أنَّ الإلهَ واحِدٌ، ولا تَكُنْ مُناظَرتُكم إيَّاهم على وَجهٍ يَحصُلُ به القَدحُ في شَيءٍ مِنَ الكُتُبِ الإلهيَّةِ، أو بأحدٍ مِنَ الرُّسُلِ، كما يفعَلُه الجاهِلُ عند مُناظَرةِ الخُصومِ؛ يَقدَحُ في جَميعِ ما معهم مِن حَقٍّ وباطلٍ! فهذا ظُلمٌ وخروجٌ عن الواجِبِ وآدابِ النَّظَرِ؛ فإنَّ الواجِبَ أن يَرُدَّ ما مع الخَصمِ مِن الباطِلِ، ويَقبَلَ ما معه مِن الحَقِّ، ولا يَرُدَّ الحَقَّ لأجْلِ قَولِه، ولو كان كافِرًا [605] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:632). .
5- قَولُه تعالى: أَحْسَنُ اسمُ تفضيلٍ مُطلَقٌ، يَعُمُّ الحُسنَ في سياقِ الأدِلَّةِ، ويَعُمُّ الحُسنَ في كيفيَّةِ المجادَلةِ؛ فلا بُدَّ مِن الأمْرَينِ: مِن حُسْنِ الطَّريقِ -بمعنى: أنْ تأتيَ بأقرَبِ الطُّرُقِ لإقناعِ الخصمِ- ومِن كيفيَّةِ عَرْضِ هذه الطَّريقةِ [606] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 246). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- في قَولِه تعالى: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وُجوبُ تلاوةِ القرآنِ على الوُجوهِ الثَّلاثةِ: تِلاوةِ اللَّفظِ، والمعنى، والاتِّباعِ [607] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 242). .
2- قال الله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ إن قيلَ: كم مِن مُصَلٍّ يَرتَكِبُ الفَحشاءَ والمُنكَرَ ولا تَنْهاه صلاتُه؟
فالجوابُ مِن وُجوهٍ:
الوجهُ الأوَّلُ: أنَّ الصَّلاةَ الَّتي تَنهى عن الفَحشاءِ والمُنكرِ هي الصَّلاةُ المُقامةُ الَّتي أقامَها الإنسانُ على الوجهِ الَّذي ينبغي [608] يُنظر: ((اللقاء الشهري)) لابن عثيمين (اللقاء رقْم: 1). .
الوجهُ الثَّاني: أنَّ مَن كان مُراعيًا للصَّلاةِ جَرَّه ذلك إلى أن يَنتهيَ عن السَّيِّئاتِ يومًا ما، وعلى كلِّ حالٍ فإنَّ المُراعيَ للصَّلاةِ لا بدَّ أن يكونَ أبعَدَ مِنَ الفَحشاءِ والمُنكَرِ مِمَّن لا يُراعيها.
الوجهُ الثَّالثُ: أنَّه كم مِن مُصَلِّينَ تَنهاهم الصَّلاةُ عن الفَحشاءِ والمُنكَرِ، واللَّفظُ لا يَقتضي ألَّا يَخرُجَ واحِدٌ مِنَ المصَلِّينَ عن قَضيَّتِها، كما تقولُ: (إنَّ زَيدًا ينهَى عن المنكَرِ)، فليس غَرَضُك أنَّه يَنهى عن جميعِ المناكيرِ، وإنَّما تُريدُ أنَّ هذه الخَصلةَ مَوجودةٌ فيه، وحاصِلةٌ منه، مِن غيرِ اقتِضاءٍ للعُمومِ [609] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/456). .
الوجهُ الرابعُ: أنَّ المقصودَ أنَّ الصَّلاةَ تُيَسِّرُ للمُصلِّي تَرْكَ الفَحشاءِ والمُنكَرِ، وليس المعنى أنَّ الصَّلاةَ صارِفةٌ المُصَلِّيَ عن أن يَرتكِبَ الفَحشاءَ والمُنكَرَ؛ فإنَّ المُشاهَدَ يُخالِفُه؛ إذ كم مِن مُصَلٍّ يُقيمُ صَلاتَه، ويقتَرِفُ بَعضَ الفَحشاءِ والمُنكَرِ.
الوجهُ الخامِسُ: أنَّ الصَّلاةَ تَشتَمِلُ على مُذكِّراتٍ باللهِ مِن أقوالٍ وأفعالٍ مِن شأنِها أن تَكونَ للمُصَلِّي كالواعِظِ المُذَكِّرِ باللهِ تعالى؛ إذ يَنهى سامِعَه عن ارتكابِ ما لا يُرضي اللهَ [610] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/258، 259). .
3- في قَولِه تعالى: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ سُؤالٌ: أنَّه معلومٌ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُقيمُ الصَّلاةَ، وأنَّه أقْوَمُ المصلِّينَ صَلاةً، فكيف وُجِّهَ إليه الخِطابُ بإقامةِ الصَّلاةِ؟!
الجوابُ: توجيهُ الخِطابِ لِمَن يَتَّصِفُ به: المرادُ به الاستِمرارُ عليه، لا تَجديدُه؛ لأنَّه موجودٌ؛ مِثلُ قَولِه سُبحانَه وتعالى: أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [النساء: 136] ، فالخِطابُ ليس عَبثًا حتَّى نقولَ: إنَّ هذا أمرٌ بالإيمانِ! لأنَّ الأمرَ بالإيمانِ تحصيلُ الحاصلِ؛ لأنهم مُؤمِنونَ، فالخِطابُ المرادُ منه الاستِمرارُ على الإيمانِ [611] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 235). .
4- في قَولِه تعالى: إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ التَّعبيرُ بالنَّهيِ، وهو أبلغُ مِن التَّعبيرِ بالمنعِ؛ فإنَّ المانعَ قد لا يكونُ مُحَذِّرًا، لكنْ في النَّهي تحذيرٌ، وهو أشدُّ مِن المنعِ؛ لأنَّها تُوجِبُ في القَلبِ كراهةً لهذا الشَّيءِ ونفورًا منه، ومجرَّدُ المنعِ لا يقتَضي ذلك؛ فكأنَّ الصَّلاةَ فيها سِرٌّ يقتَضي أنْ يَبعُدَ الإنسانُ عن الفَحشاءِ والمُنكَرِ، كأنَّها تُؤَنِّبُ ضميرَه: لماذا تَفعَلُ هذا؟! فالصَّلاةُ توجِبُ المنعَ مِن المعاصي [612] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 237). .
5- قال تعالى: إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ إنَّ الصَّلاةَ فيها دَفعُ مَكروهٍ وهو الفَحشاءُ والمُنكَرُ، وفيها تحصيلُ محبوبٍ وهو ذِكرُ اللهِ، وحُصولُ هذا المحبوبِ أكبَرُ مِن دَفعِ ذلك المكروهِ؛ فإنَّ ذِكرَ اللهِ عِبادةٌ لله، وعِبادةُ القَلبِ لله مقصودةٌ لِذاتِها، وأمَّا اندفاعُ الشَّرِّ عنه فهو مقصودٌ لِغَيرِه على سَبيلِ التَّبَعِ [613] يُنظر: ((العبودية)) لابن تيمية (ص: 90). ، وذلك على قولٍ في تفسيرِ الآيةِ.
6- في قَولِه تعالى: إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وقَولِه: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ أنَّ الأمورَ الإيجابيَّةَ أكمَلُ مِن الأمورِ السَّلبيةِ؛ لأنَّ ذِكْرَ اللهِ أمرٌ إيجابيٌّ؛ ولهذا قال: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، والنَّهْيَ عنِ الفَحشاءِ والمُنكَرِ أمرٌ سَلبيٌّ؛ ولهذا قال العُلَماءُ: إنَّ الصَّبرَ على طاعةِ اللهِ أكملُ مِن الصبرِ عن مَعصيةِ اللهِ؛ لأنَّه صبْرٌ على فِعلِ مُعاناةٍ ومَشقَّةٍ؛ فالإنسانُ يجاهِدُ نفْسَه بالصَّبرِ على طاعةِ اللهِ مِن وَجهَينِ: مِن جهةِ إلزامِها بها، ومِن جهةِ الصَّبرِ والتَّحمُّلِ لهذه الأفعالِ والأقوالِ [614] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 243). .
7- قَولُ الله تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ عبَّرَ بلَفظِ (الصَّنعةِ) الدَّالِّ على مُلازَمةِ العَمَلِ؛ تَنبيهًا على أنَّ إقامةَ ما ذُكِرَ تحتاجُ إلى تمرُّنٍ عليه وتدرُّبٍ؛ حتَّى يَصيرَ طبعًا صَحيحًا، ومَقصودًا صَريحًا [615] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/449). .
8- في قَولِه تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ إثباتُ عِلْمِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وعُمومِ علمِه بقَولِه (ما)، وتَعَلُّقِه بفِعلِ العِبَادِ بقَولِه: تَصْنَعُونَ، وفيه رَدٌّ على غُلاةِ القَدَريَّةِ؛ لأنَّهم كانوا قديمًا يُنكِرون تَعَلُّقَ عِلمِ اللهِ بفِعلِ العبدِ، ويقولون: إنَّ الأمرَ أُنُفٌ، أي: مُستأنَفٌ، وأنَّ اللهَ لا يَعلَمُ بأفعالِ العِبَادِ إلَّا إذا عَمِلوها! ولا شكَّ أنَّ هذا كُفرٌ، كما قال الشافعيُّ وغيرُه: «جادِلوهم بالعلمِ، فإنْ أقَرُّوا به خُصِمُوا، وإنْ أنكَروه كَفَروا» [616] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 243). .
9- في قَولِه تعالى: مَا تَصْنَعُونَ إثباتُ الأفعالِ الاختياريَّةِ للعبدِ، ونِسبتُها إليه، وفيها أيضًا رَدٌّ على الجَبريَّةِ [617] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 244). .
10- قَولُ الله تعالى: وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ هو أصلٌ في آدابِ المُناظَرةِ والجَدَلِ [618] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 205). .
11- قَولُ الله تعالى: وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ جيءَ في النَّهيِ بصيغةِ الجَمعِ؛ لِيَعُمَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم والمُسلِمينَ؛ إذ قد تَعرِضُ للمُسلِمينَ مُجادَلاتٌ مع أهلِ الكِتابِ في غيرِ حَضرةِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، أو قبْلَ قُدومِه المدينةَ [619] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/5). .
12- قَولُ الله تعالى: وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَجهُ الوِصايةِ بالحُسنى في مُجادَلةِ أهلِ الكِتابِ: أنَّ أهلَ الكتابِ مُتأهِّلونَ لِقَبولِ الحُجَّةِ، غيرُ مَظنونٍ بهم المُكابَرةُ، ولأنَّ آدابَ دينِهم وكِتابِهم أكسَبَتْهم مَعرِفةَ طَريقِ المُجادَلةِ؛ فينبغي الاقتصارُ في مُجادَلتِهم على بيانِ الحُجَّةِ دونَ إغلاظٍ؛ حذَرًا مِن تَنفيرِهم، بخِلافِ المُشرِكينَ؛ فقد ظهَر مِن تصَلُّبِهم وصَلَفِهم وجَلافتِهم ما أَيْأَسَ مِن إقناعِهم بالحُجَّةِ النَّظَريَّةِ، وعيَّن أنْ يُعامَلوا بالغِلظةِ، وأن يُبالَغَ في تَهجينِ دينِهم، وتَفظيعِ طَريقتِهم؛ لأنَّ ذلك أقرَبُ نُجوعًا لهم [620] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/6). .
13- قَولُ الله تعالى: وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فيه سؤالٌ: كيف قال إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مع أنَّ جميعَ أهلِ الكِتابِ ظالِمونَ؛ لأنَّهم كافِرونَ، قال تعالى: وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ؟
الجوابُ: أنَّ المرادَ بالظُّلمِ هنا: الامتِناعُ عن قَبولِ عَقدِ الذِّمَّةِ، أو نَقضُ العَهدِ بعدَ قَبولِه [621] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 439). . وذلك على أحدِ الأقوالِ في التَّفسيرِ.
14- في قَولِه تعالى: وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ سُلوكُ ما يقتضي اطمِئنانَ الخَصمِ في المُناظرةِ، وسُلوكُ ما يقتضي إلزامَه، فنقولُ لهؤلاءِ المجادِلينَ مِن أهلِ الكِتابِ: آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وهو القرآنُ، وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وهو التَّوراةُ إذا كانوا مِن اليَهودِ، والإنجيلُ إذا كانوا مِن النَّصارى، فنحنُ لا نُنكِرُ ما أُنزِلَ إليكم، بل نقولُ: إنَه حَقٌّ، لكِنْ نُؤمِنُ بما أُنزِلَ إلينا ونقولُ: إنَّه حَقٌّ، وإذا آمَنَّا بهذا فبأيِّهما يكونُ الحُكمُ؟
الجواب: بما نَزَل أخيرًا وهو القُرآنُ؛ لأنَّه ناسِخٌ، وحينَئذٍ يكونُ في قَولِنا هذا تهدِئةٌ لِنُفوسِهم، وإلزامٌ لهم بالإيمانِ بما أُنزِلَ إلينا؛ لأنَّ الإنسانَ بَشَرٌ، فإذا قيلَ له: أنا آمَنتُ بما أُنزِلَ إليك فآمِنْ بما أُنزِلَ إليَّ، فسيَقولُ في نفْسِه: كيف يؤمِنُ هذا الرَّجُلُ بما أُنزِلَ إلَيَّ وما أُنزِلَ إليه، وأنا أُكَذِّبُ ما أُنزِلَ إليه [622] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 251-252، 257). ؟!
15- قولُه تعالى: وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ تعليمٌ لمُقدِّمةِ المُجادَلةِ بالَّتي هي أحسَنُ، وهذا ممَّا يُسمَّى (تحريرَ مَحلِّ النِّزاعِ)، و(تقريبَ شُقَّةِ الخلافِ)، وذلك تأصيلُ طُرقِ الإلزامِ في المُناظَرةِ؛ وهو أنْ يُقالَ: قدِ اتَّفَقْنا على كذا وكذا، فلْنحتَجَّ على ما عَدا ذلك، فإنَّ ما أُمِروا بقولِه هنا ممَّا اتَّفقَ عليه الفريقانِ، فيَنْبغي أنْ يكونَ هو السَّبيلَ إلى الوِفاقِ، وليس هو بداخِلٍ في حيِّزِ المُجادَلةِ؛ لأنَّ المُجادَلةَ تقَعُ في مَوضعِ الاختلافِ، ولأنَّ ما أُمِروا بقولِه هنا هو إخبارٌ عمَّا يَعتقِدُه المسلمون، وإنَّما تكونُ المُجادلةُ فيما يَعتقِدُه أهلُ الكتابِ ممَّا يُخالِفُ عقائدَ المسلمينَ، مِثلُ قولِه: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ إلى قولِه: وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [623] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/7). [آل عمران: 65- 67] .
16- قولُه تعالى: آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِن بَلاغةِ القرآنِ؛ حيثُ لم يقُلْ: (وما قُلْتم)، أو: (ما جِئتُم به)، بل قال: بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا؛ وذلك لأنَّ لدَيهم مِن التَّحريفِ والتَّبديلِ ما لا يُمكِنُ معه أنْ نقبَلَ كلَّ ما جاؤوا به، لكنْ نُؤمِنُ بالمُنزَّلِ إليهم؛ ولهذا جاء في الحديثِ الصَّحيحِ: ((لا تُصَدِّقوا أهلَ الكتابِ ولا تُكذِّبوهم، وقولوا: آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ)) [624] أخرجه البخاري (7362) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ، فنحن مُؤمِنون بالمُنزَّلِ لا المُبدَّلِ، وصِفةُ الإيمانِ بما أُنزِلَ إلينا ليس كصِفَةِ الإيمانِ بما أُنزِلَ إليهم؛ لأنَّ إيمانَنا بما أُنزِلَ إلينا مُلزِمٌ بالاتِّباعِ، وإيمانَنا بما أُنزِلَ إليهم ليس مُلْزِمًا، فإذا وُجِدَ في شَرْعِنا ما يُخالِفُ شرْعَهم؛ فالمُتَّبَعُ شَرعُنا [625] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 252). .
17- في قَولِه تعالى: وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ أنَّ أهلَ الكتابِ يُقِرُّون بألوهيَّةِ اللهِ [626] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 258). .
18- في قَولِه تعالى: وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ أنَّ القرآنَ مُنَزَّلٌ مِن عندِ اللهِ؛ وأنَّه كلامُه -حروفُه ومعانيه- لقولِه: الْكِتَابَ، والَّذي يُكْتَبُ هو الحروفُ [627] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 263). .
19- الاستِشهادُ بالغيرِ على صِحَّةِ المُدَّعَى به، يعني أنَّ الإنسانَ يَستشهِدُ بغَيرِه مِن خُصومِه، كما قال سُبحانَه وتعالى: قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ [الرعد: 43] ، وهذه الآيةُ أيضًا: فَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ، فيُقالُ: ممَّن أُوتيَ الكِتابَ منكم -أيُّها اليهودُ أو النَّصارى- مَن آمَنَ بهذا القُرآنِ، وهذه الحُجَّةُ مُفيدةٌ جدًّا عندَ المناظَرةِ: أنْ تَحتجَّ على الطَّائفةِ بقَولِ بعضِ عُلَمائِها [628] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 264). .
20- في قَولِه تعالى: وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ دليلٌ على أنَّ كلَّ مَن لم يُؤمنْ بهذا القرآنِ أو بشَيءٍ منه؛ فهو كافرٌ [629] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (3/591). ، وهذا يَشْملُ جَحْدَ الآياتِ عمومًا، وجَحْدَ أفرادِها، فمَن جَحَدَ بعضَ القرآنِ وأقَرَّ ببعضِه حُكِمَ بكُفْرِه، كما قال تعالى: وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا [630] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 265). [النساء: 150، 151].

بلاغةُ الآياتِ:

1- قوله تعالى: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ
- قوله: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ حُذِفَ مُتعلَّقُ فِعلِ اتْلُ؛ لِيَعُمَّ التِّلاوةَ على المسلمينَ وعلى المشركينَ [631] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/258). ، أي: أُمِر بأن يَتلوَهُ على هؤلاء وعلى هؤلاء.
- قولُه: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ فيه تَعليلُ الأمرِ بإقامةِ الصَّلاةِ بالإشارةِ إلى ما فيها مِن الصَّلاحِ النَّفسانيِّ؛ فمَوقعُ (إنَّ) هنا مَوقعُ فاءِ التَّعليلِ، فاقتصَرَ على تَعليلِ الأمْرِ بإقامةِ الصَّلاةِ دونَ تَعليلِ الأمْرِ بتِلاوةِ القُرآنِ؛ لِمَا في هذا الصَّلاحِ الَّذي جَعَله اللهُ في الصَّلاةِ مِن سِرٍّ إلهيٍّ لا يَهْتدي إليه النَّاسُ إلَّا بإرشادٍ منه تعالى، فأخبَرَ أنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عن الفحشاءِ والمُنكَرِ [632] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/258). .
- قولُه: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ أي: ولَلصَّلاةُ أكبَرُ مِن غَيرِها مِن الطَّاعاتِ -على أحدِ الأقوالِ في التَّفسيرِ-. وسمَّاها بذِكْرِ اللهِ كما قال: فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة: 9] ، وإنَّما عبَّر عنها به؛ للتَّعليلِ بأنَّ اشتِمالَها على ذِكْرِه هو العُمدةُ في كَونِها مُفضَّلةً على الحسناتِ، ناهيةً عن السَّيِّئاتِ؛ فهو مِن وضْعِ المُظهَرِ مَوضِعَ المُضمَرِ مِن غيرِ لَفظِه السَّابقِ؛ للإشعارِ بالعِلِّيَّةِ، ولو جِيءَ بظاهرٍ لم يُفِدْ هذا المعنى؛ فيجوزُ أنْ يكونَ قولُه: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ عطفًا على جُملةِ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ؛ فيكونَ عطْفَ عِلَّةٍ على عِلَّةٍ، ويكونَ المُرادُ بذِكْرِ اللهِ هو الصَّلاةَ، ويكونَ العُدولُ عن لَفظِ الصَّلاةِ -الَّذي هو كالاسمِ لها- إلى التَّعبيرِ عنها بطَريقِ الإضافةِ؛ للإيماءِ إلى تَعليلِ أنَّ الصَّلاةَ تَنهى عن الفحشاءِ والمُنكَرِ، أي: إنَّما كانت ناهيةً عن الفَحشاءِ والمُنكَرِ لأنَّها ذِكْرُ اللهِ، وذِكْرُ اللهِ أمْرٌ كبيرٌ، فاسمُ التَّفضيلِ مَسلوبُ المُفاضَلةِ، مَقصودٌ به قوَّةُ الوصْفِ، كما في قولِنا: اللهُ أكبَرُ، لا تُرِيد أنَّه أكبَرُ مِن كبيرٍ آخَرَ. ويجوزُ أنْ يكونَ عطْفًا على جُملةِ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ [العنكبوت: 45] ، والمعنى: واذْكُرِ اللهَ؛ فإنَّ ذِكْرَ اللهِ أمْرٌ عظيمٌ، فيَصِحُّ أنْ يكونَ المُرادُ مِن الذِّكْرِ: تَذكُّرَ عَظَمةِ اللهِ تعالى. ويجوزُ أنْ يكونَ المُرادُ: ذِكْرَ اللهِ باللِّسانِ؛ لِيَعُمَّ ذِكْرَ اللهِ في الصَّلاةِ وغيرِها، واسمُ التَّفضيلِ أيضًا مَسلوبُ المُفاضَلةِ، ويكون في مَعنى قولِ مُعاذِ بنِ جَبلٍ رضيَ الله عنه: (ما عَمِلَ آدمِيٌّ عملًا أنْجَى له مِن عذابِ اللهِ مِن ذِكْرِ اللهِ) [633] أخرجه ابن ماجه بعد حديث (3790)، ومالك في ((الموطأ)) (1/211)، والحاكم بعد حديث (1825). صحَّح إسنادَه الألبانيُّ في تخريج ((مشكاة المصابيح)) (2224) . ويجوزُ أنْ يكونَ المُرادُ بالذِّكْرِ: تَذكُّرَ ما أمَرَ اللهُ به ونَهى عنه، أي: مُراقبةَ اللهِ تعالى، وحذَرَ غضَبِه، فالتَّفضيلُ على بابِه، أي: ولَذِكْرُ اللهِ أكبَرُ في النَّهيِ عن الفحشاءِ والمُنكَرِ مِن الصَّلاةِ في ذلك النَّهيِ؛ وذلك لإمكانِ تَكرارِ هذا الذِّكْرِ أكثَرَ مِن تَكرُّرِ الصَّلاةِ. ولك أنْ تقولَ: ذِكْرُ اللهِ هو الإيمانُ بوُجودِه وبأنَّه واحدٌ، فلمَّا أمَرَ رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأراد أمْرَ المُؤمنينَ بعمَلينِ عَظيمينِ مِن البِرِّ؛ أرْدَفَه بأنَّ الإيمانَ باللهِ هو أعظَمُ مِن ذلك؛ إذ هو الأصْلُ، وذلك مِن رَدِّ العجُزِ على الصَّدرِ، عاد به إلى تَعظيمِ أمْرِ التَّوحيدِ وتفظيعِ الشِّركِ مِن قولِه: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ [العنكبوت: 42] إلى هنا [634] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/456، 457)، ((تفسير البيضاوي)) (4/196)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/179)، ((تفسير أبي حيان)) (8/360)، ((تفسير أبي السعود)) (7/42)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/260، 261). .
- قولُه: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ تَذييلٌ لِمَا قبْلَه، وهو وعْدٌ ووعيدٌ، باعتبارِ ما اشتمَلَ عليه قولُه: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ، وقولُه: تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [635] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/261). .
2- قولُه: وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ عطْفٌ على جُملةِ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ [العنكبوت: 45] الآيةَ، باعتبارِ ما تَستلزِمُه تلك مِن مُتارَكةِ المشركينَ، والكَفِّ عن مُجادلتِهم بعدَ قولِه تعالى: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت: 43] ، وهذه توطِئةٌ لِمَا سيَحدُثُ مِن الدَّعوةِ في المدينةِ بعدَ هِجرةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لأنَّ مُجادَلةَ أهلِ الكتابِ لا تَعرِضُ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ولا للمُؤمنينَ في مكَّةَ، ولكنْ لَمَّا كان النَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في إبَّانِ نُزولِ أواخرِ هذه السُّورةِ على وَشْكِ الهِجرةِ إلى المدينةِ، وكانتِ الآياتُ السَّابقةُ مُجادِلةً للمشركين، غليظةً عليهم مِن تَمثيلِ حالِهم بحالِ العَنكبوتِ، وقولِه: وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت: 43] ؛ هيَّأَ اللهُ لرسولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ طريقةَ مُجادَلةِ أهْلِ الكتابِ. وهي مُعترِضةٌ بيْن مُحاجَّةِ المشركينَ والعَودِ إليها في قولِه تعالى: وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ [العنكبوت: 47] الآياتِ [636] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/5). .
- قولُه: إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ يَجوزُ أنْ يكونَ التفضيلُ أَحْسَنُ على بابِه؛ فيُقدَّرُ المُفضَّلُ عليه ممَّا دلَّتْ عليهِ القرينةُ، أي: بأحسَنَ مِن مُجادَلتِكم المشركينَ، أو بأحسَنَ مِن مُجادَلتِهم إيَّاكم، كما تدُلُّ عليه صِيغةُ المُفاعَلةِ. ويجوزُ كونُ اسْمِ التَّفضيلِ مَسلوبَ المُفاضَلةِ؛ لِقَصْدِ المُبالغةِ في الحُسْنِ، أي: إلَّا بالمُجادَلةِ الحُسْنى، كقولِه تعالى: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [637] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/6). [النَّحلِ: 125].
- ولأجْلِ أنَّ مضمونَ هذه الآيةِ وَقُولُوا آَمَنَّا ... لا يَدخُلُ في حَيِّزِ المُجادَلةِ عُطِفَتْ على ما قبْلَها، ولو كانتْ ممَّا شمِلَتْه المُجادَلةُ لَكان ذلك مُقتضيًا فصْلَها -أي: عدَمَ عَطفِها على ما قَبْلَها-؛ لأنَّها مِثْلُ بدَلِ الاشتمالِ [638] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/7). قال البيضاوي: (وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ هو مِن المجادَلةِ بالَّتي هي أحسَنُ). ((تفسير البيضاوي)) (4/196). ويُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/360). وقال الرَّسْعَني: (هذا مِن المجادَلةِ بالَّتي هي أحسَنُ؛ لِما فيه مِن مُلايَنتِهم، واستِمالتِهم إلى المُناصَفةِ، وترْكِ المُشاغَبةِ). ((تفسير الرسعني)) (5/620). .
- والمرادُ بـ (الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا) القرآنُ، والتَّعبيرُ عنه بهذه الصِّلةِ؛ للتَّنبيهِ على خطَأِ أهْلِ الكتابِ؛ إذ جَحَدوا أنْ يُنزِّلَ اللهُ كِتابًا على غيرِ أنْبيائِهم؛ ولذلك عقَّبَ بقولِه: وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ. وقولُه: وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ عطْفُ صِلَةِ اسمٍ مَوصولٍ مَحذوفٍ دلَّ عليه ما قبْلَه، والتَّقديرُ: والَّذي أُنزِلَ إليكم [639] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/7، 8). .
- قولُه: وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فيه تَقديمُ المَجرورِ على عاملِه في قولِه: لَهُ مُسْلِمُونَ؛ لإفادةِ الاختِصاصِ؛ تَعريضًا بالمشركينَ الَّذين لم يُفْرِدوا اللهَ بالإلهيَّةِ [640] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/196)، ((تفسير أبي السعود)) (7/42)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/8). .
3- قولُه تعالَى: وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ
- قولُه: وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا تَجْريدٌ للخِطابِ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، و(ذلك) إشارةٌ إلى مَصدرِ الفِعلِ الَّذي بعْدَه، وما فيه مِن مَعنى البُعدِ؛ للإيذانِ ببُعدِ مَنزلةِ المُشارِ إليه في الفضْلِ [641] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/42). .
- وإنَّما قال: فَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ دونَ أنْ يقولَ: (فأهْلُ الكتابِ)؛ لأنَّ في آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ تَذكيرًا لهم بأنَّهم أُمَناءُ عليه، كما قال تعالى: بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ [642] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/9). [المائدة: 44] .
- قولُه: فَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ جِيءَ بصِيغَةِ المُضارِعِ يُؤْمِنُونَ؛ للدَّلالةِ على أنَّه سيَقَعُ في المُستقبَلِ، أو للدَّلالةِ على تَجدُّدِ إيمانِ هذا الفريقِ به، أي: إيمانُ مَن آمَنَ منهم مُستمِرٌّ، يَزْدادُ عددُ المؤمنينَ يومًا فيومًا [643] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/9). .
- قولُه: فَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ أُرِيدَ بهم عبدُ الله بنُ سَلَامٍ وأضرابُه مِن أهلِ الكتابَينِ خاصَّةً، كأنَّ مَن عَداهُم لم يُؤتَوُا الكِتابَ؛ حيثُ لم يَعمَلوا بما فيهِ. أو مَنْ تقدَّمَ عهدَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ منهم؛ حيثُ كانُوا مُصدِّقينَ بنُزولِه حسَبما شاهَدُوا في كتابَيهما، وتَخصيصُهم بإيتاءِ الكتابِ؛ للإيذانِ بأنَّ مَن بعْدَهم مِن مُعاصري رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد نُزِعَ عنهم الكتابُ بالنَّسخِ فلم يُؤْتَوه، والفاءُ لِتَرتيبِ ما بعْدَها على ما قبْلَها؛ فإنَّ إيمانَهم به مُترتِّبٌ على إنزالِه [644] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/42، 43). .
- والإشارةُ بـ هَؤُلَاءِ إلى أهْلِ مكَّةَ -على أحدِ الأقوالِ في التَّفسيرِ- بتَنزيلِهم مَنزلةَ الحاضرينَ عندَ نُزولِ الآيةِ؛ لأنَّهم حاضِرون في الذِّهْنِ بكَثرةِ مُمارَسةِ أحوالِهم وجِدالِهم [645] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/9). .
- قولُه: وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ فيه أُضِيفتْ الآياتُ إلى نُونِ العظَمةِ؛ لِمَزيدِ تَفخيمِها، وغايةِ تَشنيعِ مَن يَجحَدُ بها [646] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/43). .
- وقد أشار قولُه تعالى: وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ إلى أنَّ مِن هؤلاء الَّذين يُؤمِنون بالقُرآنِ مِن أهلِ الكِتابِ وأهلِ مَكَّةَ مَن يَكتُمُ إيمانَه؛ جُحودًا منهم لأجْلِ تَصَلُّبِهم في الكُفْرِ، فالتَّعريفُ في الْكَافِرُونَ؛ للدَّلالةِ على معنى الكمالِ في الوصْفِ المُعرَّفِ، أي: إلَّا المُتوغِّلون في الكُفْرِ، الرَّاسِخون فيه؛ ليَظهَرَ وجْهُ الاختلافِ بيْنَ (مَا يَجْحَدُ) وبيْنَ الْكَافِرُونَ؛ إذ لولا الدَّلالةُ على معنَى الكَمالِ لصار معنى الكَلامِ: وما يَجحَدُ إلَّا الجاحِدون [647] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/9). .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال هنا: وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ، وقال بعْدَه: وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ، وأولئك ظالِمون كما أنَّ هؤلاء كافِرونَ، واختِصاصُ الأُولى بتلك الصِّفةِ والثَّانيةِ بهذه الصِّفةِ؛ لأنَّ مَن جحَدَ آياتِ اللهِ فقد كفَرَ نِعَمَه، وهذا أوَّلُ ما يَفعلُه؛ لأنَّ ذلك مُتعلِّقٌ بما قبْلَه ممَّن تولَّى خلْقَه وأنعَمَ عليه بما استَوجَبَ به شُكْرَه؛ فأوَّلُ فِعلِه كُفْرُ نِعَمِ اللهِ، ثمَّ إنَّه مُسِيءٌ إلى نفْسِه، ظالمٌ لها بأنْ أبدَلَها مِن النِّعمِ عذابًا لا يُطِيقُه، فكُفْرُه أوَّلُ في الذِّكْرِ، وظُلْمُه ثانٍ؛ لأنَّه فَوَّتَ نفْسَه عِظَمَ الأجْرِ، فهو آخِرٌ في العمَلِ، فقدَّمَ (الكافرين) على (الظَّالمين) لذلك [648] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (ص: 1012، 1013). .
وفيه وجْهٌ آخَرُ: أنَّ الظُّلمَ وإنْ كان يُطلَقُ على الكُفْرِ وعلى ما دُونَه، كما قال تعالى: وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة: 254] ؛ فإنَّه إذا ذُكِرَ بعدَ الكفْرِ، ووُصِفَ به مَن قد وُصِفَ بالكفْرِ؛ أفْهَمَ زيادةَ مُرتكَبٍ على الكُفْرِ، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا * إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ [النساء: 168، 169]، وعلى هذا ورَدَ في القُرآنِ؛ فوضَحَ ما ورَدَتْ عليه آيتَا (العنكبوتِ) [649] يُنظر: ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (2/391). .
وقيل: إنَّ الجحودَ الأوَّلَ مُعلَّقٌ بالواحْدنيَّةِ، والثَّانيَ مُعلَّقٌ بالنُّبوَّةِ، وخُتِمَت تلك بالكافرِ؛ لأنَّه قسيمُ المؤمنينَ في قولِه: يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ [العنكبوت: 47] ، وهذه بالظَّالمين؛ لأنَّه جحْدٌ بعدَ إقامةِ الدَّليلِ على كونِ الرَّسولِ صدَرَ منه القرآنُ مُنزَّلًا عليه، وهو أُمِّيٌّ لا يَقرَأُ ولا يَكتُبُ، فهم الظَّالمون بعدَ ظُهورِ المعجزةِ [650] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/362). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الرازي)) (25/64). .