موسوعة التفسير

سورةُ الرَّعدِ
الآيات (35-37)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ

غريب الكلمات:

مَثَلُ الْجَنَّةِ: أي: صِفَتُها أو شَبَهُها، وأصلُ (مثل): يدلُّ على مُناظرةِ الشَّيءِ للشَّيءِ [552] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 20)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/296)، ((البسيط)) للواحدي (12/364)، ((المفردات)) للراغب (ص: 759)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 182)، ((تفسير ابن عاشور)) (13/155). .
أُكُلُهَا: أي: ثمرُها، وأصْلُ (أكل): يدُلُّ  على تَّنَقُّصٍ [553] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 162)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 91)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/122)، ((المفردات)) للراغب (ص: 80). .

مشكل الإعراب:

مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا
مَثَلُ مبتدأٌ، والخبَرُ محذوفٌ، والتَّقديرُ: فيما يُتلى عليكم مَثَلُ الجنَّةِ، وجملةُ تَجْرِي مُفَسِّرةٌ لذلك المَثَل، فلا محلَّ لها من الإعرابِ، ويجوزُ أن تكونَ حالًا مِن العائدِ المحذوفِ في وُعِدَ أي: وُعِدَها المتَّقونَ مُقَدَّرًا جَرَيانُ أنهارِها. وقيلَ: جملةُ تَجْرِي خبَرٌ عن مَثَلُ باعتبارِ أنَّها مِن أحوالِ المضافِ إليه، وهو الجنَّةُ. وقيل غيرُ ذلك [554] يُنظر: ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (1/398-399)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (2/759-760)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (7/58-60)، ((تفسير ابن عاشور)) (12/196). .

المعنى الإجمالي:

يذكُرُ اللهُ تعالى ما أعدَّه للمُؤمنينَ في الآخرةِ، فيقولُ: صِفةُ الجنَّةِ التي وعَدَ اللهُ بها المتَّقينَ أنَّ الأنهارَ تجري من تحتِ أشجارِها وقُصورِها، وأنَّ ثَمَرَها دائِمٌ لأهلِها لا ينقَطِعُ، وظِلَّها دائِمٌ لا يزولُ ولا يَنقُصُ، تلك الجنَّةُ هي عاقِبةُ المتقين، وعاقبةُ الكافرينَ باللهِ هي النَّارُ. ثمَّ بيَّنَ أنَّ أهلَ الكتابِ انقَسَموا فِئَتَين: فئةً فَرِحَت بنُزولِ القُرآنِ، وفِئةً أنكَرَته وكَفَرَت ببعضِه، فقال: والذين آتيناهم الكتابَ مِن اليهودِ والنَّصارى ممَن آمَنَ منهم بك يَفرحونَ بالقُرآنِ الذي أنزَلَه الله إليك؛ لِمُوافقتِه ما عندهم، ومن أهلِ المِلَلِ والأديانِ المتحَزِّبينَ عليك- يا محمَّدُ- مَن يكَذِّبُ ببعضِ ما في القُرآنِ الكريمِ، قُلْ لهم- يا محمَّدُ: إنَّما أمَرَني اللهُ بعبادتِه وَحدَه، وألَّا أشرِكَ به شَيئًا، إلى الله وحدَه أدعو النَّاسَ مُخلِصينَ له العبادةَ، وإليه مَرجِعي في جميع أموري.
 ثمَّ بيَّنَ- سُبحانَه- أنَّه أرسَلَ رَسولَه بلُغةِ قَومِه كما أرسلَ مِن قَبلِه رُسُلًا بلُغاتِ أقوامِهم، فقال: كما أنزَلْنا الكتُبَ على الأنبياءِ السابقين بلُغاتِهم، أنزَلْنا عليك القُرآنَ محكمًا بلُغةِ العَرَبِ؛ لتحكُمَ به بينَ الناسِ، ولَئِن اتَّبَعتَ أهواءَ المُشرِكينَ- بعد الحَقِّ الذي جاءك مِن الله- ما لك مِن ناصرٍ ينصُرُك ويتولَّى أمورَك، ولا واقٍ يقيك عذابَ اللهِ.

تفسير الآيات:

مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
 أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا ذكَرَ عذابَ الكُفَّارِ في الدُّنيا والآخرةِ، أتبَعَه بذكرِ ثوابِ المتَّقينَ [555] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (19/46). .
مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ.
أي: صِفةُ الجنَّةِ- التي وعدَ اللهُ بها المتَّقينَ في الآخرةِ- أنَّ الأنهارَ تجري من تحتِ قُصورِها وأشجارِها [556] يُنظر: ((الوجيز)) للواحدي (ص: 574)، ((تفسير الزمخشري)) (2/532)، ((تفسير ابن الجوزي)) (2/498)، ((تفسير ابن كثير)) (4/464)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (10/354)، ((تفسير الشوكاني)) (3/102)، ((تفسير السعدي)) (ص: 419). قال ابنُ الجوزي: (قولُه تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ أي: صفتُها أنَّ الأنهارَ تجري مِن تحتِها، هذا قولُ الجمهورِ). ((تفسير ابن الجوزي)) (2/498). .
كما قال تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى [محمد: 15] .
أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا.
أي: ما يُؤكَلُ في الجنَّةِ مِن ثمارِها دائِمٌ لأهلِها، لا ينفَدُ ولا ينقَطِعُ عنهم، وظِلُّها أيضًا دائِمٌ لا يزولُ [557] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/555)، ((تفسير القرطبي)) (9/325)، ((تفسير السعدي)) (ص: 419). .
كما قال تعالى: وَظِلٍّ مَمْدُودٍ * وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ [الواقعة: 30 - 33] .
تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ.
أي: تلك الجنَّةُ العاليةُ الأوصافِ هي عاقِبةُ المُتَّقينَ الذين امتَثَلوا ما أمَرَهم اللهُ به، واجتَنَبوا ما نهاهم عنه، وعاقِبةُ الكافرينَ بالله هي النَّارُ [558] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/555)، ((تفسير القرطبي)) (9/325)، ((تفسير السعدي)) (ص: 419). .
كما قال تعالى: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [مريم: 63] .
وقال سُبحانه: لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ [الحشر: 20] .
وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لما ذكَر أحوالَ المشركين مِن قولِه: كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ... [الرعد: 30] ؛ ذكَر فضلَ بعضِ أهلِ الكتابِ في حسنِ تلقِّيهم للقرآنِ، فالذين أُرسل إليهم النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بالقرآنِ انقسَموا في التصديقِ بالقرآنِ فرقًا، ففريقٌ آمنوا بالله وهم المؤمنون، وفريقٌ كفَروا به، وهذا فريقٌ آخرُ أيضًا- أهلُ الكتابِ- وهو منقسمٌ أيضًا [559] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/156). .
وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ.
أي: والذين آتيناهم التَّوراةَ والإنجيلَ ممَّن آمنَ بك- يا محمَّدُ- مِن اليَهودِ والنَّصارى، يَفرحونَ بالقُرآنِ الذي أنزَلَه الله إليك [560] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/555)، ((تفسير القرطبي)) (9/325، 326)، ((تفسير ابن كثير)) (4/467)، ((تفسير السعدي)) (ص: 419). وهذا المعنى المذكورُ لقولِه تعالى: وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ هو اختيارُ الزمخشري، والقرطبي، وأبي حيان، وهو ظاهرُ اختيارِ ابنِ كثير، واختاره محمد رشيد رضا، والسعدي، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/533)، ((تفسير القرطبي)) (9/325)، ((تفسير أبي حيان)) (6/395-396)، ((تفسير ابن كثير)) (4/467)، ((تفسير المنار))  لرضا (11/333)، ((تفسير السعدي)) (ص: 419)، ((أضواء البيان)) (1/206-207). وممن قال بهذا القولِ مِن السلفِ: ابنُ زيدٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/557)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (4/658). قال الزمخشري: (يريدُ من أسلمَ من اليهودِ- كعبدِ اللهِ بنِ سَلامٍ، وكعب وأصحابهما، ومن أسلمَ منَ النَّصارى- وهم ثمانون رجلًا: أربعون بنجران، واثنان وثلاثون بأرض الحبشة، وثمانية من أهل اليمن- هؤلاء يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ). ((تفسير الزمخشري)) (2/533). .
كما قال تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [البقرة: 121] .
وَمِنَ الأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ.
أي: ومن أهلِ المِلَلِ والأديانِ المتحَزِّبينَ عليك- يا محمَّدُ- مَن يكَذِّبُ ببعضِ ما في القُرآنِ الكريمِ [561] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/555)، ((تفسير القرطبي)) (9/326)، ((تفسير ابن كثير)) (4/467)، ((تفسير السعدي)) (ص: 419). قال الزمخشري: (وَمِنَ الْأَحْزابِ يعني: ومن أحزابهم، وهم كفَرَتُهم الذين تحزَّبوا على رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالعداوةِ، نحو كعب بن الأشرف وأصحابه، والسيِّد والعاقبِ أُسقُفَي نجران، وأشياعهما، مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ لأنَّهم كانوا لا يُنكرونَ الأقاصيصَ وبعضَ الأحكام والمعاني [مما] هو ثابتٌ في كتُبِهم غيرُ مُحرَّف، وكانوا ينكِرونَ ما هو نعتُ الإسلامِ ونعتُ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وغير ذلك مما حرَّفوه وبدَّلوه مِن الشرائعِ). ((تفسير الزمخشري)) (2/533). وقال ابنُ عاشور: (فالأظهَرُ أنَّ المرادَ بالأحزابِ أحزابُ الذين أوتُوا الكِتابَ، كما جاء في قَولِه تعالى: فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ [مريم: 37]، أي: ومِن أحزابِهم مَن يُنكِرُ بَعضَ القُرآنِ، فاللامُ عِوَضٌ عن المضافِ إليه، ولعَلَّ هؤلاء هم خُبَثاؤُهم ودُهاتُهم الذين توسَّموا أنَّ القُرآنَ يُبطِلُ شَرائِعَهم فأنكَروا بَعضَه، وهو ما فيه مِنَ الإيماءِ إلى ذلك مِن إبطالِ أُصولِ عقائِدِهم، مِثلُ عُبوديَّةِ عيسى عليه السَّلامُ بالنِّسبةِ للنَّصارى، ونبوَّتِه بالنِّسبةِ لليَهودِ. وفي التَّعبيرِ عنهم بالأحزابِ إيماءٌ إلى أنَّ هؤلاء هم المتحَزِّبونَ المتصَلِّبونَ لِقَومِهم ولِمَا كانوا عليه. وهكذا كانت حالةُ اضطرابِ أهلِ الكتابِ عندما دمغَتْهم بَعثةُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأخذَ أمرُ الإسلامِ يفشو). ((تفسير ابن عاشور)) (13/157). .
قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ.
أي:  قل- يا مُحمَّدُ-: إنَّما أمَرَني اللهُ بعِبادتِه وَحدَه، وألَّا أُشرِكَ به شيئًا [562] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/555)، ((تفسير ابن كثير)) (4/467)، ((تفسير السعدي)) (ص: 419). .
كما قال تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران: 64] .
وقال سُبحانه: قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [الأنبياء: 108] .
  إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ.
أي: إلى اللهِ وَحدَه أدعو النَّاسَ إلى طاعتِه مُخلِصينَ له العبادةَ، وإلى اللهِ مَرجِعي في جميعِ أموري، وإليه مَصيري [563] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/555)، ((تفسير القرطبي)) (9/326)، ((تفسير ابن كثير)) (4/467)، ((تفسير السعدي)) (ص: 419)، ((تفسير ابن عاشور)) (13/159). .
وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا.
أي: وكما أنزَلْنا الكتُبَ على الرُّسُلِ السَّابِقينَ بلُغاتِهم، كذلك أنزَلْنا عليك- يا مُحمَّدُ- القُرآنَ مُحكَمًا مُتقَنًا؛ لِتَحكُمَ به بين النَّاسِ، بلسانِ العَرَبِ [565] يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (3/19)، ((تفسير ابن الجوزي)) (2/499)، ((تفسير الرازي)) (19/48)، ((تفسير ابن كثير)) (4/467)، ((تفسير الشوكاني)) (3/105)، ((تفسير السعدي)) (ص: 419). .
كما قال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا [النساء: 105] .
وقال سُبحانه: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود: 1] .
وقال عزَّ وجَلَّ: كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [فصلت: 3] .
وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ.
أي: ولَئن اتَّبَعتَ- يا محمَّدُ- أهواءَ تلك الأحزابِ الكافرةِ بعد ما جاءك مِن العِلمِ الذي علَّمَك اللهُ إياه [566] قال ابنُ عاشور: (ومعنى مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما بلَغَك وعَلِمتَه، فيَحتَمِلُ أن يرادَ بالموصولِ القرآنُ؛ تنويهًا به، أي: لَئِن شايعْتَهم فسألْتَنا آيةً غَيرَ القرآنِ بعد أن نَزَل عليك القُرآنُ، أو بعد أن أعلَمْناك أنَّا غيرُ مُتنازِلينَ لإجابةِ مُقتَرَحاتِهم. ويَحتَمِلُ اتِّباع دينِهم؛ فإنَّ دينَهم أهواءٌ، ويكونُ المرادُ بـ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ هو دينُ الإسلامِ). ((تفسير ابن عاشور)) (13/161). ، ما لك مِن اللهِ مِن ناصرٍ ينصُرُك ويتولَّى أمورَك، ولا واقٍ يقيك عذابَ اللهِ؛ فاحذَرْ مِن اتِّباعِ أهوائِهم [567] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/557، 558)، ((تفسير القرطبي)) (9/327)، ((اقتضاء الصراط المستقيم)) لابن تيمية (1/99)، ((تفسير ابن كثير)) (4/467)، ((تفسير الشوكاني)) (3/105)، ((تفسير السعدي)) (ص: 419). قال ابن تيمية: (ومُتابعتُهم فيما يختصُّون به من دينِهم وتوابعِ دينِهم؛ اتِّباعٌ لأهوائهم، بل يحصلُ اتِّباعُ أهوائهم بما هو دون ذلك). ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/99). وقال ابنُ عاشور: (واتِّباع أهوائهم يحتمِلُ السعيَ لإجابة طَلِبَتِهم إنزالَ آيةٍ غير القرآن؛ تحذيرًا من أن يسأل اللهَ إجابتَهم لِما طلبوه، كما قال لنوح عليه السَّلامُ: فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [هود: 46] ). ((تفسير ابن عاشور)) (13/160). .
كما قال تعالى: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ [البقرة: 120] .
وقال سُبحانه: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ [البقرة: 145] .

الفوائد التربوية:

1- الفرَحُ بالعِلمِ والإيمانِ والسنَّة دليلٌ على تعظيمِه عند صاحِبِه، ومحبَّتِه له، وإيثارِه له على غيرِه؛ فإنَّ فرَحَ العبدِ بالشَّيءِ عندَ حصولِه له، على قَدرِ محبَّتِه له ورغبتِه فيه؛ فمَن ليس له رغبةٌ في الشَّيءِ لا يُفرِحُه حُصولُه له، ولا يَحزُنُه فَواتُه، فالفرَحُ تابِعٌ للمحبَّةِ والرَّغبةِ، قال تعالى: وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ، فالفرَحُ باللهِ وبرسولِه، وبالإيمانِ وبالسنَّةِ، وبالعِلمِ وبالقرآنِ: مِن أعلَى مقاماتِ العارفينَ [568] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (3/150). .
2- في قولِه تعالى: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ هذه الآيةُ تتضَمَّنُ النَّهيَ عن اتِّبَاعِ أهواءِ أَحَدٍ في خلافِ شريعتِه وسُنَّتِه- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- ومن ذلك أهلُ الأهواءِ مِن هذه الأمَّةِ [569] يُنظر: ((جامع الرسائل)) لابن تيمية (1/145). ، وفيها وعيدٌ لأهلِ العِلمِ أن يتَّبِعوا سبُلَ أهلِ الضَّلالةِ بعدما صاروا إليه مِن سُلوكِ السُّنَّة النبويَّة والمَحجَّة المُحمَّديَّة- على من جاء بها أفضَلُ الصَّلاةِ والسَّلامِ- كما أنَّه بَعْثٌ للأمَّةِ، وتهييجٌ على الثَّباتِ في الدِّينِ والتصَلُّبِ فيه [570] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (4/467)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (10/359). ، وتحذيرٌ مِن الركونِ إلى تمويهاتِ المشركين [571] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/161). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُه تعالى: أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا فيه دَلالةٌ على بقاءِ نعيمِ الجنَّةِ، إلَّا أنَّ الدَّائمَ الذي لا يَنفَدُ ولا يَنقَضي إنَّما هو النَّوعُ، وإلَّا فكلُّ فَردٍ مِن أفرادِه نافِدٌ مُنقَضٍ ليس بدائمٍ [572] يُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (1/310، 426). .
2- قولُ الله تعالى: أُكُلُهَا دَائِمٌ يدُلُّ على أنَّ حَرَكاتِ أهلِ الجنَّةِ لا تنتهي إلى سُكونٍ دائمٍ، كما يقولُه أبو الهُذَيل [573]  هو أبو الهُذيلِ محمَّدُ بنُ الهُذيلِ البَصريُّ، العَلَّافُ، شَيخُ المُعتَزِلةِ، وُلِدَ في البَصرةِ، واشتُهِرَ بعِلمِ الكلامِ، له مقالاتٌ في الاعتزالِ، ومَجالِسُ ومُناظَراتٌ، زعم أنَّ نعيمَ الجنَّةِ وعذابَ النَّارِ ينتهيان، بحيث إنَّ حَرَكاتِ أهلِ الجنَّةِ تَسكُنُ، حتى لا يَنطِقونَ بكَلِمةٍ، وأنكَرَ الصِّفاتِ المُقَدَّسةَ حتى العِلمَ والقُدرةَ! يُنظر: ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (10/542)، ((الأعلام)) للزِّركلي (7/131). وأتباعُه [574] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (19/47). .
3- قولُه تعالى: وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ فيه دليلٌ على أنَّ الرسلَ- صلواتُ اللهِ وسلامُه عليهم- لم يخبِروا بما تُحيلُه العقولُ، وتقطعُ باستحالتِه؛ لأنَّ النفوسَ لا تفرحُ بالمحالِ [575] يُنظر: ((الروح)) لابن القيم (ص: 62). .
4- جمعَ اللهُ تعالى كُلَّ ما يَحتاجُ المرءُ إليه في مَعرفةِ المبدأِ والمعادِ في ألفاظٍ قَليلةٍ منه، فقال: قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ وهذا الكلامُ جامِعٌ لكُلِّ ما ورد التَّكليفُ به، وفيه فوائِدُ:
أوَّلُها: أنَّ كَلِمةَ (إنَّما) للحَصرِ، ومعناه: إنِّي ما أُمِرتُ إلَّا بعبادةِ الله تعالى، وذلك يدُلُّ على أنَّه لا تَكليفَ ولا أمْرَ ولا نَهيَ إلَّا بذلك.
وثانيها: أنَّ العبادةَ غايةُ التَّعظيمِ، وذلك يدُلُّ على أنَّ المرءَ مُكَلَّفٌ بذلك.
وثالثُها: أنَّ عِبادةَ اللهِ واجِبةٌ، وهو يُبطِلُ قَولَ نُفاةِ التَّكليفِ، ويُبطِلُ القَولَ بالجَبرِ المَحضِ.
ورابعُها: قَولُه: وَلَا أُشْرِكَ بِهِ وهذا يدُلُّ على نفيِ الشُّرَكاءِ والأندادِ والأضدادِ بالكليَّةِ، ويدخُلُ فيه إبطالُ قَولِ كُلِّ من أثبَتَ مَعبودًا سِوى اللهِ تعالى.
وخامسُها: قَولُه: إِلَيْهِ أَدْعُو والمرادُ منه أنَّه كما وجَبَ عليه الإتيانُ بهذه العباداتِ، فكذلك يجِبُ عليه الدعوةُ إلى عبوديَّةِ اللهِ تعالى، وهو إشارةٌ إلى نبُوَّتِه.
وسادسُها: قَولُه: وَإِلَيْهِ مَآبِ وهو إشارةٌ إلى الحَشرِ والنَّشرِ والبَعثِ والقيامةِ، فإذا تأمَّلَ الإنسانُ في هذه الألفاظِ القليلةِ ووقَفَ عليها، عرَفَ أنَّها محتويةٌ على جَميعِ المطالِبِ المُعتَبَرةِ في الدِّينِ [577] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (19/48).
5- قولُ الله تعالى: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ توعَّدَ رَسولَه- مع أنَّه معصومٌ-؛ ليمتَنَّ عليه بعِصمتِه، ولتَكونَ أُمَّتُه أُسوتَه في الأحكامِ [578] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 419). .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذين اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ
- قولُه: وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ جُملةٌ مُستأْنَفَةٌ؛ للمُناسَبةِ بالمُضادَّةِ، وهي كالبيانِ لجُملةِ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [579] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/153). ، والمعنى: عُقْبَى الكافرينَ لا غيرُ، وفيه ما لا يخْفَى مِن إطماعِ المُتَّقينَ، وإقناطِ الكافرينَ [580] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/25). .
2- قولُه تعالى: وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ استِئنافٌ ابتدائيٌّ، انتقَلَ به إلى فَضْلٍ لبعْضِ أهلِ الكِتابِ في حُسْنِ تلقِّيهم للقُرآنِ، بعد الفراغِ مِن ذكْرِ أحوالِ المُشركينَ مِن قولِه: كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ... إلخ؛ ولذلك جاءتْ على أُسلوبِها في التَّعقيبِ بجُملةِ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ [581] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/157). .
- قولُه: قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ اتَّصَلَ هذا بقولِه قبلَه: وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنكِرُ بَعْضَهُ، أي: لم يُعطَفْ عليه؛ لأنَّه جوابٌ للمُنكرينَ، معناه: قُلْ: إنَّما أُمِرْتُ فيما أُنْزِلَ إليَّ بأنْ أعبُدَ اللهَ ولا أشرِكَ به، فإِنكارُكم لِبعضِه إنكارٌ لِعبادةِ اللهِ وتوحيدِه [582] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2 /533)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 290). .
- وأفادت إنَّما أنَّه لم يُؤْمَرْ إلَّا بأنْ يعبُدَ اللهَ ولا يُشرِكَ به، أي: لا بغيرِ ذلك ممَّا عليه المُشركونَ؛ فهو قصْرٌ إضافيٌّ دلَّت عليه القرينةُ [583] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/158). .
- قولُه: إِلَيْهِ أَدْعُو فيه تقديمُ الجارِّ والمجرورِ؛ للتَّخصيصِ، فالمعنى: إِلَيْهِ أَدْعُو خُصوصًا، لا أَدْعو إلى غيرِه، وَإِلَيْهِ لا إلى غَيرِه مَرْجِعي [584] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2 /533). .
3- قوله تعالى: وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ
- قولُه: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ هذا مِن بابِ الإلْهابِ والتَّهييجِ، والبَعثِ للسَّامعينَ على الثَّباتِ في الدِّينِ، والتَّصلُّبِ فيه، وألَّا يَزِلَّ زالٌّ عند الشُّبهةِ بعدَ استمساكِه بالحُجَّةِ، وإلَّا فقد كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن شِدَّةِ الشَّكيمةِ بمكانٍ [585] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/534)، ((تفسير أبي حيان)) (6/397)، ((تفسير أبي السعود)) (5/26). .
- قولُه: مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ فيه الْتفاتٌ مِن التَّكلُّمِ أَنْزَلْنَاهُ إلى الغَيبةِ مِنَ اللهِ- فلم يَقُلْ: (مِنَّا)- وإيرادُ الاسمِ الجليلِ؛ لِتربيةِ المَهابةِ [586] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/26). .
- وأُدْخِلَ على المعطوفِ وَلَا وَاقٍ حرْفُ النَّفيِ (لا)؛ للتَّأكيدِ [587] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/26). ، و(مِن) الدَّاخِلةُ على اسمِ الجلالةِ في قولِه: مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ تتعلَّقُ بـ وَلَيٍّ ووَاقٍ، و(مِن) الدَّاخِلةُ على وَلَيٍّ؛ لِتأْكيدِ النَّفيِ؛ تنصيصًا على العُمومِ [588] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/161). .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال تعالى هنا: وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا، وفي سُورةِ طَهَ قال: وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا [طه: 113] ؛ فاختلَفَتِ العِبارةُ في السُّورتينِ؛ ووجْهُ ذلك: أنَّ سُورةَ الرَّعدِ لم يَتقدَّمْ فيها شيءٌ مِن القصصِ الإخباريَّةِ، وإنَّما المُتقدِّمُ فيها تَفاصيلُ أحكامٍ مرْجِعُها بجُملتِها إلى اختِلافِ أحوالِ المُكلَّفينَ، وتفْصيلُ أحوالِهم بحَسَبِ ما قَدَّرَه سُبحانَه في أَزَلِه، وما حَكَمَ به عليهم، ثمَّ بيَّنَ تعالى حُكْمَ كلٍّ مِن الفَريقينِ بعدَ وصْفِهم، ثمَّ أعقَبَ بِمآلِ الفَريقينِ؛ فقال فيمَن هداه فعلِمَ: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا [الرعد: 23] إلى قولِه: فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد: 24] ، وأتْبَعَ بحالِ الآخَرينَ المَوصوفينَ بنَقْضِ عهْدِه سُبحانَه، وأخبَرَ بأنَّ لهمُ اللَّعنةَ ولهم سُوءَ الدَّارِ، وبيَّنَ تعالى حُكْمَه في بَسْطِ الرِّزقِ لِمَن يشاءُ وقبْضِه عمَّن يَشاءُ، وأعلَمَ اللهُ تعالى أنَّه يُضِلُّ مَن يَشاءُ ويَهْدي إليه مَن أناب، ثمَّ وصَفَهم بإيمانِهم واطْمئنانِ قُلوبِهم بِذكْرِه، ودارتِ الآياتُ بعدُ على أنَّ كلَّ جارٍ في خلْقِه فبِتَقْديرِه، وتَناسَب ذلك إلى الآيةِ، وكلُّ ما تَقدَّمَ فهو حُكمُه السَّابِقُ في خَلْقِه، فأعقَبَ هذا بقولِه: وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا [الرعد: 37] . ولَمَّا تقدَّمَ آيةَ سُورةِ طه قَصَصُ مُوسى عليه السَّلامُ، وما جرَى مِن فِتْنةِ قَومِه بعدَه بفعْلِ السَّامريِّ، وما كان مِن قولِ هارونَ عليه السَّلامُ وتذْكيرِه إيَّاهم، وقولِ بَني إسرائيلَ: لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى [طه: 91] إلى قولِه: كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا [طه: 99] ، ثمَّ أتبَعَ هذا بما يُلائِمُه إلى قولِه: وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا [طه: 113] ، أي: قَصَصًا مَقْروءًا بلِسانِ العرَبِ، مُذَكِّرًا مَن وُفِّقَ لاعتبارِه والاتِّعاظِ به: لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا [طه: 113] ؛ فناسَبَ كلٌّ مِن العِبارتينِ مَوضِعَه أتَمَّ مُناسَبةٍ، ولم يكُنِ العكْسُ لِيُناسِبَ [589] يُنظر: ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (2/282-283). .